كن رحمانياً
كن رحمانياً
الخطبة الأولى :
يا ربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض، ومِلء ما بينهما، ومِلء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكُلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِ منك الجد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نَذلُ في عزك؟ وكيف نُضامُ في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك؟ وأشهدُ أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً، وبعد عباد الله اتقوا الله فيما أمر، وانتَهوا عما عنه نهى وزجر، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ.
الرحمة :
أيها الأخوة الكرام؛ حديثنا اليوم عن كلمةٍ تطرب لها النفوس السليمة، عن كلمةٍ يحبها أصحاب العقول الراجحة، عن كلمةٍ هي في الأصل يجب أن تكون في ضمير كل إنسان، إنها الرحمة. |
الرحمة لا يعرفها إلا الراحمون
|
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً(سورة البقرة: الآية 74)
الله تعالى واجب الوجود، الله تعالى الذي هو على كل شيءٍ قدير، الله تعالى الذي أَمْرُنَا بيده، وحياتنا بيده، وموتنا بيده، وصحتنا بيده، وغنانا بيده، ومرضنا بيده، وفقرنا بيده، هو جلّ جلاله قد كتب على نفسه الرحمة، قال تعالى: |
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ(سورة الأنعام: الآية 54)
كيف يشعر المؤمن وهو يقرأ هذه الآية الكريمة؟ لأن خالقه وربه الغني عنه قد جعل الرحمة كتاباً مفروضاً على ذاته العَلِيَّة، وعبر في هذا التعبير(كَتَبَ رَبُّكُمْ) تماشياً مع طبيعة الإنسان المادية، فإذا كنت مع شخص في تجارةٍ، و أردت أن تقترض أو تُقرض تقول: اكتب لي، لأن الكتابة توثيق فأنت تحب الكتابة لتوثيق أمورك: |
إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ(سورة البقرة: الآية 282)
ثم يأتي ربنا جل جلاله فيقول له:(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) اطمئن فرحمته تعالى مكتوبةٌ مفروضة، هي مبدأٌ لا يمكن الحياد عنه، وفي الصحيح كما يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهو مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ }
(صحيح البخاري)
كتب كتاباً ماذا بهذا الكتاب؟ إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي، فهو مكتوبٌ عنده فوق العرش فتخيل ودقق بخيالك العنان عرش الرحمن بجلاله وعظيم قدره ما الذي كُتِبَ فوقه؟ إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي. |
المؤمن أيها الكرام: عندما يستشعر معاني رحمة الله تعالى، وأن الله كتب على نفسه الرحمة، وأن رحمته تعالى سبقت غضبه، فإنه يمشي في الأرض رحيماً، يرحم من في الأرض ليرحمه من في السماء، يتعامل مع الناس على أساس الرحمة لا على أساس القسوة: |
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ(سورة الأعراف: الآية 56)
رحمة الله واسعة تشمل كل شيء :
أيها الكرام؛ يقول تعالى: |
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ(سورة الأعراف: الآية 156)
رحمة الله وسعت كل شيء
|
النبي الكريم رحمة للوجود كله :
أيها الأخوة الكرام؛ نبينا نبي الرحمة، قال تعالى مُلَخِّصَاً بعثته ورسالته: |
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ(سورة الأنبياء: الآية 107)
لم يقل رحمة للمؤمنين، ولا رحمةً للمسلمين، ولا رحمةً للناس، بل قال: (رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) أي للعوالم كلها من الجماد إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان إلى كل شيءٍ في الوجود، فعبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هدف بعثته فقال: |
{ إنَّما أنا رحمةٌ مُهداةٌ }
(رواه الألباني)
لا ينبغي أن نهزم من الداخل
|
من اتصل بالله كان رحيماً :
أيها الكرام؛ |
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ(سورة آل عمران:الآية 159)
أي بسبب رحمة، فبما: هذه باء السبب، أي بسبب رحمةٍ من الله تعالى استقرت في قلبك يا محمد صلى الله عليه وسلم، بسبب اتصالك بالله، لأن الرحيم هو من يعطي الرحمة، لو امتلأ القلب قسوةً لانفضَّ الناس عنك، هذا المبدأ أيها الكرام نحتاجه جميعاً، المربي في بيته يحتاجه، نقول للأب برحمةٍ من الله، بحسن اتصالك بالله يحبك أهل بيتك، أما القاسي فنقول له: بابتعادك عن الله يمتلئ القلب قسوةً فيذهب الناس عنك، المعلم في صفه، الموظف في دائرته، تجد الناس يحبونه إن كان رحيماً، و ينفضون من حوله إن كان قاسياً فظاً. |
رحمة العامة :
أيها الأخوة الكرام؛ الرحمة المطلوبة شرعاً هي رحمة العامة، فالذي يرحم ولده شرعاً لا يسمى رحيماً، يسمى رحيماً بولده، أما أن نسميه رحيماً فينبغي أن يكون رحيماً بالعامة. |
{ عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: لن تؤمنوا حتى تراحموا، حتى يرحم بعضكم بعضاً، قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم، قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة }
(رواه الألباني)
الرحمة المطلوبة هي رحمة العامة
|
إذاً أيها الأخوة الكرام؛ المؤمن رحيمٌ بكل الناس، اليوم قد يقال لإنسان يُمدح: إنه إنساني، سامحوني أيها الكرام لكن النسبة إلى الإنسان اليوم لا أجدها مدحاً، ما المدح بأن يكون الإنسان إنسانياً وأن يكون النبات نباتياً؟ أين البديع في أن نقول: فلان إنساني؟ الإنسان في القرآن الكريم لم يرد ممدوحاً: |
إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(سورة المعارج: الآية 19)
خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ(سورة الأنبياء: الآية 37)
كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ(سورة العلق: الآية 6-7)
الإنسان من غير إيمان أسوأ من الوحوش
|
رحمة الضعفاء :
أيها الأخوة الكرام؛ ومن الرحمة رحمة الضعفاء، أن ترحم الضعيف، يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ أَبْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ }
(رواه الإمام أحمد)
إِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ
|
الثانية: المجتمع الذي لا يُرحم فيه الضعفاء هو مجتمعٌ مهزوز من الداخل، جبهته الداخلية محطمة، فلا يمكن أن يصمت، لأن الضعيف لا يجد قوت يومه، ولأن الضعيف لا يجد من يحن عليه، فيتفكك المجتمع فتحل الهزيمة به، إِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ، في الصحيح أيها الأحباب كما في سنن ابن ماجه: |
{ أن مهاجرين الحبشة، الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة عادوا من الحبشة، بعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجلس بين أصحابه يوماً قال: حدثوني بأعجب ما رأيتم في أرض الحبشة- شيء عجيب رأيتموه في الحبشة- فقام رجل قال: يا رسول الله بينما كنا جلوس في مجلس في الحبشة جاءت امرأةٌ من عجائزهم، امرأة كبيرة في السن، تحمل قُلَّةً على رأسها- جرة ماء- فوضعت كَفَّهُ بين كتفيها على ظهرها، و دفعها فسقطت على ركبتيها وانكسرت قِلَّتُها- قلة الماء- فالتفتت إليه المرأة وقالت: سوف تعلم يا غُدر- أي يا غادر غدرتني- إِذَا وَضَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الأَيْدِي وَالأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فسوف تعلم أين أنا و أنت عنده غداً، الموقف عند الله غداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صَدَقَتْ صَدَقَت، كيف يقدِّس الله أُمَّةََ لا يؤخذ لضعيفها من شديدها؟ }
(رواه ابن ماجة وحسنه الألباني)
هذه نصرة الضعيف هذه الرحمة بالضعيف. النبي صلى الله عليه وسلم أيها الكرام؛ |
{ يأتي فيسأل عن امرأةٍ، أين هي؟ قالوا: توفيت يا رسول الله، كانت تقمُ المسجد - تنظف المسجد- أين هي؟ قالوا: توفيت، قال: ألا آذنتموني- لمَ لم تخبروني؟- قالوا: لكيلا نوقظك يا رسول الله- امرأة توفيت فصلينا عليها و دفناها- غضب النبي صلى الله عليه وسلم وذهب إلى قبرها- استثناءً من الحكم العام فالصلاة تكون قبل الدفن لا بعده- وصلى عليها }
(صحيح مسلم)
ليُشعر العالم كله بأن رحمة الضعيف خيرٌ من الدنيا وما فيها. |
أفقر إنسان هو من يقف بين يدي الله يحتاج حسنة ترفع مرتبته عنده سبحانه :
أيها الأخوة الكرام؛ ويقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: |
{ مَنْ وَلِي مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شيئاً- شيئاً نكرة، لو ولي المؤمن من أمر الناس رجلين، ولو ولي أمر بلدٍ بكامله كله يشمله الحديث- ثُمَّ أَغْلَقَ بَابَهُ دُونَ الْمِسْكِينِ وَالْمَظْلُومِ، وْ ذِي الْحَاجَةِ، أَغْلَقَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى دُونَهُ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ دُونَ حَاجَتِهِ، وَفَقْرِهِ أَفْقَرُ مَا يَكُونُ }
(رواه الإمام أحمد والطبراني)
الفقر بعد العرض على الله
|
{ كُلُّ النَاسِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، إِلاَّ مَنْ أَبَى، قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى }
(رواه البخاري)
رحمة الله في كل مكان :
المسجد الأقصى مسجد الرحمة
|
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، و وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيَتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، أستغفر الله. |
الدعاء :
الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع قريب مجيب للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم إنا نسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذك عبدك ونبيك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وفرج عنهم يا أرحم الراحمين، اللهم انصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، انصر إخواننا في كل مكان يكتب فيه اسمك على أعدائك يا أكرم الأكرمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، ووفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله. |