اوامر الدين ضمان لسلامتنا

  • 2018-05-11
  • عمان
  • مسجد الزميلي

اوامر الدين ضمان لسلامتنا


الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونستهديه، ونسترشده، وَنعَوْذُ باِلله مِنْ شُرُوْرِ أنَفُسِنا وَمِنْ سَيّئِاَتِ أعَمَالنِا، مَنْ يهدِه اللهَّ فلَا مُضِلَّ له، وَمَنْ يضلل فلَن تجَدَ له وَليِّاً مُرْشِدًا، وَأشَهَدُ أنَ لاَ إلِهَ إلِاَ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريِكَ له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ، أو سمعت أذنٌ بخبرٍ، اللهَّمَّ صَلِّ وَسَلمّْ وَباَرِكَ عَلىَ سَيّدِناَ مُحَمَّدٍ وَعَلىَ آلِ سَيّدِناَ مُحَمَّدٍ، وعلى أصحاب سيدنا محمدٍ، وعلى أزواج سيدنا محمدٍ، وعلى ذرية سيدنا محمدٍ وَسَلمَّ تسَليِما كَثيِراً، وبعد؛

أوامر الدين شُرعت لتكون ضماناً لسلامتنا لا حداً لحريتنا:
أيها الأخوة الكرام؛ قد أظلنا شهر كريم، قد أظلنا ضيف عزيز، إنه شهر الخير شهر رمضان.
أيها الأخوة الكرام؛ بادئ ذي بدء:
العباداتُ في الإسلام مُعَلَّلَةٌ بِمَصالحِ الخَلْقِ
{ الإمام الشاطبي }
الشريعة كلها عدلٌ ورحمةٌ وخيرٌ
بمعنى أن كل عبادةٍ شرعها الله عزَّ وجلَّ فهي عبادةٌ لصالحك، هي عبادةٌ فيها مصلحةٌ للخلق، فالله تعالى لا يُشرِّع شيئاً إلا بما فيه الخير والمصلحة، فالإسلام أيها الأخوة والشريعة كلها عدلٌ ورحمةٌ وخيرٌ، وأي قضية أُخرجت من المصلحة إلى خلافها فهي ليست من الشريعة، الشريعة مصلحة، كيف ذلك؟ الله تعالى حرم السرقة إذاً في تحريم السرقة مصلحة، قد يتوهم السارق أن مصلحته في السرقة، لكن السرقة مفسدةٌ للسارق وللمجتمع، فالله لم يُحرم شيئاً إلا لمصلحة، ولم يشرع شيئاً إلا لمصلحة، لمصلحتك أيها الإنسان.
أيها الأخوة الكرام؛ كل أوامر الدين وبما فيها العبادات ومنها الصيام كل أوامر الدين إنما شُرعت لتكون ضماناً لسلامتنا لا حداً لحريتنا، سأوضح ذلك بمثال: لو أن إنساناً يسير بمركبته الشاحنة وجاءه جسر مشاة وهو يسير تحته، وكتب على جسر المشاة: الحد الأعلى أربعة أمتار، وسيارته أربعة أمتار ونصف، يتوقف فوراً، لو أنه جاهل لنظر يميناً ويساراً هل يراه الشرطي، الموضوع هنا ليس موضوع شرطيٍّ يراك، ليس موضوع دولةٍ تراقبك، الموضوع أنك لو مررت ستصطدم سيارتك بالجسر، وستؤذي نفسك وبضاعتك، وستؤدي إلى حادثٍ أليمٍ، فهذا القانون لم يوضع حداً لحريتك وإنما وضع ليضمن سلامتك، كذلك كل أوامر الدين، كلها بلا استثناء، شرع الله الصيام ليس حداً لحريتنا، بل هو ضمانٌ لسلامتنا، شرع لنا الصلاة ضماناً لسلامتنا وليست حدّاً لحريتنا، حرم الخمر ضماناً لسلامتنا، عندما نفقه هذه الحقيقة نكون قد فهمنا الدين تماماً، أنت لا تأتي بأمرٍ من أوامر الدين، ولا تنتهي عن نهيٍ نهى عنه الدين إلا أن تعرف قيمته لحكمةٍ أرادها الله، ولصالحك، سواءً فهمت الحكمة وهذا في الأعم الأغلب أو غابت عنك الحكمة أحياناً وهذا قليلٌ نادرٌ في ديننا.

الحكمة من تشريع العبادات:
أيها الأخوة الكرام؛ العبادات كما قلنا مُعَلَّلَةٌ بِمَصالحِ الخَلْقِ، لماذا شرع الله الصلاة؟ قال تعالى:

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (٤٥)
[سورة العنكبوت]

(عَنِ الْفَحْشَاءِ) في القول، وعن (الْمُنْكَرِ) في الفعل، فالمصلي قوله ليس فاحشاً، والمصلي فعله ليس منكراً، لا يأتي إلا المعروف لأنه عندما يحسن صلته بالله عزَّ وجلَّ يتقي الله تعالى في أن يظلم مخلوقاً، أو أن يتكلم كلمةً تسخط الله تعالى (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).
لماذا شرع الله الزكاة؟ قال تعالى:

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
[سورة التوبة]

المال لا يطهر وفيه حقٌّ للغير
شرع الزكاة ليطهرك لأن المال لا يطهر وفيه حقٌّ للغير، والنفس لا تطهر إلا بالنفقة، ويزكيكم من أجل النماء، من أجل أن ينمي لك مالك في المجتمع، وتنمو نفسك، وتنمو نفس الفقير (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) شرعت الزكاة للطهارة والزكاة، والزكاة هنا بمعنى النماء.
لماذا شرع الله الحج؟ قال تعالى:

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)
[سورة المائدة]

فإذا ذهبت إلى الحج وطفت حول البيت علمت يقيناً أن الله يعلم فتستقيم على أمره.
لماذا شرع الله الصيام ونحن على أعتاب هذا الشهر الجليل؟ قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
[سورة البقرة]

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) أي فرض، (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فالدين عند الله واحد ولكن الشرائع مختلفة (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) شرع الصيام لتحقيق التقوى، شرع الصيام لنتقي الله تعالى، فما التقوى أيها الأخوة؟

تعريف التقوى:
التقوى: اسمٌ من الفعل اتقى، و(اتقى) فعله المجرد وقى، (وقى) أي جعل بينه وبين الشيء الذي يحذر منه وقاية، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:

{ عن عَدِي بنِ حَاتمٍ رضي الله عنه قَالَ: سمعت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بشقِّ تَمْرَةٍ» }

[مُتَّفَقٌ عَلَيهِ]

(اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بشقِّ تَمْرَةٍ) أي اجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، ولو أن تتصدق بنصف تمرة، فهذه الصدقة المخلصة تكون وقايةً بينك وبين عذاب النار، كيف تكون النار أمامك تتوهج فتضع شيئاً، تضع ورقةً من الورق المقوى بينك وبينها هذه وقاية، تتقي النار، كيف تتقي نار الله عزَّ وجلَّ؟ بفعل ما أمر وترك ما عنه نهى وزجر.
تقوى الله تعالى في الصيام
أيها الأخوة الكرام؛ التقوى شرعاً حفظ النفس عما يؤثم وذلك بترك المحظور، أن تترك ما نهى الله عنه، كيف يحقق الصيام ذلك؟ كيف يحقق الصيام ترك المحظور؟ أنت في رمضان أخي الحبيب تدع الطعام والشراب وغير ذلك من المفطرات، الطعام والشراب مباحان، عند الغروب تتعبد الله بالطعام والشراب، تأكل فتعبد الله، إذا أذن المغرب تضع اللقمة في فمك هذه عبادة، لكن قبل المغرب بدقيقة تضع اللقمة في فمك هذه معصية إن كنت قادراً على الصيام، كيف ذلك؟ نحن نترك المباح في نهار رمضان إرضاءً لله، فلأن نترك المحرم من باب أولى، هكذا تتحقق التقوى في الصيام، لأنك عندما يأمرك الله تعالى أن تترك المباح في نهار رمضان من طعامٍ وشرابٍ فتتركه إرضاءً لله فأنت من باب أولى تترك المحظور، تترك الغيبة، تترك النميمة، تترك إطلاق البصر، تترك سماع المحرمات، تترك النظر إلى المحرمات، فتتحقق التقوى في داخلك لله تعالى عندما تقول: سمعاً وطاعةً يا رب سأترك طعامي وشرابي إرضاءً لك.

{ عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلَّا الصَّوْمَ، فَإنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ، ولَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ }

[صحيح البخاري]

لأنه عبادة الإخلاص، تدخل إلى بيتك ظهراً، ولا أحد في البيت يراقبك، والثلاجة فيها ماءٌ باردٌ، وأنت في شوقٍ إلى جرعة ماءٍ باردٍ، والصيف حار؛ لا تشرب، ما الذي دفعك إلى ذلك إلا إرضاء الله تعالى، هذا هو الإخلاص، لذلك الصيام يحقق التقوى بهذا المعنى أيها الأخوة؛ سأل رجلٌ أبا هريرة رضي الله عنه قال: ما التقوى؟ قال: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ أي هل سرت يوماً في طريقٍ فيه أشواك؟ قال: نعم؟ قال: فكيف تصنع؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه- أبتعد عنه- أو جاوزته- أقفز فوقه- أو قصرت عنه- لا أتقدم- يوجد شوك كثير لا أستطيع التقدم، قال أبو هريرة: ذاك التقوى، هذه هي التقوى، نحن في الدنيا في طريقٍ فيه شوك، شوك النظر الحرام، وشوك السمع الحرام، وشوك الطعام الحرام، وشوك، وشوك، وشوك، فنحن نسلك في الدنيا في طريقٍ فيه شوك، فإذا رأيت معصيةً تحيد عنها، هذه هي التقوى، نجعل بيننا وبين عذاب الله وقايةً من خلال ترك المحظور، وهذه العلة التي شُرع من أجلها الصيام (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
أيها الأخوة الكرام؛ سيدنا عليٍّ رضي الله عنه يقول التقوى هي الخوفُ مِنَ الجليلِ، والعَمَلُ بالتَّنزيلِ، والقناعةُ بالقليلِ، والاستعدادُ لِيومِ الرَّحيلِ.
أما ابن مسعودٍ رضي الله عنه فيقول في قوله تعالى:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (١٠٢)
[سورة آل عمران]

أن يطاع فلا يُعصى، ويُشكَر فلا يكفر، ويُذكَر فلا ينسى.

ثمرات التقوى:
أيها الأخوة الكرام؛ إذاً رمضان من أجل تحقيق التقوى، رمضان من أجل الخوف من الله عزَّ وجلَّ، فالذي يترك المباح يترك المحظور من باب أولى، فما ثمرات التقوى؟ إذا تحققت التقوى أيها الأخوة كان لها من الثمرات شيء عجيب.
أولاً: محبة الله، وما أدراك إذا أحبك الله؟ ما أدرانا إذا أحبنا الله أيها الأخوة؟ كيف يكون حالنا في الدنيا وفي الآخرة؟ قال تعالى:

بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
[سورة آل عمران]

الله يحبك إذا اتقيته.
أيها الأخوة الكرام: ومن ثمار التقوى تنزل الرحمات، قال تعالى:

وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
[سورة الأنعام]

فالرحمات تتنزل بالتقوى.
الثالث من ثمرات التقوى: معية الله، معية الله أيها الأخوة نوعان: الأول معيةٌ عامةٌ، فالله مع خلقه جميعاً، الكافر والمؤمن، بل مع خلقه من الحيوانات والبهائم والجمادات والنباتات:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[سورة الحديد]

كل شيءٍ يحصل في الكون هو في علم الله
أي معكم بعلمه، هذه معية العلم، فكل شيءٍ يحصل في الكون هو في علم الله، لكن ليست بطولتك أن تكون في المعية العامة فتلك محققةٌ حتى للكفار، بطولتك أن تكون في معية الله الخاصة، وهي معية التأييد والحفظ والرعاية والنصر، ومن أسباب تحقيق المعية الخاصة التقوى، قال تعالى:

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)
[سورة النحل]

ومن ثمرات التقوى تفريج الكروب وتيسير الأمور:

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2)
[سورة الطلاق]

وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
[سورة الطلاق]

فمن ثمرات التقوى تفريج الكروب، وتيسير الأمور.
ومن ثمرات التقوى: النجاة يوم القيامة.

ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
[سورة مريم]


كيفية الاستعداد لشهر رمضان المبارك:
أيها الأخوة الكرام؛ هذا عن حكمة الصيام وهي تحقيق التقوى، فكيف نستعد لهذا الشهر الكريم؟
حقوق العباد لا تكفي فيها التوبة إلى الله
أولاً: نستعد لهذا الشهر الكريم بالتوبة، فشعبان أيها الأخوة ولا سيما في أيامه الأخيرة هو أيام استعدادٍ لهذا الشهر، إن كان هناك معصية بينك وبين الله فعاهد الله على تركها، (والصلحة بلمحة) كما يقول العوام، لكن إن كان بينك وبين العباد حقٌّ فسارع إلى أدائه قبل رمضان، فحقوق العباد لا تكفي فيها التوبة إلى الله لابد من أداء الحق، أو أن يسامحك صاحب الحق، فاستعدوا لهذا الشهر أيها الأخوة بتوبةٍ نصوحٍ.
التوبة أيها الأخوة؛ علمٌ وحالٌ وعملٌ.
العلم: أن تعلم أن هذا ذنب، هناك أُناس يذنبون ولا يعلمون، هذه مشكلة، يطلق بصره في الحرام فلا يعلم أن ذلك لا ينبغي ولا يجوز للمؤمن، فأول بنود التوبة أن يعلم المؤمن أو الإنسان أن هذا ذنبٌ، ثم يأتي الحال وهو الندم:

{ قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النَّدَمُ تَوْبَةٌ }

[صحيح ابن ماجة]

هذا هو الحال، أما العمل فأن تعقد العزم على ترك الذنب فوراً وتقطع الذنب، وإذا كان هناك حقوقٌ للعباد فأن تبادر لأدائها أو تطلب منهم المسامحة.
أيها الأخوة الكرام: قال تعالى:

وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
[سورة النور]

وفي صحيح مسلم:

{ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلى اللهِ، فإنِّي أَتُوبُ في اليَومِ إلَيْهِ مِئَةَ مَرَّةٍ }

[صحيح مسلم]

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يتوب إلى الله في اليَومِ مِئَةَ مَرَّة، يتوب أي يرجع، معنى التوبة الرجوع، فارجعوا إلى الله عزَّ وجلَّ أيها الأخوة.
الاستعداد لرمضان بالدعاء
الأمر الثاني من الاستعداد إلى رمضان هو الدعاء، نحن في فرصةٍ عظيمةٍ أيها الأخوة؛ كلكم وأنا معكم لو ذكرنا الآن أخوةً كانوا معنا في رمضان الماضي، واليوم ليسوا معنا، كان رمضان الماضي آخر عهدهم، وهم اليوم تحتَ أَطباقِ الثّرى، أسأل الله أن يرحمهم ويرحمنا، لكن الله عزَّ وجلَّ أذِنَ لي ولك برمضانٍ آخر لعله يأذن جلَّ جلاله لنا أن ندرك هذه الأيام الكريمة فهذه نعمة، نعمةٌ عظيمةٌ وأيَّة نعمة، كان السلف الصالح يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان، فيعيشون مع رمضان طوال العام.
أيها الأخوة الكرام؛

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
[سورة البقرة]

الذي يلفت النظر بعد آيات الصيام (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) مباشرةً بعد آيات الصيام يقول تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) ينبغي أن تسأل عن الله في رمضان، وبعد رمضان، وقبل رمضان، ينبغي أن تدعو الله، فالاستعداد لرمضان أولاً: بالتوبة، ثانياً: بالدعاء، ثالثاً: بالفرح:

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)
[سورة يونس]

افرح في بيتك، افرح مع أولادك، مع زوجتك، اجعل البيت فرحاً بدخول رمضان.
رابعاً: إبراء الذمة من الصوم الواجب، إذا كان الإنسان عليه أيام واجبة القضاء ويستطيع أداءها الآن فما زال في الوقت متسع:
وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كما تقول أم سلمة في الصحيح:

{ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: كانَ يَكونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِن رَمَضَانَ، فَما أسْتَطِيعُ أنْ أقْضِيَ إلَّا في شَعْبَانَ }

[صحيح الترمذي]

فالقضاء في شعبان حتى بعد نصف شعبان جائز بل مشروع بل مطلوب، فمن كان عليه دينٌ من رمضان فليقضه الآن.
ثم أيها الأخوة التزود بالعلم، فقه الصيام، مجلس علم، المفطرات، الأمور التي تفطر والتي لا تفطر، سنن الصيام، واجبات الصيام، فمن كان عنده نقص من ذلك فليستعد لرمضان بتعلم فقه الصيام.
ليفرغ القلب في رمضان للعبادة
وأخيراً أيها الأخوة الكرام؛ إبراء المشاكل والانتهاء منها قبل رمضان، أنا أقول للأخوة كنصيحة من القلب للقلب وأنصح بها نفسي أولاً: إذا كان عندك إشكال في علاقةٍ تجاريةٍ إما أن تحله الآن، أو تؤجله إلى ما بعد رمضان، إذا كان عندك مشكلة عائلية الآن أنهها حتى تتفرغ لرمضان، ليتفرغ القلب للعبادة، اجعل رمضان شهر قربٍ من الله عزَّ وجلَّ، شهر خير، محبة، صلح مع الله، فالذي عنده ذمم أمور متشابكة معلقة إما أن يقضيها قبل رمضان إن كانت مستعجلة، أو يؤجلها إلى ما بعد العيد، ليفرغ القلب في رمضان للعبادة، للقيام، للذكر، للصدقة، فأبواب الخير مفتحة والشياطين مصفدة:

{ عن أبي هريرة، أَنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: إِذا جَاءَ رَمَضَانُ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجنَّةِ، وغُلِّقَت أَبْوَابُ النَّارِ، وصُفِّدتِ الشياطِينُ }

[متفقٌ عَلَيْهِ]

حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسیَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكیّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، استغفروا الله.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمین، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحین، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّیْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، فِي الْعَالَمِینَ إِنَّكَ حَمِیدٌ مَجِیدٌ.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سمیعٌ قریبٌ مجیبٌ للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، اللهم ارزقنا توبةً قبل رمضان، اللهم ارزقنا توبةً قبل الممات، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان في عافيةٍ وسترٍ وفضلٍ منك يا أرحم الراحمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، اللهم انصر أخواننا المرابطين في القدس وفي المسجد الأقصى على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم انصر أخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، اجعل اللهم هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد.
والحمد لله رب العالمين