• 2018-07-27
  • عمان
  • مسجد القاسمي

العين


الخطبة الأولى

يا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْد، مِلْء السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ومِلْء ما بينهما وَمِلْء مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْد، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْد، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْد، لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدّ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، غِنَى كُلِّ فَقِير، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيل، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيف، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هداك، وكيف نَذِلُّ في عزك، وكيف نُضامُ في سلطانك، وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك، وأشهدُ أن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خيرَ ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمدٍ وسلم تسليماً كيثراً.


مقدمة
وبعد فيا أيها الإخوة الكرام: لقد خلق الله الإنسان وجعل له تلك الجوارح التي هي نافذته على العالم الخارجي، والحقيقة التي ينبغي أن تكون في أذهاننا أن هذه الحواس وتلك الجوارح يدنا عليها يد أمانة، وليست يد ملك، ألم يقل تعالى:

إِنَّا لِلَّهِ (156)
(سورة البقرة)

فنحن أيها الأحباب لله:

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)
(سورة الأنعام)

جوارحنا وحواسنا يد أمانة وليست يد ملك
فهذه العين لله، وتلك الأذن لله، وهذه اليد لله، وكل ما كان لله، فلا ينبغي أن تتصرف فيه إلا بما يُشرِّع الله، أرأيت إن كنت في بيتٍ مستأجَر ويدك عليه يد أمانة، هل يحق لك أن تستخدم الأمانة إلا بما يسمح به المالك؟ يدنا أيها الإخوة على جوارحنا وحواسنا يد أمانة وليست يد ملك، لذلك لا ينبغي أن نستخدمها إلا في طاعة الله، وفيما يرضي الله تعالى، أتناول اليوم حاسةً من تلك الحواس، إنها العين، لنأخذها نموذجاً لنتصرف بحواسنا وفق رضا الله، وفق رضا المالك، الخالق، جلَّ جلاله.

العين التي يحبها الله
أيها الأحباب: يقول تعالى:

إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولً(36)
(سورة الإسراء)


1. عينٌ تنظر فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فتعظم الله تعالى وتحبه
العين التي تنظر فيما حولها
العين أيها الإخوة؛ عينان، عينٌ يحبها الله، وعينٌ لا يحبها الله، عينٌ محمودة، وعينٌ مذمومة، نبدأ بالعين المحمودة، أول نوعٍ من العين المحمودة هي العين التي تنظر فيما حولها، في هذا الكون الرحب الفسيح، فتنقل ما تشاهده إلى عقلها تعظيماً لله، وإلى قلبها حباً لله، قال تعالى:

قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ(101)
(سورة يونس)

(انظُرُوا) يأمرنا الله تعالى بالنظر في الكون، فانظر إلى آثار رحمة الله، وانظر كيف يُحْيِي الله الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا.
هذه العين أيها الإخوة؛ تنقل إلى العقل في اليوم آلافاً مؤلفةً من المشاهد، فتُعظِّم الله تعالى، ويمتلئ قلبك حباً لله تعالى، هذه عينٌ يحبها الله.
أما العين التي تنظر ولا تُبصر، تنظر ولا تنقل ما تشاهده إلى الفكر، وإلى القلب، فهي عينٌ مذمومة.
الشمس تكبر أرضنا بمليون وثلاثمئة ألف مرَّة
أيها الأحباب أيها الكرام: الشمس تكبر أرضنا بمليون وثلاثمئة ألف مرَّة تقريباً، وبين الأرض والشمس مسافةٌ تقترب من مئةٍ وستةٍ وخمسين مليون كيلو متر، وهناك في برج العقرب نجمٌ صغير متألق اللون اسمه قلب العقرب يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما، هذا الإله العظيم أيها الإخوة لا يُعصى، هذا الإله العظيم ينبغي أن نحبه، ينبغي أن نتوجه إليه بكُلِّيَتنا.
لذلك أيها الأحباب: أول عينٍ يحبها الله: عينٌ تنظر فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فتعظم الله تعالى وتحبه.

2. عينٌ تغضُّ عما حرم الله تعالى النظر إليه
قال تعالى:

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ(30)
(سورة النور)

فالعين التي يحبها الله لا تنظر إلى ما حرم الله تعالى النظر إليه.
أيها الأحباب: يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

{ حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ }

(رواه الحاكم)

خلق لنا الله آلافاً مؤلفةً من المشاهد من حولنا، وأحلَّ لنا النظر إليها، لكنه حَرَّم النظر إلى امرأةٍ لا تحل لك، صيانةً لنفسك، وصيانةً لعينك، وصيانةً لجوارحك، فالعين عندما تمتثل لأمر الله فلا تنظر إلى عورات الناس، ولا تتتبع عورات الناس، ولا تنظر إلى مفاتن النساء الكاسيات العاريات، هذه عينٌ يحبها الله تعالى.

3. عَينٌ تبكي من خشيَةِ اللَّهِ
يقول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح:

{ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:‏‏"عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏"‏ }

‏(صحيح الترمذي)

{ وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ‏‏إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لاَ تَسْمَعُونَ أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلاَّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ }

(رواه الترمذي بسند صحيح)

ويقول عبد الله بن عوف:

{ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنَ الْبُكَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }

(أخرجه أبو داود بسند صحيح)

مرَّ صلى الله عليه وسلم بإخوانه وهم يدفنون رجلاً فابتدرهم من بين أيديهم، ووقف على القبر فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى مِنْ دُمُوعِهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَيْ إِخْوَانِي، لِمِثْلِ الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا) عَيْنٌ تبكي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.

{ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ، إِذْ بَصُرَ بِجَمَاعَةٍ، فَقَالَ: (عَلاَمَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلاَءِ؟) قِيلَ: عَلَى قَبْرٍ يَحْفِرُونَهُ، فَفَزِعَ رَسُولُ اللهِ، فَبَدَرَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ مُسْرِعًا، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَبْرِ، فَجَثَا عَلَيْهِ، قَالَ الْبَرَاْءُ: فَاسْتَقْبَلْتُهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، لأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى مِنْ دُمُوعِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا قَالَ: (أَيْ إِخْوَانِي، لِمِثْلِ الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا؟) وَفِيْ رِوَاْيَةٍ : فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: (يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا) }

(رَوَاه الإِمَاْمُ أَحْمَدُ فِيْ مُسْنَدِهِ)

العين التي تبكي من خشية الله عينٌ يحبها الله
أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كان يقول: ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا، عُثمَانُ بْنُ عفَّانَ كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ من البكاء، أَبَو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بَكَى فِي مَرَضِ موته، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: مَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى بُعْدِ سَفَرِي وَقِلَّةِ زَادِي، وَأَنِّي أَمْسَيْتُ فِي صُعُودٍ مَهْبُوطَةٍ عَلَى جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ لا أَدْرِي عَلَى أَيَّتِهِمَا يُؤْخَذُ بِي، هذا أبو هريرة رضي الله عنه، وما أدراكم من أبو هريرة!
فاطمة بنت عبد الملك زوج عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، تقول: ما رأيت أحداً أشد فرقاً، أي خوفاً، من ربه من عمر، كان إذا صلى العشاء قام حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ فلم يزل يُصلي ويبكي، وبكى يوماً فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما أصبح قالت: يا أمير المؤمنين بأبي أنت وأمي ما الذي أبكاك؟ قال: ذكرت مُنصرَف القوم بين يدي الله تعالى فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير، فبكيت.
إنه البكاء من خشية الله، العين التي تبكي من خشية الله عينٌ يحبها الله.

4. عَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أو عَيْنٌ بَاتَتْ سَاهِرَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ
العين التي تسهر في سبيل الله يحبها الله
هناك عين جنديٍ عنده مناوبة، يحرُس في سبيل الله، يحمي الأرض ويحمي الناس، عينه تلك يحبها الله، وهناك إنسانٌ في بيته يسهر في سبيل الله في طلب العلم، أمٌ تسهر على راحة أولادها، أبٌ يسهر على مرض ابنه، يبتغي وجه الله، طالبٌ يسهر على دراسته، شيخٌ يسهر يقوم الليل، هذه العين التي تسهر في سبيل الله يحبها الله، فما أدراكم بعينٍ تسهر في سبيل الشيطان والعياذ بالله، تسهر وهي تتابع المحرمات على الشاشات، العين التي تسهر في سبيل الله عينٌ يحبها الله، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

{ حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللهِ }

(رواه الحاكم)


5. عينٌ تبكي عند سماع الحق والقرآن
قال تعالى:

وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ(83)
(سورة المائدة)

فإذا قرأ الإنسان القرآن فتأثَّر، فإذا قرأ الإنسان القرآن فوجل قلبه، أو دمعت عينه، فهذا مما يحبه الله تعالى.
قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً سورة الطور، حتى بلغ قوله تعالى:

إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ(8)
(سورة الطور)

فبكى عمر رضي الله عنه، واشتد بكاؤه.
وقرأ التابعي تميم الداري يوماً سورة الجاثية، فلما قرأ قوله تعالى:

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ(21)
(سورة الجاثية)

ما زال يكررها ويبكي، فالعين التي تبكي عند سماع الحق، وعند سماع القرآن، وتتأثَّر، هذه عينٌ يحبها الله.

6. عينٌ تبكي رحمةً بعباد الله
من لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم
اليوم أيها الأحباب في ديار المسلمين من الضراء واللأواء ما لا يكشفه إلا الله، يريد منا أعداؤنا أن نصل إلى مرحلةٍ نتابع مآسي إخوتنا في بلاد المسلمين؛ في فلسطين، وفي الشام، وفي العراق، وفي غيرها، نتابعها ونحن نرتشف فنجان القهوة، دون أن نتأثَّر، لكن الحق يقتضي أن يتأثَّر الإنسان بمصابٍ حل بإخوانه، فمن لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم، العين التي تبكي من الرحمة عينٌ يحبها الله.

{ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا مَاتَتْ رُقْيَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَقِي بِسَلَفِنَا الْخَيِّرِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ قَالَ: وَبَكَى النِّسَاءُ، فَجَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ: دَعْهُنَّ يَا عُمَرُ، وَقَالَ: وَإِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ؛ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَكُنْ مِنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ وَمِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَهْمَا يَكُنْ مِنَ اللِّسَانِ وَمِنَ الْيَدِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ، قَالَ: فَبَكَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ الدُّمُوعَ عَنْ عَيْنَيْهَا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ }

(رواه أحمد)

إذا أصابت الإنسان مصيبة؛ توفي له قريب فما كان من العين بكاءً ومن القلب حزناً فهو رحمة، أما إذا تحركت اليد للَّطْمِ والعياذ بالله أو تحرك اللسان بكلام لا يرضي الله، لماذا يحصل ذلك؟ ماذا يريد الله منا؟ والعياذ بالله، سوء ظنٍ بالله، هذا من الشيطان، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا }

(رواه البخاري)

تشاهد مُصاباً حل بأمتك، فتدمع عينك، ويحزن قلبك، وتقول ما يرضي ربك:

إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156)
(سورة البقرة)

دون أن نُسيء الظن بربنا.

7. عينٌ تبكي على ما فات صاحبها من الخير
يقول تعالى:

وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ(92)
(سورة التوبة)

يُحب الله من العبد إذا فاته خيرٌ أن يحزن
(وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) بعض أصحاب رسول الله يريدون أن يجاهدوا معه في المعركة، وليس هناك عدةٌ ولا راحلة، جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون الخير، يطلبون أن يجاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ)، قد تفوتك صلاة الفجر وتنام عنها، وقد تفوت غيرك، غيرك لا يتأثَّر، وكأن شيئاً لم يحدث، أما أنت فتحزن لما فاتك من الخير، هذا يُحبه الله تعالى منك، يُحب من العبد إذا فاته عملٌ أو خيرٌ أن يحزن، أما الإنسان الذي يفوته الخير فلا يتأثر، أو ربما قال لك: عندما جمعوا التبرعات لم أكن موجوداً ولله الحمد، هذا مما لا يُحبه الله، يحب الله من عبده أن يتأثر إذا فاته خير، إذا فاته شيءٌ من خير الآخرة، المؤمن لا يبكي على الدنيا، إذا فاته شيءٌ من الدنيا لا يبكي لكن يبكي إذا فاته شيءٌ من الآخرة.
أيها الإخوة الأحباب: هذه أعينٌ يُحبها الله:
1- عينٌ تنظر فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
2- عَيْنٌ تغض النظر عما حرم الله النظر إليه.
3- عينٌ تبكي من خشية الله.
4- عينٌ باتت ساهرةً تحرس في سبيل الله.
5- عينٌ تبكي عند سماع الحق والقرآن.
6- عينٌ تبكي من الرحمة.
7- عينٌ تبكي على ما فات صاحبها من الخير.

أعينٌ لا يحبها الله
أما العين الخائنة، فلا يحبها الله :

يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)
(سورة غافر)

أما العين التي لا تنظر في السماوات والأرض لا يحبها الله :

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ(179)
(سورة الأعراف)

عندما ينظر الإنسان ولا يبصر، لا يتعظ، لا يأخذ عبرةً مما يجري حوله، لا ينتقل من النعمة إلى المنعم، لا ينتقل من المخلوق إلى الخالق، فهذه عينٌ تنظر ولا تبصر.
وهناك عينٌ تنظر في المحرمات:

{ إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ ءَادَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ فَالْعَيْنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا النَّظَرُ، وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا اللَّمْسُ، وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْخُطَى، وَاللِّسَانُ يَزْنِي وَزِنَاهُ الْمَنْطِقُ، وَالْفَمُ يَزْنِي وَزِنَاهُ الْقُبَلُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ }

(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)

(فَالْعَيْنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا النَّظَرُ) وهذه عينٌ لا يحبها الله.
وهناك عينٌ حاسدةٌ تنظر إلى ما أعطى الله لعباده من خير، فتحسدهم ولا تبارك لهم فيه:

وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)
(سورة الفلق: الآية 5)

فهذه عينٌ لا يحبها الله أيضاً.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسیَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكیّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واستغفروا الله.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمین وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحین، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّیْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ فِي الْعَالَمِینَ إِنَّكَ حَمِیدٌ مَجِیدٌ.
أيها الأحباب: منطقتنا العربية تتعرض مساء اليوم لخسوف القمر، وهو علمياً كما تعلمون جميعاً: أن تأتي الأرض بين الشمس والقمر، فتحجب نور الشمس عن القمر، فيخسف القمر، وهذا خسوفٌ كليٌ يستمر أكثر من ساعة وأربعين دقيقة كما سمعت، ولم يحصل منذ قرنٍ من الزمن تقريباً، هذا علمياً.

الكسوف والخسوف في الإسلام
أما شرعياً: فإن النبي صلى الله عليه وسلم حصل في زمنه كسوف الشمس وخسوف القمر، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

{ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَإِنَّهُمَا لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ }

(رواه مسلم)

الشمس والقمر آيتان من آيات الله
(إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الكونية، فالله له آياتٌ في الكون، وله آياتٌ في القرآن، وله آياتٌ في الأفعال، هذه آيةٌ من آياته، (يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَإِنَّهُمَا لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ) كان الشائع عند الجاهليين أنه إذا مات إنسانٌ عزيزٌ في قومه، له مكانة، تنكسف الشمس أو يخسف القمر حزناً لوفاته، ووافق لحكمةٍ جليلة أن حصل الكسوف عند وفاة ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت مناسبةً للناس ليتكلموا بما ألِفوه، هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كسفت الشمس لأجله، النبي صلى الله عليه وسلم كان مشغولاً بوفاة ابنه، حزيناً، كما مر معنا في الخطبة الأولى، بكى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ الْعَيْنَ لتَدْمَعُ)، ولكنه مع ذلك بأبي هو وأمي انتصر للتوحيد مباشرةً ليُعلِّم الناس درساً، فنَبَّهَهُمْ أن الشمس والقمر من آيات الله لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ مِنْ النَّاسِ ولَا لِحَيَاتِهِ، قال: فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ، فشُرعت صلاة الخسوف أو صلاة الكسوف عند كسوف الشمس، أو خسوف القمر، وشُرع فيها الإطالة، يُطوِّل الإنسان في الصلاة والدعاء، وتُشرع جماعةً وتُشرع مثنى، لو أراد الإنسان أن يصلي بأهل بيته عند الخسوف.
النبي صلى الله عليه وسلم أتَى المَسْجِدَ عند الخسوف فَصَلَّى بأَطْوَلِ قِيامٍ ورُكُوعٍ وسُجُودٍ، أطول صلاة صلاها صلى الله عليه وسلم، وقالَ:

{ هذِه الآياتُ الَّتي يُرْسِلُ اللَّهُ، لا تَكُونُ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَياتِهِ، ولَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ به عِبادَهُ، فإذا رَأَيْتُمْ شيئًا مِن ذلكَ، فافْزَعُوا إلى ذِكْرِهِ ودُعائِهِ واسْتِغْفارِهِ }

(صحيح البخاري)

يُشرع أيها الإخوة إذاً الصلاة عند الكسوف، كما يُشرع الدعاء، والاستغفار، والتوبة، لأن الله يرينا آيةَ من آياته تدل على عظمته، وقدرته المطلقة، فينبغي أن ننتبه إلى ذلك، وأن نتوب، وأن نصطلح مع الله، وأن نجعلها مناسبةً للاستغفار، والدعاء، والإكثار من ذكر الله تعالى، والصلاة.

الدعاء
اللّهم اهدِنا فيمَن هَديْت وعافِنا فيمَن عافيْت وتَوَلَّنا فيمَن تَوَلَّيْت وبارِك لَنا فيما أَعْطَيْت وقِنا واصْرِف عَنَّا شَرَّ ما قَضَيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنَّهُ لا يذلُّ من واليتَ، ولا يعزُّ من عاديتَ، تبارَكتَ ربَّنا وتعاليتَ، فَلَكَ الحَمدُ عَلى ما قَضَيْت، وَلَكَ الشُّكرُ عَلى ما أَنْعَمتَ وَأَوْلَيت، نستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، اللهم هَب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم يا وَاصِلَ الـمُنْقَطِعِينَ أوْصِلْنَا إلَيْكَ، دُلَّنا على عملٍ صالحٍ يقربنا إليك، إلا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءٍ قدير، اللهم كن لإخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها عوناً ومعيناً ناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، اللهم أطعم جائعهم واكسُ عريانهم وارحم مصابهم وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبلاً يا أكرم الأكرمين، اللهم انصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل عصيانك، ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر، اجعل اللهم هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وفِّق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد.