أركان النجاة الأربعة

  • 2019-01-04
  • عمان
  • مسجد أحد

أركان النجاة الأربعة


الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستهديه ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله سيد الخلق والبشر ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيرا، وبعد عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأذكركم بقول تعالى :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
(سورة آل عمران : الآية 102)


فضل سورة العصر
سورة العصر مضمونها عظيم
أيها الكرام : سورةٌ في كتاب الله تعالى قال عنها الإمام الشافعي : " لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم "، أي لكفتهم، هي ثلاث آيات ولكنها في مضمونها العظيم تلخص ما ينبغي على المسلم أن يقوم به في حياته، قال تعالى :

وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
(سورة العصر : الآية 1-2-3)

الإنسان في حقيقته زمن
أقسم الله تعالى بالعصر، وَالْعَصْرُ هو الدهرُ، أقسم به ليلفت نظرنا إلى أشياء تغيب عنا فيه، فالناس لاهون عن مرور الزمن، غير منتبهين لما ينتظرهم بعد مرور الزمن، غير مكترثين لما يمكن أن يحل بهم إن هم لم يستثمروا الزمن في الوقت المناسب، لذلك أقسم الله لهم بالزمن وكأنه يقول يا عبادي انتبهوا الزمن يمر، انتبهوا الدهر يمضي، انتبهوا العصر إن لم تستغلوه ليس في صالحكم، يقسم لنا بالزمن لأن الإنسان في حقيقته زمناً، فمن أنت أيها الإنسان؟ هل أنت إلا بضعة أيام، أنا وأنت من نحن إلا بضعة أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منا، لأن نهاية الزمن بالنسبة لنا ثابتة، نهاية الزمن ثابتة، لذلك قالوا : الموت سهمٌ وجِّه إليك وعمرك بقدر وصول السهم إليك، فالنهاية ثابتة ونحن نسير نحوها، فالوصول مُحَتَّم، وكل ثانيةٍ تمضي إنما هي تمضي من أعمارنا ومن الوقت الذي ينتظرنا.
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
{ أحمد شوقي }

الإنسان خاسر
أقسم الله بالزمن لأنك أيها الإنسان زمن، فقال : (وَالْعَصْرِ)، ما جواب القسم؟ (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) ليس أعظم توكيداً من هذه العبارة .
* أولاً : التوكيد للقسم، والجواب (إِنَّ الْإِنسَانَ).
* ثانياً : التوكيد بحرف ( إِنَّ ) .
فهذه ( إِنَّ ) تفيد التوكيد ففرقٌ بين أن تقول : الشمس ساطعةٌ، أو أن تقول : إنَّ الشمس ساطعةٌ، فإنَّ للتوكيد .
* ثم جاءت اللام في الخبر (لَفِي خُسْرٍ) لتفيد التوكيد.
* ثم الجملة الاسمية في اللغة العربية تفيد التوكيد.
أربعة مؤكدات في الجملة، أربعة مؤكدات جاءت معاً، أنّ الإنسان خاسر، جنس الإنسان خاسر، لماذا؟ لأن مضي الزمن يستهلكه، لأنه سيصل إلى نهايته، فهو يخسر رأس ماله.
يقول بعض السلف : تعلَّمت معنى السورة من بائع الثلج، تعلَّمت معنى السورة - سورة العصر - من بائع الثلج، قالوا كيف؟ قال : مررت به وهو يصيح ارحموا من يذوب رأس ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله، فبائع الثلج يذوب رأس ماله، فإن لم يبع انتهى رأس ماله، فقال : ارحموا من يذوب رأس ماله، قال: فقلت هذا معنى السورة، لأن رأس المال عندنا هو الزمن، فهو يذوب شيئاً فشيئاً، لذلك نحن خاسرون، (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) .

أمورٌ تنجي من الخسارة
بائع الثلج يذوب رأس ماله
أيها الأحباب: كيف يتلافى الإنسان الخسارة؟ هل هناك من طريقٍ ينجو به من الخسارة؟ ومن منا إن قيل له هناك طريقٌ، من التجار، معشر التجار، من منكم إن قيل له هناك طريقٌ لتنجوَ من الخسارة ثم لا يسلكه؟ كيف ننجو؟
النجاة من الخسارة
جاءت كلمة ( إِلَّا ) ورحمة الله في هذه الكلمة ( إِلَّا ) فإن أردت أن تنجوَ من خسارةٍ محققة فعليك بأربعة أمور :
1. (الَّذِينَ آمَنُوا).
2. (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
3. (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ).
4. (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).

أولاً : الإيمان
الإيمان لا يكون إلا بعد علم
ولا إيمان إلا بطلب العلم، هذه الخطبة إيمان لأنك تزداد فيها قرباً من الله، وصلاتك إيمان لأنك ترتقي بها إلى الله، وصيامك إيمان، وعمرتك إيمان، وذكر اللسان إيمان، ومجلس العلم إيمان، هذا معنى (آمَنُوا)، ليس إيماناً أجوف بمعنى أن يقول الإنسان أنا مؤمنٌ وكفى ثم ينصرف إلى ملذاته وشهواته، ليس هذا المعنى أبداً، (الَّذِينَ آمَنُوا) أي طلبوا العلم الذي يحملهم على الإيمان، لأن الإيمان لا يكون إلا بعد علم، والعلم لا أقصد به فحسب دروس الفقه والعقيدة وإنما كل علمٍ يوصل إلى الله، فقيامك بالليل علم، طالبوني بالدليل قال تعالى :

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
(سورة الزمر : الآية 9)

هذا القائم بالليل عالمٌ ولو كان لا يحمل شهادةً، لأنه وصل إلى قمة العلم وهي معرفة الله .
ابن عُمر رضي الله عنه : كان في البرية أو في شغاف الجبال فوجد راعي يرعى الغنم، وربما كان هذا الراعي في أضعف ثقافة، سأله ممتحناً قال : هل تبيعني هذه الشاة؟ بعنِ شاةً من شياتك، قال: لا، ليست لي، قال: قل لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب، قال: والله لو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدّقني، فإني عنده صادقٌ أمين، ولكن أين الله؟.
هذا هو العلم أيها الأحباب، هذا هو الإيمان، هو إيمانٌ يحملك على أن تخشى أن تظلم نملةً، هذا هو العلم الحقيقي الذي يمنعك من إيذاء مخلوق، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، قصةٌ نسمعها مذ كنا صغاراً وتعلمناها في المدارس.
قالــت بنيّـة قومـي فامـزقِ اللبنـــــا الماء سوف يزيد الوزن والثمنــــا قالت لها البـنت: يا أمّــــــاه معـذرةً لقـد نهى عـُمـر أن نخـلط اللّبــنـــا قـالت لها الأم: أنّــــــى يــرى عــمــر صنيعنا إنّـما الفـاروق ليـس هنـا قــالت لهـا البنت: لا تفعــلي أبــــداً الـلّه يـعــلم مـنّـــا السـرَّ والعـلـنــــــــا إن لم يكن عمر الفاروق يبصرنا فـإنّ ربّ أبي حفـص هنـا معـــنــا
{ بائعة اللبن - جدة عمر بن عبد العزيز }
هذه البنت عالمةٌ مؤمنة لأنها تخشى الله :

إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
(سورة فاطر : الآية 28)

فالعلم هو الخشية، والإيمان هو الخشية، فمتى خفت من الله فقد تحققت من الركن الأول من أركان النجاة: إنه الإيمان، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا).

ثانياً : عمل الصالحات
العمل الصالح
لكنهم لم يكتفوا بالإيمان، لأن الإيمان ليس سكوناً وإنما حركة، حركةٌ نحو الناس بالصالحات (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فالركن الثاني هو العمل، أن تعمل صالحاً، أي عملاً يصلح للعرض على الله، أيُّ عمل أردت أن تقوم به اسأل نفسك هذا السؤال: هل يصلح هذا العمل للعرض على الله تعالى؟ فإن كان يصلح فافعل وإلا فاترك، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) والعمل لا يكون صالحاً إلا إن كان خالصاً أُبتغي به وجه الله، وصواباً وافق شرعَ الله، وافقَ كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم .

ثالثاً : التواصي بالحق
أيها الكرام : أربعة أركانٍ للنجاة، حتى تنجو من الخسارة، إيمانٌ وعمل ثم دعوةٌ (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ)، هل توصي أخاك بالخير؟ وهل يوصيك أخوك بالخير؟ هل توصي عائلتك بالمعروف؟ هل توصي أخوانك في العمل بالخير؟ هذا هو التواصي، أن أوصيَك وتوصيَني، فتذكرني بالله وأذكرك بالله (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) .

رابعاً : التواصي بالصبر
الإيمان يحتاج إلى صبر
والركن الأخير : (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) لأن الإيمان يحتاج إلى صبر، ولأن العمل الصالح يحتاج إلى صبر، ولأن الأمر بالمعروف يحتاج إلى صبر، فخصصت الآية الصبر من التواصي بالحق، فعطف الخاص على العام (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) صبروا على قضاء الله، وصبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصية الله .

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا
(سورة طه : الآية 132)

هذا صبرٌ على الطاعة وهناك صبرٌ عن المعصية، فالشهوات والفتن مستعرة، وهناك صبرٌ على قضاء الله وقدره، هذه أركان النجاة الأربعة أيها الأحباب .
عمر بن عبد العزيز كان يقول : "إِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ فَاعْمَلْ فِيهِمَا"، أنا وأنت؛ أَخرِج صورةً لك قبل عشرين عاماً وانظر فيها، ألا ترى أثر عمل الليل والنهار في وجهك وفي شعرك وفي انحناء ظهرك وفي تغير قامتك؟ ترى أثر الليل والنهار، اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ فَاعْمَلْ فِيهِمَا، أي فاعمل فيهما عملاً صالحاً يقربك من الله تعالى .

عمر بن عبد العزيز عند وفاته
أيها الأخوة الكرام : عمر بن عبد العزيز كان إذا دخل دار الخلافة قرأ قوله تعالى :

أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ
(سورة الشعراء : الآية 205-206-207)

كلما كان يدخل دار الخلافة كان يقرأ هذه الآيات (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) فلما حضرته الوفاة ماذا قرأ؟ يروي سلمة بن دينار قال: قدِمتُ على عمر وهو بخناصرة، من أعمال حلب، وكانت قد تقدّ‍متْ بيَ السنُّ وبَعُدَ بيني وبيـن لقائه العهدُ، فوجدته في صدر البيت غير أني لم أعرفه لتغير حاله، فقال : أدنُ مني يا أبا حازم، فلما دنوتُ منه قلت له: ألستَ أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز؟ قال: بلى، قال: ما الذي حلَّ بك؟ قلت: وما حلَّ بي؟ قال: ألم يكن جسمك بهياً وإهابك طرياً وعيشك رضياً؟ فقلت: بلى، فقلت: ما الذي حل بك بعد ذلك وقد أصبحت تملك الذهب والفضة، فقال: فكيف بك إذا رأيتني بعد ثلاث، أي بعد ثلاثٍ من الموت، وقد تشقق بطني وبدأ الدود يرتع فيه، إنك لو رأيتني آنذاك لكنت أشد إنكاراً لحالي من إنكارك الآن، ثم رفع بصره وقال: ألا تذكر حديثاً كنت حدثتني إياه في المدينة، في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: أي حديث؟ فقد حدثتك كثيراً، قلت: حديثٌ رواه أبو هريرة، والحديث في الصحيح، فقال: بلى أذكره، " إِنَّ بَيْنَ أَيْديكُم عَقَبَة كَؤوداً لا يجوزها إِلاَّ كُلّ مُخِفٍّ "

{ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :«إِنَّ بَيْنَ أَيْديكُم عَقَبَة كَؤوداً، لاَ يَنْجُو مِنْهَا إِلاَّ كُلّ مُخِفٍّ }

(رواه البزار بِسَنَدٍ حَسَنٍ)

عمر بن عبد العزيز بنى دولة قوية
عقبة لا يستطيع تجاوزها إلا إنسانٌ مُخِف، أي مُخِفٌّ من الذنوب والآثام، ترك الدنيا وزينتها، لم يعرض عنها بمعنى أنه ترك العمل فيها، تأملوا أيها الأحباب؛ عمر بن عبد العزيز بنى دولةً وبنى أمةً وأصبحت الأموال في زمنه تُنشر في المسجد الأموي في دمشق فلا يوجد من يأخذها، لم يترك الدنيا وزينتها بمعنى الإعراض عن العمل، ولكن بمعنى الإعراض عن المعاصي والآثام .
إذاً أيها الأحباب الكرام : هذا الرجل عمر بن عبد العزيز كما قلت لكم كان إذا دخل دار الخلافة (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)، وعندما حضرته الوفاة دخل عليه مسلمة بن عبد الملك وقال له: إنك يا أمير المؤمنين قد فطمت أفواه أولادك عن هذا المال، لم تعطهم مالاً من بيت المال، فحبذا لو أوصيتَ بهم إليَّ قبل أن تموت، أوصني بهم، أو إلى من تفضِّله من أهل بيتك، إلى أي شخص تريد، فلما أنهى كلامه، قال عمر: أجلسوني، وكان في مرض الموت، فأجلسوه، فقال: لقد سمعت مقالتك يا مسلمة، أما قولك: إني قد فطمت أفواه أولادي عن هذا المال، فإني والله ما منعتهم حقاً هو لهم، أنا لم أمنعهم حقاً هو لهم، ولم أكن لأعطيهم شيئاً ليس لهم، وأما قولك لو أوصيت بهم إليَّ أو إلى من تفضله من أهل بيتك، فإِنَّ وَلِيِّيَ فيهم الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ بالحق وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ،

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ
(سورة الأعراف : الآية 196)

ترك عمر لأبنائه الذكرَ الحسن
والله يا مسلمة إن أولادي أحد رجلينٍ: إما رجلٌ صالح متقٍ، فسيغنيه الله من فضله ويجعل له من أمره مخرجاً، وإما رجلٌ طائحٌ مكبٌّ على المعاصي، فلن أكون أول من يعينه من مالي على معصية الله، ثم قال: ادعُ لي بَنِيَّ، فجاءوا إليه وكانوا بضعة عشر رجلاً، فلما رآهم ترقرقت عيناه بالدموع وقال: بنفسي فتيةٌ تركتهم لا عالة لهم، أي بَنِيَّ إني قد تركت لكم بين الناس ذكراً حسناً فإنكم لا تمرون بأحدٍ من المسلمين أو أهل ذمتهم إلا رأوا أن لكم عليهم حقاً، يا بَنِيَّ إن أمامكم خيارين إما أن تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، حتى لا يعطيهم من بيت المال، وإما أن تغتنوا ويدخلَ أبوكم النار، وما أحسبكم إلا أنكم تؤثرون أباكم على المال، قوموا عصمكم الله، قوموا رزقكم الله، ثم تلا قوله تعالى وهنا موطن الشاهد:

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
(سورة القصص: الآية 83)

فمن أراد أن تكون نهايته نهاية عمر فليعش على ما عاش عليه عمر (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) وإتماماً للفائدة يقول كُتاب السيرة: فتتبع الناس أخبار أولاد عمر من بعده فرأوا أنه ما احتاج أحدٌ منهم ولا افتقر، تولاهم الله بعنايته .
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسیَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكیّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واستغفروا الله.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمین وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحین، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّیْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ فِي الْعَالَمِینَ إِنَّكَ حَمِیدٌ مَجِیدٌ .

الدعاء
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سمیعٌ قریبٌ مجیبٌ للدعوات، اللهم اهدنا في من هديت، وعافنا في من عافيت، وتولنا في من توليت، وبارك لنا في ما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أنعمت وأوليت، نستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، يا واصل المنقطعين صلنا برحمتك إليك، اللهم بفضلك عُمَّنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنّة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل عصيانك، ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر، اجعل اللهم هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، انصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى وفي القدس الشريف على أعدائك وأعدائهم يارب العالمين، اللهم فرج عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها ما أهمهم وما أغمهم، اللهم أطعم جائعهم واكسُ عریانهم وارحم مصابهم، وآوِ غریبهم، واجعل لنا في ذلك أجراً وعملاً متقبلاً يا أرحم الراحمين، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين، وَفِّق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.