الإخلاص - قصة أصحاب الغار

  • 2018-10-19
  • عمان
  • مسجد الصالحين

الإخلاص - قصة أصحاب الغار


الخطبة الأولى

ياربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض ومِلء ما بينهما ومِلء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد أحقُّ ما قال العبد وكُلُّنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعزُّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هداك، وكيف نَذِلُّ في عزك، وكيف نُضامُ في سلطانك، وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك، وأشهدُ أن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمدٍ وسلم تسليماً كيثراً، وبعدعباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأحكثم على طاعته، فإن الله تعالى يقول في كتابه:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
(سورة آل عمران: الآية 102)

{ عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ حتَّى أوَوْا المَبِيتَ إلى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عليهمُ الغَارَ، فَقالوا: إنَّه لا يُنْجِيكُمْ مِن هذِه الصَّخْرَةِ إلَّا أنْ تَدْعُوا اللَّهَ بصَالِحِ أعْمَالِكُمْ، فَقالَ رَجُلٌ منهمْ: اللَّهُمَّ كانَ لي أبَوَانِ شيخَانِ كَبِيرَانِ، وكُنْتُ لا أغْبِقُ قَبْلَهُما أهْلًا، ولَا مَالًا فَنَأَى بي في طَلَبِ شيءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عليهما حتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لهما غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُما نَائِمَيْنِ وكَرِهْتُ أنْ أغْبِقَ قَبْلَهُما أهْلًا أوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ والقَدَحُ علَى يَدَيَّ، أنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا ما نَحْنُ فيه مِن هذِه الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شيئًا لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ، قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وقالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لي بنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ، فأرَدْتُهَا عن نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حتَّى ألَمَّتْ بهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فأعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ ومِئَةَ دِينَارٍ علَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وبيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حتَّى إذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قالَتْ: لا أُحِلُّ لكَ أنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلَّا بحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وهي أحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ، وتَرَكْتُ الذَّهَبَ الذي أعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غيرَ أنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ منها، قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وقالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فأعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ غيرَ رَجُلٍ واحِدٍ تَرَكَ الذي له وذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أجْرَهُ حتَّى كَثُرَتْ منه الأمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ أدِّ إلَيَّ أجْرِي، فَقُلتُ له: كُلُّ ما تَرَى مِن أجْرِكَ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقِيقِ، فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ لا تَسْتَهْزِئُ بي، فَقُلتُ: إنِّي لا أسْتَهْزِئُ بكَ، فأخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ منه شيئًا، اللَّهُمَّ فإنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ. }

(صحيح البخاري)


شرح الحديث
قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار
(انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) ثلاثة رجال، ) إنَّهُ لا يُنْجِيكُمْ مِن هذِه الصَّخْرَةِ إلَّا أنْ تَدْعُوا اللَّهَ بصَالِحِ أعْمَالِكُمْ) هلاكٌ محتَّمٌ، هم داخل الغار وصخرةٌ كبيرةٌ سَدَّتْ عليهم باب الغار، فالهلاك محتم، (وكُنْتُ لاَ أَغبِقُ قبْلهَما أَهْلاً وَلا مالاً) الغبوق أيها الأحباب؛ عند العرب: هو اللبن يُشرَب في المساء، يسمى الغبوق، فكان يحلب ويأتي باللبن لأهله فلا يُشرب أحداً لا من أهله؛ حتى أطفاله، ولا من ماله أي من الدواب التي عنده، براً بهما، (فَنَأَى بي في طَلَبِ شيءٍ يَوْمًا) تأخر في حاجةٍ له، (فَلمْ أُرِحْ عَلَيْهمَا) الرواح: هو العودة في المساء إلى البيت، قال: (فَحَلبْت لَهُمَا غبُوقَهمَا) حلب اللبن، (وكَرِهْتُ أنْ أغْبِقَ قَبْلَهُما أهْلًا أوْ مَالًا) هكذا عهده؛ ألا يشرب أحدٌ قبل أبويه، قال: (حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ) أمضى الليل واقفاً يحمل غبوق والديه حتى برق الفجر، (فَاسْتَيْقظَا فَشَربَا غَبُوقَهُمَا) ثم توجه إلى الله فقال: (اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فانْفَرَجَتْ الصَّخْرَة شَيْئاً لا يَسْتَطيعُونَ الْخُرُوجَ) بدأ الأمل لكن لم يستطيعوا الخروج، (وقَالَ الآخر:) الرجل الثاني، (فَأَرَدْتُهَا عَن نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ) لم تقبل به، (حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ) أي سنة جدبٍ وقحطٍ، لا مال فيها ولا طعام، فاضطرت إليه فلجأت إليه، (فَجَاءَتْنِى فَأَعْطَيْتُهِا عِشْرينَ وَمِئَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّىَ بَيْنِى وَبَيْنَ نَفْسِهَا) أعطاها المبلغ مقابل أن ينال منها ما يريد، (ففَعَلَت) رضيت، (لا أُحِلُّ لكَ أنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلَّا بحَقِّهِ) ليس لك أن تأتيني بغير ما شرع الله، (فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا) تركها تعفُّفاً عن الحرام، تركها إرضاءً لوجه الله الكريم، )اللَّهُمَّ إنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ) لعملٍ عنده، (تَرَكَ الذي له وذَهَبَ) ذهب مغاضباً، غضب من شيءٍ بينه وبين صاحب العمل فترك أجره وذهب، قال: (فَثَمَّرْتُ أجْرَهُ) جعل ماله في عمل، فجعل المال ينمو عنده، (فَثَمَّرْتُ أجْرَهُ حتَّى كَثُرَتْ منه الأمْوَالُ) بارك الله فيه، (يا عَبْدَ اللَّهِ أدِّ إلَيَّ أجْرِي) تركت عندك مالاً لي، (فَقُلتُ له: كُلُّ ما تَرَى مِن أجْرِكَ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ) هذا مالك كثر.

تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ
تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ
أيها الإخوة الأحباب: أولاً وبادئ ذي بدء: تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ، هؤلاء الثلاثة أيها الأحباب؛ لو لم يكن لهم رصيدٌ من الأعمال الصالحة ووقفوا في هذه المحنة فكيف لهم أن يطلبوا من الله تعالى؟! لا صدقة ولا جهاد فبمَ تلقَ الله؟! المؤمن أيها الأحباب؛ له رصيدٌ من العمل الصالح بين يدي ربه، تعرَّفَ إلى الله وهو في حالة الرخاء حتى إذا وقع في شدة يناجي ربه يا الله بما لديه من أعمالٍ صالحةٍ سابقة، قال تعالى:

فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا
(سورة الكهف: الآية 110)

إن أردت لقاء الله فاخدم عباده
وهؤلاء عملوا أعمالاً صالحة وابتغوا بها وجه الله وحده لم يشركوا بها مع الله أحداً فكانت نجاةً لهم وقت الشدة، هل يستطيع أيها الإخوة؛ جنديٌّ غِرٌّ في أول مسيرته في الخدمة العسكرية أن يقابل قائد الجيش؟ والله لا يستطيع أن يفكر بذلك ولا أن يراه في منامه حتى، بينه وبين قائد الجيش رتبٌ ورتبٌ، فأين هو وأين قائد الجيش، لكن لو أن هذا الجندي البسيط - في عرف الناس طبعاً - لو أن هذا الجندي البسيط رأى ابن قائد الجيش يكاد يغرق في النهر فألقى بنفسه وعرض نفسه للهلاك وأنقذه، ثم جاء في اليوم الثاني فإذا بقائد الجيش يستدعيه إلى مكتبه ويقدم له الضيافة بنفسه ويشكر له ويتمنى أن يخدمه بما يستطيع، كيف استطاع هذا الجندي البسيط أن يلتقي بقائد الجيش؟ من خلال عملٍ قدمه، ولله المثل الأعلى، أنت أيها المخلوق الضعيف هل لك أن ترجو لقاء الله خالق السماوات والأرض؟ هل لك أن ترجو لقاء الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض؟ كيف تفعل ذلك؟ (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) قدم (عَمَلًا صَالِحًا) هؤلاء جميعاً عباد الله وهو يحبهم جلَّ جلاله، فاخدِم عباده، فإذا وقفت بين يديه فإنك تلقاه، فإذا وقعت في محنةٍ فإنه يجيبك فإذا أردت منه شيئاً فإنه يعطيك (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا).

التقرُّب من الله بالعمل الصالح
أيها الأحباب: التوسل بالأعمال الصالحة إلى الله مشروع، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(سورة المائدة: الآية 35)

قال قتادة: "تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه".
فالوسيلة في بعض معانيها في هذه الآية: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أي أن تعمل عملاً صالحاً يرضى به رب العباد، هذه هي الوسيلة إلى الله عز وجل، فإذا أردت لقاء الله فاعمل من الصالحات

وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ
(سورة فاطر: الآية 10)

قيم أهل الأرض
أيها الأحباب: أهل الأرض تعارفوا على قيمٍ كثيرةٍ، فربما يرفع الإنسان في نظرهم ماله، وربما يرفع الإنسان في نظرهم مكانته الاجتماعية، وربما يرفعه في نظرهم أن له منصباً مرموقاً، هذه قيم أهل الأرض، تجلس مع إنسان فتعلم أنه صاحب منصبٍ كبيرٍ فتتأدب أمامه وتتلفظ بأحسن الألفاظ وتتقرب إليه، هذه قيم أهل الأرض، أما قيم الله تعالى؛ فهما قيمتان لا ثالث لهما: علمٌ وعملٌ.

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا
(سورة الأحقاف: الآية 19)

شروط العمل الصالح
فكلما كثرت أعمالك الصالحة ارتقى مقامك عند الله (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) فإذا أردت أن تكون أقرب إلى الله فكن أقرب إلى الله بعملك الصالح، والعمل لا يقبل عند الله ولا يكون صالحاً أي يصلح للعرض على الله، ما معنى الصالح؟ يصلح للعرض على الله، يصلح أن تقف بين يدي الله فتقدمه كما فعل هؤلاء الثلاثة.

{ إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ }

(رواه النسائي)

لا يقبل العمل إلا إن كان خالصاً وصواباً، خالصاً مَا ابْتُغِي بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، وصواباً ما وافق الكتاب والسنة، فإذا كان العمل وفق المنهج وجاء ابتغاء مرضاة الله فإن الله يقبله ويكون عملاً صالحاً.

1. الإخلاص
أيها الأحباب: لو نظرنا في هذه الأعمال الثلاثة التي قدمها هؤلاء الرهط الثلاثة فما الجامع بينها؟ ما الذي يجمع بين الأعمال الثلاثة؟
الأول: عمله كان في مجال بر الوالدين، والثاني: عمله كان في مجال التعفف عن الحرام، كانت أسوته في ذلك يوسف الذي قال:

قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
(سورة يوسف: الآية 23)

لا تقبل العبادة بغير إخلاص
الثالث: كان عمله في مجال معاملة الأجير والإحسان إلى الأجير، وكل عملٍ من هذه الأعمال كان خالصاً لوجه الله تعالى، فالجامع بين هذه الأعمال: أولاً: الإخلاص، فلو كانت الأعمال لغير الله لما فُرِّج عنهم ما هم فيه، الإخلاص أيها الأحباب؛ سر العبادة، بل هو جوهر العبادة، بل إن العبادة لا تقبل بغير إخلاص، بل إن الإخلاص هو شطر الدين، قال تعالى:

وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
(سورة البينة: الآية 5)

عبادةٌ وإخلاصٌ.

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ
(سورة الزمر: الآية 11)

فعبادةٌ بغير إخلاص جسدٌ بغير روح، وما تنفع العبادة إن كانت لزيدٍ أو لعبيدٍ من الناس، وما ينفع العمل إن لم يكن خالصاً لوجه الله الكريم،
يقول تعالى في الحديث القدسي الصحيح:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ }

(صحيح مسلم)

فالله لا يقبل العمل المشترك ولا يقبل على القلب المشترك، إن لم يكن قلبك كله لله، فإن الله لا يُقبل عليك، وإن لم يكن عملك كله لله فإن الله لا يقبله، فإنه جلَّ جلاله أغنى الاغنياء عن الشرك.
أيها الإخوة: إذاً الجامع الأول بين هذه الأعمال هو الإخلاص، قال كل واحدٍ منهم: إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، إشارةً إلى أن العمل قد قبل عند الله لأنه كان خالصاً لوجه الله، حتى الشيطان اللعين لما أراد أن يغوي الناس أجمعين قال:

إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
(سورة ص: الآية 83)

هؤلاء ليس للشيطان عليهم سبيل.

2. الإحسان
نماذج للإحسان في المجتمع
أيها الإخوة: أخلص دينك يكفك القليل من العمل، فمع الإخلاص ينفع قليل العمل وكثيره، ومن غير إخلاص لا ينفع قليل العمل ولا كثيره، إذاً الجامع الأول بين الأعمال الثلاثة هو الإخلاص، ثم الإحسان.
انظروا أيها الإخوة؛ الأول أحسن إلى والديه، والثاني أحسن إلى ابنة عمه، فلم يستغل حاجتها وإنما أعطاها المبلغ وتركها وشأنها خوفاً من الله، والثالثُ أحسن إلى أجرائه، فهو شرعاً، في شرعنا اليوم، ليس مطالباً أن يُثمِّر المال، فهذا الرجل ترك أجره وذهب، فأجره يبقى محفوظاً له حتى يعود كما هو، لكنه لم يتعامل معه بالعدل وإنما تعامل معه بالإحسان.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
(سورة النحل: الآية 90)

الإحسان فوق العدل
كثيرٌ من مشكلاتنا أيها الإخوة؛ لا تحل بالعدل، ولا أقصد هنا إنقاص قيمة العدل فهي قيمةٌ عليا قامت السماوات والأرض بها، ولكن أقصد أن كثيراً من المشكلات لو حاكمتها إلى القضاء وحاكمتها إلى القوانين فإنه قد يبقى في قلوب المتحاكمين شيءٌ ولا تحل المشكلة، لكن متى تحل المشكلة مئةً بالمئة؟ عندما نحتكم إلى الإحسان، فأتنازل عن بعض حقي لأخي، ويتنازل عن شيءٍ من حقوقه لي، فتحل المشاكل بالإحسان، لذلك: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) فالإحسان فوق العدل، فلو أنه ترك له ماله وعندما جاءه قال له: هذا مالك كما هو من عشرين سنة لكان قد أعطاه حقه، ولكنه بالإحسان ثمَّر له ماله، فلما جاء أعطاه المال وأرباحه، لم يجمِّد له المال، ويبدو أن الله تعالى جزاء إحسانه بارك له في المال فجعل له غنماً وبقراً وإبلاً وبالتاكيد كان لصاحب المال أيضاً ربحٌ بهذه التجارة لأنه أحسن، فالإحسان أصلٌ أيها الإخوة؛ في ديننا، أن تحسن، أن تحسن إلى الناس.
أَحْسِنْ إلى النَّاسِ تَسْتَعبِدْ قلوبَهم فطالما استعبدَ الإنسانَ إِحسانُ
{ أبو الفتح البستي }

3. المراقبة
مراقبة الله تعالى أصل
أيها الإخوة الكرام: الإحسان هو الجامع الثاني بين الأعمال الثلاثة، اما الجامع الثالث فهو المراقبة: أرأيتم الرجل الأول وهو يراقب الله في والديه؟ وقف ينتظر والديه ليستيقظا حتى يكون في خدمتهما فوراً، ولو وضع القدح وجلس لربما غلبته عيناه فنام، فاستيقظ والداه وربما كانا لا يستطيعان القيام بشؤونهما فلم يجداه أمامهما، فأراد أن يراقب الله في كل حركة، فوقف ينتظرهما. والثاني راقب الله في أشد وقتٍ تكون فيه الشهوة، نسأل الله السلامة، راقب الله تعالى عندما قالت له: أقسمت عليك بالله، تركها لله، والثالث راقب الله في مال أجيره فثمَّره له أحسن ما يكون، فمراقبة الله تعالى أصلٌ أيها الأحباب.
إِذا ما خَلَوتَ الدَهرَ يَوماً فَلا تَقُل خَلَوتُ وَلَكِن قُل عَلَيَّ رَقيـــــــــب وَلا تَحسَبَنَّ اللَهَ يُغفِلُ ما مَضـــــــى وَلا أَنَّ ما يَخفى عَلَيهِ يَغيـــــــبُ
{ أبو العتاهية }
أيها الأحباب: إذاً ثلاثة أمور كانت جامعة في هذه الأعمال: إخلاصٌ، إحسانٌ، ومراقبةٌ.

أهمية الحاضنة الإيمانية
آخر شيءٍ في هذا اللقاء الطيب أيها الأحباب؛ انظروا إلى التعاون: هؤلاء الثلاثة كان لكل منهم عمل، هذا العمل لم يكفِ للنجاة، ولكن لأنهم كانوا مع بعضهم نجوا جميعاً، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
(سورة التوبة: الآية 119)

اجعل لنفسك بيئةً إيمانيةً، اجعل لنفسك حاضنةً إيمانيةً.

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
(سورة الكهف: الآية 28)

كن مع المؤمنين
لا تبقى وحيداً كن مع المؤمنين، كن في المساجد، كن في دروس العلم، كن مع الطائعين، اختر لنفسك رفاقاً صالحين، حتى إذا ألمت بالإنسان ملمَّةٌ كان معه إخوةٌ يعينونه، فكلٌّ منهم قدم عمل ومجموع الأعمال كان سبباً في النجاة من الورطة التي تهيأ ربما أنه لا نجاة منها.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسیَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكیّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واستغفروا الله.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمین وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحین، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّیْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ فِي الْعَالَمِینَ إِنَّكَ حَمِیدٌ مَجِیدٌ.

الدعاء
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سمیعٌ قریبٌ مجیبٌ للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين، اللهم هيِّئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويهدى فيه أهل عصيانك ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم فرج عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عریانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غریبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبلاً يا أرحم الراحمين، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، اللهم انصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى وفي القدس الشريف على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد.