نحيا في سبيل الله

  • 2019-03-22
  • عمان
  • مسجد زياد العساف

نحيا في سبيل الله


الخطبة الأولى :

يا ربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض، ومِلء ما بينهما، ومِلء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكُلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نذلُّ في عزك؟ وكيف نُضامُ في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك؟ وأشهدُ أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً و نذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً، عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).


الأحداث المؤلمة حافز لنا جميعاً للعودة إلى الله :
وبعد فيا أيها الكرام؛ إنه مما لا شك فيه أن الأمة اليوم تعيش واقعاً مأساوياً من كل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، فما ينتهي أسبوعٌ بما فيه من أحداثٍ مؤلمة إلا ويتبعه أسبوعٌ بأحداثٍ أشد إيلاماً، وقد صعب علينا عد تلك الأحداث المأساوية فضلاً عن متابعتها.
الفرج قريب
أيها الأخوة الكرام؛ هذا الواقع مأساويٌ بلا شك، لكنه ليس وليد لحظة، وليس وليد أمرٍ طارئٍ جرى، لكنه وليد تهاونٍ مضى عليه ما يقرب مئة عام، إنه وليد حالةٍ من الضعف، وحالةٍ من الوهن الداخلي، وحالةٍ من الهزيمة النفسية، فما نراه اليوم هو نتائج، لكن هذه النتائج وإن كانت مؤلمة إلا أنها توحي بأن الفرج قد اقترب، لأن أشد ساعات الليل حُلكةً هي التي تسبق بزوغ الفجر، ولكن السؤال المطروح هنا: أين نحن من هذه الأحداث؟ وأين نحن وما موقفنا تجاه ما يجري؟ وهل نحن حقاً جنودٌ في خدمة هذا الدين أم نحن على الهامش؟ هذا هو السؤال المقلق.
سنن الله تجري، والأحداث تتوالى، وهناك أحداثٌ مؤلمة كما جرى في الأسبوع الماضي في نيوزيلندا، ثم ما جرى خلال الأسبوع وقبله في القدس، وما يجري في دير الزور في سوريا من محرقة يقوم به التحالف الدولي على مرأى العالم وبصره، الأحداث كثيرة لن أعددها، ولن أفسد عليكم روحانية هذه الخطبة، لكنني أقول: إن هذه الأحداث المؤلمة ينبغي أن تكون حافزاً لنا جميعاً للعودة إلى الله، فالله مُسيّر الأمر، {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} جلّ جلاله، والحِكَمُ قد نعلم بعضها، وقد يغيب عنا بعضها الآخر، وهؤلاء الذين قتلوا أصبحوا عند ربهم، وانتهت معاناتهم:

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
(سورة آل عمران: الآية 169)

لعلّ ما جرى يكون كفارةً لهم حتى يلقوا ربهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، لكن نحن الذين مازلنا على سطح هذه البسيطة ما المطلوب منا؟ إن الحق أيها الكرام دائماً وأبداً موجودٌ على الأرض، والباطل لا ينفرد بالساحة، هذه سنةٌ من سنن الله، فمهما ادلهمّت الخطوب فلا بد أن ترى نوراً يبزغ من ثنايا هذه الخطوب، وما هذا البَطَلُ الذي في القدس الشريف عنكم ببعيد، إنه يؤكد أن هذه الأمة قد تنام قليلاً لكنها لا تموت، فالأمة ولّادةٌ إلى يوم القيامة، وأمس احتفل أهل هذا البلد الطيب بذكرى معركة الكرامة، حيث قام أهل هذا البلد وجنوده بالدفاع عن دينهم وعرضهم ومقدساتهم، فالباطل لا ينبغي أن ينفرد في الساحة وهذه سنة من سنن الله في الأرض.

على الإنسان أن يحيا في سبيل الله إن لم يتح له الموت في سبيله جلّ جلاله :
ما أجمل الحياة في سبيل الله
أيها الكرام؛ مما لاريب فيه أن سؤالاً يُطرح دائماً من أعماق النفس، هذا السؤال هو: كلما تأملنا الواقع نداء النفس كيف أكون جندياً من جنود الإسلام؟ كيف أُبَرِّئُ نَفْسِي أمام الله؟ لأننا سنقف جميعاً بين يديه جلّ جلاله، ماذا أقدم لديني؟ ماذا أصنع لأمتي؟ هذا نداء النفس في الداخل، لكل مؤمنٍ ولكل إنسانٍ في قلبه ذرةٌ من إيمان يسأل هذا السؤال، من طبيعة النفس أنها تتعلق بعظائم الأمور وإن كانت بعيدةً عنها، وهذا سبب الطموح، والنفس تتجاهل وتتغافل عن الأمور التي في متناول أيديها، تتطلع إلى عظائم الأمور التي قد يموت الإنسان ولا يدركها، وتتغافل عن أشياء بين يديها يمكن أن يفعلها الإنسان فوراً، لكن الله تعالى أيها الكرام؛ جعل لنا في هذه الحياة ما نقوم به، صحيح أن الموت في سبيل الله شرفٌ عظيم، وصحيحٌ أن الإنسان عندما يموت في سبيل الله فهو عند الله بمكانٍ عالٍ - نسأل الله تعالى أن يبلغنا إياه- لكن إن لم يتح لك أن تموت في سبيل الله فلماذا لا تحيا في سبيل الله؟ إن لم يتح لي ولك أن نموت في سبيل الله- ونسأل الله أن يبلغنا هذه المنزلة فهذه منزلةٌ عظيمة - فما الذي يمنعنا أن نحيا في سبيل الله؟ فما أجمل الحياة في سبيل الله! وما أروع العيش في ظلال الله! ألم يقل الله تعالى:

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(سورة الأنعام: الآية 162)

ألم يقل تعالى:

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
(سورة البقرة: الآية 156)

أنت وأنا لله، فلماذا لا نحيا لله؟ لماذا لا نعطي لله؟ لماذا لا نمنع لله؟ لماذا لا نبتسم لله؟ لماذا لا نغضب لله؟ هذا هو محور حديثنا اليوم أن نحيا جميعاً في سبيل الله.

نماذج من رجالٍ ونساءٍ عاشوا في سبيل الله :
أيها الكرام؛ سأضرب لكم نماذج من رجالٍ ونساءٍ عاشوا في سبيل الله، لم تنته حياتهم على أرض المعركة لكنها انتهت في معركة الحياة وهم ثابتون صابرون، فلقوا الله تعالى وهو راضٍ عنهم، هذا معاذ بن جبل عالمٌ عاش في سبيل الله.
كان ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ قوله تعالى:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(سورة النحل: الآية 120)

ثم قال بعدها: إن معاذ بن جبل كان أُمَّةً قانتاً لله، كان يُعَلِّم الناس الخير، وكان مطيعاً لله ولرسوله، فكان معاذ بن جبل وحده أُمَّةً.
كان معاذ بن جبل وحده أُمَّةً
(قالَ ابنُ مسعودٍ: إنَّ معاذَ بنَ جبلٍ كانَ أمَّةً قانتًا للَّهِ حنيفًا ولم يَكُ منَ المشرِكينَ، فقلتُ: غلطَ أبو عبدِ الرَّحمنِ إنَّما قال اللَّهُ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قال: فأعادَها عليَّ، فقال: إنَّ معاذًا كانَ أُمَّةً قانتًا للَّهِ حنيفًا ولم يَك منَ المشرِكينَ فعرفتُ أنَّهُ تعمَّدَ الأمرَ تعمُّدًا فسَكتُّ، فقال: أتدري ما الأمَّةُ وما القانتُ؟ قلتُ: اللَّهُ أعلمُ، فقال: الأُمَّةُ الَّذي يعلِّمُ النَّاسَ الخيرَ، والقانتُ المطيعُ للَّهِ ولرسولِه، وَكذلِك كانَ معاذٌ كانَ يعلِّمُ الخيرَ وَكانَ مطيعًا للَّهِ ولرسولِهِ)

{ عن عبد الله بن عمرو: أربعةُ رهْطٍ لا أزالُ أُحِبُّهم منذُ ما سمِعْتُ مِن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: خُذوا القُرآنَ مِن أربعةٍ: مِن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، وأُبَيِّ بنِ كعبٍ، وسالمٍ مولى أبي حُذيفةَ، ومُعاذِ بنِ جَبلٍ }

(أخرجه البخاري)

كان صلى الله عليه وسلم يقول:

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرحَمُ أمَّتي بأمَّتي أبو بَكْرٍ، وأشدُّهم في دينِ اللَّهِ عُمرُ، وأصدقُهُم حياءً عُثمانُ، وأقضاهُم عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وأقرأُهُم لِكِتابِ اللَّهِ أبيُّ بنُ كَعبٍ، وأعلمُهُم بالحلالِ والحرامِ مُعاذُ بنُ جبلٍ، وأفرضُهُم زيدُ بنُ ثابتٍ، ألا وإنَّ لِكُلِّ أمَّةٍ أمينًا، وأمينَ هذِهِ الأمَّةِ أبو عُبَيْدةَ بنُ الجرَّاحِ }

(أخرجه الترمذي)

قال له يوماً: يا معاذ إني لأحبك، وهل تتصوروا أن يقول سيد المخلوقات لرجل إني لأحبك؟ تصور هذا فقط:

{ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخَذ بيدِ معاذٍ فقال: "يا معاذُ واللهِ إنِّي لأُحِبُّك" فقال معاذٌ: بأبي أنتَ وأُمِّي واللهِ إنِّي لأُحِبُّك، فقال: "يا معاذُ أوصيك ألَّا تدَعَنَّ في دبُرِ كلِّ صلاةٍ أنْ تقولَ: اللَّهمَّ أعِنِّي على ذِكرِك وشُكرِك وحُسنِ عبادتِك" }

(صحيح ابن حبان)

كل إنسانٍ فينا يمكن أن يكون أُمَّةً
هذا معاذ بن جبل أيها الكرام خرج إلى اليمن داعيةً إلى الله، لم يخرج مجاهداً، وما أعظم مرتبة الجهاد، لكنه خرج داعيةً إلى الله، وهذا جهاد، نوعٌ من أنواع الجهاد، جهاد الدعوة إلى الله، خرج داعيةً إلى الله تعالى إلى اليمن، وأوصاه النبي صلى الله عليه وسلم وودعه، فكان معاذ بن جبل خير الدعاة إلى الله بعد غزوة تبوك في اليمن، وعندما حضرته الوفاة وهو على فراش الموت ابن ثلاثة وثلاثين عاماً لم يعش معاذ لا ستين ولا سبعين ولا ثمانين ولا تسعين سنة، عاش معاذ ثلاثاً وثلاثين سنةً فقط، هذا العظيم، فلما كان على فراش الموت قال: مرحباً بالموت مرحبا، زائرٌ جاء بعد غياب، وحبيبٌ وفدَ على شوق، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذِّكْرِ، هكذا عاش معاذ بن جبل، عاش عالماً في سبيل الله ينشر الخير، وكل إنسانٍ فينا يمكن أن يكون أُمَّةً حينما يخرج من ذاته ويعيش الله.
أيها الأخوة الكرام؛ أعود وأقول: ما أعظم الجهاد في سبيل الله، ما أعظم المرتبة التي كلنا نرنو إليها، أن نموت في سبيل الله، ولكن هذا غير متاحٍ في الوقت الراهن لأسبابٍ كثيرة، لكن المتاح لنا اليوم جميعاً أن نحيا في سبيل الله، هذا عالم، وهناك تاجرٌ من الصحابة عاش في سبيل الله، أيضاً لم يمت في أرض المعركة، لكنه مات في معركة الحياة صابراً محتسباً، عبد الرحمن بن عوف تاجرٌ من التجار كان يقال: " أهل المدينة جميعاً شركاء لعبد الرحمن بن عوف في ماله، كل أهل المدينة كانوا شركاء لعبد الرحمن بماله، ثلثٌ يقرضهم المال، وثلثٌ يقضي عنهم ديونهم، وثلثٌ يصلهم ويعطيهم".
صدقات، ثلث لقضاء الدين، وثلث للإنفاق، وثلث للإقراض، للقرض الحسن، هكذا عاش عبد الرحمن بن عوف، أيضاً هذا الرجل أيها الكرام كان يقال: " لو رآه غريبٌ لا يعرفه وهو جالسٌ مع خدمه ما استطاع أن يميزه من بينهم"، مع خدمه لا يميزه من بينهم، وكان من أغنى أغنياء المدينة، جيء له بطعام الإفطار يوماً وهو صائم فبكى، قيل: ما يبكيك؟ قال: استشهد مصعب بن عمير وهو خيرٌ مني، فكفن في بُردةٍ إن غطت رأسه بدت رجلاه، وإن غطت رجلاه بدا رأسه، واستشهد حمزة وهو خير مني، فلم يجدوا له ما يكفن به إلا بردة، قال: ثم بسطت لنا الدنيا وأعطينا منها ما أعطينا، وإني أخشى أنها قد عجلت لنا حسناتنا، على كل هذا الإنفاق، وعلى كل هذا الخير في سبيل الله، كان عبد الرحمن بن عوف يخشى أن تعجل له طيباته في الحياة الدنيا، هذا أيضاً تاجرٌ عاش في سبيل الله.
النموذج الثالث: امرأةٌ عاشت في سبيل الله، أم سُليم الْغُمَيْصَاءُ بِنْتُ مِلْحَانَ، أم سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، هذه الأنصارية التي عرفت بأم سُليم، لأنه بعد أن توفي زوجها جاءها خاطبٌ هو طلحة بن عبد الله، قالت له: والله ما مثلك من يرد، ثريٌّ صاحب خلق، قالت: ما مثلك من يرد، ولكنني مسلمةٌ وأنت رجلٌ كافر، عاد ليطلبها مرةً ثانية، فاستغلّت الفرصة قالت له: إن صنمك هذا الذي تعبده لا يغني عنك شيئاً، ولا ينفعك ولا يضرك، استبشر طلحة وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رآه صلى الله عليه وسلم مقبلاً قال: هذا طلحة جاء ونور الإسلام بين عينيه، فدخل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد لله بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، وتزوج أم أنس التي أصبح اسمها أم سُليم، وأم سُليم هذه مات ابن زوجها ليلاً، فخرج لصلاة العشاء فجعلته في فراشه، فلما آتى قال: كيف ابني؟ قالت: هو أهدأ مما يكون، هدأ، انتهى الأمر، فلما أصبح قالت: أرأيت ما فعله جيراننا؟ قال: وما فعلوا؟ قالت: أخذوا عاريةً من جيرانهم- استعاروا شيئاً- فلما طلبوه منهم أبوا عليهم أن يردوه- لم يردوا إليهم عاريتهم- قال: بئس ما فعلوا، قالت: فذاك ابنك يا طلحة، كان عندك عاريةً وإن الله تعالى قد استرده، قم فوار الصبي، هذه امرأةٌ:
وَلَوْ كَانَ النِّسَاءُ كَمَــــــــنْ رأيـــــــنا لَفُضِّلَتِ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ وَمَا التَّأْنِيثُ لِاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ وَلَا التَّذْكِيرُ فَخْـــرٌ لِلْهِـــــــــلَالِ ***
{ أبو الطيب المتنبي }
هذه المرأة عاشت في سبيل الله، وذاك تاجر عاش في سبيل الله، والثالث عالم عاش في سبيل الله، بإمكانك أن تعيش في سبيل الله، بمالك، بعلمك، بقوتك، بجاهك، بابتسامتك اللطيفة الحانية، بمساعدتك للمحتاج، بمدك يد العون، بالكلمة الطيبة، كل إنسان فينا يستطيع أن يعيش في سبيل الله على أمل أن يأتي يومٌ يشرفه الله تعالى أن يموت في سبيل الله.

الحياة و الموت كلاهما يجب أن يكونا في سبيل الله :
الحياة و الموت في سبيل الله
أيها الأخوة الكرام؛ هذه ليست أبداً دعوةً لترك الجهاد، وليست دعوةً أبداً لأن نحيا فقط في سبيل الله، فإن الحياة في سبيل الله هي التي تهيئ الإنسان للموت في سبيل الله، ومن لا يحيا في سبيل الله لا يموت في سبيل الله، وكل النماذج أمامكم في التاريخ عاشوا لله فماتوا الله.

وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(سورة الأنعام: الآية 162)

حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيَتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، واستغفروا الله.

الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

الجهاد حق يبدأ بمجاهدة النفس والهوى وينتهي بالجهاد القتالي :
الجهاد يبدأ بمجاهدة النفس
أيها الأخوة الأحباب؛ لا أعلم كلمةً ظلمها أهلها وأعداؤها من كلمة الجهاد، هي كلمةٌ مظلومةٌ بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ وأبعاد، ظلمها أهلها يوماً حينما حذفوها من مناهجهم، واستحيوا بها أن يراها الغرب لأنهم رأوا فيها منقصةً، ورأوا فيها ما يدعو للشبهِ على الإسلام فحذفوها، وخافوا منها، فضعفوا وضعفوا وضعفوا حتى أصبح أعداؤهم يجاهدونهم، لكن ليس في سبيل الله، يقاتلونهم ويقتلونهم لكن ليس في سبيل الله، ثم ظلمها أهلها مرة ثانية حينما قامت فئةٌ على غير علم وبصيرة وقالت: سنجاهد في سبيل الله، وهؤلاء أيضاً هم في جزء كبيرٍ منهم صناعة مخابراتية بالكامل، صنعتها مخابرات العالم من جديد لتستخدم كلمة الجهاد من جديد لتبرير إرهابهم الذي لا يعرف الحدود، أما أعداؤها فقد ظلموها ظلماً بيّناً بلا شك يوم اتهموا كل من يدافع عن حقه، أو كل من يقف في وجه عدوه، أو كل من يردّ المظلمة عن نفسه، بأنه إرهابيٌّ، حتى أدخلوا هذه الكلمة إلى عقولنا، فصار الواحد منا إذا قيل له كلمة إرهاب اتجه نظره فوراً إلى أناسٍ يزعمون أنهم من المسلمين، يطيلون لحاهم، ويقطعون الرقاب، ويقصّون رقبة من خالفهم.
إذاً أيها الكرام؛ هذه الكلمة ظلمت ظلماً عظيماً، يجب أن نعيد لها اليوم مكانتها في الإسلام، الجهاد حق يبدأ بمجاهدة النفس والهوى:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
(سورة العنكبوت: الآية 69)

أن يجاهد الإنسان نفسه، وأن يحملها على طاعة الله، وأن يأمرها بما أمر الله، وأن ينهاها عما نهى الله عنه، ثم ينتقل إلى الجهاد الدعوي قال تعالى:

وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا
(سورة الفرقان: الآية 52)

أي بالقرآن الكريم، بتعليم الناس العلم، وبنشر الدين، وبنشر الأخلاق الحميدة، وبنشر مبادئ الإسلام الراقية، ثم بعد ذلك بالجهاد البنائي:

وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ
(سورة الأنفال: الآية 60)

فكل إنسان في موقعه يُعِدُّ ما يستطيع من قوة، فالإعلام قوة، والسلاح قوة، وتربية الأولاد قوة، ورعاية الأسرة واجبٌ دينيٌ وهو قوة، وينتهي بالجهاد القتالي في ساحات المعركة لردّ العدوان، ولمنع أحدٍ من الناس أن يمنع الناس من الدخول في دين الله تعالى.

الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أنعمت وأوليت، نستغفرك ونتوب إليك، نؤمن بك ونتوكل عليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، يا واصل المنقطعين صلنا برحمتك إليك، اللهم برحمتك أعمّنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا قريبٌ سميعٌ مجيبٌ للدعوات، اللهم انصر أخواننا المرابطين في المسجد الأقصى على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم ارحم شهداءهم، واشفِ جرحاهم، اللهم هيئ لنا ولهم فرجاً عاجلاً من عندك يا أرحم الراحمين، فرّج عن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فرّج عنهم ما أهمهم وأغمهم، انصر الإسلام وأعز المسلمين، هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل عصيانك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مستظلاً بكتابك، وشرعة نبيك صلى الله عليه وسلم، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة.