فقه الابتلاء

  • 2019-02-01
  • عمان
  • مسجد أحد

فقه الابتلاء


الخطبة الأولى

ياربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض ومِلء ما بينهما ومِلء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكُلّنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هداك، وكيف نَذِلُّ في عزك، وكيف نُضامُ في سلطانك، وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك، وأشهدُ أن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد وعلى ذرية سيدنا محمد وسلم تسليماً كيثراً، وبعد عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأحثكم على طاعته ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ).


مفهوم الابتلاء
الابتلاء لغةً هو الامتحان أو الاختبار
وبعد فيا أيها الأخوة الكرام: موضوعنا اليوم بعنوان فقه الابتلاء، أيها الكرام بدايةً ما معنى الابتلاء؟ الابتلاء لغةً هو الامتحان أو الاختبار، أما اصطلاحاً فالابتلاء هو التكليف بأمرٍ شاقٍّ صعبٍ لتظهر بذلك حقيقة الإنسان، إن كان خيراً فخير أو شراً نسأل الله العافية فشر، هذا هو الابتلاء لغةً وشرعاً.
الأمر الثاني: هل الابتلاء خيارٌ يختاره الإنسان أم هو سنّةٌ من سنن الله؟ الجواب: الابتلاء سنّة، بمعنى أنه لن تجد إنساناً من آدم إلى يوم القيامة دون أن يُبتلى، هذه سنّةٌ من سنن الله،

وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً
(سورة الأحزاب: الآية 62)

التمكين يأتي بعد الابتلاء
ليس خياراً أن نُبتلى أو لا نُبتلى، الخيار أن نصبِر أو لا نصبِر، أن نشكُر أو لا نشكُر، هنا نحن مخيرون لكن أن يُبتلى الإنسان أو لا يُبتلى فهذا ليس خياراً، سُئل الإمام الشافعي: أندعو الله بالتمكين أم بالابتلاء؟ قال: لن تُمَكَّنَ قبل أن تبتلى، ادعُ بما شئت، التمكين يأتي بعد الابتلاء.
إذاً أيها الكرام: الابتلاء سنّةٌ وليس خياراً وهذه ثلاث آياتٍ تؤكد هذا المعنى، قال تعالى:

أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
(سورة العنكبوت: الآية 2)

الثانية:

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً
(سورة الملك: الآية 2)

الثالثة:

وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ
(سورة المؤمنون: الآية 30)

إذاً الابتلاء سنّةٌ من سنن الله في الأرض.

مادة الابتلاء
الأمر الثالث: ما مادة الابتلاء؟ لو قلت لك عندك اختبارٌ غداً في الجامعة ستسألني ما مادة الاختبار؟ أين المقرر؟ مادة الابتلاء هي الخير والشر معاً، يُبتلى الإنسان بالخير ويُبتلى بالشر، قال تعالى:

وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
(سورة الأنبياء: الآية 35)

الفتن والابتلاءات لا تعد ولا تحصى
فالامتحان له مادتان رئيسيتان تندرج تحتهما مئات بل آلاف المفردات، مادة الخير ومادة الشر، بمعنى آتاك الله مالاً هذه مادة الابتلاء عندك هل تنفقه في الصالحات والخيرات والقربات أم ينفقه غيرك في المعاصي والآثام والكِبر والعلو في الأرض بغير حق؟، الآن منع عنك المال فافتقرت شيئاً هل تصبر وتتخذ الأسباب وتسعى السعيَ الدؤوب ثم تصبر على ما قدّر الله فلا تنطق بكلمةٍ فيها سوء ظنٍّ بالله فتنجح في الاختبار؟، أم غيرُك يصبح الفقر بالنسبة له منسياً فينسى طاعة الله عز وجل ويترك الصلوات ويترك القُربات ويتكلم بكلامٍ فيه إساءةٌ وسوء ظنٍّ بالله تعالى، آتاك الله صحةً هل استخدمتها في الطاعة؟، مرض الإنسان هل صبر على المرض؟، آتاك الله عز وجل منصباً فهل أحققت به حقاً وأبطلت به باطلاً، أم استخدمته للعلو في الأرض بغير حق؟، الفتن والابتلاءات أيها الأخوة لا تعد ولا تحصى ولو رحت أعددها لما كفى الوقت لها، كل شيء في الحياة هو ابتلاء، عندما ترى قوة الباطل والباطل ليس قوياً

إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا
(سورة الإسراء: الآية 81)

ولكن أعني عندما ترى قوة أهل الباطل وهم على باطلهم وترى ضعف أهل الإيمان وهم على إيمانهم فهذا ابتلاء لا يصمد أمامه إلا الخُلَّص من عباد الله تعالى، إن الله يقوّي أعداءه حتى يقول ضعيف الإيمان أين الله؟، ثم إنه جل جلاله يظهر آياته في الانتقام للمظلومين وإحقاق الحق وإبطال الباطل حتى يقول الملحد لا إله إلا الله، وهذه سنّة الله في التاريخ.
إذاً أيها الكرام: كل ما تجده في الحياة وكل دقيقةٍ في الحياة هي ابتلاء بالنسبة للإنسان، هذه مادة الامتحان.

حقائق مهمة حول موضوع الابتلاء
الآن أيها الأخوة اسمحوا لي ببعض الحقائق المهمة التي تجلّي موضوع الابتلاء والامتحان.

الابتلاء ليس عذاباً ولا تعذيباً
ألذ عيشنا بالصبر
الحقيقة الأولى: الابتلاء ليس عذاباً ولا تعذيباً من الله عز وجل لعباده، لا ينبغي أن نفهم الابتلاء على أنّ الله يريد أن يعذب عباده، حاشاه جل جلاله، والله غنيٌ عن تعذيب عباده، لكنه كما تصقِل النار الذهب لتخلّصه من الشوائب والعناصر الرخيصة العالقة به كذلك تصقِل الامتحانات الإنسان لتخلصه من آفات النفوس والشهوات، فيخلُص لجنة النعيم، يعني تماماً لو أن طالباً في الجامعة عنده امتحان لو فهم أنّ الجامعة تريد أن تعذبه بهذا الامتحان فهو لم يفقه حقيقة الجامعة ولا حقيقة الامتحان أبداً، الامتحان ليس تعذيباً هو فقط من أجل أن تؤهَّل أيها الإنسان أيها الطالب لنيل الشهادة والمكانة ولتعمل فيما بعد عملاً ترتزق منه، هذا الامتحان لو أنّ طالباً فهمه على أن الجامعة تريد أن تعذب الطلاب فهو لم يفقه حقيقة الامتحان، إذاً الابتلاء ليس عذاباً، الله تعالى يعذّب الكافرين، يعذب المنافقين في الدنيا والآخرة، لكن لو أن إنساناً مؤمناً ابتليَ فصبر لكان في الصبر أشد قرباً من الله عز وجل ، يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: "وجدنا ألذ عيشنا بالصبر"، كان يجد برد العيش وهو صابرٌ، يقول: يارب أنا راضٍ بما قسمت لي، الصبر مكانةٌ عظيمة.
أيها الأخوة الكرام: الله تعالى عندما يبتلي الإنسان بالخير أو بالشر لا يظنن الإنسان أن هذا إكرام أو تلك إهانة، قال تعالى:

فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ
(سورة الفجر: الآية 15-16)

ليس العطاء إكراماً ولا المنع إهانةً
(فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ) أي امتحنه كما قلنا ( إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) هو يقول ذلك هو يظن أن الله يكرمه وهذا من جهله، (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) يفهم العطاء على أنه إكرام ولو كان عاصياً هذا المقصود، ويفهم المنع على أنه إهانة ولو كان طائعاً، جدلاً، قال تعالى: (كَلَّا) أي ليس العطاء إكراماً ولا المنع إهانةً، كلاهما ابتلاء، العطاء ابتلاء والمنع ابتلاء.
إذاً أيها الأخوة الكرام: الابتلاء لا يهدف إلى تعذيب الإنسان، حاشاه ربنا، لكنه يهدف فقط إلى الفرز والتمحيص.

الابتلاء يكفر الخطايا والذنوب ويرفع الدرجات
رفع الدرجات هو هدف الابتلاء
الحقيقة الثانية: الابتلاء يكفر الخطايا والذنوب ويرفع الدرجات، إنسانٌ عنده بعض الآثام والذنوب في خلوات النفس وجلواتها، يُبتلى بالمال فيشكر، يُبتلى بمنع المال فيصبر، فيكفِّر الله عنه خطاياه وذنوبه، حتى يلقى الله كيوم ولدته أمه، أو إنسانٌ صالحٌ له عند الله درجة فابتلاه الله عز وجل فصبر أو شكر فرفع الله درجته عنده، هذا هو هدف الابتلاء.
اسمعوا إلى هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري:

{ وعنْ أبي عبدِاللَّهِ خَبَّابِ بْن الأَرتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ }

(رواه البخاري)

عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً، في ظِلِّ الكَعْبَةِ وقدْ لَقِينَا مِنَ المُشْرِكِينَ شِدَّةً، اشتدَّ علينا أذى المشركين، فَقُلتُ له: يا رسول الله أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قد تظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمام الكعبة رفع يديه وقال يارب انصر عبادك، يارب ودعا لهم، لم يفعل، لماذا لم يفعل؟ أظنه بأبي هو وأمي، قد لمح في قول هذا الرجل شيئاً من القنوط، شيئاً من الضعف، فأراد أن يؤدب فيه ذلك، فما دعا، لكن قام محمراً وجهه صلى الله عليه وسلم، فَقالَ: "لقَدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بمِشَاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ عِظَامِهِ مِن لَحْمٍ أوْ عَصَبٍ، ما يَصْرِفُهُ ذلكَ عن دِينِهِ، والله ولَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هذا الأمْرَ حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".
وعد الله آت
وجهه إلى أن هذه هي السنّة في الحياة، وهي أن تُبتلى فعليك أن تصبر وهذا لا يمنع من الدعاء، لكن إياك أن تقنط، لأنك في طريقٍ هيأت نفسك أنك في امتحان في هذه السنوات التي ستعيشها فلا تستعجل فإن وعد الله آت.
أيها الكرام: أيضاً في الحديث الصحيح:

{ أشَدُّ الناسِ بَلاءً الأنبياءُ، ثم الأَمثَلُ فالأَمْثَلُ، يُبْتَلى الرجُلُ على حسَبِ دِينِه، فإنْ كان في دِينِه صُلبًا اشتَدَّ بَلاؤه، وإنْ كان في دِينِه رِقَّةٌ ابتُلِيَ على حَسَبِ دِينِه، فما يبْرَحُ البَلاءُ بالعَبدِ حتى يَترُكَه يَمشي على الأرضِ، وما عليه خَطيئةٌ }

(صحيح)

هذه هي أهداف الابتلاء الكبرى.

التمحيص والفرز
الحقيقة الثالثة: التمحيص والفرز، الابتلاء يمحّص، يَفرِز،

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ
(سورة آل عمران: الآية 141)

وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
(سورة العنكبوت: الآية 3)

إذاً من أهداف الابتلاء الكبرى أن يمحِّص الله تعالى المؤمنين وأن يفرز المؤمن عن المنافق.

بيان عاقبة الظالمين
الحقيقة الرابعة: من خلال الفتن والابتلاءات يُظهر الله للناس آياته ويبين لعباده عاقبة الظلم والظالمين ويستخلف من بعدهم عباداً صالحين، أين فرعون، أين قارون، أين هامان؟ أين من دوّخوا الدنيا بسطوتهم؟ أين من كانوا ينحِتون من الجبال بيوتاً؟ أين الذين كانوا يقولون مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟

قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً
(سورة فصلت: الآية 15)

بيان عاقبة الظالمين
لم يكن فوق عادٍ في زمنهم إلا الله، فقالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) فخاطبهم الله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أين هؤلاء؟ وأين التابعون لهم؟ وأين من كانوا ذا عزٍّ وسلطان؟، الله تعالى من خلال الامتحان يبين عاقبة الظالمين ويستخلف عباده المؤمنين.

الابتلاء يجعلك في شوقٍ للقاء الله
الحقيقة الأخيرة في الابتلاء، الابتلاء يجعلك في شوقٍ للقاء الله، والله أيها الأحباب لو استقرت الدنيا للمؤمن ودامت على حالٍ واحدة وكلها نعيمٌ وابتلاء بنوعٍ واحد وهو ابتلاء النعيم ولم يمتحن ولم يتحمل المشاق لما اشتاق للقاء ربه، ولما اشتاق لجنة ربه، ولكن الله تعالى يريد من عبده أن يتوجه إليه، فإذا ما ابتلاه فإنه يخلِص الطاعة لله هذا هو موقف المؤمن.

ابتلاء الخير وابتلاء الشر وموقف الإنسان منهما
أيها الأحباب: هذه قصةٌ جاءت في حديثٍ متفق عليه تبين كل هذه الحقائق التي قلتها من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجز الكبير فاسمعوا:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّ ثَلَاثَةً في بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فأتَى الأبْرَصَ، فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عنْه، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا، فَقالَ: أَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: الإبِلُ، أَوْ قالَ: البَقَرُ، هو شَكَّ في ذلكَ: إنَّ الأبْرَصَ، وَالأقْرَعَ، قالَ أَحَدُهُما الإبِلُ، وَقالَ الآخَرُ: البَقَرُ، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقالَ: يُبَارَكُ لكَ فِيهَا وَأَتَى الأقْرَعَ فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هذا، قدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قالَ: فأيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: البَقَرُ، قالَ: فأعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقالَ: يُبَارَكُ لكَ فِيهَا، وَأَتَى الأعْمَى فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرُ به النَّاسَ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قالَ: فأيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ الغَنَمُ: فأعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هذانِ وَوَلَّدَ هذا، فَكانَ لِهذا وَادٍ مِن إِبِلٍ، وَلِهذا وَادٍ مِن بَقَرٍ، وَلِهذا وَادٍ مِن غَنَمٍ، ثُمَّ إنَّه أَتَى الأبْرَصَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بيَ الحِبَالُ في سَفَرِي، فلا بَلَاغَ اليومَ إِلَّا باللَّهِ ثُمَّ بكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ، وَالجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عليه في سَفَرِي، فَقالَ له: إنَّ الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، فَقالَ له: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فقِيرًا فأعْطَاكَ اللَّهُ؟ فَقالَ: لقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عن كَابِرٍ، فَقالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إلى ما كُنْتَ، وَأَتَى الأقْرَعَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقالَ له: مِثْلَ ما قالَ لِهذا، فَرَدَّ عليه مِثْلَ ما رَدَّ عليه هذا، فَقالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إلى ما كُنْتَ، وَأَتَى الأعْمَى في صُورَتِهِ، فَقالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بيَ الحِبَالُ في سَفَرِي، فلا بَلَاغَ اليومَ إِلَّا باللَّهِ ثُمَّ بكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بهَا في سَفَرِي، فَقالَ: قدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفقِيرًا فقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ ما شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لا أَجْهَدُكَ اليومَ بشيءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقالَ أَمْسِكْ مَالَكَ، فإنَّما ابْتُلِيتُمْ، فقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ علَى صَاحِبَيْكَ }

(صحيح البخاري)

(ثَلَاثَةً في بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ: مرض جلدي، وَأَقْرَعَ: بلا شعر، وَأَعْمَى: أخذ الله بصره، أراد الله أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فأتَى الأبْرَصَ، فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ ماذا تريد؟، أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عنْه بإذن الله، انتهى المرض بلحظة، كن فيكون، لم يكتفي بذلك، قالَ: فأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: الإبِلُ، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، يعني الجاهزة للولادة، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، في العاشر، فَقالَ: يُبَارَكُ لكَ فِيهَا ودعا له بالبركة، ثم إنه جاء الأقْرَعَ، فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ، فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قالَ: فأيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: البَقَرُ، فأعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقالَ له: يُبَارَكُ لكَ فِيهَا، وَأَتَى الأعْمَى فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: بَصَراً أُبْصِرُ به النَّاسَ، فَمَسَحَهُ فأعطي بصراً يبصر به الناس، قالَ: فأيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ الغَنَمُ: فأعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا، يقول صلى الله عليه وسلم: فَأنْتجَ هذانِ، أي الإبل والبقر، أنتجا، وَوَلَّدَ هذا، فَأنْتجَ هذانِ وَوَلَّدَ هذا، فَكانَ لِهذا وَادٍ مِن إِبِلٍ، وَلِهذا وَادٍ مِن بَقَرٍ، وَلِهذا وَادٍ مِن غَنَمٍ، كثرت الأموال وفاضت مع الصحة والعافية، انتقل الابتلاء من ابتلاء المرض والفقر إلى نوعٍ آخر وهو ابتلاء الصحة والمال، ثُمَّ إنَّه، أي بعد فترة من الزمن، أَتَى الأبْرَصَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، يعني جاءه على شكل رجل أبرص، الآن هو كان أبرص الآن جاءه رجل أبرص فقير، فَقالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بيَ السبل لا بَلَاغَ اليومَ إِلَّا باللَّهِ ثُمَّ بكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي أَعْطَاكَ جِلْدَاً حسناً، يذكره بالنعم، أَسْأَلُكَ بالَّذِي أَعْطَاكَ جِلْدَاً حسناً، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ بهِ في سَفَرِي، هذا أصبح عنده وادي، فَقالَ له: الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، يعني بُعرف السوق اليوم السوق واقف والديون كثيرة، قالَ له: الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، فَقالَ له: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ فأعطاك الله جِلْدَاً حَسَنَاً، فقِيرًا فأغناك اللَّهُ؟، هنا المصيبة والعياذ بالله، قالَ: لقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عن كَابِرٍ، هذا من جهدي هذا من عرق جبيني، هذا مما خلفه لي أبي، هذا ليس لأحد منة فيه علييّ، إنما وَرِثْتُه لِكَابِرٍ عن كَابِرٍ، وهذا هو الكبر والعياذ بالله، فَقالَ له: إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فيما تقول فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إلى ما كُنْتَ، ثم ذهب إلى الأَقْرَعَ، فَقالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بيَ السبل لا بَلَاغَ اليومَ إِلَّا باللَّهِ ثُمَّ بكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي أَعْطَاكَ هذا الشعر الحسن بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ بهِ في سَفَرِي، قالَ له: الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، قالَ له: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أقرع فأعطاك الله شعراً حَسَنَا، فقِيرًا فأغناك اللَّهُ؟ قالَ: إنما وَرِثْتُه لكَابِرٍ عن كَابِر، فَقالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إلى ما كُنْتَ عليه، ثم ذهب إلى الأعْمَى الذي كان كفيف البصر، قال له: رَجُلٌ مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بيَ السبل لا بَلَاغَ اليوم إِلَّا باللَّهِ ثُمَّ بكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي أَعْطَاكَ بصراً تبصر به الناس، شَاةً أَتَبَلَّغُ بهَا في سَفَرِي، فَقالَ له: والله لقدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إلي بَصَرِي، ولقد كنت فقِيرًا فأَغْنَانِي الله من فضله، فَخُذْ ما شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لا أَجْهَدُكَ اليومَ بشيءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ عز وجل، لن أمنعك شيئاً، ليست شاةً واحدة خذ ما شئت، فَقالَ المَلَكْ: أَمْسِكْ عليك مَالَكَ، لا أريد منه شيء، فإنَّما قد ابْتُلِاكم الله عز وجل أنت وصَاحِبَيْكَ، فرَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ علَى صَاحِبَيْكَ).
ابتلاء الخير وابتلاء الشر
هذه القصة أيها الأخوة توضح كل الكلام الذي قلناه بعبارة النبي صلى الله عليه وسلم وبهذه القصة النموذجية للابتلاء وهو ابتلاء الخير وابتلاء الشر وكيف يقف الإنسان هنا وكيف يقف هناك، وضاق الوقت عن عبرها ودروسها وما أكثرها.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، استغفروا الله.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
الإسلام دعوة إلى التغيير وفق ضوابط شرعية
أيها الأحباب؛ فقط ملاحظتان: الأولى: يُتهم بعض خطباء المنابر بأن الحديث عندما يكون عن الفقر وعن الرضا وعن الابتلاء أنهم يُخدّرون الناس ويمنعونهم من المطالبة بحقوقهم، لا والله هذه حقائق دينية وليس لها علاقة أبداً بأنني عندما أقول لك هذا ابتلاء أنني أدعوك إلى أن تفتقر، أو أدعوك إلى أن تترك العمل، أو أدعوك إلى أن تترك محاربة الفساد، هذا ليس من الشرع في شيء، لكن الخطبة اليوم هذا موضوعها، أتحدث عن ابتلاء من أجل أن تعامل معه بشكل صحيح ولكن ليس فيها أي دعوة للرضا بالواقع، بل الإسلام كله دعوة إلى التغيير ولكن وفق الأسس والضوابط الشرعية المطلوبة.
الملاحظة الثانية أثلج صدري وأنا أدخل المسجد تلك السيارة الكبيرة التي بدأت تجمع تبرعاتكم السخية لإخوانكم الضعفاء والفقراء فأشكر من أعماق قلبي الأخوة القائمين على هذه الحملة وأنا أريد أن أساهم ولو بكلمةٍ طيبة فأقول:

{ واللَّه فِي عَوْنِ العبْدِ مَا كانَ العبْدُ في عَوْن أَخيهِ }

(أخرجه مسلم)

فهذه الحملة مستمرة إلى الثامنة مساءً وجمع التبرعات مستمر في هذا المحراب وفي الخلف تبرعاتكم جميعاً تغلق الساعة الثامنة وتذهب إلى الفقراء والمحتاجين بالتعاون مع الجمعيات الخيرية وإدارة هذا المسجد المبارك فجزاكم الله خيراً.

الدعاء
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات، اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين، اللهم ابرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويهدى فيه أهل عصيانك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر اللهم حرر المسجد الأقصى من أيدي الغاصبين وانصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم فرج عن المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، وأنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، اجعل اللهم هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.