في بيت الرسول

  • 2019-10-04
  • عمان
  • مسجد الصالحين

في بيت الرسول


الخطبة الأولى :

يا ربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض، ومِلء ما بينهما، ومِلء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكُلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِ منك الجد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نَذلُ في عزك؟ وكيف نُضامُ في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك؟ وأشهدُ أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً، وبعد عباد الله اتقوا الله فيما أمر، وانتَهوا عما عنه نهى وزجر، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ.


جولة في بيت أقدس وأطهر إنسانٍ عرفته البشرية :
وبعد فيا أيها الأخوة الكرام؛ تعالوا بنا اليوم إلى جولة، جولةٍ في بيت أقدس وأطهر إنسانٍ عرفته البشرية، إلى البيت الذي كان الوحي ينير جنباته، إلى البيت المتواضع ببنائه على الثرى، لكنه يطاول برفعته مقام الثريا، إلى البيت الذي عاش في سعادةٍ غامرة مع أنه لا يملك أي وسيلةٍ من وسائل التواصل الحديثة التي نملكها اليوم، لكنه كان يملك أعظم اتصال بين المخلوق وخالقه، إلى هذا البيت الذي كان في بعض غرفه لا يتسع لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ونوم زوجته، لكنه كان يتسع بنور ساكنه حتى أصبح العالم كله يتمنى لو أنه يملك بيتاً كبيت الرسول، تعالوا بنا إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، روى مسلم في صحيحه:

{ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ؛ أنَّهُ قَالَ يَوْماً: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ أُمِّي؟ قَالَ: فَظَنَّنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ. قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم! قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِيَ الَّتِي كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا عِنْدِي، انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْداً، وَانْتَعَلَ رُوَيْداً، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْداً، فَجَعَلْتُ دِرْعِي في رَأْسِي وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إزَارِي. ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إثْرِهِ، حَتَّى جَاءَ الْبَقيعَ فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ، فَلَيْسَ إلاّ أنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ، فَقَالَ: مَالَكِ؟ يَا عَائِشُ؟ حَشْيا رَابيَةً، قَالَتْ: قُلْتُ: لاَ شَيْءَ، قالَ: لَتُخْبريني أَوْ لَيُخْبرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبيرُ) قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! بأَبي أَنْتَ وَأُمِّي، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟) قُلْتُ: نَعَمْ. فَلَهَدَني في صَدْرِي لَهْدَةً أوْجَعَتْنِي ثمَّ قالَ: أظَنَنْتِ أنْ يَحِيفَ الله عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟) قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ الله. نَعَمْ، قَالَ: فَإنَّ جِبْرِيلَ أتَاني حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي، فأخْفَاهُ مِنْكِ، فأَجَبْتُهُ، فَأخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أنْ تَسْتَوْحِشِي، فَقَالَ: إنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أنْ تَأْتِيَ أهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ؟ يَا رَسُولَ الله! قالَ: قُولِي: السَّلاَمُ عَلَى أهْلِ الدِيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنينَ وَالْمُسْلِمِينَ، ويَرْحَمُ الله الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرينَ، وَإنَّا، إنْ شَاءَ الله، بكُمْ لَلاحِقُونَ }

[رواه مسلم]

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ أنَّهُ قَالَ يَوْماً: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ أُمِّي؟ فَظَنَّنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: - يريد أم المؤمنين عائشة فأمهات المؤمنين أمهات لجميع المؤمنين- أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ الله؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِيَ الَّتِي كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا عِنْدِي- كان في بيتها، في حجرتها- انْقَلَبَ - رجع إلى بيته- فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أنّي قَدْ رَقَدْتُ- أي اعتقد أني قد نمت- فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْداً- بلطف كي لا يوقظها من نومها- وَانْتَعَلَ رُوَيْداً- لبس نعليه رويداً- وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ - أي أغلقه بلطف- رُوَيْداً، قالت عائشة: فَجَعَلْتُ دِرْعِي في رَأْسِي - وضعت حجابها- وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إزَارِي- لبست ثيابها- ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إثْرِهِ- تبعته- حَتَّى جَاءَ الْبَقيعَ - وصل إلى مقبرة البقيع- فَأَطَالَ الْقِيَامَ- وقف في المقبرة طويلاً- ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثلاَثَ مَرَّاتٍ- يدعو- قالت: ثُمَّ انْحَرَفَ - أراد أن يعود- فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ- تسبقه إلى البيت- فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ- زاد في سرعته فأصبح يصدر صوتاً يلهث فأحضرت- فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ- دخلت قبله إلى البيت- فَلَيْسَ إلّا أنِ اضْطَجَعْتُ - لم تلبث أن اضطجعت- فَدَخَلَ، فَقَالَ: مَالَكِ يَا عَائِشُ؟ - وهذا يسمى الترخيم في اللغة، بالعامية اليوم الدلع، اسمه في العربية الترخيم، يحذف شيئاً من حروف الاسم، هذا هو الترخيم- فَقَالَ: مَالَكِ يَا عَائِشُ؟ حَشْيا رَابيَةً- هذا الذي يصيبك الآن تلهثين وأنتِ نائمة لا يصيب إلا من قد أصيب بمرض الربو فيلهث، أين كنت؟- قُلْتُ: لاَ شَيْءَ، فقالَ صلى الله عليه وسلم: لَتُخْبريني أَوْ لَيُخْبرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبيرُ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله بأَبي أَنْتَ وَأُمِّي- أي أفديك بأبي وأمي- فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُه أَمَامِي؟ - كان ظلها أمامه لكنه لم يلتفت صلى الله عليه وسلم- قَالَ: فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُه أَمَامِي؟ فقالت: نَعَمْ، قالت: فَلَهَدَني في صَدْرِي - أي دفعني دفعةً خفيفة في صدري- ثمَّ قالَ: أظَنَنْتِ أنْ يَحِيفَ الله عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟ - هل ظننتِ أن الله يظلمك أو أن رسوله يظلمك؟ ظنت أنه ذهب إلى بيت زوجةٍ أخرى من زوجاته صلى الله عليه وسلم- أظَنَنْتِ أنْ يَحِيفَ الله عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟ - الآن عائشة رضي الله عنها تعلمنا درساً من قصتها- قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ الله، نَعَمْ.
إذا ما خلوْتَ الدّهرَ يوْماً فلا تَقُلْ خَلَوْتَ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِـيبُ ولاَ تحْـــسَبَنَّ اللهَ يغفِلُ ســــاعـــــــةً وَلا أنَ مَا تخفيه عنه يغيب ***
{ ابو العتاهية - شاعر عباسي }
من سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة
قَالَ صلى الله عليه وسلم- يشرح لها قصة خروجه- قال: فَإنَّ جِبْرِيلَ أتَاني حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي، فأخْفَاهُ مِنْكِ، فأَجَبْتُهُ، فَأخْفَيْتُهُ مِنْكِ- كان الحديث بيني وبين جبريل دون أن تعلمي - وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ- انظر إلى أدب الملائكة، وأدب المؤمنين، وأدب المؤمنات، جبريل ملك من ملائكة الله لا يعصي الله ما أمره، ويفعل ما يؤمر، فالملائكة مركبون من عقلٍ بلا شهوة، والحيوانات أجلّكم الله مركبون من شهوةٍ بلا عقل، فلا الملك يحاسب لأنه لا يعصي، ولا الحيوان يحاسب لأنه لا يملك عقلاً، أما الإنسان فقد ركب من عقلٍ وشهوة، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن غلبت شهوته عقله أصبح - نسأل الله السلامة- دون الحيوان- أضل من الأنعام-:

إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً
[ سورة الفرقان : 44]

إذاً أيها الأخوة الكرام؛ قال: فهذا جبريل عليه السلام لم يدخل على عائشة وقد وضعت ثيابها، يقول صلى الله عليه وسلم: وَظَنَنْتُ أنكِ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أنْ تَسْتَوْحِشِي، فَقَالَ جبريل: إنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أنْ تَأْتِيَ أهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ؟- يَا رب كيف أقول لهم؟ عائشة سألته كيف أقول؟- قالَ: قُولِي: السَّلاَمُ عَلَيكم يا أهْلِ الدِيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإنَّا إنْ شَاءَ الله بكُمْ َلاحِقُونَ.

رعاية الإسلام للأسرة و دعمه لها :
الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع
أيها الأخوة الكرام؛ هذه القصة النموذجية تتحدث عن موضوعٍ من موضوعات الأسرة، الأسرة أيها الكرام الخلية الأولى في المجتمع، إنها إن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله، لذلك جاءت التشريعات السماوية لحماية الأسرة، وجاء كثيرٌ من التشريعات الأرضية لهدم الأسرة، لأن بناء الأسرة يبني مجتمعاً نظيفاً، وأهل الأهواء والمصالح لا يروق لهم أن يكون المجتمع نظيفاً، لأن دخلهم يعتمد على فساد الأُسر، لذلك نحن نجد تشريعات أهل الأرض ممن فسد وضل وأضل جاءت لهدم الأسرة، بينما نجد تشريعات السماء تبني الأسرة، وتدعم الأسرة، وتقوي الأسرة، الإسلام أيها الأحباب رعى الأسرة مذ أن تكون فكرة، فما إن يتهيأ الشاب للزواج حتى يبدأ الإسلام برعاية الأسرة فيأمره بحسن الاختيار:

{ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ }

[رواه البخاري]

الإسلام يأمر الشاب بحسن اختيار زوجته
ويتوجه إلى أولياء الفتاة:

وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
[ سورة النور: 32]

ويتوجه إلى الفتاة وإلى وليّها:

{ إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ }

[رواه الترمذي]

الإسلام أيها الأحباب يرعى الأسرة مذ تكون فكرةً في الرؤوس، ثم يرعاها وقد أسست على تقوى من الله، يرعاها بالتوجيهات الحكيمة.
أيها الكرام؛ لو نظرنا في هذه القصة التي تكلمنا عنها، النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجته في هذا البيت الطاهر، في هذا البيت المقدس، كان صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة:

{ إنِّي لَأَعْلَمُ إذا كُنْتِ عَنِّي راضِيَةً، وإذا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قالَتْ: فَقُلتُ: مِن أيْنَ تَعْرِفُ ذلكَ؟ فقالَ: أمَّا إذا كُنْتِ عَنِّي راضِيَةً، فإنَّكِ تَقُولِينَ: لا ورَبِّ مُحَمَّدٍ، وإذا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لا ورَبِّ إبْراهِيمَ، قالَتْ: قُلتُ: أجَلْ واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ، ما أهْجُرُ إلَّا اسْمَكَ }

[رواه البخاري]

ما أهجر إلا اسمك، لكن لا أهجرك من قلبي، هذا بيت النبوة بيته صلى الله عليه وسلم.

العلاقة بين الزوجين ينبغي أن تكون مبنية على الجمال :
العلاقة بين الزوجين علاقة حب ومودة
أيها الأخوة الأحباب؛ روت عائشة والقصة في الصحيح، تروي لرسول الله قصةً عن عشرات النساء، وعن علاقتهن بأزواجهن، كل زوجة وعلاقتها بزوجها، والقصة افتراضية وطويلة في كتب الصحيح، إلى أن وصلت إلى أبي زرع وأم زرع، فحدثته عن علاقةٍ عظيمة، عن علاقة حب، وعن علاقة مودة بين أبي زرع وأم زرع، لكن القصة في نهايتها كانت حزينة، فأبو زرع طلق أم زرع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كنت لك كأبي زرعٍ لأم زرع، اختار أجمل قصةٍ من القصص، كنت لك كأبي زرعٍ لأم زرع غير أني لا أطلقكِ، طمأنها إلى أنها محفوظةٌ في بيتها، وبأنه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يستغني عنها.
الله تعالى حينما وصف في كتابه العلاقة الزوجية في البيت المسلم قال:

هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ
[ سورة البقرة:187 ]

ما معنى اللباس؟ اللباس أيها الأخوة إنما يلبسه الإنسان أول ما يلبسه لأنه ستر، فهو يستره، اللباس ستر، والعلاقة بين الزوجين ينبغي أن تكون علاقة ستر، فلا يجوز للرجل أن يُخرج من أسرار الزوجية إلى خارج البيت، ولا يجوز للمرأة أن ُتخرج من أسرار الزوجية إلى خارج البيت، بل إنه من أعظم الكبائر عند الله أن يفضي الرجل إلى امرأته، وأن تفضي المرأة إلى زوجها، ثم يخرج فينشر سرها والعياذ بالله، هذا الزواج ستر كاللباس، ثم إن اللباس ليس ستراً فقط، لو كان ستراً فقط للبسنا جميعاً كما نلبس عند الإحرام لباس الإحرام، لكن مع الستر جمال:

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا
[ سورة الأعراف:26 ]

﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ ﴾ هذا الستر، ﴿ وَرِيشًا ﴾ هذا الجمال، فاللباس ستر وجمال، والزواج سترٌ وجمال، لذلك أيها الأخوة الكرام ينبغي أن تكون العلاقة بين الزوجين علاقة مبنية على الجمال.

اللباس سترٌ وجمالٌ ولصوقٌ ومواءمة ومناسبة :
النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح قال لزوجته: يا عائشة أتأذنين لي أتعبد لربي؟ الآن سيد الخلق وحبيب الحق يريد أن يقوم الليل، وهل هناك مطلبٌ أعظم من هذا المطلب؟ يريد أن يقوم لصلاة الليل، لكن عائشة لها حقٌ عليه، فأخذ إذنها للقيام لصلاة الليل، ليس للفريضة، للنفل، لقيام الليل، قال يا عائشة: أتأذنين لي أتعبد لربي؟ الآن ماذا تجيبه عائشةٌ رضي الله عنها؟عندها جوابان؛ الأول أن تقول له: آذن لك، والثاني أن تقول له: لا آذن لك، إن قالك له: آذن لك فكأنما جفته، أي قم لا حاجة لي بك، ربما تفهم هكذا، وإن قالت له: لا آذن لك فقد منعته مما يحب، فماذا أجابت عائشة رضي الله عنها؟ قالت: يا رسول الله والله إني لأحب قربك ولكني أُؤْثِرُ ما يسرك، هذا جوابٌ جميل، هذا كلامٌ جميل طيب.
سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه دخل في الصحراء، وهو كان يتفقد رعيته، فرأى خيمةً قد أشعلوا ناراً، فقال لهم: السلام عليكم يا أهل الضوء، ولم يقل: يا أهل النار،هذا كلامٌ جميل، فالجمال يكون في اللباس، والمرأة يطلب منها أن تتجمل في لباسها، والرجل يطلب منه أن يتجمل في ثيابه، والجمال يكون في الكلام، في الكلمة الطيبة في البيت، في الابتسامة الحانية، كله جمال، إذاً اللباس سترٌ، واللباس جمالٌ، وفوق ذلك اللباس لصوق، ما ألصقُ شيءٍ بك الآن؟ ثيابك التي عليك، فألصق شيءٍ بالإنسان ثيابه، فلما قال تعالى:

هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ
[ سورة البقرة:187 ]

يجب أن يكون الزوجان قريبان من بعضهما
فمن معاني اللباس شدة اللصوق، فينبغي أن تكون المرأة قريبةً إلى زوجها، وأن يكون الزوج قريباً إلى زوجته، فيحدثها ببعض شؤونه، وتحدثه ببعض شؤونها ليسمع منها، النبي صلى الله عليه وسلم كان سيد الخلق، وكان قائد الأمة، وكان قائد الجيش، لكنه كان يجلس مع زوجته، ويستمع لها، ويجلس مع أهل بيته ويحدثهم، لأن أهلك ليس لهم إلا أنت، فلابد أن تجلس معهم مهما كانت ظروفك، ومهما كانت أشغالك، وإلا تبدأ الزوجة تحدث جارتها، وتفشي لها أسرارها، ويبدأ الأولاد يتحدثون مع أصدقائهم، ويأخذون تغذيتهم وأفكارهم من الأصدقاء، لابد أن نستمع لهم للزوجة وللأولاد.
الزواج مواءمة
أيها الأخوة الكرام؛ اللباس كما قلنا سترٌ وجمالٌ ولصوقٌ، وأخيراً اللباس مواءمة ومناسبة، أنا لا ألبس ثياباً فضفاضةً ولا ضيقةً، ألبس ما يناسبني، وينبغي في العلاقة الزوجية وداخل الأسرة أن نتواءم، بمعنى أن يتخلى كل طرفٍ من أطراف الأسرة عن بعض عاداته التي تغضب الطرف الآخر، وأن يأتي بالعادات التي ترضي الطرف الآخر، كل طرف، لا أتحدث عن الأمور الشرعية، الأمور الشرعية مفروغ منها، نترك المعاصي، ونلتزم بالفرائض، لكن العادات فقد يكون من عادات المرأة شيءٌ يكرهه زوجها، وقد يكون العكس، فلابد أن نتواءم، وأن نتناسب، هذا هو اللباس، وهذا سر تشبيه العلاقة في الأسرة باللباس:

هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ
[ سورة البقرة:187 ]


تقدير حجم الخطأ و معالجته بقدره وعدم تضخيمه :
أيها الأخوة الكرام؛ العبر في هذه القصة التي رويناها كثيرة وكثيرة جداً، ولكن المقام ضاق عن شرحها، أريد أن آخذ فقط عبرة أخيرة: دائماً قدر حجم الخطأ ولا تضخمه، وعالجه بقدره، كيف ذاك؟ عائشة أخطأت رضي الله عنها وأرضاها، خرجت في إثر رسول الله وذهب ظنها، فهي امرأةٌ في محصلة الأمر، هي أمنا وعلى العين والرأس، لكن هي امرأة غارت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شيءٌ أُودع فيها، فخرجت في إثره، وهذا خطأ لكنه خطأٌ صغير، فالنبي صلى الله عليه وسلم قدر الخطأ بحجمه وعالجه معالجةً خفيفةً في وقتها، وانتهى الأمر، لم يمتد الأمر إلى أيام وأسابيع وشهور ومشكلات وتدخُّل من الأهل، لا، أبداً، عالج الخطأ بسرعة، وقدره بقدره، ثم طمأنها فشرح لها القصة كاملةً، وعلمها دروساً نافعةً وعبراً من خروجه صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، وقال لها: أظَنَنْتِ أنْ يَحِيفَ الله عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟
كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
أنت أخي المؤمن إذا كنت طبيباً في عيادتك تعالج المرضى بصدق وأمانة، فتأكد أنه لن يحيف الله عليك ورسوله، وأنت أخي الموظف إذا كنت تخدم الناس بإخلاص وأمانة وكفاءة فتأكد أنه لن يحيف الله عليك ورسوله، كل إنسان في موقعه عندما يأخذ رعيته على محمل الجد، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فيتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: أظَنَنْتِ أنْ يَحِيفَ الله عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟ حاشاه جل جلاله، وحاشا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يظلم أحداً من خلقه.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، و زِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، وأستغفر الله.
الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

الدعاء :
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيب للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، اللهم انصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى وفي القدس الشريف على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل عصيانك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مستظلاً بكتابك وبمنهج نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم بفضلك ورحمتك كن لإخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها عوناً ومعيناً، ناصراً وحافظاً، مؤيداً وأميناً، اللهم أطعم جائعهم، واكس عريانهم، وآو غريبهم، وارحم مصابهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبلاً، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.