أصلح لي ديني 2 - التفرق في الدين

  • 2017-02-17
  • عمان
  • مسجد الناصر صلاح الدين

أصلح لي ديني 2 - التفرق في الدين

الحمد لله نَحمده، ونَستعين به ونستهديه ونسترشُده، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهديه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضّلِل فلن تَجِد له وليّاً مُرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لِمَن جَحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سَمِعت أُذنٌ بخبر.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذُريّة سيدنا محمدٍ وسلِّم تسليماً كثيراً.
وبعد فيا أيُّها الإخوة الكرام، قبل أسابيع بدأنا بالحديث عن موضوعٍ مهمٍ جداً، عنوانه إصلاح التديُّن أو قُل إن شئت إصلاح الدين، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح كان يدعو فيقول:

{ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي، وَأَصْلِحْ لي آخِرَتي الَّتي فِيهَا معادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لي مِن كُلِّ شَرٍّ. }

(صحيح مسلم)

إذاً قد يكون التديُّن الذي نحن قائمون عليه يحتاج إلى إصلاحٍ، لاسيما في هذه الأيام التي أُعلِنَت فيها حربٌ عالميةٌ ثالثةٌ مفتوحةٌ ضد ديننا، إذاً هناك تديُّنٌ يحتاج إلى إصلاح.
وبيَّنا في خُطبةٍ سابقة إصلاح التديُّن من خلال قوله تعالى:

شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13)
(سورة الشورى)

فهناك تديُّنٌ، وهناك إقامةٌ للدين، وإقامة الدين تختلف عن التديُّن التقليدي وتحدثنا عن ذلك مُفصّلاً.

الدين يجمع ولا يُفرِّق:
اليوم ننتقل إلى عنوانٍ عريضٍ آخر في قضية (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي) وهي قضية التفرُّق في الدين، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) هذا موضوعنا السابق، (وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) هذا موضوعنا اليوم (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).
وفي آيةٍ أُخرى:

وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
(سورة الأنعام)

السبُل كثيرة، لكن صراط الله المُستقيم واحد، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال:
"أمَر اللهُ المُؤمِنينَ بالجماعةِ، ونهاهُم عن الاختِلافِ والفُرقةِ، وأخبَرهم أنَّما أهلَك مَن كان قَبلَهم بالمِراءِ والخُصوماتِ في دينِ اللهِ"،(وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ).
وفي صحيح البخاري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، يوم خَطب بالأنصار وقد وجدوا في أنفسهم عليه شيئاً، يوم قسَّم غنائم حُنين، فأعطى المهاجرين ولم يعطِ الأنصار، وجدوا في أنفسهم عليه، فجمعهم وخطب بهم فكان مما قاله:

{ أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا قَسَمَ الغَنَائِمَ، فأعْطَى المُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ، فَبَلَغَهُ أنَّ الأنْصَارَ يُحِبُّونَ أَنْ يُصِيبُوا ما أَصَابَ النَّاسُ، فَقَامَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَخَطَبَهُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه، ثُمَّ قالَ: يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا، فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بي؟ وَعَالَةً، فأغْنَاكُمُ اللَّهُ بي؟ وَمُتَفَرِّقِينَ، فَجَمعكُمُ اللَّهُ بي؟ ويقولونَ: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَمَنُّ، فَقالَ: أَلَا تُجِيبُونِي؟ فَقالوا: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَمَنُّ، فَقالَ: أَما إنَّكُمْ لو شِئْتُمْ أَنْ تَقُولوا كَذَا وَكَذَا، وَكانَ مِنَ الأمْرِ كَذَا وَكَذَا لأَشْيَاءَ عَدَّدَهَا، زَعَمَ عَمْرٌو أَنْ لا يَحْفَظُهَا، فَقالَ: أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ وَالإِبِلِ، وَتَذْهَبُونَ برَسولِ اللهِ إلى رِحَالِكُمْ؟ الأنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، وَلَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الأنْصَارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ، إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حتَّى تَلْقَوْنِي علَى الحَوْضِ. }

( صحيح مسلم)

الدين يُؤلِّف ولا يُفرّق، (وَعَالَةً، فأغْنَاكُمُ اللَّهُ بي)، (وعالةً) أي فقراء.
وفي آيةٍ ثالثة يقول تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
(سورة الأنعام)

(شِيَعاً) أي فِرقاً وطوائف، (لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي يا محمد لست منهم في شيء.
وفي آيةٍ رابعة:

وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
(سورة الأنفال)

ألَّف بينهم بهذا الدين العظيم، فاجتمعت القلوب على الله عز وجل.

متى نتفرّق في الدين؟
أيُّها الإخوة الكرام، متى نتفرّق في الدين؟ وهذا مذموم ومنهيٌّ عنه، ويحتاج أن نرفع أكُفّنا ونقول: اللهم أصلِح لنا ديننا، لأنّنا نتفرّق في ديننا.
أولاً:عندما نُسمّي أنفسنا بأسماء جماعاتنا وتحزُّباتنا، ولا نُسمّي أنفسنا بما سمّانا الله به، قال تعالى:

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
(سورة الحج)

عندما أقول أنا وأنت، أنا مسلم وكفى لا نَتفرّق في الدين، أمّا عندما يقول فلان: أنا من جماعة فلان، يقول الثاني: وأنا من جماعة فلان، فنتفرّق في دين الله.
أيُّها الإخوة، لا مانع أن يعمل الإنسان ضمن مجموعةٍ ما دامت عقيدتها سليمةً وسلوكها مُستقيماً، لا مانع لأنَّ الإنسان يتجّمع ضمن تجمُّعات، لكن أن يصبح الولاء للتجمُّع، أو للحزب، أو للجماعة، على حساب الولاء للدين وعلى حساب الولاء للمؤمنين فهذا تفرقٌ في الدين، وهذا ما وقع به كثيرٌ من المسلمين وكثيرٌ من الجماعات، عندما نجعل الولاء للجماعة، فرأُيها هو الصواب ورأي غيرها هو الخطأ، وعقيدتها هي السليمة، وغيرها إن لم يكونوا في النار فهم في أقل الأحوال ضُلَّال، وإن لم نقل ذلك بلسان مَقالِنا، قُلناه بلسان حالنا، هنا نتفرَّق في الدين، (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ).
أنستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! نترك تسمية الله لنا، تسمية السلام، الإسلام، المسلم، ثم نُسمّي أنفسنا بأسماء جماعاتنا! وتحزُّباتنا الضّيقة! هذا تفرقٌ في الدين.

الاختلاف في الاجتهادات الفقهية لا يعني أن نتفرق في الدين:
نتفرّق في الدين أيها الإخوة، عندما تُفرّقنا الاختلافات الفقهية في القضايا الفرعية، وتشغلنا عن مقاصد ديننا العظيمة وأصوله الخالدة، عندما نأخذ قضيةً فرعيةً في الدين فيها اختلافٌ فقهي، والاختلاف قد يسوغ في بعض القضايا، وهذا لا يُعكِّر جوّ التآلف، فقد نختلف في قضيةٍ فرعيّة، في حركات الصلاة، أو في بعض مناسك الحج، قد يحصل ذلك، ونجد قولاً لإمامٍ وقولاً لآخر، وقد يكون قولٌ أقوى من قولٍ، وقد يستويان في الدليل وقد في قضايا فقهية، لكن عندما نجعل هذه القضايا الفقهية هي الدين، ونتفرّق عن مبادئ الدين ومقاصده فهنا الطّامة الكبرى.
أيُّها الإخوة الكرام، أيُعقل أنَّ مليار ونصف المليار مسلم يتوجهون في صلاتهم إلى قبلةٍ واحدة، يؤدّون حركاتٍ لو صُوّرِت من بعيد لبدت متشابهةً مئةً بالمئة، يركعون، يسجدون معاً، يقرأون الفاتحة في الصلاة معاً، يقرأون ما تيسّر من القرآن بعدها، يجلسون القعود الأول، والقعود الثاني، عدد الركعات، أوقات الصلوات، كل هذا الاتفاق، ثم تجد تناحراً بين مؤمنين لحركةٍ فرعيةٍ في حركات الصلاة، ربما تكون كلها في الأصل سُنَّةً مِن سُنن الصلاة لا واجباً من واجباتها؟! هذا تفرقٌ في الدين، لا أعني أنَّ الاختلاف بحد ذاته هو التفرُّق، قد يرى إنسانٌ رأياً وقد يرى الآخر رأياً آخر في مسألةٍ واحدة في قضيةٍ فرعيّة، الصلاة واجبة، وحركاتها معروفة، وأوقاتها معروفة، وعدد ركعاتها معروف، وتكبيراتها معلومة، وكل شيء معلوم، لكن هناك قضيةٌ مثلاً في رفع الإصبع في الصلاة، أو وضع اليدين أعلى أو أخفض بقليل، فقد تجد إنساناً يجتهد هنا، وإنساناً يجتهد هنا، لكن هل يُعقل أن تصبح هذه القضية هي الدين كله، ويتناقش المسلمون حولها، ثم تتحول نقاشاتُهم إلى تفرُّقٍ في الدين؟! هذه هي الطامة الكبرى.

نتفرّق في الدين عندما نُقدِّم قول الأئمة على قول الله عز وجل وقول نبيه الكريم:
ثالثاً: نتفرق في الدين أيُّها الإخوة عندما نُقدّم في الدين قول الإمام على قال الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا لشيء إلا لأن هذا الإمام أو هذا الشيخ هو شيخ جماعتنا أو شيخ طريقتنا، فنُقدِّم قوله على قول الله، وقول رسول الله، فنتفرّق في الدين، لأنَّ الدين نصوصٌ من عند الله عز وجل، وقد نختلف في بعض جزئياتها في الفهم، لا في أصل النص، ولكن أن يُقدَّم قول الأئِمة مهما عَلا شأنهم، وهُم جميعاً على العين والرأس ماداموا مستقيمين في عقيدتهم وسلوكهم، ونَفخَر بهم، ونَفخَر بتراثهم الفقهي والعملي، لكن أن يُقدَّم قول إمامٍ ولو عارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً، وهذا قليل لكن قد يحصل، والإمام الشافعي مثلاً رضي الله عنه، وهو مَن هو في الفقه كان يقول:<< إذا رأيتم رأييّ يُخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بحديث رسول الله ودعوا رأيي>>، لأنَّ الرأيَّ يُخطئ ويُصيب، أما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حديثٌ من وحيٍ يُوحى من الله سبحانه وتعالى:

وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)
(سورة النجم)


نتفرّق في الدين عندما نعتقد قبل أن نستدل بآيات الله وبكلام نبيه صلى الله عليه وسلم:
أيُّها الإخوة الكرام، ونتفرّق في الدين أيضاً عندما نعتقد ثم نستدل، والصحيح أن نستدل ثم نعتقد، ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنَّ النص هو الأصل، كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم هو الأصل، فنأتي بالنص ثم نستنبط الحُكم منه، لكن بعض الناس يعكسون الآية، فيعتقدون في أذهانهم فكرةً ما، ثم يبحثون لها عن دليل، فإن لم يأتِ الدليل موافقاً لأهوائهم أو لرغباتهم، أو لِما يدور في خَلَدهم، لووا عنق النصوص، وأعملوا عقولهم فيها حتى تصبح موافقةً لآرائهم، والصحيح أن يستدل الإنسان أولاً ثم يعتقد.

نتفرّق في الدين عندما نختلف في فهمنا للنص الموحى من الله سبحانه وتعالى :
أخيراً نتفرّق في الدين عندما ننقل القُدسيّة من النص المعصوم إلى فهم النص، كيف ذلك؟ النص وحيٌ من الله سواءً كان وحياً مَتلوّاً جاء في كتاب الله تعالى، أو وحياً غير متلو جاء في سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلاهما وحيٌ، لكن أيُّها الإخوة الكرام هذا الوحيُ معصومٌ بلا شك:

لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
(سورة فصلت)

أما فهم النص فهو شيءٌ ليس مُقدّساً، قد يُفهم النص بطريقةٍ غير صحيحة، قد يُفهم النص على طريقةٍ لا تُوافق عِلم الأصول، ولا تُوافق عِلم الفقه، ولا تُوافق اللغة العربية، فبعض الناس ينقلون القُدسية من النص إلى فهم النص، فيجد أنَّ فهمه للنص هو المُقدَّس، والحقيقة أنه لو رجع إلى كتب الفقهاء، وكتب الأصوليين لوجد أنَّ فهمه للنص كان مُخطِئاً فيه، فلا تستعجل في الاختلافات مع أخيك المؤمن بسبب فهمك للنص، فالنص مُقدَّس لكن فهمه غير مُقدَّس، لأنَّ فهمه جهدٌ بشري، أما النص بحد ذاته فهو وحيٌ من الله تعالى.

لماذا الدين يجمع ولا يُفرّق؟
أيُّها الإخوة الكرام، الدين يجمع ولا يُفرِّق، لماذا؟
أولاً: لأننا جميعاً نعبُد إلهاً واحداً، الجهة التي نتوجه إليها جميعاً هي ربُنا جلَّ جَلاله، نؤمن به، بوحدانيته، بكماله، بعدله، بحكمته، هل من مُسلمٍ يُنكِر ذلك؟! إذاً نحن نتوجه إلى مقصدٍ واحد، نتوجه إلى منهجٍ واحد، قال الله، وقال رسول الله، نتوجه إلى قبلةٍ واحدةٍ في صلاتنا، فالدين يجمع ولا يُفرِّق هكذا ينبغي.
ثانياً: لأنَّ الدين يربط الإنسان بالوحي ولا يربطه بالنظريات المُتناقضة، التي يهدم أُخراها أُولاها، من يتبّعون جماعةً، أو فئةً، أو مذهباً من المذاهب البعيدة عن الدين والتديُّن، هي مجرد نظريات وضعها البشر، قد تكون مُصيبةً حيناً ومُخطِئةً حيناً آخر، وقد يأتي عالِمٌ بنظريةٍ ثم يأتي بعده من ينقض النظرية من أصلها ويهدمها أو يُعدّل فيها ويُطوّرها، لكن الدين يربطك بالوحي، فينبغي أن نجتمع على الدين لا أن نتفرّق فيه.
ثالثاً: لأنَّ العبادات التي شَرَعها الله عباداتٍ جماعية لا فردية، انظروا إلى الصلاة، صلاة الجماعة سُنّةٌ مؤكدة، وأقلُّها صلاة الجمعة في الأسبوع مرّة، لا بُدَّ من أدائها في جماعة، انظروا إلى الصيام، يصوم المسلمون معاً، يُفطِرون معاً، يكون عيدهم معاً، أراد الله أن تكون العبادات جماعية، لذلك لا تجد أنا في القرآن الكريم، تجد (الذين آمنوا) ضمير الجمع دائماً، لأنَّ الدين يجمعنا ولا يُفرّقنا، الزكاة عبادةٌ تكافلية تتكافل فيها مع إخوانك، الحج تجمُّع بشري هائل في وقت واحد، في مكان واحد من كل أقطاب الدنيا، في موقفٍ واحد، الدين يَجمع ولا يُفرِّق.
أخيراً: الدين يجمع ولا يُفرِّق لأنَّ مبادئه تتفق مع فطرتنا.

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
(سورة النجم)

فأنت عندما تعبُد الإله العظيم، وعندما تتوجه إليه في صلاتك، وعندما تقيم علاقتك مع الخلق على الإحسان، فأنت تُقيم فطرتك قبل أن تُقيم دين الله عز وجل، أو لنقُل أنت تُقيمهما معاً، تُقيم الدين، وتُقيم الفطرة، تتسق وتتصالح مع فطرتك ومع دين الله عز وجل معاً، فالدين سلامٌ مع النفس، سلامٌ مع الآخرين، سلامٌ مع الناس، هو دين الإسلام، لذلك هو يجمع الناس ولا يُفرّقهم، أما التفرِقة في الدين فهي من صنع البشر، لا من صنع خالق البشر، ما أراد الله أن نتفرّق في الدين، أراد أن نجتمع، لكن بسبب نظراتٍ ضيّقة من بعض المسلمين، بسبب تراكماتٍ على الدين ليست من الدين في شيء، يتفرّق بعض المسلمين في الدين وهذه طامةٌ نهى الله عنها فقال: (وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)،نهيٌ واضح، لا تتفرقوا في الدين.

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
(سورة المؤمنون)

يذمُّ الله هؤلاء الذين فرّقوا دينهم، وكانوا شِيَعاً.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حِذرنا، الكيّس من دان نفسه وعَمِل لِما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

من الاقتداء بسُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلتزم بقواعد السير:
أيُّها الإخوة الكرام، موضوعٌ في عُجالة، كثُرت حوادث السير في طرقاتنا، والأمن والأمان أيُّها الإخوة الكرام مَطلبٌ شرعي، وقد لا يلتفِت البعض إلى أنَّ قوانين السير فيها تأصيلٌ شرعي، كيف ذلك؟ عندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث :

{ لا ضرَرَ ولا ضِرارَ }

(أخرجه البيهقي)

عندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:

{ المسلمُ من سلم الناسُ من لسانه ويدهِ، والمؤمنُ من أمنه الناسُ على دمائهم وأموالهم }

(صحيح النسائي)

ثم يُطلِق لسيارته العنان في الطرقات، وحتى في الأماكن السكنيّة فيقتل إنساناً أو طفلاً، أو بريئاً بسببٍ منه، هذا القتل في الشريعة قد يَرقى إلى القتل شبه العَمد، وفي أقل الأحوال هو قتلٌ خطأ، وإراقة دمٍ مسلم، وزوال الدنيا أهون عند الله من إراقة دمٍ.
لذلك أيُّها الإخوة الكرام، نقول أنَّ اتباع قواعد السير، والالتزام بما يضعه أولو الأمر بهذا الشأن، ينبغي أن يقوم به الإنسان وهو يشعر أنه يقوم بشيءٍ يُرضي الله عز وجل، الموضوع ليس مُنفصلاً عن الدين، احترام قواعد السير لا تنفصل عن الدين، هي ليست قوانين وضعيّة فحسب، وضِعت من قِبَل أولو الأمر وانتهى الأمر، لا أبداً، هي تمسُّ دينك، أنت عندما تلتزم بالسرعة المقررة، تلتزم بوسائل الأمان، بالإشارات والشاخصات، أنت بذلك تتخذ كل الأسباب لِئلا تُصيب إنساناً بريئاً، لا بجُرحٍ ولا بقتلٍ نسأل الله العافية.
لكن عندما يتجاوز الإنسان هذا الأمر ويقع المحظور، عندها سيلوم نفسه ولات ساعة مَندم، أما عندما يتخذ جميع الأسباب ثم يقع شيءٌ بقضاء الله وقدره، عندها يقول قدّر الله وما شاء فعل، فإذا غَلبك أمرٌ فقل قدّر الله وما شاء فعل، شيءٌ فوق طاقتك، أمّا أن نفعل ما يحلو لنا في الطرقات دون التزام بشيء، يقطع الإشارة الحمراء، يقضي وقته على الجوال وهو يقود السيارة، ثم يقع المحظور فيقول قَدَر، قدّر الله، نقول له: نعم قدّر الله ولكن قدّر الله بسببٍ منك، ولن يُعفيك ذلك من المسؤولية لا أمام القانون ولا أمام الله عز وجل، لأنك قصّرت فيما ينبغي أن تقوم به، قال تعالى:

وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
(سورة الفرقان)

ألا ينطبق ذلك على الإنسان وهو يمشي في سيارته أن يمشي هوناً؟ لا أن يمشي مُسرعاً، لا أن يُفزِع الناس بأبواق سيارته، ينطبق (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا).
قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
(سورة النساء)


للحدِّ من وقوع حوادث السير ينبغي الانتباه لبعض النقاط:
فطاعة أولي الأمر، وهُم يأمرون بشيءٍ من ديننا ينبغي أن نلتزم بقوانين السير، لذلك أيُّها الإخوة، للحدِّ من وقوع حوادث السير ينبغي الانتباه إلى ما يلي:
أولاً: التقيد بوسائل الأمن والسلامة، قال تعالى:

وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
(سورة البقرة)

فالذي لا يتقيد بقواعد السير كأنه يُلقي بيده إلى التهلُكة، ويُلقي بالآخرين إلى التهلُكة.
الأمر الآخر قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا (71)
(سورة النساء)

فوضع حزام الأمان لاسيما في الطرقات السريعة، ثم الانتباه إلى الشاخصات المرورية هذا كله يندرج تحت قوله تعالى: (خُذُوا حِذْرَكُمْ).
أيضاً تخفيف السرعة أثناء القيادة قال صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلَّا زانه, ولا نُزِع من شيءٍ إلَّا شانه }

(صحيح مسلم)

وقيادة المركبة بهدوء من الرِّفق.

{ إنَّ اللَّهَ رفيقٌ يحبُّ الرِّفقَ في الأَمرِ كلِّهِ }

(صحيح ابن ماجه)

أيُّها الإخوة الكرام، النبي صلى الله عليه وسلم كان ليلةً أن نَفَرَ من عرفة إلى مُزدلفة، ومعه جمعٌ هائلٌ من الحجيج، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يده اليمنى ويقول السكينة أيها الناس، وكان يكبح أن يُخفف من سرعة راحلته، يشد زمامها حتى كاد رأسها يُلامس رحلها، وذلك خشية أن يشُقَّ على المسلمين في سيرهم أو يُضايقهم، النبي صلى الله عليه وسلم كان يقود الحافلة المعروفة في هذا الزمن وهي الراحلة، فكان في جَمِعٍ من الناس فكان يشدُّ زمامها ويجعلها تمشي الهوينة، ويقول للناس بيده اليمنى السكينة السكينة، فمِن الاقتداء بسُنّة النبي صلى الله عليه وسلم، أن نلتزم بقواعد السير التي وضِعت ضماناً لحياة الناس وسلامتهم، وبذلك أيُّها الإخوة ينبغي أن نعلم، أننا عندما نقوم بهذا الأمر إنما نقوم به ونبتغي به وجه الله عز وجل، نقول: يا رب نحن نتخذ الأسباب أن لا نؤذي أحداً من مخلوقاتك وأن لا نؤذي أنفسنا، ثم إن وقع شيءٌ نقول قدّر الله وما شاء فعل، أما الاحتجاج بالقدَر فإنه لا ينفي المسؤولية، فمَن قصّر فعليه المسؤولية ولو احتجَّ بالقدَر.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافِنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، اللهم بارك لنا فيما أعطيت، وقِنَا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فأنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنّه لا يذلُّ من واليت ولا يعزُّ من عاديت، تباركت رَبنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أنعمت وأوليت، نستغفرك ونتوب إليك، نؤمن بك ونتوكل عليك، اللهم هَبّ لنا عملاً صالحاً يُقربنا إليك، اللهم يا واصل المنقطعين صِلنا برحمتك إليك.
اللهم بفضلك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمّنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِّ كلمة الحقِّ والدين، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين، اللهم فرِّج عن إخواننا المُستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها ما أهمّهُم وما أغمّهُم يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً، سخيّاً، رخيَاً، مُطمئناً، وسائر بلاد المسلمين، وجنّبُه الفِتن ما ظهر منها وما بَطن، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وفِّق اللهم مَلك البلاد لِمَا فيه خير البلاد والعباد.
أقِم الصلاة وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.