الإخلاص - قصة أصحاب الغار
الإخلاص - قصة أصحاب الغار
الخطبة الأولى
ياربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض ومِلء ما بينهما ومِلء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد أحقُّ ما قال العبد وكُلُّنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعزُّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هداك، وكيف نَذِلُّ في عزك، وكيف نُضامُ في سلطانك، وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك، وأشهدُ أن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمدٍ وسلم تسليماً كيثراً، وبعدعباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأحكثم على طاعته، فإن الله تعالى يقول في كتابه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(سورة آل عمران: الآية 102)
{ عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ حتَّى أوَوْا المَبِيتَ إلى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عليهمُ الغَارَ، فَقالوا: إنَّه لا يُنْجِيكُمْ مِن هذِه الصَّخْرَةِ إلَّا أنْ تَدْعُوا اللَّهَ بصَالِحِ أعْمَالِكُمْ، فَقالَ رَجُلٌ منهمْ: اللَّهُمَّ كانَ لي أبَوَانِ شيخَانِ كَبِيرَانِ، وكُنْتُ لا أغْبِقُ قَبْلَهُما أهْلًا، ولَا مَالًا فَنَأَى بي في طَلَبِ شيءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عليهما حتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لهما غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُما نَائِمَيْنِ وكَرِهْتُ أنْ أغْبِقَ قَبْلَهُما أهْلًا أوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ والقَدَحُ علَى يَدَيَّ، أنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا ما نَحْنُ فيه مِن هذِه الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شيئًا لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ، قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وقالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لي بنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ، فأرَدْتُهَا عن نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حتَّى ألَمَّتْ بهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فأعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ ومِئَةَ دِينَارٍ علَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وبيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حتَّى إذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قالَتْ: لا أُحِلُّ لكَ أنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلَّا بحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وهي أحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ، وتَرَكْتُ الذَّهَبَ الذي أعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غيرَ أنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ منها، قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وقالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فأعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ غيرَ رَجُلٍ واحِدٍ تَرَكَ الذي له وذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أجْرَهُ حتَّى كَثُرَتْ منه الأمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ أدِّ إلَيَّ أجْرِي، فَقُلتُ له: كُلُّ ما تَرَى مِن أجْرِكَ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقِيقِ، فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ لا تَسْتَهْزِئُ بي، فَقُلتُ: إنِّي لا أسْتَهْزِئُ بكَ، فأخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ منه شيئًا، اللَّهُمَّ فإنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ. }
(صحيح البخاري)
شرح الحديث
قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار
|
تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ
تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ
|
فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(سورة الكهف: الآية 110)
إن أردت لقاء الله فاخدم عباده
|
التقرُّب من الله بالعمل الصالح
أيها الأحباب: التوسل بالأعمال الصالحة إلى الله مشروع، قال تعالى: |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(سورة المائدة: الآية 35)
قال قتادة: "تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه". |
فالوسيلة في بعض معانيها في هذه الآية: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أي أن تعمل عملاً صالحاً يرضى به رب العباد، هذه هي الوسيلة إلى الله عز وجل، فإذا أردت لقاء الله فاعمل من الصالحات |
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ(سورة فاطر: الآية 10)
قيم أهل الأرض
|
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا(سورة الأحقاف: الآية 19)
شروط العمل الصالح
|
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ }
(رواه النسائي)
لا يقبل العمل إلا إن كان خالصاً وصواباً، خالصاً مَا ابْتُغِي بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، وصواباً ما وافق الكتاب والسنة، فإذا كان العمل وفق المنهج وجاء ابتغاء مرضاة الله فإن الله يقبله ويكون عملاً صالحاً. |
1. الإخلاص
أيها الأحباب: لو نظرنا في هذه الأعمال الثلاثة التي قدمها هؤلاء الرهط الثلاثة فما الجامع بينها؟ ما الذي يجمع بين الأعمال الثلاثة؟ |
الأول: عمله كان في مجال بر الوالدين، والثاني: عمله كان في مجال التعفف عن الحرام، كانت أسوته في ذلك يوسف الذي قال: |
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(سورة يوسف: الآية 23)
لا تقبل العبادة بغير إخلاص
|
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ(سورة البينة: الآية 5)
عبادةٌ وإخلاصٌ. |
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ(سورة الزمر: الآية 11)
فعبادةٌ بغير إخلاص جسدٌ بغير روح، وما تنفع العبادة إن كانت لزيدٍ أو لعبيدٍ من الناس، وما ينفع العمل إن لم يكن خالصاً لوجه الله الكريم، |
يقول تعالى في الحديث القدسي الصحيح: |
{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ }
(صحيح مسلم)
فالله لا يقبل العمل المشترك ولا يقبل على القلب المشترك، إن لم يكن قلبك كله لله، فإن الله لا يُقبل عليك، وإن لم يكن عملك كله لله فإن الله لا يقبله، فإنه جلَّ جلاله أغنى الاغنياء عن الشرك. |
أيها الإخوة: إذاً الجامع الأول بين هذه الأعمال هو الإخلاص، قال كل واحدٍ منهم: إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، إشارةً إلى أن العمل قد قبل عند الله لأنه كان خالصاً لوجه الله، حتى الشيطان اللعين لما أراد أن يغوي الناس أجمعين قال: |
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(سورة ص: الآية 83)
هؤلاء ليس للشيطان عليهم سبيل. |
2. الإحسان
نماذج للإحسان في المجتمع
انظروا أيها الإخوة؛ الأول أحسن إلى والديه، والثاني أحسن إلى ابنة عمه، فلم يستغل حاجتها وإنما أعطاها المبلغ وتركها وشأنها خوفاً من الله، والثالثُ أحسن إلى أجرائه، فهو شرعاً، في شرعنا اليوم، ليس مطالباً أن يُثمِّر المال، فهذا الرجل ترك أجره وذهب، فأجره يبقى محفوظاً له حتى يعود كما هو، لكنه لم يتعامل معه بالعدل وإنما تعامل معه بالإحسان. |
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ(سورة النحل: الآية 90)
الإحسان فوق العدل
|
أَحْسِنْ إلى النَّاسِ تَسْتَعبِدْ قلوبَهم فطالما استعبدَ الإنسانَ إِحسانُ{ أبو الفتح البستي }
3. المراقبة
مراقبة الله تعالى أصل
|
إِذا ما خَلَوتَ الدَهرَ يَوماً فَلا تَقُل خَلَوتُ وَلَكِن قُل عَلَيَّ رَقيـــــــــب وَلا تَحسَبَنَّ اللَهَ يُغفِلُ ما مَضـــــــى وَلا أَنَّ ما يَخفى عَلَيهِ يَغيـــــــبُ{ أبو العتاهية }
أيها الأحباب: إذاً ثلاثة أمور كانت جامعة في هذه الأعمال: إخلاصٌ، إحسانٌ، ومراقبةٌ. |
أهمية الحاضنة الإيمانية
آخر شيءٍ في هذا اللقاء الطيب أيها الأحباب؛ انظروا إلى التعاون: هؤلاء الثلاثة كان لكل منهم عمل، هذا العمل لم يكفِ للنجاة، ولكن لأنهم كانوا مع بعضهم نجوا جميعاً، قال تعالى: |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(سورة التوبة: الآية 119)
اجعل لنفسك بيئةً إيمانيةً، اجعل لنفسك حاضنةً إيمانيةً. |
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ(سورة الكهف: الآية 28)
كن مع المؤمنين
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسیَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكیّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واستغفروا الله. |
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمین وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحین، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّیْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ فِي الْعَالَمِینَ إِنَّكَ حَمِیدٌ مَجِیدٌ. |
الدعاء
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سمیعٌ قریبٌ مجیبٌ للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين، اللهم هيِّئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويهدى فيه أهل عصيانك ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم فرج عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عریانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غریبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبلاً يا أرحم الراحمين، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، اللهم انصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى وفي القدس الشريف على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد. |