تأملات في سورة القارعة

  • 2017-04-26
  • عمان
  • مسجد الناصر صلاح الدين

تأملات في سورة القارعة

يا ربّنا لك الحمد مِلأ السماوات والأرض، ومِلأ ما بينهما، ومِلأ ما شئت مِن شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد أحقُّ ما قال العبد وكُلنا لك عبد، لا مانع لِما أعطيت، ولا مُعطيَّ لِما منعت، ولا ينفعُ ذا الجدّ منك الجدّ، الحمد لله الذي خضع كل شيء لهيبته، واستسلم كل شيءٍ لقدرته، وتصاغر كل شيءٍ لكبريائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنى كُلُّ فقير، وعزُّ كُلُّ ذليل، وقوة كُلُّ ضعيف، ومَفزعُ كل ملهوف، فكيف نفتقرُ في غِناك؟! وكيف نضلُّ في هُداك؟! وكيف نذلُّ في عِزّك؟! وكيف نُضام في سُلطانك؟! وكيف نخشى غيرك والأمر كله إليك؟! وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلتَه رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليُخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جَنات القُربات، فجزاه الله عنا خير ما جزا نبياً عن أُمته.
اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمدٍ وسلم تسليماً كثيراً.

منهج الله في الدعوة لا تأمر قبل أن تعرِّف الآمر:
وبعد يا أيها الإخوة الكرام، من قِصار السور التي كثيراً ما نقرأها في صلواتنا أو نُقرِؤها لأبنائنا، وهذه السور القصيرة فيها معاني جليلة سورة القارعة.
سورة القارعة سورةٌ مكيّة، ومعنى مكيّة أي أنها نزلت قبل الهجرة، والسورة المدنيّة أو الآيات المدنيّة نزلت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، والسور المكيّة في أغلبها تُعرّفك بالله، وتُعرّفك باليوم الآخر، تحمل قلبك على الصِلة بالله، وتحمل قلبك على الخوف من يومٍ تقف فيه بين يدي الله، هذه معظم السور المكيّة، ومعظم سور الجزء الثلاثين من القرآن المكيّ، أما في المدينة فنزلت الأحكام، تحريم الربا، مشروعية الصيام، طريقة المُداينة، إلى آخر ذلك، فمعظم ما نزل في المدينة هو أحكامٌ شرعيّة، ومعظم ما نزل في مكة قبل الهجرة هو حديثٌ عن الله تعالى وعن يوم القيامة، وكأن الله تعالى يُعلّمُنا منهجاً في الدعوة، منهجاً في التربية، منهجاً في التعامل مع أبنائنا، لا تأمُر بأمرٍ قبل أن تُعرِّف بالآمر، لا تأمُر بأمرٍ قبل أن تُعرِّف الإنسان ما عند الله لِمن أطاع هذا الأمر، وما عنده لِمن عصاه، هذا يحمُله على طاعة الله، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري:

{ إنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، إذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ، فَقالَ: أيُّ الكَفَنِ خَيْرٌ؟ قالَتْ: ويْحَكَ! وما يَضُرُّكَ؟ قالَ: يا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، أرِينِي مُصْحَفَكِ؟ قالَتْ: لِمَ؟ قالَ: لَعَلِّي أُوَلِّفُ القُرْآنَ عليه؛ فإنَّه يُقْرَأُ غيرَ مُؤَلَّفٍ، قالَتْ: وما يَضُرُّكَ أيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟ إنَّما نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ منه سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ، حتَّى إذَا ثَابَ النَّاسُ إلى الإسْلَامِ نَزَلَ الحَلَالُ والحَرَامُ، ولو نَزَلَ أوَّلَ شَيءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا، ولو نَزَلَ: لا تَزْنُوا، لَقالوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أبَدًا، لقَدْ نَزَلَ بمَكَّةَ علَى مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإنِّي لَجَارِيَةٌ ألْعَبُ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]، وما نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ والنِّسَاءِ إلَّا وأَنَا عِنْدَهُ، قالَ: فأخْرَجَتْ له المُصْحَفَ، فأمْلَتْ عليه آيَ السُّوَرِ. }

(صحيح البخاري)

يعني لو أنَّ الناس لم يعرفوا أولاً اليوم الآخر لكانوا غير منتهين عن المعاصي والآثام، لذلك أيها الإخوة اليوم لو سألت أي مسلم سؤالاً، تقول له مثلاً: الغش حرام أم حلال؟ هل هناك مسلم في الأرض يقول لك الغش حلال؟! أبداً، كل المسلمين حتى الأطفال يعرفوا أن الغِشَّ حرام لا يجوز، حسناً لماذا كثيرٌ من المسلمين يَغشّون؟! لماذا يَغشّون في بيعهم وشرائهم؟ مع أنهم يعلمون أنَّ الغش حرام، لأنهم لم يتيقنوا من معرفة الله الذي قال لهم: إن الغِشَّ حرام، ولم يتيقنوا من اليوم الآخر الذي سيقفون فيه بين يدي الله، ليسأل الغاش لم غَششت المسلمين؟
إذاً لا بُدَّ أن نقول أنه ينبغي أن نعتني في التربية وفي الدعوة لتعريف الناس بالله تعالى، وبما عنده لِمن أطاعه وبما عنده لِمن عصاه قبل أن نأمر وننهى، هذا أسلوب.

لماذا سُمّيت سورة القارعة بهذا الاسم؟
فسورة القارعة سورةٌ مكيّة نزلت قبل الهجرة، وفيها حديثٌ عن اليوم الآخر ومظاهر هذا اليوم قال تعالى:

الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)
(سورة القارعة)

والقارعة اسمٌ من أسماء يوم القيامة كالحاقة، الطامة، الصاخّة، النبأ العظيم، اسمٌ من أسماء هذا اليوم القارعة، لِم سُمّيت القارعة؟ قال: لأنها تَقرع الناس بأهوالها، وتَقرع قلوبهم بما فيها من كربٍ عظيم فهي قارعة تَقرع، قال تعالى:

قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
(سورة يس)

صُعقوا

فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)
(سورة المعارج)

القارعة تقرع الناس بأهوالها، في هذا اليوم هناك حدثٌ خطير، وهو أنّ الناس سيقومون لرب العالمين للحساب، فالقارعة تقرع الناس وتقرع قلوبهم بأهوالها، فسُمّيت قارعةً.
قال تعالى: (الْقَارِعَةُ)، وبهذا اللفظ يوحي رهبةً في النفس، ما هذه القارعة؟ ما هذا اليوم؟ ما شدّته؟ لِم سماه الله القارعة؟ ثم كرر اللفظ مرةً ثانية قال: (مَا الْقَارِعَةُ) استفهام وهذا الاستفهام للتهويل، أرأيت الآن في نفسك لمّا سمعت قول الله تعالى(مَا الْقَارِعَةُ)، شعرت أنَّ هناك شيءٌ لا يتناهى إليه عِلمُك، ولا يستطيع عقلك أن يصل إليه، شيءٌ عظيمٌ رهيب (مَا الْقَارِعَةُ)، ثم جاء الاستفهام الثاني للتعجيز والتجهيل (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ)، أي جهةٍ في الوجود تستطيع أن تُخبرك عن هذا اليوم، لا تملك جهةٌ أن تخبرك عن أهواله أبداً، لا تملك جهةٌ في الوجود أن تصّور لك ما في هذا اليوم من أهوالٍ عظيمة في الوقوف بين يدي الله، فتدَبَّر وتأمل أعمالك لأنَّ القارعة تقرع الناس بأهوالها، الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)

أهوال يوم القيامة التي ذُكرت في سورة القارعة:
أُطلقت الكلمة، ثم الاستفهام للتهويل، ثم الاستفهام للتعجيز (وَمَا أَدْرَاكَ)، الآن الله عز وجل لم يُخبرنا ما هي القارعة، لأنَّه لن تستطيع عقولنا أن تعرف، لكن سيُخبرك عن بعض أهوالها، يعني ما جاء الجواب القارعة هي كذا، لأنَّ القارعة لا يمكن أن تَتصور هولّ هذا اليوم، لكن جاء الجواب ليُحدّثك عن بعض ما في هذا اليوم قال:

يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
(سورة القارعة)

إخوانا الكرام الفَرَاش كائن من الكائنات التي خلقها الله، هذه الفراشات تطير في الجو، تُبث، تنتشر، فإذا أخذتها أو طردتها من مكانٍ، انتشرت وذهبت كل فراشةٍ في اتجاه، كالفراش المبثوث، وهي مخلوقاتٌ ضعيفةٌ جداً، من أضعف المخلوقات، وفوق ذلك الفَرَاش إذا رأى ناراً يُلقي بنفسه فيها، فيلقى حتفه، يظنُّها نوراً يتجه إلى النار فيُحرِق نفسه، يعني ليس هناك أضعف من هذا المخلوق في انتشاره في الهواء، فشبّه الله تعالى حال الإنسان في ذلك اليوم (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) كأنهم فراشاتٌ منتشرةٌ في الهواء مبثوثةٌ في الهواء، كلٌ له اتجاهه وكلٌ له جهته، (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ).

وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5)
(سورة القارعة)

الجبال تبعث في النفس الهيبة، لو وقفت أمام جبل عالي الارتفاع، يعني تشعر أنه لا يمكن لجهةٍ أن تُدمره، يعني لو وقفت أمام جبل عظيم تقول: هل هناك قوة تستطيع أن تدمره؟ مستحيل! لو قُصف بالطائرات تُدّمِر جزءاً بسيطاً منه، أما الجبل ثلثاه تحت الأرض والذي تراه هو الثلث فقط، لذلك سمّى الله الجبال أوتاداً، مثل الوتد في الخيمة، يُغرَز ثلثاه في الأرض ويبقى ثلثه ظاهراً فقط.
أنت ما تراه من الجبل هو الثلث فقط، الثلثان تحت الأرض يُثبّتان الأرض، فالجبال تبعث في النفس الهيبة، فالله تعالى يصّور لك حالها يوم القيامة، يقول لك: هذه الجبال ستصبح كالعِهن، (الصوف المنفوش)، أيضاً المنتشر، الصوف المُلوَّن المُنتشر، كيف لو جزّيت صوف خروفٍ فرضاً ثم نفشته وتركته؟ هذا حال الجبال صوف، لماذا يَذكُر الله الجبال؟ ليقول لك: أيها الإنسان إذا كان هذا حال الجبال وقد قرعتها القارعة، فكيف حالك أيها الإنسان الضعيف، انظر إلى الجبل وقد أصبح صوفاً منفوشاً، وتأمل في نفسك هذا اليوم كم أنت ضعيف وبحاجة إلى مولاك وخالقك،(وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ).

كيف تنجو من أهوال يوم القيامة؟
الآن السورة كلها من أجل ما سيأتي، يعني هذه المقدمة كلها حتى تبعث في نفسك دافعاً نحو العمل نحو شيءٍ تلقى به الله.
الآن بيت القصيد، محور السورة في الآيتين الباقيتين قال:

فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7)
(سورة القارعة)

أمام هذه الأهوال الكبيرة أنت خائف الآن، أنت ترتعد فرائسك من هول هذا اليوم، الذي أخبرك الله بأن الجبال تغدو كالصوف، وبأنَّ الناس ينتشرون كالفَرَاش، لكن ما المطلوب منك؟ كيف تنجو من هول هذا اليوم؟ قال: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) رجحت حسناته على سيئاته، كثرت حسناته، ثقلت موازينه، الميزان الذي يُنصب للعبد يوم القيامة، فتوضع الحسنات في كِفّة والسيئات في كِفّة، قال: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)، رجحت كَفّة حسناته، أكثِر من الأعمال الصالحة، أكثر من الصلاة، أكثر من الصيام، أكثر من الصدقة، لم يبني حياته على أنقاض الناس، لم يغشَّهم، لم يبتز مالهم، أدى الأمانة التي خُلق من أجلها في كل مكانٍ كان فيه، ولم يقل ميزان قال موازين، لأن هناك ميزان يقيس الله به عملك، وميزاناً يقيس الله به صدقتك، وميزاناً يقيس الله به صلاتك، وميزاناً يقيس الله به صيامك، فهي موازين وليس ميزاناً واحداً.
ثقلت موازينه، رجحت كفّة الحسنات قال: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ)، انظر إلى هول القارعة ثم انظر إلى العيشة الراضية، القارعة مُظلمة شديدة، كَربُها عظيم، لكن هذا الذي ثقلت موازينه نجا من كل هذه الأهوال، (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ).
إخواننا الكرام سياق الكلام، يعني إنسان إذا اشترى بيتاً نقول هو راضٍ عن البيت أم البيت راضٍ عنه؟ هو راضٍ عن البيت، أنت ترضى عن العمل، لكن العمل لا يرضى عنك، هنا ربنا عز وجل قال: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ)، يعني العيشة راضيةٌ عنه، لم يقل عيشة مرضيّة، قال: (عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ)، قال العلماء: هذا ليدلك على شدّة الرضا الذي يعيشه، وكأن العيشة أصبحت راضيةً عنك، لأنّ المخلوقات كلها تسبح بحمد الله

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
(سورة الإسراء)

فكلّها نفوسٌ، وحتى العيشة خَلقٌ من خَلق الله، فهذه العيشة أصبحت راضيةً عنك، فكيف حالك معها؟ لا شكَّ أنك في أعظم أنواع الرضا، إن ثقلت موازينك قال: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ).

الإنسان العاصي يوم القيامة يأوي إلى النار كما يأوي إلى أمه:
الطرف المقابل قال:

وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8)
(سورة القارعة)

رجحت كفّة السيئات وطاشت كفّة الحسنات، أعماله السيئة كثيرة، قال:

وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)
(سورة القارعة)

الأم إخوانا الكرام هي المأوى الذي تحتمي به، الإنسان يحتمي بأمه يلجأ إلى أمه، انظر إلى طفل أمه تطرده من باب البيت فرضاً تُعاقبه، وهو يتعلق بثوبها، هذا حال الإنسان مع أمه، الأم مصدر الأمن والأمان للإنسان، فالآن قال: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9))، هذه الأم التي هي في الأصل تفرح لفرحك أكثر مما تفرح أنت، وتحزن لحزنك أشدّ مِما تحزن أنت، يعني لو أنَّ إنساناً مرض هو يحزن لمرضه، لكن أمه إن كانت على قيد الحياة تحزن لمرضه أكثر مما يحزن هو، ولو أنه أخذ شهادة عالية يفرح ويطير في الهواء، لكن أمه أشدُّ فرحاً بشهادته منه، هذا هو الحال.
الآن هذه الأم التي يأوي إليها الإنسان ويحتمي بها ويجد عندها الملاذ، هي يوم القيامة نارٌ حاميّة تهوي به في النار، فكنّا عن حال هذا الإنسان بأمه كما تفعل العرب، أمه هاوية، أي هذا الإنسان يأوي إلى نارٍ كما يأوي إلى أمه، وهذا منتهى الاستخفاف والسُخرية لهؤلاء الذين عاشوا في الدنيا لملذاتهم واستمتاعاتهم وأساءوا ولم يُحسنوا،

فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10)
(سورة القارعة)

هذه الأم التي سيأوي إليها، ويهوي إليها، ويتجه إليها قال:

نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
(سورة القارعة)

نارٌ أوقد عليها فهي حاميةٌ جداً وسيُلقي بنفسه بها، كما يُلقي الفَرَاش المبثوث نفسه في النار يظنُّ عندها أنه اتجه إلى النور وهو يتجه إلى النار.
هذه السورة أيها الإخوة قليلةٌ بآياتها لكن والله أيها الإخوة لو أننا نظرنا في الآيات الأخيرة منها، هاتين الآيتين، والتزمنا بهما والله لتغيرت حالنا.
ويروى أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: عِظني ولا تُطل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}

{ أنه أَتَى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقرأَ علَيْهِ: {فَمْنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا} يَرَهُ قال حسْبِي لَا أُبَالِي أن لَّا أَسْمَعَ غَيْرَهَا }

(الهيثمي إسناده صحيح)

على نمط فمن ثقلت موازينه، فقال الرجل كُفيت، يعني هناك آياتٌ في كتاب الله لو تأملها الإنسان فقط (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11))

كيف نُثقّل موازيننا؟
قال أبو بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه: إنما ثقُلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحقّ، كيف تثقل الموازين؟ باتباع الحقّ، قال: وحُقّ لميزانٍ لا يوضع فيه إلا الحقُّ أن يكون ثقيلاً، قال: وإنما خفّت موازين من خفّت موازينه باتباعهم الباطل، وحُقّ لميزانٍ لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفاً، فأنت كيف تملأ ميزانك فيثقُل؟ تملأه بالحقّ، والحقّ هو الكتاب والسُنّة، الحقّ ما جاء به الوحيان، المتلو وهو قوله تعالى، وغير المتلو وهو سُنّة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة، هذا هو الحقّ فاملأ ميزانك بالحقّ، الحقّ يدوم ويستمر والباطل يزول:

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
(سورة الإسراء)

لا يستمر الباطل مهما طال به الأمد، كل شيء له أثر مستقبلي فهو حقّ، لو بنينا جامعة، الجامعة في الدنيا اسمها حقّ، ثابتة قد تُخرِّج أجيالاً لمائة عام، أما لو بنينا سيرك لثلاثة أيام هذا باطل، لهو ينتهي بعد يومين أو ثلاثة ثم ترتب الأغراض، هذا باطل، أما الجامعة حقٌّ، فهذا للتشبيه.
الآن كل عمل تقوم به في الدنيا، إذا كان له أثر مستقبلي فهو حقّ لأنَّه يدوم ويستمر ولا ينقطع، لو أطعمت جائعاً هذا حقّ لأنَّ دعواته ستُصيبك، ولأنك يوم القيامة ستجد هذه اللقمة كجبل أُحد، هذا حقّ، أما لو إنسان جلس يتابع شيء لا يُرضي الله، ساعة على الشاشة ثم قام، هذا باطل لأن هناك آثار سيئة ستدوم وهو يتابع الباطل وتأتيه يوم القيامة، فالحقّ ما يدوم ويستمر ويثبت، والباطل زهوق زائل لا يستمر ولا يثبت، فاملأ ميزانك بالحقّ لتثقل الموازين يوم القيامة، فتكون في عيشةٍ راضيةٍ ترضى بها عن الله ويرضى الله بها عنك.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حِذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لِما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني واستغفروا الله.
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات، اللهم برحمتك عُمّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنّة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كُنّا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحقِّ والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتِهم إلى ما تُحب وترضى، اللهم نصرك وفرجك الذي وعدت به عبادك المستضعفين، اللهم كُن لإخواننا المستضعفين عوناً ومعيناً، ناصراً، حافظاً، مؤيداً وأميناً، اللهم بفضلك ورحمتك كُن لإخواننا في الشام، كُن لإخواننا في حلب، كُن لإخواننا في العراق، وفي كل مكانٍ يُذكر فيه اسمك يا الله، كُن لإخواننا في فلسطين، اللهم أعنهم يا رب العالمين خذ بيدهم إليك، اللهم بفضلك ورحمتك أطعِم جائعهم واكسو عريانهم وارحم مصابهم وآوي غريبهم، واجعل لنا في ذلك سهماً وعملاً صالحاً مُتقبلاً يا أرحم الراحمين اللهم بفضلك ورحمتك اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مُطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وفقّ اللهم ملك البلاد لِما فيه خير البلاد والعباد.