• 2019-03-15
  • عمان
  • مسجد زياد العساف

صمتاً


الخطبة الأولى :

يا ربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض، ومِلء ما بينهما، ومِلء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكُلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نذلُّ في عزك؟ وكيف نُضامُ في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك؟ وأشهدُ أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً و نذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً، عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).


عجز اللغة العربية في التعبير عن مآسي الأمة :
مآسي أمتنا كثيرة
من أين أبدأ أيها الكرام؛ والحقيقة أن اللغة أحياناً على هيبتها وجمالها تقف عاجزةً عن التعبير عن مآسي أمتنا، فهل نتحدث عن المسجد الأقصى وعن القدس الشريف والصهاينة يعيثون في الأرض فساداً، أم نتحدث عن غزة وقد تعرضت ليلةَ أمسٍ لقصفٍ مريع، أم ننتقل إلى الشمال السوري حيث إدلبُ تتعرض أيضاً لشتى أنواع الأسلحة، أم يفاجئنا صباح هذا اليوم خبر عجيب غريب فقد وصلت مآسينا إلى نيوزيلندا، حيث دخل مجرمٌ سيظهر بعد حين في دعواهم أنه مختلٌّ عقلياً ليقتل المسلمين في المسجد، من أين ابدأ؟ وكيف للغة أن تسعفنا وقد آل حالنا إلى هذه الحال؟
صمتاً أصيخي واسمعي يا أمتي ما عدت أصبر أن يموت بياني ما عاد يحويني سكوتي والبكاء أنا لست مجبولاً على الخـــــذلان أنا مسلم والمجد يقطر كالنـــدى والعز كل العـــــز في إيمـــــــــــاني أين الذين تشدقـــــــوا بعروبـــــــــة وجنين تصفع وجه كل جبـــــــان أين الحقوق وقد أبيدت أمـــــــــة وأنا الملام إذا صرخت كفانــــــي سل مدّعي حفظ الحقوق لهـــرة هل هرةٌ أولى من الإنســــــــــان؟ في كل يوم تستبـــــــاح مدينـــــــة أين الذين تهزهـــــــــم أحزانــــــي؟ كل الحقوق مصانة في عرفهم إلا حقوقك أمــــــــــة القــــــــــــــــرآن إني وإن يكن البكـــــــــاء نقيصة أبكي لحالك سائــــــــــر الأزمــان ***
{ القرضاوي }
المجرم واحدٌ وقد تتعدد أهدافه ووسائله، والدم واحدٌ وهو دم المسلمين، والمتهم واحدٌ وهم المسلمون، الدماء دماؤهم، وأصابع الإتهام توجه إليهم.

الحق لا يقوى إلا بالتحدي وأهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالبذل والتضحية :
أيها الأخوة الكرام؛ بادئ ذي بدء: الله تعالى هو الحق، قال تعالى:

ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
(سورة الحج: الآية 62)

بل إنه قد أرسل رسله بالحق:

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ
(سورة البقرة: الآية 119)

بل إن الله تعالى أنزل الكتب بالحق:

ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
(سورة البقرة: الآية 176)

بل إن وعده حق:

وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا
(سورة الكهف: الآية 98)

بل إنه خلق السماوات والأرض بالحق، قال تعالى:

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ
(سورة الأنعام: الآية 73)

الحق لا يمكن أن ينفرد في الساحة
ولكنها سنن الله في الأرض أن الحق لا يمكن أن ينفرد في الساحة، كما أن الباطل لا يمكن أن ينفرد في الساحة، هي سنة من سنن الله أن نجتمع على أرضٍ واحدة، وأن يكون الحق مع الباطل جنباً إلى جنب:

وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا
(سورة الأحزاب: الآية 62)

وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا
(سورة الإسراء: الآية 77)

ألم يكن من الممكن- والله تعالى على كل شيءٍ قدير فهو واجب الوجوب- أن يعيش الحق في حقبةٍ زمنية وأن يعيش الباطل في حقبةٍ زمنيةٍ أخرى؟ بلى، ألم يكن من الممكن أن يعيش أهل الحق على كوكب وأن يعيش أهل الباطل على كوكبٍ آخر؟ بلى، هذا ممكن، لماذا أرادنا الله أن نعيش معاً في الزمان والمكان على أرضٍ واحدة؟ لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي، ولأن أهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالبذل والتضحية، يقول تعالى:

ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ
(سورة محمد: الآية 4)

يهلكهم لأتفه الأسباب:

وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ
(سورة المدثر: الآية 32)

والتاريخ أمامهم، ( ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ) إذاً لماذا لم ينتصر منهم؟ قال:

وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ
(سورة محمد: الآية 4)

حتى يبتلي أهل الحق ويبتلي أهل الباطل، وقد يقول قائلٌ بعد ذلك: ولكن هذا البلاء العظيم فاتورته كبيرة، والدماء التي سالت كثيرة، تابعوا الآية:

وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
(سورة محمد: الآية 4-5-6)


الدنيا دار امتحان و ليست دار جزاء :
الدنيا دار ابتلاء
إذاً أيها الكرام؛ عندما ننظر إلى الدنيا بنظرةٍ واحدة، وبعينٍ واحدة، وعندما نعلم ظاهراً من الحياة الدنيا وتغيب عنا الجهة المقابلة، ويغيب عنا الوجه الآخر وهو الآخرة، تكون نظرتنا قاصرةً وسطحية، نحن في الدنيا في دار امتحان، وفي دار ابتلاء، ولسنا في دار جزاء:

وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
(سورة آل عمران: الآية 185)

توفى الأجور يوم القيامة، أما الدنيا فليست دار أجر وإنما هي دار ابتلاءٍ فقط، قد يكافئ الله بعض المحسنين في الدنيا وقد يعاقب بعض المسيئين، لكن الرصيد الختامي لا يكون إلا يوم القيامة.

سنّة الله هي التدافع بين الحق والباطل :
إذاً أيها الإخوة الكرام؛ سنّة الله هي التدافع بين الحق والباطل، قال تعالى:

كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ
(سورة الرعد: الآية 17)

وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ
(سورة الكهف: الآية 56)

ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ
(سورة محمد: الآية 3)

هذه الثنائية لابد منها في كل عصر، وفي كل إثر، لكن ما النتيجة؟ في المحصلة قال تعالى:

بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ
(سورة الأنبياء: الآية 18)

الحق هو الشيء الثابت
لأن الحق أيها الكرام؛ هو الشيء الثابت والهادف، والله هو الحق، لكن الباطل زهوقٌ وزائل، والله لو رأيتم ألف باطل فهو إلى زوال، ولو رأيتم أقوى باطل فهو إلى زوال، ولكن سنّة الله تعالى في الأرض أن يتخلف النصر أحياناً عن أهل الحق عندما يحيدون عن درب الله عز وجل، عندما يهون أمر الله عليهم فيهونون على الله.

قصة ماشطة بنت فرعون تعلمنا أن الإيمان قبل القوة والقوة تنبع من الإيمان :
أيها الكرام؛ ماشطة بنت فرعون، وكلكم قرأ عنها، لكن هذه مناسبتها هنا، امرأة ضعيفة في العرف الإجتماعي هي في أدنى مستوى، في الاجتماعي وليس في الديني وعند الله، هي تمشط شعر بنت فرعون، هذا عملها، والأحاديث في الصحيح، وهي تمشط شعر بنت فرعون سقط المشط من يدها فنزلت لتلتقطه فقالت: باسم الله، لأنها مؤمنة، وهي في قصر فرعون، في أحلك الظروف، سمعت البنت باسم الله، قالت لها: أبي الله، أبوها فرعون:

مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي
(سورة القصص: الآية 38)

قالت: أبي الله، قالت: بل ربي وربك ورب أبيك الله، هذا الكلام داخل قصر فرعون الطاغية الأكبر، تقول لها في قصره: ربي وربك ورب أبيك الله، قالت لها: إذاً أخبر أبي، فأخبرت أباها فجاء بها، إذاً هناك تمرد داخل قصر فرعون، امرأةٌ تعبد إلهاً من دون فرعون، جاء بها قال: من ربك؟ امرأة ومعها أطفالها، قالت: ربي وربك الله، فأمر بأطفالها أن يلقوا في قدرٍ من زيت أمام عينيها وهي تنظر، فلما جاء دور الرضيع نطق الرضيع فقال: اثبتي يا أماه أنتِ على حق، وألقى ماشطة بنت فرعون في القدر، وماتت ماشطة بنت فرعون وأولادها، والنبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج شم رائحة لم يشم مثلها قط، قال: رائحة من هذه يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها.

{ عَنِ ‏‏ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ‏‏قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:‏ "لَمَّا كانتِ اللَّيلةُ الَّتي أُسريَ بي فيها، أَتَتْ عليَّ رائحةٌ طَيِّبةٌ، فقُلْتُ: يا جِبريلُ، ما هذه الرَّائحةُ الطَّيِّبةُ؟ فقال: هذه رائحةُ ماشِطةِ ابنةِ فِرعونَ وأَولادِها. قال: قُلْتُ: وما شَأنُها؟ قال: بيْنما هي تَمشُطُ ابنةَ فِرعونَ ذاتَ يَومٍ، إذْ سَقَطَتِ المِدْرَى مِن يَدَيْها، فقالتْ: باسمِ اللهِ، فقالتْ لها ابنةُ فِرعونَ: أَبي؟ قالتْ: لا، ولكنْ رَبِّي ورَبُّ أَبيكَ؛ اللهُ. قالتْ: أُخبِرُه بذلكَ؟ قالتْ: نعَمْ. فأَخبَرَتْه، فدَعاها، فقال: يا فُلانةُ، وإنَّ لكِ رَبًّا غَيري؟ قالتْ: نعَمْ، رَبِّي وربُّكَ اللهُ. فأَمَرَ ببَقرةٍ مِن نُحاسٍ، فأُحميَتْ، ثمَّ أَمَرَ بها أنْ تُلْقى هي وأَولادُها فيها. قالتْ له: إنَّ لي إليكَ حاجةً، قال: وما حاجتُكِ؟ قالتْ: أُحِبُّ أنْ تَجمَعَ عِظامي وعِظامَ ولدِي في ثَوبٍ واحدٍ وتَدفِنَنا، قال: ذلكَ لكِ علينا مِنَ الحقِّ. قال: فأَمَرَ بأَولادِها فأُلْقوا بيْن يَدَيها؛ واحدًا واحدًا، إلى أنِ انتَهى ذلكَ إلى صَبيٍّ لها مُرضَعٍ، وكأنَّها تَقاعَسَتْ مِن أجْلِه، قال: يا أُمَّهْ، اقتَحِمي؛ فإنَّ عذابَ الدُّنيا أَهْوَنُ مِن عذابِ الآخِرةِ، فاقتَحَمَتْ. قال: قال ابنُ عبَّاسٍ: تَكلَّمَ أَربعةُ صِغارٍ: عيسى ابنُ مريمَ عليه السَّلامُ، وصاحبُ جُرَيجٍ، وشاهدُ يوسفَ، وابنُ ماشِطةِ ابنةِ فِرعونَ }

(أخرجه الإمام أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم)

الوجه الأول في الدنيا لكن الوجه الآخر في الآخرة، فإيانا ثم إيانا أن ننظر إلى وجهٍ واحد:

يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
(سورة الروم: الآية 7)

الدنيا فترةٌ مؤقتة
لا ينبغي أن نغفل ساعةً عن الآخرة، وهذا لا يعني ترك العمل بالدنيا، ولكن يعني أن نمزج دائماً في فهمنا بين الدنيا والآخرة، فليست الدنيا محط الآمال، وليست الدنيا نهاية الآمال، ولا محط الرحال، إنها فترةٌ مؤقتة، وبعدها يكون الأجر الختامي.
إذاً أيها الكرام؛ ماشطة بنت فرعون تعلمنا أنك على حق إذاً أنت قوي ولو كنت تبدو ضعيفاً، والذي على الباطل هو ضعيف وإن بدا قوياً، لأن القوة هي قوة الحق، المؤمن قوي، فالإيمان قبل القوة، والقوة تنبع من الإيمان، والمؤمن يستمد قوته من إيمانه ثم يبني قوته الخارجية، لكن قل دائماً: أنا على حق إذاً أنا قوي، وإياك أن تكون ممن يقولون: أنا قوي إذاً أنا على حق، فالقوة لا تصنع حقاً لكن الحق يصنع قوة.

النصر قادم لا محالة لأنه وعد الله والله لا يخلف وعده :
أيها الكرام؛ اقرأوا التاريخ لا قراءة المحبطين، ولا قراءة من يقولون: كان جَدّي، ولكن قراءة من يقولون: كان جِدّي وعملي، التتار هجموا على المسلمين في بغداد، واليوم نرى تتاراً جدداً هجموا على المسلمين في شوارع بغداد حتى مُلئت شوارع بغداد بالأشلاء، ولم تصلّ صلاةٌ واحدة في مسجدٍ واحدٍ من مساجد بغداد مدة أربعين يوماً، ثم غيّر الله الواقع وبدّل الحال، الصّليبيون احتلوا المسجد الأقصى ومُنعت الصلاة فيه، واحد وتسعون عاماً لم تقم صلاةٌ واحدة في المسجد الأقصى، ثم قيّض الله لهذه الأمة من غيّر الواقع وبدّل الحال، القرامطة هجموا على المسلمين كما حصل هذه الليلة، وهم في بيت الله الحرام حول الكعبة، وبملابس الإحرام، وقتلوا من قتلوا، وانطلق المجرم أبو طالبٍ القرمطي وانتزع الحجر الأسود من مكانه، ورفع رأسه إلى السماء متحدياً والعياذ بالله، يقول: أين الطير الأَبَابِيلَ؟ أين الحجارة من سِجِّيل؟ وبقي الحجر الأسود بعيداً عن الكعبة عشرين عاماً، ثم غير الله الواقع وبدل الحال:
لَئِنْ عَرَفَ التَّاريخُ أَوْساً وخَزْرَجاً فَلِلَّهِ أَوْسٌ قادِمُونَ وخَزْرَجُ وإنَّ كُنوزِ الغيْبِ لَتُخْفِي طَلَائِعـــاً حُـرَةٍ رَغْـمَ المـكائِـدِ تَـخْــــــرُجُ ***
{ من الشعر القديم المنقول }
أحلك الساعات ظلمةً
إذاً أيها الكرام؛ قراءة التاريخ تبين لنا أن الواقع والحال سيتبدل، لكن هل نحن جنودٌ من جنود هذا التغيير أم نحن على هامش التاريخ؟ هذا هو السؤال الأهم، نحن موقنون بكل ذرةٍ في دمنا، وبكل خليةٍ في جسمنا، أن الله تعالى سيبدل الحال، وأن النصر للإسلام، فالتاريخ خير شاهد، وإنّ أحلك الساعات ظلمةً هي الساعات التي تسبق بزوغ الفجر، فنحن متفائلون لا من معطيات أرضية، أبداً، فليس في الأرض ما يتفاءل به، ولكن لأنه وعد الله، والله لا يخلف وعده، لكن متى نكون مؤهلين لذلك؟ هذا هو السؤال الأعظم والسؤال الأهم، المسلمون في أُحد وقعوا في هزيمة ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم خيرة خلق الله، لكنهم خالفوا أمراً تكتيكياً من أوامر المعركة فوقعوا في هزيمة، فلما تحدث القرآن الكريم عن هذه الهزيمة ماذا قال؟

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ
(سورة آل عمران: الآية 165)

(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا) فماذا قال القرآن؟ هل قال: هو من عند أعدائكم؟ هل قال: هو من تآمر الشرق والغرب عليكم؟ هل قال: هو من الظروف المحيطة بكم؟ أبداً، قال: (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) فوجّه سهام النقد إلى الداخل، ووجّه التغيير إلى الداخل، وأمر أن نبدأ بأنفسنا، وهذا ليس خطاباً انهزامياً ولا خطاباً تراجعياً، لأننا نعمل ونبني ونرد الظلم ما استطعنا، ولكن أن نبدأ بأنفسنا من الداخل فنصلحها، ونُصلح بها، عند ذلك نستحق نصر الله تعالى.

من استحكم حبّ الدنيا في قلبه فهذه طامة كبرى :
أيها الأخوة الكرام؛ في الحديث الصحيح كما في سنن أبي داود: يوشك أن تداعى عليكم الأمم- يخبر صلى الله عليه وسلم عما يحصل اليوم وهذا من دلائل نبوته، أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها- قالوا: أمن قلة نحن يَوْمَئِذٍ يا رسول الله؟ قال: لا، بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِير- أكثر من مليار مسلم- بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، قالوا: يا رسول الله أمن قلة نحن يَوْمَئِذٍ؟ قال: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ الْمَهَابَةَ من قلوب أعدائكم، وَلَيَقْذِفَنَّ الْوَهْنَ في صدوركم، قالوا: وَمَا الْوَهْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ.

{ جاء في سنن أبي داود: عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ }

(سنن أبي داود)

المسلمون لم يتركوا الدنيا
عندما يتعلق الإنسان بالدنيا، لا أقول: عندما يعمل في الدنيا بل يتعلق، عندما تستخدمه الدنيا ولا يستخدمها، فالمسلمون لم يتركوا الدنيا، بنوا حضارةً عجزت الأمم حتى الآن أن تبني نظيراً أو مشابهاً لها ولو بعشرة بالمئة، والتاريخ شاهد، فهم لم يتركوا العمل في الدنيا لكنهم استخدموا الدنيا ولم يخدموها، كانت الدنيا في أيديهم ولم تكن في قلوبهم، أما عندما يستحكم حب الدنيا في القلوب فيعصي الإنسان ربه من أجل دراهم معدودة، ويظلم الناس من أجل دراهم معدودة، فهنا الطامة الكبرى.

النصر المبدئي أن يبقى الإنسان ثابتاً على مبادئه :
النصر المبدئي بالثبات على المبادئ
أيها الأخوة الكرام؛ ختاماً يقول صلى الله عليه وسلم- وهذه بشارة، بشارةٌ لنا جميعاً، أهل الشام، أهل الأردن، والأردن من أرض الشام وهي مما حول المسجد الأقصى- :" لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ- لابد من جهد وتعب- حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ- هذا هو النصر المبدئي أن تبقى ثابتاً على مبادئك، ألا تزحزحك سياط الجلادين اللاذعة، ولا سبائك الذهب اللامعة عن دينك، هذا هو النصر الأول، ولا نصر بعده إلا إن تحقق هذا النصر، وهم على ذلك- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ- صفوة الله من أرضه الشام وفيها صفوته من خلقه وعباده، نسأل الله أن يجعلنا منهم-:

{ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ" قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ" }

(رواه الإمام أحمد في المسند)

حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

الدعاء :
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا، حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصرنا على أعدائنا، اللهم انصر أخواننا المرابطين في المسجد الأقصى وفي القدس الشريف على أعدائك وأعدائهم يا أرحم الراحمين، اللهم فرج عن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم ارحم شهداءهم، واشفِ جرحاهم، وعافِ مبتلاهم، أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبلاً يا أرحم الراحمين، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل عصيانك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اجعل اللهم هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين، ووفق القائمين عليه بالعمل بكتابه وسنّة رسوله، ونصرة المسجد الأقصى يا أرحم الراحمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.