نبي الله ابراهيم

  • 2018-08-03
  • عمان
  • مسجد الصالحين

نبي الله ابراهيم


الخطبة الأولى
يا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْد، مِلْء السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ومِلْء ما بينهما وَمِلْء مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْد، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْد، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْد، لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدّ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، غِنَى كُلِّ فَقِير، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيل، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيف، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هداك، وكيف نَذِلُّ في عزك، وكيف نُضامُ في سلطانك، وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك، وأشهدُ أن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خيرَ ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمدٍ وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد فيا أيها الإخوة الكرام: ها نحن نتنسَّم بشائر موسمٍ من مواسم الله، موسمٍ من مواسم الطاعات والبركات، إنه موسم الحج.
أيها الأحباب: هذا الموسم موسم عبادة، هذا الموسم نفحةٌ من نفحات الله التي ينبغي لكل مؤمنٍ سواءً كان من حجاج بيت الله أو لم يكن، أن يتعرَّض لهذه النفحة وألا تفوته خيراتها، يرتبط هذا الموسم باسم نبيٍ كريم نذكره مع نبينا في صلاتنا كل يوم، إنه إبراهيم عليه السلام

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(سورة النحل: الآية 120)

إبراهيم أيها الأحباب: لم يكن فرداً، لم يعش لنفسه، إبراهيم عاش للناس، فكان أمةً اقتدت به أُممٌ إلى يوم القيامة.

كل إنسانٍ يمكن أن يكون أُمةً
كل إنسانٍ يُمكن أن يكون أُمةً
قال يوماً عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إِنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ، فقيل: غَلِطَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)، فَأَعَادَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ، قال: إِنَّ مُعَاذَ كَانَ أُمَّةً أي إماماً في الخير، يدلُّ الناس على الخير، قَانِتًا لِلَّهِ أي مُطِيعًا لِلَّهِ، وقد كان مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كذلك، لذا فقد كنا نشبه مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ بإبراهيم عليه السلام، فكل إنسانٍ أيها الأحباب؛ يمكن أن يكون فرداً، ويمكن أن يكون أُسرةً، ويمكن أن يكون أُمةً، فهذا ليس حِكراً على إبراهيم عليه السلام وحسب، كل إنسانٍ بحسب مكانه، وبحسب موقعه الذي أقامه الله فيه يمكن أن يكون إماماً في الخير، يُعلِّم الناس الخير، فهل كنا أيها الأحباب أئمةً في أُسرنا؟ في عائلتنا الكبيرة؟ في أعمالنا؟ في مجتمعاتنا؟ هل كان كل واحدٍ منا أمةً مقتدياً بأبيه أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام؟ يمكن أن يكون الإنسان أُمةً حينما يفعل الخيرات فيقتدي به الناس، إن اقتدى بك أولادك فأنت أُمةٌ في الخير، لأن أولادك أحبوا الخير من خلالك، وإن اقتدى بك طلابك فأنت أمةٌ في الخير، وإن اقتدى بك الموظفون في معملك أو في شركتك فأنت أمة، وإن اقتدى بك الناس في المجتمع فأنت أمة، فليكن كلُ واحدٍ منا أمة، لماذا نعيش أفراداً ولا نعيش أُمماً في الخير؟ نحن أمةٌ كنا

خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
(سورة آل عمران: الآية 110)

يوم كنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، إذاً مُر بالمعروف وانهَ عن المنكر لتكن أمةً بمفردك.
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ) أي مُطيعاً لله، فكم من إنسانٍ كان إماماً في الشر مقتدياً بفرعون، هذا فرعون

يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ
(سورة هود: الآية 98)

هو إمام قومه لكن في الشر، يتبعه قومه إلى نار جهنم والعياذ بالله، فالعبرة أن تكون (أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ) أي مطيعاً لله تعالى، أن تكون إماماً في الخير، إمام إصلاح، إمام خيرٍ ومحبةٍ وسلام.

الحنيف هو المائل عن الباطل إلى الحق
فضيلة الولاء والبراء يحتاجها كل مؤمن
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا)، (حَنِيفًا): أي مائلاً عن الباطل وأهله إلى الحق وأهله، فإبراهيم أيها الإخوة كان متمثلاً بفضيلة الولاء والبراء التي يحتاجها كل مؤمن، أن توالي أولياء الله تعالى ولو كانوا ضعافاً وفقراء، وأن تتبرأ من أعدائه ولو كانوا أغنياء وأقوياء، كم من شبابنا اليوم مَن ولاؤه للغرب، مَن ولاؤه لعادات الغرب وتقاليدهم

{ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْر ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ }

(أخرجه الطبراني)

وسائل التواصل الاجتماعي دليلٍ على التبعية
وما وسائل التواصل الاجتماعي اليوم إلا خير دليلٍ على تبعية بعض أمتنا للغرب، يوالون أعداء الله ويتبرؤون من أمتهم وقومهم، نحن أمةٌ نامت لكنها لا تموت، نحن من أمةٍ نشرت الخير والحق في ربوع الإنسانية كلها، بل في الأرض كلها يوم تمسكنا بديننا، فليس في ديننا ما يدعو للخجل لنتبرأ منه، لا في حدوده، ولا في واجباته، ولا بأي مفردةٍ منه، حتى نتنازل عنها بدعاوى التجديد والتنوير، وتلك التيارات المشبوهة التي نعلم من يمولها ومن يقف وراءها لتفجير ديننا من داخله، ينبغي أن نعتزَّ بديننا، نحن حنفاء نقتدي بإبراهيم عليه السلام، ما معنى الحنيف؟ يميل عن الباطل وأهل الباطل إلى الحق وأهل الحق، ولو كانت القوة مع أهل الباطل، ولو كانت الغلبة لأهل الباطل اليوم، ولو كانت المدنية عندهم، لكن الحق ليس عندهم، فالحق أيها الإخوة الكرام يصنع قوة لكن القوة لا تصنع حقاً، مهما كنت قوياً فهذا لا يعني أنك على حق، فقوتهم صنعت القنابل الذرية والعنقودية وأفنت البشرية، لماذا يُسلِّطون الضوء على بعض الحوادث في بلادنا وأكثرها هم من يصنعونها؟ لنتناسى جرائمهم المنكرة التي صنعتها مدنيتهم في بلاد المسلمين.
أيها الأحباب: نحن حُنفاء، نقتدي بإبراهيم عليه السلام، نميل عن الباطل وأهل الباطل، ونأوي إلى الحق وأهل الحق، وأجرنا أعظم عند الله عندما يكون الحق ضعيفاً ونقف معه، كم من إنسانٍ يقف مع الحق عندما يكون الحق قوياً؟ كُثر، وعندها يظهر النفاق، لكن عندما يكون أهل الحق ضعفاء، فالحق لا يضعف لكن أهل الحق قد يضعفون، وأنت تقف مع أهل الحق بكل قوتك فأنت حنيفٌ تتشبه بإبراهيم عليه السلام.

التوحيد أعظم العلوم
أعظم علمٍ يمكن أن يصل إليه الإنسان
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كان موحداً، صدقوا أيها الإخوة ما هو أعظم علمٍ اليوم؟ الفيزياء النووية، شبكات الحاسوب الصناعية، إن أعظم علمٍ يمكن أن يصل إليه إنسانٌ في الأرض أن يتحقق من قول: لا إله إلا الله، مهما وصل الإنسان إلى علومٍ فإذا ضاق عقله أن يعلم أنه لا إله في هذا الكون يتصرف إلا الله، فإنه لم يتعلَّم شيئاً والله أيها الإخوة، أعظم علمٍ هو علمُ التوحيد:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ
(سورة الأنبياء: الآية 25)

(لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا) نهاية العلم، (فَاعْبُدُونِ) نهاية العمل، فأعظم علمٍ هو التوحيد، وأعظم عملٍ هو العبادة.

شكر نعم الله تعالى

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
(سورة النحل: الآية 120-121)

(شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ) الصفة الخامسة لإبراهيم عليه السلام هي شكر الله تعالى (لِّأَنْعُمِهِ) العظيمة، منحك نعمة الإيجاد أوجدك:

لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا
(سورة الإنسان: الآية 1)

منحك نعمة الإمداد، أمدَّك بكل ما تحتاجه، منحك نعمة الهدى والرشاد، ألا نشكر الله على نعمائه مقتدين بأبي الأنبياء؟
أيها الأحباب الكرام: إبراهيم عليه السلام (كَانَ أُمَّةً) يوم كسر الأصنام التي كانت تُعبد كآلهة، فأصبح دين الناس هو التوحيد، إبراهيم عليه السلام (كَانَ أُمَّةً) يوم أسكَن من ذريته بواد غير ذي زرع.
إبراهيم عليه السلام (كَانَ أُمَّةً) يوم بنى البيت هو وابنه إسماعيل عليهما السلام.

تنفيذ إبراهيم عليه السلام لأمر الله
روى ابن عباسٍ رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري قال: جَاءَ إبْرَاهِيمُ عليه السلام بهاجر وبِابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وهي تُرْضِعُهُ، حتَّى وضَعَهُما عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ، أي في ظل شجرةٍ كبيرة، فَوْقَ زَمْزَمَ، التي أصبحت زمزم فيما بعد، في أَعْلَى المَسْجِدِ، الذي أصبح مسجداً فيما بعد، وليسَ بمَكَّةَ يَومَئذٍ أَحَدٌ، وليسَ بهَا مَاءٌ، ليس في مكة ماء، وَضَعَها هُنَالِكَ، ووَضَعَ عِنْدَهُما جِرَابًا فيه تَمْرٌ، كم يسع الجراب من التمر؟ ربما عشر تمرات، وسِقَاءً فيه مَاءٌ، أي قربةٌ صغيرة، ثُمَّ قَفَّى إبْرَاهِيمُ، رجع مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقالَتْ: يا إبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنَا بهذا الوَادِي، الذي ليسَ فيه إنْسٌ ولَا شيءٌ؟ فَقالَتْ له ذلكَ مِرَارًا، وجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا.
إبراهيم عليه السلام وحُبّه لله تعالى
إبراهيم - أيها الأحباب - أبٌ يحب رضيعه كما نحب أبناءنا، إبراهيم عليه السلام زوجٌ يحب زوجته كما نحب زوجاتنا، ولكن إبراهيم عليه السلام يحب ربَّه أكثر من كل شيء، وعنده يقينٌ بوعد الله لا يُدانيه يقين، لذلك (أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)، جعل لا يلتفت إليها، خشيَ أن يحنُّ قلبه فيعصي أمرَ ربه، جعل لا يلتفت، فَقالَتْ له أستاذة اليقين: آللَّهُ الذي أَمَرَكَ بهذا؟ كلمةٌ واحدة، أجبني عن سؤالٍ واحد، آللَّهُ أَمَرَكَ بهذا؟ قالَ نَعَمْ، فقط كلمةٌ واحدة، قالَتْ له: إذَاً لا يُضَيِّعُنَا، اذهب، انتهى الأمر لم تعد تناديه، هو ينفذ أمر الله.

ما دام الله هو الآمر فهو الحافظ والضامن
ما دام هو الآمر فهو الحافظ والضامن
أيها الأحباب: هاجر عليها السلام تُعلِّم الأمةً درساً في التوحيد، تُعلِّم الأمةً درساً في اليقين، تُعلِّم الأمةً أن الله تعالى ما دام هو الآمر فهو الحافظ والضامن، أيأمرُك ثم يُضيِّعك؟ حاشاه جلَّ جلاله، أيتها الأم: آللَّهُ أمركِ أن تُربي أبنائكِ وبناتكِ؟ قولي: نعم، إذاً لا يُضيِّعكِ، أيها الأب: آللَّهُ أمرك أن تكون راعياً في بيتك ترعى أهلك وأولادك؟ قل: نعم، إذاً لا يُضيِّعك، أيها الموظف: آللَّهُ أمرك ألا تُضيِّع أوقات المراجعين، وأن تحفظ لهم أعمالهم وأوقاتهم؟ قل: نعم، إذاً لا يُضيِّعك، أيها التاجر آللَّهُ أمرك ألا تغش المسلمين، وألا تعبث بصحتهم، وألا تعبث بحاجاتهم الأساسية وتحتكرها؟ قل: نعم، إذاً لا يُضيِّعك، أيها الطالب آللَّهُ أمرك أن تدرس لتُعلي من شأن أمتك؟ قل: نعم، إذاً لا يُضيِّعك، أيتها الفتاة: آللَّهُ أمركِ أن تتحجبي وتتعففي؟ قولي: نعم، إذاً لا يُضيِّعكِ، حاشاه تعالى أن يأمرك ثم يضيعك.

قصة جليبيب رضي الله عنه
جليبيب رجلٌ به دمامة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفقده النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا جليبيب ألا تتزوج؟ قال: ومن يزوجني يا رسول الله؟ فقيرٌ دميم، قال له: أنا إن فعلتُ تفعل؟ قال: نعم، جاءه رجلٌ من الأنصار قال له: إني أخطب إليك ابنتك، رسول الله يَخطب، قال له: نعم ونعمين لرسول الله، أبشر، قال له: ليس لنفسي أريدها، قال: لمن؟ قال: لجليبيب، قال: جليبيب! إذاً أَسْتَأْمِرَ أُمَّهَا، أشاور أهل البيت، ذهب إلى أمها قال: إن رسول الله يخطب إليكِ ابنتكِ، قالت له: نعم لرسول الله، قال: ولكن ليس لنفسه يريدها، قالت: لمن؟ قال: لجليبيب، قالت: جليبيب! لا والله لا أُزوج جليبيباً، منعناها فلاناً وفلاناً ثم نزوجها جليبيباً؟
الثقة برسول الله صلى الله عليه وسلم
موطن الشاهد، هذه الفتاة تشبه هاجر عليها السلام، كانت خلف الستار تسمع الحديث صرخت يا أبي ويا أمي من خطبني إليكما؟ من الخاطب؟ ليس الزوج، بل من الخاطب؟ تعني ما تقول، قالا: رسول الله، قَالَتْ: أَتَرُدّانَ أمر رسول الله؟ ادْفَعا بي إليه فَإِنَّهُ لَنْ يُضَيِّعَنِي، رجعَ مستبشراً إلى رسول الله قال: قد زوجنا جليبيباً، رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال: اللهُمَّ صُبَّ عَلَيْهَما الْخَيْرَ صَبًّا، وَلَا تَجْعَلْ عَيْشَهَما كَدًّا كَدًّا، ففازا بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دعا داعي الجهاد وذهب جليبيب للجهاد، وبعد انقضاء المعركة قال صلى الله عليه وسلم: من تفقدون؟ قالوا: لا نفقد أحداً، قال: ولكني أفقد جليبيبا،ً قوموا بنا إلى أرض المعركة فوجده شهيداً، رفعه على يديه وقبله من جبينه، وقال: يا جليبيب أنت مني وأنا منك، قال أنس بن مالك: فحفَرنا قبر جليبيب، وما له فراشٌ إلا ذراعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما أحدٌ من الحاضرين إلا تمنى يومها أن يكون مكان جليبيب، أما زوجته أستاذة اليقين فما إن انتهت عدتها حتى خطبها رجلٌ من الأنصار وتزوجها، ولم يجعل الله عَيْشَهَا كَدًّا كَدًّا، وفازت برضا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الشاهد أيها الإخوة لا يُضيع الله عباده.

بناء بيت الله عز وجل
قالَتْ: إذَاً لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حتَّى إذَا كانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ، بعد أن غاب عن أنظارهم حتى لا يتعلق قلبه من جديد، وقف هناك، واسْتَقْبَلَ بوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ودَعَا:

رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ
(سورة إبراهيم: الآية 37)

الهدف الرئيسي أن تُقيم الصلاة
(بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) وإبراهيم عليه السلام همُّه العالي (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) لم يقل ربنا لتطعمهم، (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ)، ثم (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، بدأ إبراهيم بالهدف الرئيسي أن تُقيم الصلاة، على الوجه الذي يرضاه الله، وبعدها من الناحية المعنوية (أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)، وأخيراً الغذاء، المادة (وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، ثم رَجع إلى الهدف الرئيسي (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، بدأ بالله تعالى وانتهى به جلَّ جلاله.
السنَّة التي سنَّتها السيدة هاجر
أيها الأحباب: وجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إسْمَاعِيلَ وتَشْرَبُ مِن ذلكَ المَاءِ، حتَّى إذَا نَفِدَ ما في السِّقَاءِ عَطِشَتْ وعَطِشَ ابنُهَا، وجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ يَتَلَوَّى، من العطش والجوع، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهيةَ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ في الأرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عليه، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ هلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإنْسَانِ المَجْهُودِ حتَّى أَتَتِ المَرْوَةَ، فَقَامَتْ عَلَيْهَا ونَظَرَتْ هلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذلكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَذلكَ سَعْيُ النَّاسِ بيْنَهُما، هذه هي السنَّة التي سنتها هاجر، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ علَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقالَتْ صَهٍ، تُسكتُ نَفْسَهَا، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقالَتْ: قدْ أَسْمَعْتَ إنْ كانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، هل تغيثنا بشي؟ فَإِذَا هي بالمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بعَقِبِهِ، أَوْ بجَنَاحِهِ، حتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وتَقُولُ بيَدِهَا هَكَذَا، فَشَرِبَتْ وأَرْضَعَتْ ولَدَهَا، فَقالَ لَهَا المَلَكُ، هي قالت: إذاً لا يضيعنا، ماذا قال لها الملك؟ قال لها: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، لن تضيعوا مع الله، فهَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِيه هذا الغُلَامُ الرضيع الذي بين يديها، سيبني بيت الله وأَبُوهُ، يَبْنِيه هذا الغُلَامُ وأَبُوهُ، وإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ.

أهل القرآن هم أهل الله
هذا هو الدرس أيها الأحباب ختم به الملَكُ من عند ربّ العزَّة جلَّ جلاله (وإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ)، فكن من أهل الله، كما في الحديث الصحيح:

{ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ }

(رواه بن ماجه)

حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسیَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكیِّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني، واستغفروا الله.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمین، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحین، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّیْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ فِي الْعَالَمِینَ إِنَّكَ حَمِیدٌ مَجِیدٌ.

الدعاء
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سمیعٌ قریبٌ مجیبٌ للدعوات، اللّهم اهدِنا فيمَن هَديْت، وعافِنا فيمَن عافيْت، وتَوَلَّنا فيمَن تَوَلَّيْت، وبارِك لَنا فيما أَعْطَيْت، وقِنا واصْرِف عَنَّا شَرَّ ما قَضَيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنَّهُ لا يذلُّ من واليتَ، ولا يعزُّ من عاديتَ، تبارَكتَ ربَّنا وتعاليتَ، لَكَ الحَمدُ عَلى ما قَضَيْت، وَلَكَ الشُّكرُ عَلى ما أَنْعَمتَ وَأَوْلَيت، نستغفرك ونتوب إليك نؤمن بك ونتوكل عليك، اللهم هَب لنا عملاً صالحاً يُقربنا إليك، يا وَاصِلَ الـمُنْقَطِعِينَ أوْصِلْنَا برحمتك إلَيْكَ، اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتي فِيهَا مَعَاشُنا، وَأَصْلِحْ لنا آخِرَتنا الَّتي فِيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، مولانا ربَّ العالمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم فرِّج عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصرنا على أعدائنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشدٍ يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، اللهم بفضلك ورحمتك فرِّج عن المسلمين يا أرحم الراحمين، أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، وأنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، وفِّق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد.