دروسٌ من الهجرة

  • محاضرة في الأردن
  • 2020-08-17
  • عمان
  • محاضرة في الأردن

دروسٌ من الهجرة

السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ: بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِه أجمعين،
بعد أيام قليلة إن شاء الله نستقبل عاماً هجرياً جديداً وأقول عاماً من باب التفاؤل، فهناك عام وهناك سنة وقد قال كثيرٌ من اللغويين: إن بينهما فرقاً، فالسنة تأتي للحديث عن القحط وعن الشقاء والهلاك نسأل الله السلامة، وأما العام فيأتي استبشاراً بالخير، قال تعالى:

فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا
(سورة العنكبوت: الآية 14)

قال كثيرٌ من المفسرين: بعد الطوفان لبث نوح مع قومه خمسين عاماً من الخير والهناء، أما باقي الأعوام فكانت سنوات، وأصبحوا يطلقون السنة من باب المجاز فيقولون: أصابتنا سَنَةٌ، يقصدون بذلك أصابتنا سنةٌ مُجْدِبَةٌ قاحطةٌ لا نبت فيها ولا ماء، فالسنة غالباً ما تطلق على الشقاء، والعام على الخير

ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ
(سورة يوسف: الآية 49)

أما سنيُّ يوسف فكانت سنوات جدب:

تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا
(سورة يوسف: الآية 47)

العام الهجري الجديد نسأل الله أن يكون عام خير وبركة وفتح ونصر وشفاء إن شاء الله

وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ
(سورة إبراهيم: الآية 20)


اعتماد الهجرة النبوية بدايةً للتاريخ الإسلامي
إخواننا الكرام: من فقه المسلمين ومن فقه عمر رضي الله عن عمر، أنه جعل الهجرة النبوية الشريفة مبدأً للتاريخ، فقد ورد في بعض كتب السيرة أن الصحابة الكرام اجتمعوا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤرخون لنفسهم، لأن الإسلام يحث المسلم على التميُّز، أن يخالف غيره، لا مخالفة عداء بقدر ما هي مخالفة تميز والظهور بمظهر المسلم الذي له تأريخه وله عاداته وله قيمه وله مبادئه.
أحداث الدعوة الإسلامية كثيرة
لذلك ورد في أحاديث كثيرة (خَالِفُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى) ، فالمخالفة من أجل أن تتميز، من أجل أن تظهر بدينك، كل الملل والنِّحل سواءً كانت أرضية أو شرائع سماوية تبحث عن التميز من أجل أن تعطي لنفسها قوة ومهابة وهذا من حق المسلمين، فاجتمعوا من أجل أن يتفقوا على حدث يبدؤون به تاريخهم، وأحداث الدعوة الإسلامية كثيرة بدأت بمولده صلى الله عليه وسلم، ومولده كان بشرى كبيرة وجاءت معه إرهاصاتٌ كثيرةٌ وردت في الصحيح، فيمكن أن نؤرخ من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدث مهم، بعد المولد كانت البعثة، والبعثة كانت إيذاناً بانتقال العالم كلِّه من ظلام الشرك إلى نور التوحيد والهِداية والخير، بعد البعثة كان الإسراء والمعراج، الإسراء والمعراج حدثٌ مهمٌّ جداً لأن الله تعالى فيه قرَّب نبيه بعد عام الحزن وما أصابه صلى الله عليه وسلم من وفاة عمه أبي طالب وهو حصنه ودعمه الخارجي، ووفاة خديجة وهي حصنه الداخلي رضي الله عنها، وذهابه إلى الطائف ليلتمس النصرة عند أهلها فوجد منهم التكذيب، كان عام حزن بحق، فجاء الإسراء والمعراج حدث مهم ومعجزة كبيرة يمكن أن نؤرِّخ بها، ثم جاءت الهجرة، والهجرة حدث مهم جداً انتقلت فيه الأمة من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، من مرحلة الصبر إلى مرحلة النصر، من مرحلة رعي الغنم إلى مرحلة قيادة الأمم، الهجرة انتقالٌ كبير، بعد الهجرة أيضاً توالت أحداث عظيمة؛ الغزوات كلها، غزوة بدر الكبرى، وغزوة أُحُد، ثم جاء فتح مكة وكان عودةً للنبي صلى الله عليه وسلم إلى حيث أُخرِجَ فأيضاً حدث مهم جداً هو تحقيقٌ لوعد الله تعالى بالنصر وبالفتح، ثم كانت وفاته صلى الله عليه وسلم وهي أيضاً حدثٌ مهمٌّ انتقلت فيه الأمة من الأشخاص إلى المبادئ، يقول أبو بكر رضي الله عنه:

{ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ }

(رواه البخاري)

إذاً الأحداث كثيرة، وقد ذكرتُ أهمَّها، لكن لما أرادوا أن يؤرخوا اختاروا الهجرة، من بين كل هذه الأحداث اختاروا الهجرة النبوية الشريفة، لماذا؟ هذا من فقه الصحابة ومن فقه عمر رضي الله عنه؛ لأن الهجرة تحديداً كانت المرحلة الفاصلة في التحول الحقيقي، الهجرة هي الرحلة التي نصر الله بها الدين، وأعزَّ بها الإسلام فحُقَّ لها أن تكون مبدأً للتأريخ، فاليوم نقول: هذا العام ألف وأربعمئة وواحد وأربعون للهجرة، مضى على هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم كذا عام، نؤرخ بالهجرة.

التعريف الدقيق للهجرة
أحبابنا الكرام: ما الهجرة؟ لو أردنا أن نعرِّفها بالتعريف البسيط: هي انتقال النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من مكة إلى المدينة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول :

{ سُئِلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَنِ الهِجْرَةِ، فَقالَ: لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا }

(صحيح مسلم)

بعد أن فتح الله مكة لم يعد هناك من معنى لأن يهاجر شخص من مكة إلى المدينة، فالإسلام يقام في مكة ويقام في المدينة، فأصبح للهجرة مفهومٌ جديدٌ

{ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ }

(صحيح البخاري)

الهجرة قائمة إلى يوم القيامة
إذاً الهجرة قائمة إلى يوم القيامة، عندما تهجر الكذب إلى الصدق فأنت مهاجر، وعندما تهجر مجلس الاختلاط واللغو والبعد عن الله إلى مجلس العلم فأنت مهاجر، وعندما تهجر التجارة المحرمة الربوية إلى التجارة المحللة بما يرضي الله عزَّ وجلَّ فأنت مهاجر، "فالمُهَاجِرُ هو مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ"، فانتقل من مكان إلى مكان، من معاملة إلى معاملة، من خلق إلى خلق، فأنت مهاجر، الهجرة في أدق تعريفاتها: حركةٌ مدروسةٌ واعيةٌ لتغيير الواقع نحو الأفضل، قال تعالى:

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا
(سورة الأنفال: الآية 72)

الإيمان ينبغي أن تتبعه هجرة
هذه الآية بمعناها يوم نزولها؛ شخص آمن لكنه رفض الهجرة يريد أن يبقى مع المشركين، قال: (مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ) ليس له واجب الولاء عليك لأنه لم يهاجر، أما اليوم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا) يمكن أن نقول: والذين آمنوا ولم يتحركوا، آمن ولم يتحرك لنصرة دينه، آمن ولم يحرك ساكناً من أجل إعزاز دينه، آمن لكنه لم يلتزم بشيء مما أمره به دينه، فالإيمان ينبغي أن تتبعه هجرة، إما هجرة من مكة إلى المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو في يومنا هذا هجرة بمعنى الانتقال من شيء إلى شيء، هذه هي الحركة، أقول: حركة مدروسة واعية لتغيير الواقع نحو الأفضل؛ لأن هناك حركات كثيرة أرادت التغيير لكنها لم تكن مدروسةً ولا واعيةً فإما أن التغيير كان نحو الأسوأ وهذا نشاهده كثيراً في عالمنا اليوم، وإما أن هذا التغيير أُحبِط ولم يُكتب له النجاح لأن الخطة لم تكن ناجحة في الأصل من أجل التغيير، كلنا بحاجة إلى التغيير، تغيير الأنفس، وتغيير الآخرين، وتغيير المجتمع، بحاجة إلى أن نغير، والذي لا يغير فهو في مكانه، وقد قيل:
المغبون من تساوى يوماه
{ علي بن أبي طالب }
يا ابن آدم إن لم تكن في زيادة فأنت في نقصان
{ الحسن البصري }
فالتغيير مطلوب لكن ينبغي أن يكون وفق حركة مدروسة من أجل أن يكون نحو الأفضل لا نحو الأسوأ هذا التغيير المطلوب.

ترتيبات الهجرة
إذا جئنا إلى ترتيبات الرحلة حتى نرى كيف كانت الهجرة حركةً واعيةً مدروسةً؟ نأتي إلى هذه الترتيبات.

تجهيز الراحلة
تجهيز الراحلتين في وقتٍ سابق
الترتيب الأول: تجهيز الراحلة، رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهاجر من غير أن يجهز راحلتين، جهزهما أبو بكر رضي الله عنه قبل حين، فلما جاء الإذن بالهجرة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يخطئ أن يأتي يوماً إلى بيت أبو بكر رضي الله عنه إما في الصباح أو في المساء لا بد أن يأتي، لكن جاء في وقت الظهيرة في وقتٍ لم يكن يأتي به فعلم أبو بكر رضي الله عنه أن رسول الله جاء لأمرٍ جللٍ، جاء في الظهيرة ومعروف ظهيرة مكة وما فيها من حرارة وشِدَّة، فجاء إلى أبي بكر يقول له: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَك، قال: إنّمَا هُمَا ابْنَتَايَ، عائشة وأسماء، لا يوجد أحد غيرهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أُذِنَ لِي فِي الْهِجْرَةِ والْخُرُوجِ في سبيل الله، فيقول أبو بكرٍ رضي الله عنه: الصّحْبَةَ يَا رَسُولَ، قَالَ: الصّحْبَةَ، تقول عائشة رضي الله عنها: فَوَاَللهِ مَا علمت كيف يكون البكاء من شدة الفرح إلا لما رأيت أبي يومها يبكي، لم تعرف بكاء الإنسان من شدة الفرح إلا لما رأت والدها في هذه اللحظة لما كتب له أن يصحب رسول الله في هذه الرحلة، وبعد ذلك خُلِّد اسمه إلى يوم القيامة

إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ
(سورة التوبة: الآية 40)

فكانت الصحبة، لذلك الإنسان يحرص على الصحبة، الصحبة أمر لا يعوض، كان عمر رضي الله عنه يقول: "والله لولا ركيعاتٌ في جوف الليل وإخوةٌ يلتقط معهم طيب الكلام كما ينتقي آكل الثمر أطايبه لآثرت الموت على الحياة"، فما معنى الحياة إن لم يكن لي فيها ركعاتٌ لوجه الله تعالى وإخوةٌ طيبون تتبادل معهم الإيمان بالله عزَّ وجلَّ
"تعال بنا نؤمن بربنا ساعة"
{ معاذ بن جبل }
فبكى أبو بكر رضي الله عنه من شدة الفرح عندما علم أنه سيكون صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلته، فأبو بكر كان قد جهز راحلتين، قال: الراحلتان جاهزتان يا رسول الله، واحدة لك وواحدة لي، قال صلى الله عليه وسلم: بالثمن، يعني أدفع ثمنها وآخذها، فأخذها بالثمن، النبي صلى الله عليه وسلم ما أراد أن يفوِّت أجر أن يركب راحلةً قد دفع ثمنها حتى يكون جهاده بالنفس وبالمال وبكل شيء، فقال: بالثمن، فدفع ثمنها، فكان قد جهز راحلتين، هذه من ترتيبات الرحلة.

السرية التامة
الشجاعة تأتي من الصلة بالله
الترتيب الثاني: السرية التامة قال: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَك"، هذا وعي، وعي أمني بالعرف الحديث، "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَك"، لما قال: هُمَا ابْنَتَايَ، لم يكن يعلم بالرحلة إلا أبو بكر رضي الله عنه وأهل بيته وعلي بن أبي طالب، وكلهم أُعلموا بالرحلة لأن لهم مهمةً فيها، أما الذي ليس له مهمة لم يُعلَم، النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج جهراً، مع أنه كان أشجع الناس، يقول الصحابة رضي الله عنهم: كنا إذا حمي الوطيس، المعركة، احتمينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أشجع الناس، كيف لا وهو أكثر الناس صلةً بالله، من أين تأتي الشجاعة؟ من الصلة بالله، لأنك ضعيف من يقويك؟ الله، فهو كان أقوى الناس صلى الله عليه وسلم، فهل قوته جعلته يشرِّع لنا أن يقف على رأس جميع المشركين ويقول لهم: أنا مهاجر والله يحميني وافعلوا ما بدا لكم؟ لا لم يفعل، لأنه الآن يرسم لنا طريقاً، يعلمنا، الآن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا، لذلك الهجرة جُعِلت مبدأً للتاريخ الإسلامي، لأنها رحلة تمثل التغيير الحقيقي، التغيير المبني على الأسس وليس التغيير العشوائي غير المدروس الذي غالباً ما يؤدي إلى مشكلات لا حصر لها، فالسرية التامة هي الترتيب الثاني.

استئجار الدليل
جواز الاستعانة بغير المسلم
الترتيب الثالث: (اسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللهِ بْنَ أُرَيقطَ ليَدُلّهُمَا عَلَى الطّرِيقِ)، قالوا له: نحن في غار ثور ثلاثة أيام وبعد ثلاثة أيام تأتي بالرَاحِلَتين، عَبْدُ اللهِ بْنَ أُريقطَ كان مشركاً يومها لكنه كان ماهراً بالطريق فأخذ خبرته، وهذا يدل على جواز الاستعانة بغير المسلم إذا كان في ذلك مصلحة وقوة، لكن طبعاً لا يُستشهد بذلك على البعض اليوم ممن يُمَالِئونَ أعداء الله عزَّ وجلَّ ويقفون في صفهم ثم يقولون: لا مانع من الاستعانة، لا أبداً، المقصود أنه إذا كان الشخص له خبرة معينة فتستأجره في شأنٍ خاصٍّ، لكن أن تمالئه وهو عدوٌّ لله ولرسوله وتنافق له فهذا مفروغ من حرمته وفيه نصوص كثيرة، فأخذ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُريقطَ دليلاً يَدُلّهُمَا على الطريق، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: الله يهديني السبيل، والله يهديه، وهو أحق الناس بهداية الله تعالى، لكنه صلى الله عليه وسلم يرسم منهجاً، الطريق يحتاج إلى من يدلك على الطريق، فأخذ دليلاً.

الثبات على المبادئ
المبادئ لا تتجزأ
أمر عليَّاً رضي الله عنه أن ينام في فراشه، حتى يوهمهم بأنه مازال في بيته وهو قد خرج فأمره بأن ينام في فراشه، وأمره أن يؤدي الودائع إلى أهلها، هذا أمر مهم جداً، النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: هؤلاء ناصبوني العداء وهؤلاء فعلوا الأفاعيل، وهؤلاء أخذوا أموال أصحابي ونكلوا بهم، أبداً، لم يبرر لنفسه أن يأخذ من مالهم شيئاً، أولاً: لأنه مبدأ والمبادئ لا تتجزأ، إما أن تكون صاحب مبدأ أو ألا تكون، هناك شخص قد تدفع له رشوة مئة فلا يأخذ فإذا أصبحت ألفاً يأخذ، هذا انتهى، الذي ينكسر عند الألف أو عند المئة ألف في النتيجة واحد، المبدأ واحد، المبادئ لا تتجزأ، فلم يقل صلى الله عليه وسلم: لأترك الودائع معي في مقابل ما أخذوه مني، لم يبرر ذلك، لأن المبادئ لا تتجزأ، ولأنه الآن يبني مجتمعاً والمجتمعات لا تبنى إلا بالأمانة، والمجتمعات لا تبنى إلا بحفظ السمعة، بأن تحفظ سمعتك، لأن السمعة مهمة جداً، سمعة الصف المسلم

{ فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ، لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ }

(صحيح البخاري)

احفظ سمعة دينك
النبي صلى الله عليه وسلم لما أعلمه الله تعالى بعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيّ وكان منافقاً وكان رأس المنافقين في المدينة، فقال له عمر رضي الله عنه: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ، لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) ينبغي أن تحفظ سمعتك، الأصل هو المبادئ، لكن حفظ السمعة مطلوب، ولو كان هذا الشخص يستحق القتل لأنه يثير البلبلة في المدينة والشقاق والنفاق لكنه صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" فيصبح قتل عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيّ حاجزاً بين الناس وبين الدخول في دين الله، فاليوم المسلم الذي يكون في مجتمع غير مسلم أو في مجتمع منحرف وهو ملتزم ويرون منه بعداً عن الأمانة وأكلاً للحقوق واحتيالاً على الناس ثم يجدونه في الصف الأول في الصلاة هذا لا يحفظ سمعة الصف المسلم، هذا يعبث بسمعة الصف المسلم، لا تفعل انتبه إذا كنت متديناً والناس يعرفونك فاحفظ سمعة دينك، حتى يدخل الناس فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا
قال تعالى:

رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا
(سورة الممتحنة: الآية 5)

كيف يكون الإنسان فتنةً للكافر؟ حينما يجد الكافر منه وهو مؤمن بعداً عن الأمانة والصدق والخير والعطاء فيعتز بكفره ويقول لك: هؤلاء هم المسلمون انظر إليهم ماذا يصنعون! فيصبح المؤمن فتنةً للكافر، ويصده عن دينه.

التخفي عن أعين المشركين
إذاً أيها الأحباب: من ترتيبات الرحلة أنه أودع علياً في فراشه وأمره أن يرد الودائع إلى أهلها، خرج مستخفياً من الباب الخلفي، من منزل أبي بكر رضي الله عنه خرج من الباب الخلفي ولم يخرج من الأمامي، أيضاً ترتيب للاستخفاء عن أعين المشركين، أبو بكر رضي الله عنه كلف ابنه عبد الله أن يستمع لما تقوله قريش، فلما أقام صلى الله عليه وسلم في غار ثور مع صاحبه ثلاثة أيام كان عبد الله يبيت عندهما ثم ينزل في الصباح متخفياً ويسمع ما الذي يحصل ويأتيهم بالأخبار، فكان عبد الله بن أبي بكر عين رسول الله وعين أبيه أبي بكر في مكة يأتيهما بالأخبار قبل أن يتابعا المسير.

مسؤولية الإطعام وتغيير الطريق المعتاد
الخروج في غير الطريق المعهود
من الترتيبات التي قام بها صلى الله عليه وسلم: أن أبا بكر أمر عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه، من الترتيبات المهمة: مسؤولة الإطعام أسماء بنت أبي بكر، التموين، لم يقل: الله يطعمني ويسقيني، والله هو الذي يطعم وهو الذي يسقي لكن نحن مأمورون بالسعي فلا بد من تخصيص من يأتي بالطعام، فكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهم بالطعام، أيضاً من الترتيبات: أن النبي صلى الله عليه وسلم سار مُساحلاً، فخرج في غير الطريق المعهود الذي تسلكه قوافل قريش، غيَّر الطريق، هم عندما يعرفون أنه خرج سيخرجون من طريق معينة، هو سار إلى الجنوب بعكس طريق المدينة ثم التف وهاجر إلى المدينة، أيضاً هذا من الترتيبات المهمة.

التوكل على الله بعد وصول المشركين إلى الغار
وصول المشركين إلى الغار
ثم مكث في غار ثور ثلاث ليالٍ، هذه مهمة جداً في الرحلة حتى يهدأ الطلب، يعني حتى يتحركوا ويتابعوا فييأسوا منه فيخرج ويتابع، فما بقي يمشي لأنهم سيدركونه، عندهم من الوسائل ما يدركونه بها، كل هذه الوسائل اتخذها صلى الله عليه وسلم، لذلك قلت: هي حركة مدروسة واعية، الهجرة ليست انفعالاً، أن نهاجر وحسب (أُذِنَ لِي فِي الْهِجْرَةِ)، لا أبداً، الهجرة ترتيب، الآن أراد الله تعالى بعد كل هذه الترتيبات أن يصل المشركون إلى الغار، لماذا! النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ كل الأسباب، إلا أن الله تعالى يريد أن يطلعنا على الجانب الآخر من الرحلة وهو جانب التوكل، فلو نجحت الأسباب ولم يصلوا إليه لربما قال المسلمون اليوم: الأمر متوقف على الأسباب فقط وحدها، لأن الأسباب نجحت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولَمَا استبانوا ما في قلبه من التوكل، لم يظهر لنا، التوكل عمل قلبي لا يظهر في السلوك غالباً، متى يظهر؟ عند الشدة، فأراد الله تعالى أن يصلوا إليه وأن يقفوا فوق الغار، بينهم وبينه مترواحد.

{ عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا فِي الغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا }

(صحيح البخاري)

هنا يظهر الجانب الآخر في رحلة الهجرة وأنها لم تكن رحلة أسباب فحسب، قال: " يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا "

لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا
(سورة التوبة: الآية 40)


التوكل على الله يكون بعد الأخذ بالأسباب
أمرنا الله بالأخذ بالأسباب
إذاً ما كان رسول الله معتمداً على هذه الأسباب التي اتخذها أبداً، كان اعتماده على رب الأسباب ومسبب الأسباب، إذاً لماذا أخذ بها؟ أخذ بها تعبداً، لأن الله تعالى أمره أن يأخذ بها، ولأن الله تعالى يعلمنا أن الحياة تمضي بالأسباب والمسببات، فإذا أردت الشفاء فعليك بالطبيب وقلبك معلقٌ بالشافي جلَّ جلاله، وإذا أردت النجاح فعليك بالدراسة وقلبك معلقٌ بمن ييسر الأمور جلَّ جلاله، وإذا أردت السلامة في الرحلة فعليك بتفقد مركبتك قبل المسير إلى السفر وقلبك متعلقٌ بالحافظ جلَّ جلاله، هذه هي المعادلة الصعبة التي يغفل عنها كثيرٌ من المسلمين، نحن بين مُسْلِمَيْن: مسلم يأخذ بالأسباب، يقول لك: الحياة أسباب فقط ويعتمد على هذه الأسباب وينسى مسبب الأسباب فيقع في الشرك لأنه يشرك الأسباب مع الله، ومسلمٍ آخر تقول له: ادرس، يقول لك: التوكل على الله، الله ييسر إن شاء الله، تقول له: انتبه إلى أسباب العدوى، يقول لك: الله عزَّ وجلَّ الشافي، تقول له: ابنك مريض خذه إلى الطبيب يقول لك: سلمته لله، طبعاً سلمناه لله لكن ينبغي أن نذهب إلى الطبيب لأن الله أمرنا أن نتخذ الأسباب، نتعبد الله باتخاذ الأسباب وقلبنا متعلقٌ بمسبب الأسباب جلَّ جلاله.
عمر رضي الله عنه مرَّ على قومٍ يجلسون ولا يعملون، قال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون على الله، قال: كذبتم، أنتم المُتَّكلون على الله، هناك متوكِّل وهناك متَّكل أو متواكل، قال: كذبتم أنتم المتَّكلون على الله، المتوكِّل من ألقى بذرةً في الأرض ثم توكل على الله.

{ عَنْ عُمَرَ بن الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُوْلَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوْحُ بِطَاناً» }

(رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ)

الرزق يتطلب حركةً
لكن لم يقل: لرزقكم كما يرزق الطير تجلس في أعشاشها وينزل إليها رزقها من السماء، قال: (تَغْدُو خِمَاصاً) هي جائعة فتتحرك فترزق، فالرزق من الله لكن الحركة منك، هذا مفهوم غايةٌ في الأهمية في حياتنا، أنا أعلم أنكم تفهمونه وتعملون به لكن أوضحه حتى نستطيع نقله إلى الناس بأن هذا هو ديننا، وأن الحياة اليوم لا تستقيم بالتوكل الساذج الذي هو في الحقيقة اتكال وليس توكلاً، لا أدري مدى دقة العبارة؛ أقول: لا تعتبوا على الله، يعني لا تعتب على الله أو لا تسئ الظن بالله عزَّ وجلَّ، حينما تجد أن المسلمين ليسوا في مقدمة الأمم في المئة سنة الأخيرة، أحسن الظن بالله عزَّ وجلَّ، فالله عزَّ وجلَّ سنَّ لنا سنناً هي اتخاذ الأسباب فلم نأخذ بها ولم نعمل بها، ما نعانيه اليوم أو ما تعانيه أمتنا اليوم هو نتاج تقصير لمئة سنة ماضية تركنا فيه ديننا وتركنا فيه العمل لدنيانا فتسلط علينا غيرنا.

النتائج لا تكون بالأسباب بل تكون بإرادة الله عز وجل
لكل عصرٍ أسبابه
ذُكِر أن أحد الخلفاء مرَّ بقومٍ لا يعملون فقال: من أين تأكلون من أين تشربون؟ قالوا: الأعداء يعطوننا، قال لهم: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم، فأدرك هذا الخليفة أن المستهلك هو الضعيف وأن المنتج هو القوي، لا بدَّ أن نعطي الحياة أسبابها ولكل عصر أسبابه، قد تقول لي: ما هذه الترتيبات؟ أقول لك: والله في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الترتيبات هذا أفضل ما يمكن فعله، اليوم في عصرنا تقول لي: هناك ترتيبات أخرى للرحلة، نعم، هناك أقمار صناعية، اليوم ممكن أن نراقب الأعداء عن طريق الأقمار، يمكن إعداد سلاح مختلف، الراحلة يمكن أن تصبح دبابة، لكن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في عصره هو كل ما يمكن فعله، لم يترك شيئاً يمكن فعله إلا وفعله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلوا إليه ظهر توكله الحق على الله تعالى وظهر أنه ما كان قد أخذ بهذه الأسباب إلا تعبداً لله تعالى لكن اعتماده الأوحد على رب الأسباب جلَّ جلاله.
ربنا عزَّ وجلَّ حتى لا نؤلِّه الأسباب وحتى لا نظن أن الأسباب هي التي تفعل النتائج عطل الأسباب أحياناً، نحن نعلم أن الرجل يتزوج امرأة فيأتي الولد، من غير زواج لا يوجد ولد، لكن الله عطل الأسباب مع مريم عليها السلام فجاءت بولدٍ من غير زواج، هذا بخلاف الأسباب، نعلم أن النار تحرق لكن مع إبراهيم عليه السلام النار لم تحرق، لماذا توجد هذه المعجزات؟ لأن الله يريد أن يقول لك: إن الأسباب لا تخلق النتائج بذاتها ولكن بإرادة الله وبفعل الله، حتى تبقى متيقظاً، هل الزواج يأتي بالولد؟ ليس دائماً، هناك حالة يكون زواج ولا يأتي الولد، وحالة نادرة بالتاريخ لم يحصل الزواج وحملت مريم الطاهرة المطهرة وجاءت بالولد، إذاً القضية ليست قضية أسباب، بل مسبب الأسباب جلَّ جلاله، لكن لا بد من الأخذ بالأسباب؛ هذا أهم درس في الهجرة.

رحلة الهجرة ورحلة الإسراء والمعراج
إخواننا الكرام؛ لو أردت أن أعقد مقارنة سريعة، وقد ذكرنا تسلسل الأحداث في الدعوة الإسلامية، أردت أن أعقد موازنة سريعة بين الهجرة والإسراء والمعراج، لأن كليهما رحلة، رحلة الإسراء والمعراج ورحلة الهجرة، الهجرة كانت من مكة إلى المدينة لأربعمئة كيلومتر تقريباً، من مكة إلى المدينة تقريباً أربعمئة كيلومتر، الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لمسافة أكثر بأربع مرات تقريباً، ألف وخمسمئة كيلومتر من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أطول بكثير، الهجرة كانت على راحلتين أعدهما أبو بكر قبل فترة وجهزهما للهجرة، الإسراء على البراق، ماذا نسمي البراق اليوم؟ صاروخ! أقوى من الصاروخ، الهجرة استغرقت في أصح الأقوال أربعة عشر يوماً، من لحظة الخروج مع ثلاثة أيام في الغار وإحدى عشر يوماً من المسير، الإسراء والمعراج استغرق جزءاً من ليلة، وليس ليلة كاملة، جزء من ليلة؛ الله أعلم بهذا لأنه ورد في بعض روايات كتب السيرة أنه عاد إلى فراشه ومازال الفراش ساخناً، جزء من ليلة، كل هذه المسافة جزء من ليلة، ذهاباً وإياباً، هنا فقط ذهاباً الهجرة.
رحلة الإسراء والمعراج معجزة
إذاً ما الفرق بين الرحلتين؟ الإسراء والمعراج معجزة، بينما الهجرة قوانين، بماذا تَعَبَّدَنا الله بالهجرة أم بالإسراء والمعراج؟ تعبدنا الهجرة، لذلك جعلوها مبدأً للتاريخ الإسلامي، نحن متعبَّدون بالأسباب وليس بالمعجزات، محمدٌ صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبيَّ بعده ولا معجزةَ بعده، عصر المعجزات انتهى، نتعامل بالهجرة، نتذكر الهجرة دائماً، الإسراء والمعراج نؤمن بها كما جاءت ونصدق بها لكننا لسنا متعبدين بأن نفعل مثلما حصل ولا نستطيع ذلك، بالمناسبة المعجزة ليست بخلاف العقل لكنها بخلاف العادة؛ لو أنَّ شخصاً قال لك اليوم: لقد ذهبت من مكة إلى بيت المقدس ورجعت؛ ذهاباً وإياباً استمرت الرحلة ثلاث ساعات، تقول له: نعم هناك طائرة خاصة أخذتك وأعادتك، ساعة ونصف ذهاب وساعة ونصف إياب، فاليوم القول بأنك ذهبت وعدت بليلةٍ واحدةٍ من بلدٍ إلى بلدٍ ليس معجزة ولا معنى له، إذاً العقل يقبلُ أن يحصل ذلك، ليس مستحيلاً، لكن العادة لا تألفه، يحتاج الناس وقتاً طويلاً عادةً وليس عقلاً ليصلوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من مكان إلى مكان يبعد ألفاً وخمسمئة كيلو أو ألفاً وثلاثمئة كيلو متر، فكان الإسراء والمعراج معجزةً لا توافق عادات البشر ولكنها توافق عقولهم، يعني ما كلفهم الله بالإيمان بشيء خارج حدود العقل، فما الذي حصل إذاً بين الرحلتين؟ رحلة وفق القوانين والسنن، ورحلة خارج القوانين والسنن، معجزة، ونحن متعبَّدون بالهجرة بالقوانين وبالسنن، قال تعالى:

إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
(سورة التوبة: الآية 40)


التفاؤل والأمل من دروس الهجرة
التفاؤل في الهجرة النبوية الشريفة
من دروس الهجرة أيضاً التي أحب أن أعقب عليها سريعاً: درس التفاؤل والأمل، لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وخرج، سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُم كان فارساً من الفرسان المعدودين ومعروف بأنه لا يخطئ هدفه، جلس المشركون في مكة يتشاورون بطريقة لإعادة النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدوا أن خير طريقةٍ هي الجائزة، فجعلوا مئة ناقة لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً، سراقة سمع الخبر فانسلَّ من المجلس خُفيةً حتى لا يشعر أحد به وذهب فأعد فرسه وجهز نفسه وعزم على اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن خرج من غار ثور وأدركهم، الآن رسول الله صلى الله عليه وسلم مطارد خارج من مكة التي هي أَحَبُّ بلاد اللَّهِ إلَى اللَّهِ، قال:

{ عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَدِيِّ ابْنِ الْحَمْرَاءِ أنَّهُ سمعَ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وَهوَ واقفٌ بالحَزوَرةِ في سوقِ مَكَّةَ وَهوَ يقولُ واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إليَّ ولولا أن أَهْلَكِ أخرَجوني منكِ ما خَرجتُ }

(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ)

ودمه مهدور، وفي الطريق تبعه سراقة فلما وصل إليه أراد أن يقتنصه بسهمه فساخت قوائم فرسه وجمدت يده بالسهم، الآن نادى النبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ادع الله أن يطلق لي قوائم فرسي، الفطرة تعرف أن هذا الرجل مجاب الدعوة، هي المصالح كانت تحول بينهم وبين الإيمان وليست الفطرة، الفطرة السليمة تستجيب، مصالحهم أعمت قلوبهم، فدعا الله له أن يطلق فرسه فأُطلِقَت، المرَّة الثانية الأمر نفسه، المرَّة الثالثة الأمر نفسه، قال: فعلمت أنه معصوم، يحميه الله من الناس، ولن أصل إليه فقلت: عهد الله بين وبينك أن لا أحاربك، اكتب لي كتاباً، النبي صلى الله عليه وسلم الآن يكتب له كتاباً سيبرزه سراقة عندما يعود النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحاً، إذاً النبي صلى الله عليه وسلم من لحظة خروجه من مكة كان يعلم أنه عائدٌ إليها

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ
(سورة القصص: الآية 85)

المعاد: هو مكة، ستعود من حيث خرجت، يقينه بذلك مئة بالمئة، ليس عنده أدنى شك بذلك، وكل الترتيبات التي اتخذها، اتخذها تعليماً لنا لأن الله أمره بها فالتزم الأمر لكن ليست لأنه يخاف أو يخشى ألا يصل، سيصل.
القصة إلى هنا في الصحيح، ولها تتمة في كتب السيرة ضعفها البعض وصححها البعض، نستأنس بها أنه قال له عندما أعطاه الكتاب، أيضاً كتب الكتاب له عامر بن فهيرة، قال له: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟! يعني أنت ستلبس سواري كسرى وتروي كتب السيرة أن ذلك كان في عهد عمر رضي الله عنه عندما فتحت بلاد الفرس وجاءت الغنائم ونادى سراقة وكان وقتها رجلاً معمراً قد جاوز المئة وألبسه سوار كسرى وكبر المسلمون.
إذاً النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه للهجرة كان متفائلاً، كان يعلم أنه سيصل وسيبني الدولة وسيحارب وسينتصر وسيعود فاتحاً إلى مكة، وهذا تفاؤل المؤمن وأمل المؤمن لكنه التفاؤل المبني على العمل، وليس التفاؤل الساذج غير المبني على أسس ثابتة، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعمل مع التفاؤل والأمل، ونحن اليوم يجب أن نتلمس هذا المعنى وهذا المضمون بألا نيأس من روح الله

إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ
(سورة يوسف: الآية 87)


اليقين بنصر الله عز وجل
الثقة بنصر الله عز وجل
الآن تكالبت الأمم علينا، الخيانة من القريب قبل البعيد، من الصديق قبل العدو، لكننا أصحاب قضية وأصحاب مبدأ ونحمل ديناً هو خاتم الشرائع وهو النور للعالمين، فنؤمن يقيناً بأن المجد للإسلام وأن العزة للإسلام وهذا الأمر لا يعبث به شيء، يقيناً كيقين محمدٍ صلى الله عليه وسلم يوم هاجر من مكة وهو يعلم أنه عائدٌ إليها، فنحن نعلم أننا قد كَبَا بنا الجواد ولكننا عائدون إلى قيادة الأمم وإلى مقدمة الأمم، هذا يقيننا، هذا لا يتخلف، لكن نحن نحاول فقط أن نحقق جنديتنا لنصرة هذا الدين، أن نكون على الطريق، يكفينا أن نموت ونحن على الطريق ويكفي غيرنا من الهالكين والمنافقين أنهم سيقضون إلى الله وقد حادوا عن الطريق، فالنصر المبدئي أن تموت وأنت ثابت على هدفك سواءً رأيت بعينك في حياتك ما يحقق النصر للمؤمنين أم لم ترَ فأنت مت على الطريق متيقناً بأنه سيحصل وهذا يكفيك شرفاً أنك لم تحد عن المبدأ وما غيرت وما بدلت وما داهنت وما نافقت وما غيرت بقيت على صراط الله المستقيم، قال تعالى:

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ
(سورة يونس: الآية 46)

وكأن الله تعالى يقول لنبيه يا محمد -صلى الله عليه وسلم- أمامك خياران إما أن ترى النصر بعينك أو أن تقضي إلى الله قبل تحقق النصر فيتحقق النصر بعد وفاتك، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ كل نتائج دعوته في حياته، الفتوحات معظمها كانت في عهد عمر رضي الله عنه، هو عاد إلى مكة فاتحاً ورأى جزءاً من وعد الله، لكن لم يرَ الوعد الذي يبلغ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، لكنه لم يره كاملاً، هو حصل فيما بعد، لكنه مات وهو متيقن صلى الله عليه وسلم أنه سيحصل وهذا هو النصر، فنحن اليوم إما أن الله تعالى سيرينا بعض الذي يعد المشركين أو أن نُتوفى ونحن على الخط في الطريق المستقيم مؤمنين بأن النصر متحققٌ لا محالة، لدينا هذان الخياران، نسأل الله أن نرى النصر بأم أعيننا، النصر مفرح

وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ
(سورة الروم: الآية 4-5)

دورة الحق والباطل طويلة
لكن إن لم يتح لنا فهذه حكمة الله، لماذا؟ لأن دورة الحق والباطل طويلة أطول من عمر الإنسان، الذي عاشروا المغول والتتار مات كثيرون مظلومين ولم يروا النصر عليهم، الذي بنوا مع صلاح الدين الأيوبي من البدايات لم يروا صلاح الدين الأيوبي يوم حرر القدس، لم يروه بأعينهم لكن خلد اسمهم بأنهم كانوا معه في بداية المشوار والطريق، دورة الحق والباطل قد تكون أطول من عمر الإنسان؛ إذا كان رمضان يأتي في آب كل ثلاث وثلاثين سنة مرة وإنسان مات وعمره سبع وعشرون سنة قد لا يأتي عليه عام ويرى رمضان في آب ويعيشه، لأن الدورة طويلة، أيضاً الحق والباطل يتصارعان، فقد تمتد جولة الباطل فتكون أطول من جيل كامل لكن حسبنا أننا إذا لقينا الله عزَّ وجلَّ نقول: يارب نحن عشنا في عصر فيه من السوء ما فيه، وفيه من الفتن ما فيه، وفيه من الصوارف ما فيه، وجاءتنا الشياطين لتشغلنا عن ديننا ولكننا بقينا ثابتين صامدين على الحق حتى لقيناك وأنت راضٍ عنا، هذا يكفينا إن شاء الله، وعملنا ما بوسعنا وبذلنا المستطاع في سبيل نصرة أمتنا وعزتها، هذه دروس من الهجرة أسأل الله تعالى أن ينفع بها.
كل عامٍ وأنتم الخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.