القدوة الحسنة

  • 2019-01-11
  • عمان
  • مسجد أحد

القدوة الحسنة


الخطبة الاولى

ياربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض ومِلء ما بينهما ومِلء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكُلّنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجَد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعزُّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هداك، وكيف نَذِلُّ في عزك، وكيف نُضامُ في سلطانك، وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك، وأشهدُ أن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد وعلى ذرية سيدنا محمد وسلم تسليماً كيثراً، وبعد عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأحثكم على طاعته (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

الخلل الذي تعاني منه الامة الإسلامية
وبعد فيا أيها الكرام: إن أمتنا اليوم تعاني خللاً خطيراً لا سيما عند شباب المسلمين وعند أطفالهم من الأجيال المتتابعة، يتمثل هذا الخلل في غياب القدوة الحسنة لتحلَّ محلها قدواتٌ مزيفة من عالمٍ لا يَمَتُّ إلى ديننا ولا إلى أخلاقنا ولا إلى قيمنا بصلة.

مفهوم القدوة الحسنة
أيها الكرام: هذا العالم المتفلت الذي لا يؤمن إلا بالمادة أصبح اليوم قدوةً لكثيرٍ من جيلنا الناشئ، حينما لا يروي الأب لابنه قصة نبيه صلى الله عليه وسلم امتثالاً لقوله تعالى:

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
(سورة المؤمنون: الآية 69)

حينها يتحمل مسؤوليته حين يشِبُّ ولا همَّ له إلا تقليد المنحرفين في أفعالهم وتصرفاتهم وحركاتهم كما نرى ونسمع، يقول تعالى في آيةٍ جامعةٍ مانعة تلخص مفهوم القدوة والأسوة وأهمية ذلك في التربية:

لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا
(سورة الأحزاب: الآية 21)

النبي الكريم قدوتنا
النبي صلى الله عليه وسلم هو أسوتنا، به نقتدي، بهديه نهتدي، فإن لم نهتدِ بهديه فالإنسان مبرمجٌ على أنه يريد شخصيةً يحب أن يكونها، يحب أن يكون شخصيةً ما، فإن لم تكن هذه الشخصية شخصية قيم ومبادئ ودين من منهج محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام والسلف الصالح من خير القرون فلا بد أنها ستكون شخصيةً أخرى ربما للاعب كرة من الغرب أو ربما لمن يسمى فناناً وهو في الحقيقة متفلتٌ من منهج الله، وربما تكون القدوة لفتاةٍ امرأةً منحرفةً مبتذلة، إن لم تكن القدوة من منهجنا ومن ديننا فلا بدَّ من قدوةٍ أخرى، لأن الإنسان في طبيعته: شخصيةٌ يكونها هي هذا الإنسان نفسُه، وشخصيةٌ يكره أن يكونها، وشخصيةٌ يحب أن يكونها، فهذه الشخصية التي يحب أن يكونها هي القدوة، والناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم.
الكلمة الطيبة جاء بها الأنبياء ونُشِر بها الإسلام وفُتحت بها الفتوحات وجاء بها كلام الله تعالى وسنة نبيه، ما أروع فعل الكلمة، لكن الناس اليوم واعذروني لهذه الحقيقة قد كفر كثيرٌ منهم بالكلمة، لماذا؟ لأنهم لا يجدون مصداقاً في سلوك قائلها، فالكلام في وادٍ والسلوك في وادٍ آخر، عندما يتحد الكلام مع السلوك تكون القدوة الحسنة، اتحاد الكلام مع السلوك هو القدوة الحسنة.

القدوة الحسنة واقعُ وسلوك
أيها الكرام: قد يكون من اليسير أن نضع منهجاً تربوياً في صفحات كتاب، منهجاً في التربية، لكنه سيبقى حبيس الكتب وسيبقى حبراً على ورق إن لم ينقلب إلى واقعٍ عملي، النبي صلى الله عليه وسلم استطاع أن يحول هذا المنهج التربوي إلى واقعٍ وسلوك، من هنا قالت السيدة عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح تصف رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ كان خُلُقُه القرآنُ }

(أخرجه البخاري)

القرآن هو المنهج
القرآن هو المنهج، لكن النبي صلى الله عليه وسلم تمثّل القرآن في خلقه فجذب قلوب أصحابه إليه وطبع عشرات آلاف النسخ من هذا المنهج، لكنه لم يطبعها على أوراق الكتب وإنما طبعها في نفوس أصحابه جيلاً مؤمناً عظيماً فتح الدنيا.
إذاً أيها الكرام: لم يلتف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حوله ولم يفدوه بأرواحهم إلا لأنه كان إذا أمرهم بأمرٍ كان أول المنفذين له، وإذا نهاهم عن نهيٍ كان أول المنتهين عنه، ممتثلاً قوله تعالى على لسان شعيب:

وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ
(سورة هود: الآية 88)

آمركم بأمر ثم أخالفكم فآتي ما نهيتكم عنه.
أيها الكرام: اليوم نحن – المسلمين- أصحاب حقٍّ، لا يماري في ذلك إنسان، نحن أصحاب قضية، لكننا لا نحسن تطبيقها وشهودها على أرض الواقع، والطرف الآخر من أعداء الدين أصحاب باطل لا يماري في ذلك عاقل إلا من على عينيه غشاوة، لكنهم استطاعوا أن يلبسوا باطلهم ثوب الحق فانكمش الحق وانزوى وانتشر الباطل وزَها، لا بد أن نعيد للكلمة مصداقيتها من خلال تحويلها إلى أرض الواقع.

قصة ثمامة بن أثال
أيها الكرام: قضيتنا مضمونة فلماذا نخسرها؟ عندما يخالف فعلُنا قولنا.
بقي ثمامة في المسجد ثلاثة أيام
النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قِبَل نجد، سريّةً من السرايا، فأصحابه الكرام جاؤوا برجلٍ اسمه ثُمامة، ثمامة سيد أهل اليمامة، وهذا الرجل سيد قومه لكنه كان في عداوة شديدةٍ مع المسلمين ومع دينهم، فأسروه وجاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعوه على ساريةٍ من سواري المسجد، جاء النبي صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد فاقترب فإذا هو ثمامة، وهو يعرفه، قال: هل تعلمون من أسرتم؟ إنه ثمامة سيد قومه، اقترب منه وقال له: ما عندك يا ثمامة؟ هات ما عندك اسمعني، قال: عندي خير، إن تقتل تقتل ذا دم، إن قتلتني فأنا لست مهدور الدم، لي قومٌ سيأخذون بثأري، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم -تعفُ عني- تنعم على شاكر، فأنا شاكرٌ لك، وإن كنت تريد المال فسل تُعطَ منه ما شئت، فتركه وانصرف وقال لأصحابه: أحسنوا إلى ثمامة، طعام وشراب، أحسنوا له، في اليوم الثاني دخل المسجد قال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ماعندي إلا ما قلته بالأمس، إن تقتل تقتل ذا دم، إن تُنعِم تُنعِم على شاكر، إن كنت تريد المال فسل تعطَ منه ما شئت، في اليوم الثالث: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ماعندي إلا ما قلته بالأمس، التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال أطلِقوا ثمامة، من غير فدية ومن غير شيء، أطلِقوا ثمامة.
رأى ثمامة في المسجد التعاون على الخير
أيها الكرام أيها الأحباب: النبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن أتابع القصة، أبقاه في المسجد ثلاثة أيام، ماذا رأى في المسجد؟ رأى الصحابة يصلون؟ نعم، رأى معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه؟ نعم، رأى معاملة الأصحاب لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ نعم، رأى كيف يفدونه بأرواحهم؟ نعم، رآهم كيف يتعاونون على الخير والحق والصدقة؟ نعم، في كل دقيقة يرى الناس في المسجد، أبقاه في مدرسة المسجد ثلاثة أيام ثم أطلقه، رأى القدوة الحسنة، علمه بعينه، دون أن يُسمعه بأذنه، فلما أطلق سراحه ذهب إلى حائطٍ فاغتسل ثم رجع فدخل المسجد من جديد وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم أردف يقول: يا رسول الله، والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إلي من وجهك، فأصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلِّها إلي، والله يا رسول الله ما كان على وجه الأرض دينٌ أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدِّين إلى قلبي، والله ما كان على وجه الأرض بلدٌ أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحبَّ البلاد إلى قلبي، ثلاثة أيام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت كفيلة بأن تنقل هذا الرجل من الشرك إلى الإسلام، لأنه رأى الإسلام واقعاً، رآه عملياً، رأى الناس تتمثل الإسلام، رأى خلق الناس في القرآن قبل أن يسمع القرآن.
أيها الكرام: فالنبي صلى الله عليه وسلم هنأه بالتوبة وبشره قال: إنَّ خَيْلَكَ أخَذَتْنِي وأَنَا أُرِيدُ العُمْرَةَ، فماذا تأمرني؟ أصبح طوع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: اذهب وأتم عمرتك وبشره بخيري الدنيا والآخرة.

{ بَعَثَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ برَجُلٍ مِن بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ له ثُمَامَةُ بنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بسَارِيَةٍ مِن سَوَارِي المَسْجِدِ، فَخَرَجَ إلَيْهِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: ما عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِندِي خَيْرٌ يا مُحَمَّدُ، إنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وإنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ علَى شَاكِرٍ، وإنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ منه ما شِئْتَ، فَتُرِكَ حتَّى كانَ الغَدُ، ثُمَّ قَالَ له: ما عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ قَالَ: ما قُلتُ لَكَ: إنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ علَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حتَّى كانَ بَعْدَ الغَدِ، فَقَالَ: ما عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِندِي ما قُلتُ لَكَ، فَقَالَ: أطْلِقُوا ثُمَامَةَ فَانْطَلَقَ إلى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَقَالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، يا مُحَمَّدُ، واللَّهِ ما كانَ علَى الأرْضِ وجْهٌ أبْغَضَ إلَيَّ مِن وجْهِكَ، فقَدْ أصْبَحَ وجْهُكَ أحَبَّ الوُجُوهِ إلَيَّ، واللَّهِ ما كانَ مِن دِينٍ أبْغَضَ إلَيَّ مِن دِينِكَ، فأصْبَحَ دِينُكَ أحَبَّ الدِّينِ إلَيَّ، واللَّهِ ما كانَ مِن بَلَدٍ أبْغَضُ إلَيَّ مِن بَلَدِكَ، فأصْبَحَ بَلَدُكَ أحَبَّ البِلَادِ إلَيَّ، وإنَّ خَيْلَكَ أخَذَتْنِي وأَنَا أُرِيدُ العُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَمَرَهُ أنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ له قَائِلٌ: صَبَوْتَ، قَالَ: لَا، ولَكِنْ أسْلَمْتُ مع مُحَمَّدٍ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولَا واللَّهِ، لا يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ، حتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ }

(صحيح البخاري)


أهمية السلوك العملي للإسلام
تطبيق الإسلام في السلوك اليومي
أيها الإخوة الكرام: إذاً عندما نتحدث عن القدوة فإننا نتحدث عن السلوك العملي للإسلام، اليوم إن لم يشهد الناس بأعينهم إسلاماً يتحرك أمام أعينهم فهم بعيدون عن دين الله عز وجل، لا بدَّ أن نوطن أنفسنا على أن نعيش الدين لا أن نتكلم فيه فحسب، الكلام في الدين كثير، والكتب كثيرة، والمؤلفات كثيرة، والدروس كثيرة، واليوم بضغطة زر على جهازك المحمول تسمع درساً من أقصى الدنيا، لكن الناس اليوم يريدون أن يروا إسلاماً يتحرك أمامهم، أن يروا رجلاً خلقه القرآن، يتمثل القرآن.
حلم النبي الكريم
أيها الأخوة الكرام: في الصحيحين أيضاً أن أعرابياً بدوياً عنده جهلٌ مركب، لا يعرف مع من يتحدث، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه وهو بين أصحابه، ماذا يريد؟ يريد شيئاً من الزبيب والتمر والحبوب، النبي صلى الله عليه وسلم عنده مفاتيح الجنة، عندما يدله على الله هذا مفتاح الجنة، لكنه جاء يطلب الدنيا وتراب الدنيا، ودخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ بطرف ردائه وجذبه منه، وبُردُ رسول الله كان غليظ الحاشية فأثَّر البرد في عنقه صلى الله عليه وسلم حتى احمر عنقه، يقول أنس بن مالك: ليته عندما أساء الفعل أحسن القول، يعني الفعل سيئ لكن ليته تكلم بكلام ليس فيه إساءة، لكنه أساء القول والفعل، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد، أعطني من مال الله الذي عندك، فهو ليس مال أبيك ولا مال أمك، عمر رضي الله عنه لم يتحمل فوقف مع بعض الصحابة ليكفوه عن هذا الهراء، وهذا الإجرام بحق رسول الأمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلسوا مكانكم، ثم أخذه من يده ودخل به إلى غرفةٍ وأعطاه ما أعطاه ثم قال له: هل أحسنت لك؟ قال: أحسنت يا رسول الله، جزاك الله عني خيراً من أهلٍ ومن عشيرة، قال له: الآن اخرج إلى أصحابي فقل لهم ما قلت لي فإنهم وجدوا في أنفسهم عليك، حتى يطيّب القلوب، فهذا الرجل خرج وقال أحسن إلي رسول الله فجزاه الله عني خيراً من أهلٍ ومن عشيرة، ثم ذهب إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام.
اسمعوا إلى تعليق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن خرج الأعرابي: أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الرجل؟ قالوا: لا، قال: مثلنا كمثل رجلٍ كانت له دابةٌ فرّت منه فأخذ الناس يلاحقونها فما ازدادت إلا فراراً، فقال: اتركوا لي دابّتي فأنا أبصر بها، فأخذ شيئاً من خشاش الأرض فقربه إليها فجاءت واستسلمت له، قال: فلو تركته لكم لهلك ودخل النار ولم يُسلم قومه، لكنني تلطفت به حتى أسلم وأسلم قومه معه.

{ عن أنس بن مالك كُنْتُ أمْشِي مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعليه بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ برِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حتَّى نَظَرْتُ إلى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ أثَّرَتْ بهَا حَاشِيَةُ البُرْدِ مِن شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ مُرْ لي مِن مَالِ اللَّهِ الذي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أمَرَ له بعَطَاءٍ }

(صحيح البخاري)


مقام الدعوة ومقام الجهاد
إذاً أيها الأخوة الكرام: ينبغي أن نفرق بين مقام الدعوة ومقام الجهاد، كثيرٌ من الناس يجاهدون أثناء دعوة الناس إلى دين الله، آيات الدعوة:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
(سورة النحل: الآية 125)

مقام الدعوة:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
(سورة آل عمران: الآية 159)

أما مقام الجهاد:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
(سورة التوبة: الآية 73)

أخلاق الدعوة رحمة
نحن اليوم أيها الأحباب؛ وأنا لا أنكر الجهاد ولا فرضية الجهاد ولا أهمية الجهاد في نشر وإعلاء راية لا إله إلا الله، لكننا اليوم في مقام الدعوة هذا واقع، فنحن ينبغي أن نتعامل اليوم بأخلاق الدعوة، أخلاق الدعوة رحمة، أخلاق الدعوة قدوةٌ حسنة، أخلاق الدعوة دينٌ حتى مع المخالف، أخلاق الدعوة:

وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(سورة الشعراء: الآية 215)

أخلاق الدعوة:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
(سورة النحل: الآية 125)

أخلاق الدعوة:

وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
(سورة العنكبوت: الآية 46)

هذه هي أخلاق الدعوة، نحن ندعو الناس إلى الله الآن، لا نجاهدهم بالسيف لأن للدعوة أخلاقاً وللجهاد أخلاقاً.
إذاً أيها الإخوة الكرام: الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم، فعلموا الناس الإسلام بعيونهم من خلال مسلمٍ يمشي على الأرض إذا حدّث الناس صدقهم وإذا عاملهم كان أميناً وإذا استثيرت شهوته كان عفيفاً، عاملوا الناس بأخلاقكم ليتعلموا الدين من خلال السلوك العملي والواقع المشاهد لا من خلال الكلمة فحسب.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسیَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكیّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واستغفروا الله.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمین وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحین، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّیْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ فِي الْعَالَمِینَ إِنَّكَ حَمِیدٌ مَجِیدٌ .

الدعاء
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سمیعٌ قریبٌ مجیبٌ للدعوات، اللهم برحمتك عُمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا علیك اتكلنا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءٍ قدیر، اللهم لك الحمد ولك الشكر على ما أنعمت به علينا من نعمة الغيث من السماء، اللهم فأتم نعمتك علينا، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ولا تهلكنا بالسنين ولا تعاملنا بفعل المسيئين، اللهم فرج عن أخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنهم في أوطانهم، أطعم جائعهم، واكسُ عریانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غریبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبلاً يا أرحم الراحمين، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين، اللهم انصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى وفي القدس الشريف وفي كل مكان يذكر فيه اسمك يالله على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصرنا على أعدائنا، اللهم اجعل هذا البلد أمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.