أصلح لي ديني 1 - إقامة الدين

  • 2017-02-10
  • عمان
  • مسجد الناصر صلاح الدين

أصلح لي ديني 1 - إقامة الدين

يا ربنا لك الحمد مِلأ السماوات و الأرض، ومِلأ ما بينهما، ومِلأ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد وكُلنا لك عبد، لا مانع لِما أعطيت، ولا مُعطي لِما منعت، ولا يَنفعُ ذا الجدّ مِنك الجدّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنى كل فقير وعِزُّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزعُ كل ملهوف، فكيف نفتقرُ في غِناك؟! وكيف نَضِلُّ في هُداك؟! وكيف نَذِلُّ في عِزّك؟! وكيف نُضام في سُلطانك؟! وكيف نخشى غيرك والأمر كله إليك؟!
وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليُخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحوّل الشهوات إلى جَنات القُربات، فجزاه الله عنا خير ما جزا نبياً عن أُمته.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذُريّة سيدنا محمدٍ وسلِّم تسليماً كثيراً.
وبعد فيا أيُّها الإخوة الكرام، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:

{ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي، وَأَصْلِحْ لي آخِرَتي الَّتي فِيهَا معادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لي مِن كُلِّ شَرٍّ. }

(صحيح مسلم)

هذا الدعاء أيُّها الإخوة من جوامع كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم، حيث دعا فيه صلوات ربي وسلامه عليه، بصلاح الدين، وصلاح الدنيا، وصلاح الآخرة، وما يَعنينا اليوم هو العِبارة الأولى في الدعاء (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي ).

طريقتنا في التديُّن واتباع الدين هي التي تحتاج إلى إصلاح:
أيُّها الإخوة الكرام، وهل يحتاج الدين إلى إصلاح؟ ومتى؟ وكيف؟
لا شكَّ أيُّها الإخوة الكرام أنَّ الدين كاملٌ من عند الله، الدين بمبادئه وثوابته، ونصوصه لا يحتاج إلى إصلاح، لأنَّ الله تعالى يقول:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)
(سورة المائدة)

وأيُّ إصلاحٍ للدين بمعنى أن نضيف له ما ليس منه، فدونكم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ مَن أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليسَ فِيهِ، فَهو رَدٌّ }

(صحيح البخاري)

مردودٌ عليه.
وأيُّ إصلاحٍ بمعنى أن نحذف من الدين شيئاً، فهو أيضاً شيءٌ لا يُرضي الله تعالى، لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، والإكمال عددي، (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) والإتمام نوعي، فالرسالة رسالة الإسلام خالدةٌ، كاملة، لا يُضاف عليها، ولا يُحذف منها.
فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم:(اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي)؟ دينُنا الذي ندين الله به، طريقتنا في التديُّن التي نَتعبَّد الله بها، هي التي قد تحتاج إلى إصلاح، لم يقل اللهم أصلح دينك، قال: (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي)، لأنني قد أدين الله عز وجل بشيءٍ لا يَرضاه، والله تعالى عندما قال:

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
(سورة النور)

فإن كانوا على دينٍ لا يَرتضيه الله عز وجل لهم، فهم بعيدون عن التمكين بُعد الأرض عن السماء.
إذاً أيُّها الإخوة الدين الذي نعبُد الله به، التديُّن، طريقتنا في اتباع الدين، قد تحتاج إلى إصلاح، (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي).

متى يحتاج دينُنا إلى إصلاح؟
متى يحتاج دينُنا إلى إصلاح؟ يحتاج دينُنا إلى إصلاح عندما ينفصل عن واقعنا، فيصبح مجموعةً من الشعائر تؤدى في المسجد أو في البيت، لا علاقة لها بحياتنا، ولا بواقعنا، ولا بأسواقنا، ولا ببيوتنا.
يحتاج دينُنا إلى إصلاح عندما يكون سبباً لِفُرقتنا، والدين من عند الله جاء باعثاً لوحدتنا.
يحتاج دينُنا إلى إصلاح عندما نبتعد عن الوحيين، كتاب الله تعالى وسُنّة رسوله، ونتّبع قولاً مِن هُنا وقولاً مِن هُناك، عندها يحتاج دينُنا إلى إصلاح.
يحتاج دينُنا إلى إصلاح عندما نَتّخذ ديننا لهواً ولعباً، قال تعالى:

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا ۖ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
(سورة الأنعام)

يحتاج دينُنا إلى إصلاح عندما نؤمن ببعضٍ ونترك بعضه الآخر، فيصبح ديناً انتقائيّاً نأخذ منه ما يُعجبُنا، ونَدع مِنه ما لا يُعجبُنا، عندها يحتاج دينُنا إلى إصلاح.

يحتاج دينُنا إلى إصلاح عندما ينفصل عن الواقع:
أيُّها الإخوة الكرام، الموضوع طويل ولكن نبدأ اليوم بالعنصر الأول: يحتاج دينُنا إلى إصلاح عندما ينفصل عن واقعنا، عندما يصبح الدين في واد، وسلوكنا في وادٍ آخر.
أيُّها الإخوة الكرام يقول تعالى:

شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13)
(سورة الشورى)

قال تعالى:

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
(سورة المائدة)

نُركِّز على كلمة (أقاموا)، والقرآن أُنزل إلينا من ربنا.
قال تعالى:

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
(سورة النساء)

قال تعالى:

أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
(سورة المائدة)

إقامة الدين، عندما نُقيم الدين أيُّها الإخوة، يكون ديناً يَرتضيه الله لنا، يكون ديناً صالحاً، يُصلِح الله لنا ديننا حينما نُقيمه، لا حينما نتدين الله شكلاً.

الفرق بين إقامة الدين و التديُّن:
إقامة الدين أيُّها الإخوة تختلف عن التديُّن، ولنضرب على ذلك مثلاً:
قد ينصرف الذهن عندما نقول نقيم شرع الله، نُطبّق شرع الله، إقامة الشريعة، إقامة الدين، ينصرف ذهن كثيراً من الناس إلى إقامة الحدود الشرعيّة، أن نَجلِد الزاني، ونَقطع يد السارق، ونَجلِد شارب الخمر، إلى آخره من حدود الله عز وجل، وهذا لا شكَّ من إقامة الدين، لكن أن ينصرف الذهنُ إلى العقوبات في الدين عندما نقول إقامة الدين، فهذا أمرٌ عجيبٌ وربِّ الكعبة!
أرأيت إلى إنسانٍ أراد أن يُنشئ مدرسةً يُخرِّج منها جيلاً، فقلنا له: أقِم المدرسة، أول ما في إقامة المدرسة أن تبني البناء، بناءً يتناسب مع مدرسة، لا بناءً يتناسب مع سكن، أو مع محلاتٍ تجارية، بناء المدرسة مُختلف، فتقيم المدرسة على نحوٍ يتّفق على أنها ستستقبل طُلاباً، ثم تُؤسس المدرسة وتُجهزها، بتجهيزاتٍ تتناسب مع أعمار الطلاب الذين سيُسجِلون في المدرسة، فتُقيم المكتبة، وتُقيم المُختبر، وتُقيم الصفوف بقياساتٍ مُحددة، ثم تأتي بالمقاعد الدراسية، وبالسُبورات، وما إلى ذلك، تُجّهِز المدرسة، أنت تُقيمُها الآن، ثم بعد ذلك تضع المنهاج، تُؤسس المنهاج الذي سَيدرُسه الطلاب، وتَتلافى فيه العيوب، وتُخضِعه لمُراقبين، ومُصححين، ومُدققين، ثم بعد ذلك تستقدم المُعلِّمين، وتجري المقابلات معهم، وتأخذ وترد حتى تنتقي أفضل المُدرّسين، ثم بعد ذلك تُسجِّل الطلاب، وقد تُسجّلهم بامتحانات قبول حتى يكونوا طلاباً على مستوى المدرسة التي أنشأتها، ثم بعد ذلك تضع نظاماً لتُكافئ به المُحسن، وأخيراً لتُعاقب به المُسيء.
الحدود هي النقطة الأخيرة في إقامة المدرسة، الحدود الشرعية هي آخِر ما تفكّر به في إقامة المدرسة في النظام الداخلي.
الإسلام أيُّها الإخوة عندما نقول أن أقيموا الدين، شعائر، عبادات، قِيَم، مُعاملات، بيوع، تجارة، تحريم، تحليل، خُلُق حسن، تعاون، تآخي، توادُّد، تناصُح، ثم أخيراً تأتي العقوبات من أجل أن يستقيم المجتمع، من أجل أن ينهض المجتمع، من أجل أن لا يكون هناك سبيلٌ لتدّخل الغُرباء، نُقيم العقوبات، نُحصّن الدين بالعقوبات، أما أن ينصرِف الدين إذا قلنا أقِم شرع الله، لنُقِم حدود الله عز وجل، والناس لا يعرفون دينهم، ولا يعرفون شيئاً من عقيدتهم، نُقيم عليهم العقوبات قبل أن نُعلّمهم ونُربيهم، هذا بُعدٌ عن حقيقة الشريعة، وعن حقيقة الدين.
أيُّها الإخوة الكرام، إذاً عندما نقول: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) فإقامة الدين لا تعني فقط إقامة الحدود، لكنها تعني بناءً مُتكاملاً يُحصّنه إقامة الحدود.

ما معنى إقامة الدين؟
أيُّها الإخوة الكرام، إقامة الدين قال: أقِم الدين أي اجعله قائماً في حياتك.
أقيموا الدين: أي اجعلوه قائماً في حياتكم، دائماً، مُستمراً، مَحفوظاً، يقول ابن العربي: "وهو يشمل الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي التوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، هذا إقامةٌ للدين، والتقرُّب إلى الله بصالح الأعمال هذا من إقامة الدين، والتزلُّف إليه بما يَردُّ القلب والجارحة إليه، التقرُّب إلى الله، والصدق، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصِلة الرحم، وتَحريم الكُفر، والقتل، والزِنا، والإيذاء بالخلق، والاعتداء على الحيوان، واقتحام الدناءات وما يعود بِخرم المُروءات"، هذا كله من إقامة الدين، هذا بناءٌ مُتكامل.
ويقول السعدي رحمه الله: "أقيموا الدين، أمَرَكُم أن تقيموا جميع شرائع الله، أصوله، وفروعه، تُقيمونه في أنفسكم، وتجتهدون بإقامته على غيركم"، تُقيمه في نفسك ثم تدعو أهلك إليه، أولادك، وزوجتك، شُركائك، أصدقائك، طلابك، ومن يَلوذ بك، وأهل حيّكَ، وهكذا تتوسع الدائرة، أقيموا الدين.
لو أخذنا أيُّها الإخوة حتى نوضح مفهوم إقامة الدين أكثر، لو أخذنا قول الله تعالى: (يقيمون الصلاة)، في القرآن الكريم لا تجد صلّوا، فيما أستحضر ليس هناك صلّوا لكن أقيموا الصلاة، يُقيمون الصلاة، إقامة الصلاة شيء والصلاة شيءٌ آخر، الصلاة هي مجموعة حركات مُفتَتحةٌ بالتكبير مُختَتمةٌ بالتسليم، تؤدى على نحوٍ مخصوص كما شرعه الله تعالى، وكما في سُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا صلّى، لكن أن نقول يُقيمون الصلاة، ما معنى يُقيمون الصلاة؟ إقامتها كما يقول الطبري:" أداؤها بحدودها، وفروضها، والواجب فيها، على ما فُرضت عليه كما يُقال أقام القوم سوقهم إذا لم يُعطّلوها من البيع والشراء"، إذا دخلت إلى سوق فقلت أقام القوم السوق في اللغة العربية، إذا قلت: أقام القوم السوق وكانت المحلات كلها مُغلقة ولا بيع ولا شراء، هذا كلامٌ خطأ غير صحيح، السوق لا يُقام إلا عندما يتم فيه بيعٌ وشراء، أمّا أنَّه بناء فهذا ليس إقامةً للسوق، هذا قد يكون بناء السوق، لكن لا يُقال أقام القوم السوق حتى يبيعوا ويشتروا، يعني حتى يُحققوا رِبحاً، حتى يُحققوا النتيجة المرجوّة، فنحن عندما نقول يُقيمون الصلاة، أي يؤدوها كما أمر الله عز وجل بما يُحقّق المقصد الشرعي منها وهو قوله تعالى:

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
(سورة العنكبوت)

فعندما تنهى الصلاة الإنسان عن الفحشاء والمُنكر فهو مقيمٌ للصلاة، وعندما يُصلّي ويأتي الفواحش ما ظهر منها وما بطن فهو مصلٍّ فحسب، هو صلّى ولكن لم يُقِم الصلاة، أي لم يُقِم أمر الله في صلاته.
عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقف كما في البخاري ليُصلّي بالناس كان يقول:

{ سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فإنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِن إقَامَةِ الصَّلَاةِ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

فإذا كانت تسوية الصفوف من إقامة الصلاة فما بالك بالخشوع فيها، أليس من إقامة الصلاة؟ فما بالك بأن تنهاك صلاتك عن الفحشاء والمُنكر أليس من إقامة الصلاة؟ إذا كانت تسوية الصفوف من إقامة الصلاة، فالفروض، والواجباتُ، والأركانُ، والسُنّن، والاطمئنانُ، والخشوعُ، وما ينتج عن الصلاة من تحقيق مَقصِدها في الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر هذا كُله من إقامة الصلاة، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ).
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما:" إقامة الصلاة تمام الركوع، والسُجود، والتلاوة، والخشوع، والإقبال عليه جلَّ جَلاله فيها ".

الدين هو ملاك الأمر كله وإذا فسد فلا خير في الحياة كلها:
إذاً أيُّها الإخوة الكرام، دينُنا ليس في المسجد، دينُنا في السوق، دينُنا ليس في المسجد فحسب أقصد، طبعاً الدين في المسجد ولكن أقصد فحسب فقط، دينُنا ليس في المسجد فحسب، دينُنا في البيت، في السوق، في المُعاملات مع الناس، هنا يظهر التديُّن، فإذا كان التديُّن في أسواقنا، وإذا كان التديُّن في بيوتنا، وإذا كان التديُّن في مُعاملاتنا التجارية ومُعاملاتنا المالية، ومُعاملاتنا الأخلاقية، وسلوكياتنا، إذا كان هذا التديُّن لا يظهر، اللهم أصلِح لنا ديننا، إذاً هناك خللٌ في التديُّن، خللٌ في ديننا لا في دين الله عز وجل الذي أنزله، ينبغي أن نعود إلى ديننا، هذا خللٌ أول، هناك خللٌ آخر، وثالث، ورابع، لكنّني أتحدّث اليوم عن الطامة الأولى كما يُقال، الطامة الأولى في تديُننا الذي يحتاج إلى إصلاح، والذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي)، فكيف بنا نحن؟ يُعلِّمُنا جلَّ جلاله، يُعلِّمُنا صلى الله عليه وسلم، يُعلِّمُنا لأنَّه هو يُمثّل الدين الحقيقي الصالح، لكنّه بدعائه يُعلِّمُنا هذا الدعاء، أن نلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى دائماً أن يُصلِح لنا ديننا، قال: (الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي)، الذي أعتصم به في كل أمر، هو ملاك الأمر كله الدين، فإذا فسد الدين فلا خير في الحياة كلها، دعا بصلاح الدين أولاً، ثم انتقل إلى صلاح الدنيا والآخرة، أمَّا إذا لم يُصلَح للإنسان دينه فما قيمة حياته إن عاش بلا دين؟
لذلك أيُّها الإخوة الكرام، الطامة الأولى في ديننا، في تديُننا، الذي يحتاج إلى إصلاح، أن ننتقل بالتديُّن من كونه أفكاراً مُجرّدة، وعباداتٍ شعائريةً تؤدى فحسب، أن ننقله إلى واقعنا، أن يكون التديُّن واقعاً في حياتنا، صدق، أمانة، مَحبة، وفاء، إخلاص، تَراحُم، هذا هو التديُّن الذي يُرضي الله عز وجل، أمّا أن يبقى التديُّن عبارةً عن مجموعة أفكار ومُنطلقات، لا تنتقل إلى واقع الناس، ولا تَمتُّ إلى سلوكياتِنا بصِلة، فهذا بُعدٌ عن الدين الذي أراده الله عز وجل.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حِذرنا، الكيّس من دان نفسه وعَمل لِما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنَّك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافِنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنَا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فأنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنّه لا يذلُّ من واليت ولا يعزُّ من عاديت تباركت رَبنا وتعاليت، لك الحمد على ما قضيت، لك الشكر على ما أنعمت وأوليت، نستغفرك ونتوب إليك، نؤمن بك ونتوكل عليك، اللهم هَبّ لنا عملاً صالحاً يُقربنا إليك، اللهم يا واصل المنقطعين صِلنا برحمتك إليك.
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمّنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنّة توفَّنا، نلقاكَ وأنت راضٍ عنا.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عِصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها مَردُّنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ، مولانا ربَّ العالمين.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحقِّ والدين، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين.
اللهم هَيّء لهذه الأمة أمر رَشَد، يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المُنكر، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً، سخيّاً، رخيَاً، مُطمئناً، وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ ديار المسلمين من كل مكروه.
اللهم بفضلك ورحمتك فرِّج عن المُستضعفين، اللهم فرِّج عن المُستضعفين، اللهم فرِّج عن المُستضعفين في مشارِق الأرض ومغاربها، اللهم رُدّنا ورُدَّهم إلى دينك ردّاً جميلاً، اللهم انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا، حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصُرنا على أعدائنا، أنت وليُّنا يا أرحم الراحمين.
وفِّق اللهم مَلِك البلاد لِمَا فيه خير البلاد والعباد.
أقِم الصلاة وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.