عبادة الهوى

  • 2017-01-13
  • عمان
  • مسجد الناصر صلاح الدين

عبادة الهوى

الحمد لله نحمده، ونَستعين به ونستهديه ونسترشُده، ونعوذ بالله مِن شُرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهديه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضّلِل فلن تَجد له وليّاً مُرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنى كل فقير، وعِزُّ كل ذليل، وقوّةُ كل ضعيف، ومَفزعُ كُل ملهوف، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليُخرجنا من ظُلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومِن وحوّل الشهوات إلى جَنات القُربات، فجزاه الله عنا خير ما جزا نبياً عن أُمته.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذُريّة سيدنا محمدٍ وسلِّم تسليماً كثيراً.

الهوى هو ميل النفس إلى الشهوة المُحرَّمة:
وبعد فيا أيُّها الإخوة الكرام، في هذا اللقاء نتحدث عن عِبادة، لكنها عِبادةٌ مُحرَّمة، وهل هناك عِبادةٌ مُحرَّمة؟! نعم هناك عِبادةٌ مُحرَّمة، عِبادة الهوى عِبادةٌ مُحرَّمة، أن يُعبُد المرء هواه، أن يُطيع هواه، أن يأتمر بِما أمره هواه، وأن ينتهي عمّا نَهاه عنه هواه، يتبع الهوى، يَعبُد الهوى من دون الله عز وجل، هذه عِبادةٌ مُحرَّمة، عِبادة الهوى.
أيُّها الإخوة بادئ ذي بدء الهوى: هو ميل النفس إلى الشهوة المُحرَّمة، حينما تَميل النَفسُ إلى علاقةٍ آثمةٍ مع امرأةٍ لا تحلُّ للإنسان هذا هوى، عندما تَميل النَفسُ إلى أخذ مبلغٍ من المال من رشوةٍ مُحرَّمة هذا هوى، عندما تميل النَفسُ إلى تنمية المال عن طريق الرِبا هذا هوى، عندما تميل النَفسُ إلى بناء مَجدِها على أنقاض الناس هذا هوى، فالإنسان عندما تميل نَفسُه إلى شهوةٍ مُحرَّمة فليحذر، فكأنه بدأ في طريق عبادة الهوى.

لماذا سُميَّ الهوى هوى؟
لماذا سُمي الهوى هوى؟ لأنَّه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كُلِّ داهية، كم من إنسانٍ سرق فوجد نفسه بعد حين مُهاناً، ذليلاً، وضيعاً في السجون؟ هوى بنفسه إلى داهيةٍ ، كم من إنسانٍ أتبَع النظرة النظرة ثم وجد نفسه قد وقع في الزِنا فندم ولات ساعة مَندَم، هذا هوى بنفسه إلى الدنايا وإلى الدواهي، فالهوى يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، ويهوي به والعياذ بالله في الآخرة إلى الهاوية.

فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
(سورة القارعة)

فسُمّيَ الهوى هوى لأنَّه يهوي بصاحبه، والهوى هو ميلُ النفسِ إلى الشهوةِ المُحرَّمة، وأقول المُحرَّمة لأنَّ هناك مَيلاً بالنفس إلى شهوةٍ مُحلّلة، هذا ليس هوى، هذا قد ينقلب إلى عبادةٍ صحيحةٍ تُرضي الله عز وجل، فلو مالت النفس إلى الزوجة، هذا ميلٌ إلى الشهوة لكن إلى شهوةٍ مُحلّلة، فهذا ليس هوىً، هذا ميلٌ فطريٌّ طبيعيٌّ يُحبُّه الله، ويرضى عنه، ولو ابتغى به وجه الله عز وجل بهذا المَيل، لانقلب إلى عبادةٍ يكسب أجرها، لو مالت النَفسُ إلى كسب المال بالتجارة الحلال الصِرف، ثم ابتغى الإنسان خدمة نفسه وعياله وكفاية نفسه، وخدمة المسلمين، انقلب هذا الهوى أو هذا الميلُ الفطريُ إلى كسب المال إلى عبادةٍ حلالٍ صِرفٍ تُرضي الله عز وجل، إذاً ليس كل ميلٍ إلى الشهوة مُحرَّماً، لكن الميل إلى الشهوة المُحرَّمة، هو هوى النفس الذي نهى عنه الله ونهى عنه رسوله صلى الله عله وسلم.

لم يُذكَر الهوى في كتاب الله إلا مذموماً:
الأمر الآخر أيُّها الإخوة، الهوى لم يرِد في القرآن إلا مَذموماً، أو مَنهيّاً عنه، مثلاً قال تعالى:

أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
(سورة الجاثية)

هذه عبادة الهوى، إلهَهُ هوى نفسه، يُطيعها فيما تأمر وينتهي عمّا تَنهى عنه، وهذا من شأن الإله وحده، فالذي يعبد هواه من دون الله (اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ).
آيةٌ ثانية:

أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
(سورة الفرقان)

عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال ابن عباس: "ما ذَكَر الله الهوى في كتابه إلا ذمّه"، فهذا كله واضحٌ في أنَّ قصد الشارع جلَّ جَلاله، الخروج عن اتباع الهوى، والدخول تحت التعبُّد للمولى، وهذا المعنى الدقيق أشارت إليه الآية الكريمة:

فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
(سورة القصص)

ليس هناك خطٌّ ثالث، ليس هناك اتجاهٌ ثالث، ليس هناك حالةٌ ثالثة وسط، أبداً، هُما طريقان لا ثالث لهما، إمّا أن تستجيب لله ولرسوله، أو أن يكون الإنسان مُتَّبِعاً لهوى نفسه، (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) فالشرع يأمُر بغض البصر، وهوى النفس يأمُر بإطلاق البصر، والشرع يأمُر بأن لا تأخذ المال إلا من حلال، وألا تُنفِقَه إلا في حلال، وهوى النفسِ يأمُر أن تأخذه مِما حلَّ وحَرُم، وأن تُنفِقَه فيما حلَّ وحَرُم، هذا هوى النفس (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ).
الاستجابة لأمر الله تعني أنَّ الإنسان إذا أراد أن يُحصِّل مكانةً مرموقةً، فعليه أن يسعى إلى ذلك برضوان الله عز وجل ووفق منهج الله.
هوى النفس يعني أنه رُبما يبني مَجده على أنقاض الناس، وأنَّه رُبما يُحصِّل مكانةً في المجتمع موهومةً بناءً على طُغيانه وفساده في الأرض، (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ).
أيُّها الإخوة الكرام وفي آيةٍ أُخرى يقول تعالى:

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
(سورة الأعراف)

انسلخ مِن منهج الله، لم يتّبع منهج الله، لم يستجيب لأمر الله، (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) فلمّا انسلخ من منهج الله كان الشيطان رَديفه، (فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ)، الضالين.

إتباع منهج الله يرفعك في الدنيا والآخرة:

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
(سورة الأعراف)

لرفعناه بآيات الله، منهج الله يرفعك، منهج الله يُعلي قدرك، إتباع منهج الله يجعلك في أعلى عليين في الدنيا والآخرة، (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) أخلَد إلى الأرض، لم يتجه إلى السماء، في الإنسان قبضةٌ من طين الأرض، ونفحةٌ من السماء، فكلما كان أقرب إلى الله اتجه إلى السماء، إلى العلياء، وكلما كان أقرب إلى شهوات الأرض، أخلَد إلى الأرض والتصق بها، (وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) إمّا أن نتّبع منهج الله، أو يكون الإنسان مُتَّبِعاً لهواه، هذه الحقيقة، واتباع الهوى مذموم.
هذا في القرآن الكريم، أما في السُنَّة، فعن أبي برزة قال: قال صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّما أخشَى عليكم شهَواتِ الغَيِّ في بطونِكم وفروجِكم ومُضلَّاتِ الهوَى }

(أخرجه البزار إسناده ضعيف)

من أين يؤتى الإنسان؟ مِن شهوة البطن، أو شهوة الفرج، شهوة البطن تؤدي به إلى أن يأكل مالاً حراماً، وشهوة الفرج تؤدي به إلى أن يسلك سبيلاً مُحرَّماً في سبيل تحقيق شهوته، ويؤتى الناس من هذين المأخذين، شهوة المال، وشهوة النساء، وكل فضيحةٍ أخلاقيةٍ في التاريخ لا تخلُ من أحد أمرين، إمّا شهوة المال أو شهوة النساء، (إنَّما أخشَى عليكم شهَواتِ الغَيِّ في بطونِكم وفروجِكم ومُضلَّاتِ الهوَى) أن يُضِلّك الهوى عن منهج الله، وفي الدعاء النبوي الصحيح:

{ اللهمَّ إنِّي أعوذُ بك من منكراتِ الأخلاقِ و الأعمالِ و الأهواءِ و الأدواءِ }

(أخرجه الترمذي والطبراني وابن حبان)


الإنسان مُعرَّض في كل لحظة لامتحان الاستجابة لأمر الله أو أن يتبع هواه:
أيُّها الإخوة الكرام هذه بعض النصوص مِن القرآن الكريم ومِن السُنَّة النبويّة، تُبيّنُ أنَّ هناك اتباعاً للهوى مُحرَّماً، أنَّ هناك عبادة الهوى المُحرَّمة، وينبغي للإنسان أن يتجنب اتباع هواه، في كل لحظةٍ أنت مُعرضٌ لهذا الامتحان، امتحان الاستجابة لأمر الله، أو الاستجابة لهوى النفس.
عند صلاة الفجر أنت مُعرَّضٌ لهذا الامتحان، الجو بارد، أذّنَ المُؤذن، السرير دافئ، إمّا أن تستجيب لله ولرسوله فتنهض للصلاة، أو أن تستجيب لهوى النفس فتُتابع النوم، من أول اليوم، تذهب إلى العمل إمّا أن تستجيب لمنهج الله عز وجل، فتُحلّل دَخلَك، ولا يدخلك قرشٌ حرام لا مِن رِبا، ولا مِن رشوة، ولا مِن غِش، أو أن تستجيب لهوى النفس، فتكسب المال مما حلَّ وحَرُم، تمضي بقية نهارك إما أن تتعالى على عباد الله، فتستجيب لهوى النفس في التكبُّر والعلوّ في الأرض بغير الحق، أو تستجيب لمنهج الله، فلا تَعلُ على عباد الله إلا بحق، ولا تتكبر على أحد.
تعود إلى بيتك، إمّا أن تستجيب لمنهج الله عز وجل، فتُربي أولادك وفق المنهج، وفق كتاب الله وسُنَّة رسوله، أو تستجيب لهوى النفس فتتركهم على غاربهم دون رعايةٍ، ودون متابعةٍ وتكتفي بإطعامهم وإشرابهم، مع الزوجة وأنت تُتابع وسيلةً من وسائل الإعلام في كل لحظة (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ)، إيَّاكم وعبادة الهوى، كم أدخلت عبادة الهوى الناس في متاهات، وكم أوصلت بالأُمة من فِتَنٍ ومُضِلات بسبب اتباع الهوى.

أسباب اتباع الهوى:
أيُّها الإخوة الكرام، من أسباب اتباع الهوى: مُصاحبة ومُجالسة أهل الأهواء.
قال الحسن البصري رحمه الله: "لا تُجالسوا أصحاب الأهواء ولا تُجادلوهم، ولا تسمعوا منهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبِسوا عليكم ما تعرفونه"، الذي يُجالس أصحاب الأهواء يتّبع الهوى بعد حين، أما الذي يُجالس المؤمنين الصادقين، فهو إن شاء الله في حصنٍ أمين من اتباع الهوى.
من أسباب اتباع الهوى: طول الأمل، قال سيدنا عليٌ رضي الله عنه: "إنَّ أخوف ما أتخوف عليكم اثنتان، طول الأمل واتباع الهوى"، هُما مرتبطان.
قال: فأمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة، يتعلّق بالدنيا وينسى الآخرة، أما الذي يذكر الموت دائماً لا ينسى الآخرة، قال: فإن طول الأمل يُنسي الآخرة، وأمّا اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق، الذي يتّبع هواه، يصدُّه الهوى عن اتباع الحق، واتباع الهوى أيُّها الإخوة من المُهلِكات كما في الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم:

{ ثلاثٌ مُهلِكاتٌ، وثلاثٌ مُنجِياتٌ، وثلاثٌ كفَّارَاتٌ، وثلاثٌ دَرَجاتٌ. فأمّا المهلِكاتُ: فشُحٌّ مُطاعٌ، وهَوًى مُتَّبَعٌ، وإِعجابُ المرْءِ بنفْسِهِ. وأمّا المنْجياتُ: فالعدْلُ في الغضَبِ والرِّضا، والقصْدُ في الفقْرِ والغِنى ، وخشيةُ اللهِ تعالَى في السِّرِّ والعلانيةِ. وأمّا الكفَّاراتُ : فانْتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ ، وإسْباغُ الوُضوءِ في السَّبَرَاتِ، ونقلُ الأقدامِ إلى الجماعاتِ. و أمّا الدَّرجاتُ: فإطْعامُ الطعامِ، و إفْشاءُ السلامِ، و الصلاةُ بالليلِ و الناسُ نِيامٌ }

(أخرجه الطبراني)

(فشُحٌّ مُطاعٌ) أي البُخل فيتوقف عن إنفاق المال، (وهَوًى مُتَّبَعٌ) انظروا إلى حال كثيرٍ من الناس اليوم، (وهَوًى مُتَّبَعٌ) يتّبعون أهواءهم، (وإِعجابُ المرْءِ بنفْسِهِ) هذه ثلاثٌ مُهلِكات تهلك الإنسان.
إِنَّ الْهَوَى لَهْوَ الْهَوَانُ بِعَيْنِهِ فَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ كَسَبْتَ هَوَانَا
الهوى هوان، قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله:" إنَّ جميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبَّة الله ورسولِه، ومن كان حُبُّه، وبُغضُه، وعطاءُه، ومنعه لهوى نفسه، كان ذلك نقصاً في إيمانه الواجب، فيجب عليه التوبة من ذلك"

علاج اتباع الهوى:
أمّا علاج اتباع الهوى: العلاج في قول الشاعر البوصيري رحمه الله:
والنفسُ كالطفلِ إن تهملهُ شَبَّ على حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم فَخالِف النفسَ والشّيطانَ واعصيهما وإنْ هُما مَحضاك النُصح فاتّهم
{ البوصيري }
هذا هو العلاج، لا ينفطم الطفل، يبلغ أربع سنوات ويرضع، الرضاعة أسهل، ساعات، يوم، يومان، ثم الطفل انتهى لا يوجد رضاع، ويتجه إلى الطعام ويعتمد على نفسه، والنفس كذلك إن تركتها وشأنها اتّبعت الهوى، وإن أدّبتها، ومنعتها، وقاومتها، وحاسبتها انتهت، قال تعالى:

فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (41)
(سورة النازعات)

نهى النفس عن الهوى، فالعلاج في هذه الكلمات الثلاث (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) كيف ينهى الإنسان نفسه عن هواه؟ تأمره فلا يأتمر، قد يجد صعوبةً في المرة الأولى، والثانية، والثالثة، ثم بعد حين يصبح هواه تَبَعاً لِما جاء به سيدنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، يصبح يُحبُّ الخير ويَكره الشرَّ فِطرةً، لأنَّ الفِطرة كذلك، لكنه يُنمّي الخير في داخله، بعد حين يقول لك والله أنا عندما أستمع إلى هذه الأغاني الساقطة أكاد أتقيأ، لا أستطيع أن أتحمّلها، هو يقول ذلك، لأنَّ نفسه رقَت في سُلَّم الإيمان، لأنه نهى النفس عن الهوى، مرّات ومرّات بعد ذلك أصبح حُبّه لِما يُحبُّ الله ورسوله وبُغضه لِما يبغضه الله ورسوله، بعد ذلك يقول لك أنا آكل قِرشاً مِن حرام مستحيل! لا أتقبّل ذلك أبداً، ينهى النفس عن الهوى، أنا أُتابع هذه السَقطات وهذه التُرّهات وهذه الأخبار التافهة مستحيل! لأنَّه نهى النفس عن الهوى، قال صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّما العِلمُ بالتَّعلُّمِ، والحِلمُ بالتحلُّمِ. }

(أخرجه البخاري)

فالحلم بالتحلُّم، أنت عندما تريد أن تصبح حليماً كيف تصبح حليماً؟ هل هناك حبوب في الصيدليات اسمها حبوب الحلم؟ لا، هل هناك وصفة يتناولها الإنسان أو زر يضغط عليه فيصبح حليماً؟ لا، يَتحلّم فقط، ويتحلّم يعني يُمارس الحلم، كل ما غَضِب يُغيّر مجلسه، يغسل وجهه، ويتحول عن المجلس إلى مجلس آخر، يستعيذ بالله، بعد حين يصبح طبعُه الحلم، يتغير الإنسان، ليس هناك عادة لا يمكن تغيرها كما يظن البعض، أبداً، العِلم بالتعلُّم، الكرم بالتكرُّم، كل شيء تريد أن تُحقّقه مارسه، أيضاً كيف ننهى النفس عن اتباع الهوى؟ بالممارسة، بالضغط عليها مرةً ومرةً ومرة، حتى تصبح عبادة الله خالِصةً من الأهواء وخالِصةً من الفِتن والشوائب.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنأخذ حِذرنا، الكيّس من دان نفسه وعَمِل لِما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنَّك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفِنا اللهم شرَّ ما أهمّنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاكَ وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كُنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين، وارزُقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاكَ وأنت راضٍ عنا.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبّت أقدامنا وانصُرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأنّا نراك، أسعِدنا بلقياك، اجمعنا بحبيبك ومُصطفاك.
اللهم إنّا نسألك الجنَّة وما قرّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بِكَ من النار وما قرّب إليها من قولٍ وعمل، اللهم إنّا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمدٌ صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شرِّ ما استعاذك منه عبدك ونبيك محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحقِّ والدين، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رُشد، يُعَز فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المُنكر.
اللهم فرّج عن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ما أهمّهُم وما أغمّهُم، اللهم بفضلك ورحمتك أطعم جائعهم، واكسُ عُريانهم، وارحم مُصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً صالحاً مُتقبلاً يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً، سخيّاً، رخيّاً، مُطمئناً، وسائر بلاد المسلمين، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تُهلكنا بالسنين، ولا تُعاملنا بفعل المُسيئين يا أرحم الراحمين، وفِّق اللهم ملك البلاد لِمَا فيه خير البلاد والعباد.
أقم الصلاة وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.