أَدِّ الْأَمَانَةَ

  • 2019-09-13
  • عمان
  • مسجد أحد

أَدِّ الْأَمَانَةَ


الخطبة الأولى :

يا ربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض، ومِلء ما بينهما، ومِلء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكُلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نذلُّ في عزك؟ وكيف نُضامُ في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك؟ وأشهدُ أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً، عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).


من عرف الآمر ثم عرف الأمر بادر إلى تطبيق الأمر فوراً :
وبعد فيا أيها الأخوة الأحباب؛ إن الله تعالى يقول في كتابه الكريم:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
[سورة النساء: 58]

وبدأ الأمر بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ليلفت إلى الآمر قبل أن يأمر بالأمر، لأن الإنسان إن عرف الآمر ثم عرف الأمر بادر إلى تطبيق الأمر فوراً دون أن يسأل لا عن حكمةٍ، ولا عن علة، ولا عن سبب، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ سأقارن بين أمرين: إبراهيم عليه السلام أُمر أن يذبح ابنه فبادر إلى التطبيق فوراً:

قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ* فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
[سورة الصافات: 102]

معرفة الآمر تقود لتنفيذ الأمر
لقد ذبح إبراهيم ابنه وإن لم يذبحه فقد بادر إلى التنفيذ فوراً، يذبح ابنه النبي صلوات ربي وسلامه على أنبيائه جميعاً.
الأمر الثاني: أُمِرَ بنو إسرائيل أن يذبحوا بقرة، ليس ابناً، بقرة، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ﴾، الآمر هو الله:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا
[سورة البقرة: 67]

ثم بدؤوا بالتساؤل، ما هي؟ ما لونها؟ أسئلة تلو أسئلة، ثم قال تعالى:

فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ
[سورة البقرة: 71]

انظروا إلى الأمرين ثم انظروا إلى الاستجابتين، استجابة نبي الله إبراهيم لربه، وقد أمر بذبح ابنه، ثم استجابة بني إسرائيل لأمر نبيهم وربهم وقد أُمروا بذبح بقرة، إن الآمر أيها الأحباب عندما يكون عظيماً في نفس الإنسان، وعندما يكون عظيماً في كيانه، وعندما يتغلغل حب الله في أعماقه، فإنه إذا أُمر بأمر فإنه يبادر إلى التنفيذ فوراً، لأن الآمر عظيم، كيف أنك في بيتك ووالدك الكبير في السن، العظيم في الشأن، الذي أنفق حياته خدمةً لأسرته، وبيته، وأولاده، فما أن يهمس ببنت شفة في المجتمعات الإسلامية المتحضرة يريد كأس ماء، أو يريد شيئاً من البيت، إلا وتبادر الجميع لخدمته فوراً، لأن الآمر عندهم عظيمٌ محبوب، نعود إلى الآية:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
[سورة النساء: 58]

فإذا سمع الإنسان هذا الأمر فما عساه أن يفعل إلا أن يَعْظُمَ في عينه أمر الأمانة، وأن يبادر إلى أداء الأمانات، وجاءت الأمانات بصيغة الجمع، لا بصيغة المفرد، فما قال: أن تؤدوا الأمانة بل قال: الأمانات، لأن الأماناتِ متعددةٌ كما سيأتي معنا.

خيانة الأمانة من أعظم الخيانات :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ
[سورة الأنفال: 27]

إن من أعظم الخيانات أن يخون الإنسان الأمانة التي كلف بها.
أيها الكرام؛ ويقول صلى الله عليه وسلم:

{ أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، قال: وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ }

[رواه الترمذي]

الخيانة لا ترد
وهذا ما استدل به بعض الفقهاء على أن الخيانة لا ترد، ولو خانك أحدٌ من الناس فلا ترد له الخيانة، ولا تخن من خانك، فالأمانة أمرها عظيم عند الله تعالى، ولو أن كل إنسانٍ قابل الخيانة بخيانة لعَمَّتْ الخيانة في الأرض.
أيها الأخوة الأحباب؛ ويقول صلى الله عليه وسلم:

{ ألا لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ }

[أخرجه الإمام أحمد في المسند]

{ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ قالوا: بلى يا رسول الله ، قال: مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ }

[رواه الترمذي]


أنواع الأمانة :
1 ـ أمانة التوحيد :
التوحيد أعظم أمانة
والأمانة أنواع ربما لا تتسع الخطبة لها، ولكنني آتي ببعض أنواعها تذكرةً لنا جميعاً، أعظم أمانة أمانة التوحيد، أمانة الفطرة:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ
[ سورة الأحزاب : 72 ]

حمل الإنسان الأمانة، قال بعضهم: الأمانة هنا هي نَفْسهُ التي بين جنبيه، حملها بمعنى أنه قال: يا رب أنا لها، أزكي نفسي، وأحملها على الطاعات، وأمنعها من الدناءات، وأرفعها إلى المكرمات، الأمانة هي النفس، وقال بعضهم: الأمانة هي التوحيد، وقال بعضهم: الأمانة هي أداء ما افترضه الله تعالى، وقال بعضهم: الأمانة هي الدين كله، والمعاني كلها متقاربة، فالأمانة هنا أن تؤدي الأمانة، أمانة التوحيد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، أن تأتي ما أمر، وأن تنتهي عما عنه نهى وزجر، وهذه أعظم الأمانات.

2 ـ أمانة الجوارح :
أيها الأخوة الكرام؛ ومن الأمانات أيضاً أمانة الجوارح، فالله أعطانا هذا الجسد، وهو أمانةٌ بين يديك، ألا يقول:

إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
[سورة البقرة: 156]

جسمنا أمانةٌ بين أيدينا
ما معنى ﴿ إِنَّا لِلَّهِ﴾؟ نحن لسنا ملكاً لأنفسنا، نحن لله، فهذا الجسد هو الذي خلقه، فله ملكه خلقاً وتصرفاً ومصيراً، أنت لا تملك جسمك خلقاً، لم تشارك في خلقه أبداً، ولا تملك التصرف به فهو جل جلاله هو رب هذا الجسد، يطعمه، ويسقيه، ويقوم على أجهزته كلها، فلا تملكه تصرفاً، ثم لا تملكه مصيراً، فأنت إلى الله راجع، فهذا الجسد أمانة وفيه جوارح، فالعين أداء أمانتها أن تغض البصر عما حرم الله، واليد أداء أمانتها ألا تتحرك، وألا تبطش إلا في مرضاة الله، والرجْل أمانتها ألا تمشي إلا لبيوت الله، وإلى الخير، وإلى المعروف، وإلى الإصلاح، ولكنها لا تمشي إلى باطل، ولا تمشي إلى مكانٍ يُدار فيه اللهو واللغو، واللسان أمانته ألا ينطق إلا بالحق، فلا غيبة، ولا نميمة، ولا كذب، ولا بهتان، والأذن أمانتها ألا تسمع إلا الخير والحق، وألا تستمع إلى الفحش من الأقوال الدنيئة، هذه أمانات، جسمنا أمانةٌ بين أيدينا فهل أدّينا حق الأجسام والجوارح؟

3 ـ أمانة الحقوق :
ومن الأمانات أيضاً أمانة الحقوق، والحقوق نوعان: حقوق الله وحقوق الخلق، فإذا أدى الإنسان حق ربه من أداء الطاعات، واجتناب المحرمات، فهذا حق الله، ثم للعباد حقوق وما أكثرها، فللزوجة حق، وللزوج حق، وللأولاد حقوق، وللأرحام حقوق، وللشركاء حقوق، وللناس في الطريق حقوق، وفي المساجد حقوق، وكل الحقوق من الأمانات، النبي صلى الله عليه وسلم يضرب الأمثلة الصغيرة التي لا يُنتبه لها يقول:

{ إذا حدث رجلٌ رجلاً بحديثٍ ثم ألتفت فهي أمانة }

[أبو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ]

الحديث أمانة
حدثك بحديث ثم التفت هكذا ليوحي إليك بأنه لا يريد أن يسمعه أحد، فقط التفت، فقد أصبح الحديث أمانةً بينك وبينه، لا يجوز نشره.
من أشار على أخيه بأمرٍ يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه.
عن أبو هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:

{ مَنْ أَشارَ على أخيهِ بأمر يعلم أن الرُّشْدَ في غيره، فقد خانه }

[ أخرجه أبو داود]

عن أم سلمة قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:

{ المُسْتَشَارَ مُؤتَمَنٌ }

[أخرجه الترمذي]

استشارك في أمر فأشرت عليه بشيء، لكن الرشد والصلاح في غير هذا الشيء، هذه خيانة، العلاقات الزوجية أمانة، إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة رجلٌ يصغي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها، أمانة العلاقات الزوجية.

4 ـ أمانة الولاية :
ومن الأمانات أمانة الولاية، وكلٌ منا ولي، بدءاً بالحاكم في أعلى مستويات القيادة إلى الأب في أسرته، كلنا ولاة، فما منا أحدٌ إلا ولاه الله شيئاً إما ولايةً عامة أو ولايةً خاصة:

{ أبو ذرٍ رضي الله عنه قال: يَا رسول اللَّه، ألا تَستعمِلُني؟ فضَرب بِيدِهِ عَلَى مَنْكبِيه ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ ضَعِيفٌ، وإنَّهَا أَمانةٌ، وإنَّها يَوْمَ القيامَة خِزْيٌ ونَدَامةٌ، إلَّا مَنْ أخَذها بِحقِّها، وَأدَّى الَّذِي عليهِ فِيها }

[رواه مسلم]

الولاية تحتاج إلى قوة و أمانة
أيها الأحباب؛ الولاية تحتاج إلى شيئين: قوة وأمانة:

يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ
[سورة القصص: 26]

ولا نعني بالقوة هنا قوة الجسد، فالخبرة قوة، والعلم قوة، وإتقان العمل قوة، لكن لا تقيد القوة إلا بالأمانة، لذلك قالت: (الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)، فكم من قوي بغير أمانة، وكم من أمين بغير قوة، وكلاهما لا يصلح:

{ سيَأتي علَى النَّاسِ سنواتٌ خدَّاعاتُ يصدَّقُ فيها الكاذِبُ ويُكَذَّبُ فيها الصَّادِقُ ويُؤتَمنُ فيها الخائنُ ويُخوَّنُ فيها الأمينُ وينطِقُ فيها الرُّوَيْبضةُ، قالوا: وما الرُّوَيْبضةُ يا رسول الله؟ قالَ: الرَّجلُ التَّافِه في أمرِ العامَّةِ }

[رواه الألباني]

إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة.

الأمانة تنبع من مراقبة الله تعالى :
أيها الأخوة الأحباب؛ الأمانة تنبع من المراقبة، فمن راقب الله تعالى في كل أحواله كان أميناً على حقوق ربه، وحقوق العباد، من يراقب الله عندها يكون الإنسان أميناً على كل شيء.

{ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ }

[رواه مسلم]

من يراقب الله يكون أميناً على كل شيء.
قال نافع: خرجت مع ابن عمر رضي الله عنهما في بعض نواحي المدينة فوضعوا سفرة من طعام، فمر بهم راعٍ، فقال له عبد الله: هلم يا راع، تعال كُلْ معنا، هذا من أدب الضيافة، مرّ بهم، هلم يا راع، فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره؟ - حر شديد ويصوم نفلاً- قال: في مثل هذا اليوم الشديد حره؟ فقال هذا الراعي: أبادر أيامي، أيامي هي أيام الآخرة، وأنا أصوم هذا اليوم شديد الحر ليومٍ أشد حراً منه، انظروا إلى فقه هذا الراعي الذي يرعى في شعاب الجبال، كم هو فقيه، هذا هو الفقه خشية الله، قال: أبادر أيامي، فقال له ابن عمر: فهل لك في شاةٍ من شياهك؟- شاة واحدة أعطنا إياها، ونعطيك من لحمها، نأكل وتأكل، تفطر، لعل ابن عمر رضي الله عنهما أراد أن يمتحن هذا الراعي، وجد منه صياماً، وجد منه عبادةً شعائرية، فأراد أن يمتحن معاملته، فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، أراد أن يمتحنه بعدما قال: إني صائم، قال: هل لك من شاة؟ شاة واحدة نأكل منها ونطعمك؟ فقال: إنها لمولاي، هي ليست لي، فقال: فما عسيت أن تقول لمولاك: أكلها الذئب، أعطاه الحجة، فمضى الراعي وهو يرفع إصبعه إلى السماء ويقول: أين الله؟ فأين الله؟ هذا الراعي أيها الأحباب لا يملك شهادات عليا، وربما لا متوسطة ولا دنيا، لكنه يملك شهادة التوحيد، وهي أعظم الشهادات عند الله، هذا الراعي يراقب ربه فرعى الأمانة، قال: أين الله؟ رعاها في غنمةٍ من غنمه.
تسمعون جميعاً وتعلمون قصة بائعة الحليب:
قالــت بنيّـة قومـي فامـذقي اللبنــا الماء سوف يزيد الوزن والثمنــــا قالت لها البـنت: يا أمّــــــاه معـذرةً لقـد نهى عـُمـر أن نخـلط اللّبــنـــا قـالت لها الأم: أنّــــــى يــرى عــمــر صنيعنا إنّـما الفـاروق ليـس هنـا قــالت لهـا البنت: لا تفعــلي أبــــداً الـلّه يـعــلم مـنّـــا السـرَّ والعـلـنــــــــا إن لم يكن عمر الفاروق يبصرنا فـإنّ ربّ أبي حفـص هنـا معـــنــا ***
{ بائعة اللبن - جدة عمر بن عبد العزيز }
إن لم يكن عمر يرانا فإن رب عمر يرانا، هذه هي الأمانة، مراقبة الله في كل حركة وفي كل تصرف، هذه قصة بائعة الحليب تعلمونها، لكن ربما لا يعلم الكثير أن بائعة الحليب هي جدة عمر بن عبد العزيز الخليفة الذي أعاد للأمة الخلافة الراشدة، فعمر عندما سمع هذه الفتاة وهي تقول: إن لم يكن عمر يرانا فإن رب عمر يرانا، رجع إلى بيته وفي الصباح أرسل أسلم الذي كان يرافقه قال: انظر في هذا البيت فانظر من القائل، ومن المقول له، ائتني بالخبر، فجاء البيت فوجد امرأة وابنتها، وابنتها اسمها أم عمارة، فقال: امرأةٌ كبيرة وابنتها، هذا القائل والمقول له، فذهب عمر إلى أبنائه قال: والله لو كان لي حركة إلى النساء لتزوجتها، يقصد الولد الصالح، هذا الذي يقصده عمر رضي الله عنه، ولكن والله لأزوجنها لأحدكم، قال عبد الله بن عمر: لي زوجة، وقال عبد الرحمن: لي زوجة، وقال عاصم: ليس لي زوجة فزوجني، عمر يبحث عن أم عمارة عن بائعة الحليب التي ترعى حق الله، وترعى الأمانة، وتراقب الله، فزوجها لابنه عاصم، فكان من نسلهما ليلى التي تزوجها أحد أبناء بني أمية، فكان من نسلهم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه.
تنتقل الأمانة من جيل إلى جيل
إذاً أيها الأخوة الكرام؛ بائعة الحليب الأمينة هي التي كان من نسلها هذا العظيم الذي أعاد للأمة خيراً كبيراً، هذا الخليفة الراشدي، الذي سمي راشدياً لما كان فيه من الرشد، ولأن جده هذا الخليفة العظيم، هذا الخليفة عمر بن عبد العزيز كان يوماً في مُصلّاه- انظر كيف تنتقل الأمانة جيلاً بعد جيل- فدخلت عليه فاطمة بنت عبد الملك فوجدته جالساً في مُصلاه - زوجه فاطمة- واضعاً خده على يده، ودموعه تسيل على خديه، فقالت له: مالك؟ فقال: ويحك يا فاطمة إني قد وليت أمر هذه الأمة، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهد، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب، والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض، وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمدٌ صلّى الله عليه وسلّم، فخشيت أن لا تثبت لي حجةٌ فرحمت نفسي فبكيت، هذه نتيجة الأمانة.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، ووزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيَتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، وأستغفر الله.
الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

الدعاء :
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، اللهم انصر أخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم انصر أخواننا المرابطين في القدس الشريف وفي المسجد الأقصى على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، واجعلنا يا ربي ممن يرعون أمانة المقدسات، وأمانة الأرض، ولا يفرطون لا في أرضٍ، ولا في عرضٍ يا أرحم الراحمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، اجعل اللهم هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.