لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ

  • 2019-10-11
  • عمان
  • مسجد عواد النعيمات

لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ


الخطبة الأولى :

يا ربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض، ومِلء ما بينهما، ومِلء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكُلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نذلُّ في عزك؟ وكيف نُضامُ في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك؟ وأشهدُ أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً و نذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً، عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).


حادثة الإفك :
أيها الأخوة الكرام؛ روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قصة خروجها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، التي جاءت بعد غزوة أُحُد، وفي طريق العودة من الغزوة وقبيل الوصول إلى المدينة انقطع عقد السيدة عائشة، وكان عقداً أثيراً على قلبها، تحبه، فبدأت تبحث عن عقدها المفقود، وسار النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ولم ينتبهوا أن عائشة رضي الله عنها ليست في الهودج، الذي يُحمل على الناقة، فساروا ولم ينتبهوا لغيابها، رجعت عائشة إلى مكان الجيش فلم تجد أحداً، فجلست تنتظر في المكان نفسه لعلهم يرجعون بعد أن يفتقدوها، لكن لم يرجع أحد، أخذتها سنةٌ من نوم، وكان صفوان بن المعطل السلمي، أحد الصحابة الكرام، قد تأخّر عن الجيش، فجاء فرأى سواد إنسانٍ نائم، فاسترجع، أي قال:(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، قالت عائشة رضي الله عنها: فلم أستيقظ إلا عند استرجاعه- على صوت استرجاعه- أناخ صفوان راحلته وركبت عائشة عليها، وجعل يقود الناقة حتى أدرك الجيش، بدأ حديث الإفْكِ، بدأ الحديث الذي يمس عفة وطهارة أشرف نساء الأرض عائشة رضي الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولى كِبْرَ هذا الحديث زعيم المنافقين عبدُ اللَّهِ ابنُ أُبَي بنُ سَلُولَ، وصلت عائشة إلى المدينة فمرضت، وهي لا تعلم ما يدور من حديثٍ خلف الكواليس، مرضت شهراً وهي تتعالج، تقول: لا أعرف من رسول صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أعرفه، يدخل فيسلم ويسأل كيف حالكم ويخرج، تكلم الناس، وانتشر الحديث إلى أن بلغ عائشة رضي الله عنها، وتأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لحكمةٍ جليلة، تأخّر الوحي، سوف نأتي على هذه الحكم، تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بشر وزوج، يؤلمه ما يسمع، يؤلمه حديث المنافقين، وهو يعلم أن زوجه طاهرةٌ عفيفةٌ شريفة، ولكن الحديث يدار في المدينة، يؤلمه ما يسمع، وليس عنده وحيٌ يبرئها به، إلى أن دخل عليها وأبوها وأمها عندها، قال: يا عائشة أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا، صارحها وفاتحها بما يدور من حديث، فإنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، هذه ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بربه، إنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وإنْ كُنْتِ ألْمَمْتِ بذَنْبٍ فاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وتُوبِي إلَيْهِ، فإن الله يغفر للعبد إذا تاب وأناب، فلما قضى مقالته، تقول عائشة الطاهرة رضي الله عنها: قَلَصَ دَمْعِي- جفّ دمعي- فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: والله ما أجد ما أجيب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا أجد ما أجيب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة رضي الله عنها- انظروا إلى هذه البلاغة في الكلام- قالت: إني والله لقد عرفت أنكم سمعتم بهذا، بلغني أنكم سمعتم بهذا الإفك، حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فإن قُلتُ لَكُمْ: إنِّي بَرِيئَةٌ، واللَّهُ يَعْلَمُ إنِّي بَرِيئَةٌ، لا تُصَدِّقُونِي بذلكَ، وإني إن اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بأَمْرٍ، بأمرٍ لم أفعله، واللَّهُ يَعْلَمُ أنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي، وإني والله لا أجد لي و لكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف عليهما السلام:

فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ
[ سورة يوسف: 18 ]

قالت عائشة رضي الله عنها: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَأَنَا والله حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتي، انظروا إلى تواضع عائشة قالت: وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ ينْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، قرآن يتلى إلى يوم القيامة يبرّئ عائشة الطاهرة، قالت: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أن ينْزِل فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجلسه، أي لم يتحرك، حتى أنزل الله على نبيه، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يضحك، كان يضحك فَكَانَتْ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أن قال: أبشرِي يا عائشة، أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ، فَقَالَتْ أُمِّي: قُومِي إلى رسول الله، قومي إليه فاشكريه، فقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ ولَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ، وما أنكر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذاك هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، قالت: لَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى قرآناً يتلى إلى يوم القيامة:

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
[ سورة النور: 11 ]


لكلّ واقع حكمة :
لكل واقع حكمة
أيها الأخوة الكرام؛ هل كان من الممكن ألا تفقد عائشة عقدها؟ نعم كان ممكناً، هل كان من الممكن أن تفقده ثم تجده قبل أن يغادر الجيش؟ نعم كان ممكناً، هل كان من الممكن أن يحملوا الهودج فيلاحظوا خفّته فينتظروا عودة عائشة؟ نعم كان من الممكن، ولو حصل أي الخيارات تلك لم يكن هناك حديث إفك أبداً، لكن الله تعالى أراد أن يكون حديثُ الإفك، وأعني بكلمة أراد أنه سمح بوقوع هذا الحدث، لا أعني حاشاه جلّ جلاله أنه رضي بهذا الحديث، أبداً جلّ جلاله، فالله لا يرضى عن الفحشاء والمنكر، ولكنه سمح جل جلاله أن يقع هذا الإفك لحكمٍ جليلةٍ عظيمة، قال تعالى: ﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ ﴾ لكل واقعٍ حكمة، أنت في حياتك في كل يوم تقع معك وقائع، اعلم أن كل واقعة تقع سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الأممي فيها حكمة قد يفهمها الإنسان وقد تغيب عنه، لكن الله تعالى جل جلاله كل أفعاله حكم.

الحِكَم التي نستنبطها من حادثة الإفك :
أيها الأخوة الكرام؛ ما الحِكَمْ التي يمكن أن نستنبطها من حديث الإفك؟ لو لم يكن من حكمة إلا أن يُعَلِّمَ الله الأمة إلى قيام الساعة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يَعْلَمُ الغيب لكفى، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يَعلم الغيب لبرّأ عائشة قبل أن يبرئها القرآن، لكن الله تعالى أراد أن يقول للأمة إلى قيام الساعة إن هذا القرآن وحيٌ من الله تعالى، يأتي في الوقت الذي يريده الله تعالى، ونبيه صلى الله عليه وسلم، وهو سيد البشر وحبيب الحق ينتظر وحي السماء.
حديث الإفك أظهر خبث المنافقين
أيها الأخوة الكرام؛ من الحكم الجليلة لحديث الإفك فضح المنافقين، فالمنافقون قد اندسوا داخل الصف المسلم، لا يعلمهم كثيرٌ من الناس، وانطلت حيلهم على كثيرٍ من المؤمنين، فأراد الله بهذا الحديث الذي استمر شهراً كاملاً أن تُمتحن المدينة كلها، وأن يظهر خَبَثُ المنافقين، وأن يعلم الناس المفسد من المصلح، وأن تقام الحجة على كل منافق، وهذه حكمةٌ من حِكم الله تعالى.
أيها الأخوة الكرام؛ وظهرت في هذه الحادثة كرامة عائشة رضي الله عنها عند الله تعالى، فبرّأها من فوق سبع سماوات ليبقى ذكرها في كتاب الله تعالى إلى يوم القيامة، وليكون حُجَّةً على كل من يبغضها أو يسيء إليها، هذه حكم، لكن من أعظم الحكم التي ينبغي أن نتعلمها من حديث الإفك أن المؤمن حريصٌ على سمعة أخيه المؤمن، يحسن الظن بأخيه المؤمن، قال تعالى مُعقّباً على الحادثة :

لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ
[ سورة النور: 12 ]

المؤمن حريصٌ على سمعة أخيه
ما قال: ظن المؤمنون والمؤمنات بإخوانهم خيراً، قال: ﴿بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ لأن أخاك هو أنت ولأنك أنت أخاك، كيف ذاك؟ لأن سمعته من سمعتك، وكرامته من كرامتك، ولأنك عندما تحافظ على الصف المسلم، وتحافظ على سمعة إخوانك في الدين، ولا تنجرّ وراء الشائعات، ولا وراء الحديث عن إخوةٍ معروفين، مشهوداً لهم بالصلاح، لأنك عندما تفعل ذلك إنما تحافظ على نفسك في الحقيقة، فالله تعالى أمرني ألا أتجسس، وأمر مليار مسلم ألا يتجسسوا عليّ، الله جلّ جلاله أمرني ألا أسرق، وأمر مليار مسلم ألا يسرقوا مني، الله تعالى أمرني أن أحافظ على عفة النساء المؤمنات، وعلى سمعتهن، وألا آتي بحرفٍ يسيء إليهن، وأمر مليار مسلم أن يحافظوا على عفة وطهارة زوجتي وبناتي، هذا هو شرع الله ﴿ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ ظنوا الخير بأنفسهم، لأن ظنهم الخير بعائشة رضي الله عنها هو نفسه الظن بأنفسهم خيراً.
أيها الأخوة الكرام؛

{ يقول صلى الله عليه وسلم: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ }

[متفق عليه]

{ عن صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا }

[رواه البخاري]

علمنا رسول الله ألا نسيء الظن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي مع زوجه صفية بنت حيي، وقد جاءت إليه وهو معتكفٌ في المسجد، فأرادت أن تنقلب فخرج معها يوصلها إلى بيتها ليلاً، فمرَّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا أدباً وحياءً منه صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: على رسلكما هذه زوجتي صفية بنت حيي، قالوا: يا رسول الله سبحان الله! نعلم أنها زوجك، قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكم شراً، فكما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم ألا نسيء الظن، علمنا أيضاً ألا نضع أنفسنا موضع التهمة، فهما متكاملان، لا ينبغي أن أسيء الظن بأخي بل أحمل فعله على أحسن محمل، وفي المقابل ينبغي لي دائماً ألا أفعل فعلاً يحتمل وجهين، أن أكون واضحاً في تصرفاتي وتعاملاتي لاسيما المالية والنسائية، لأن الإنسان يُؤتى من أحد هذين المَزْلَقَيْن إما من فضيحة مالية، أو من فضيحة أخلاقية.

تقسيم الناس إلى أربعة أقسام في الآيات التي نزلت عقب حادثة الإفك :
أيها الأخوة الكرام؛ هذه الآيات التي نزلت عقب حادثة الإفك قسمت الناس إلى أربعة أقسام، فلينظر كل منا في أي قسمٍ هو، في أي حادث إفك يقع اليوم، وما أكثر الإشاعات اليوم، أولاً: أناسٌ حَمَوا ألسنتهم وأسماعهم فسكتوا ولم ينطقوا إلا بخير، هذا موقف الصمت، جاءك خبرٌ مؤلم عن أخٍ لك تعلم صلاحه ودينه، الموقف الأول: أناس صمتوا، تحدث عنهم القرآن، لم يتحدثوا بكلمة لا دافعوا ولا اتهموا، سكتوا.
المجموعة الثانية: سارعوا إلى التكذيب، كذّبوا الحدث، لم يقبلوا به، هذا محال، هذا بهتانٌ عظيم، وصفوا الخبر بالإفك ﴿لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ هؤلاء منهم أبو أيوب كما جاء في الصحيح؛ أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قالت له أم أيوب: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ أجابها: بلى، وذلك الكذب، أي هو الكذب بعينه، قال لها: أكنتِ أنتِ يا أم أيوب فاعلة ذلك؟ - أنتِ تفعلين ذلك؟- قالت: والله ما كنت لأفعله، فقال: فعائشة والله خيرٌ منكِ، سبحان الله هذا بهتانٌ عظيم، فأثبت الله كلام أبي أيوب قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، قالوا:

سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ
[ سورة النور: 16 ]

إذاً الصنف الأول صمت، والثاني دافع، والثالث تحدث بما سمع، تحدث فقط نقل الخبر، جعل يتداوله، هل سمعتم فلاناً ماذا يقال عنه؟ يقال إنه يفعل كذا وكذا، يتداول الخبر ويشيعه في الذين آمنوا، فهؤلاء أيضاً عصاة ذمّهم القرآن الكريم، ظنوا أنهم ناجون، يقول لك: ناقل الكفر ليس بكافر، والمتحدث بالإفك ليس بصاحب إِفك:

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ
[ سورة النور: 15 ]

تناقل سمعة مؤمن أمر عظيم عند الله
عظيمٌ عند الله أن يتناقل الإنسان سمعة مؤمنٍ أو مؤمنة مشهود لهما بالصلاح، ﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾

وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ
[ سورة النور: 16 ]

القسم الرابع والعياذ بالله الذين جاؤوا بالإفك وعلى رأسهم زعيم المنافقين ابن سلول، هؤلاء لعنوا في الدنيا والآخرة:

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
[ سورة النور: 23 ]

هؤلاء أصناف أربعة، قسمٌ صمت، جيد مقبول لم يتحدث بشيء، قسمٌ كذّب الخبر، دافع عن أخيه، هذا الصنف الأعلى والأعظم عند الله، صنفٌ أحب أن تشيع الفاحشة فنشر الخبر، وهو يحسب الأمر هيناً، وهذا عاصٍ ينبغي أن يتوب، وصنفٌ اختلق الإفك وحدّث به واصطنعه فهذا عليه لعنة الله في الدنيا والآخرة، والعياذ بالله.

{ كان النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول- يخاطب الكعبة -: مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بَيَدِهَ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ الله حُرْمَةً مِنْكِ، مَالِهِ وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إلَّا خَيْرًا }

[رواه ابن ماجه]

حسن الظن بالله ثمن الجنة
أيها الأخوة الكرام؛ حسن الظن بالله ثمن الجنة، وحسن الظن بالناس خلقٌ إسلامي رفيع لا يتقنه إلا المؤمنون الصالحون، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيَتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، أستغفر الله.

الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

الدعاء :
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع قريب مجيب للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، اللهم فرج عن المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، ما أهمهم وما أغمهم، أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآو غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبلاً يا أرحم الراحمين، اجعل اللهم هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اجعل هذا البلد مستظلاً بكتابك وشرعة نبيك صلى الله عليه وسلم، وألهم القائمين عليه السداد والرشاد، اللهم أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل عصيانك، ويُؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد.
أقم الصلاة، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.