المال في الإسلام

  • 2018-01-12
  • عمان
  • مسجد التقوى

المال في الإسلام


الخطبة الأولى:
يا ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نذل في عزك؟ وكيف نُضام في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمر كله إليك؟ وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً، وبعد فيا أيها الإخوة الكرام:
فالمال قِوام الحياة، تقوم به حياة الناس، لذلك فقد اعتنى الإسلام أيّما عناية بموضوع المال، فجاءت النصوص من القرآن والسنة كثيرة متظافرة لتضع الضوابط في موضوع خطير تقوم به حياة الناس كموضوع المال.

المال مال الله:
بادئ ذي بدء: المال مال الله، وهذه الحقيقة ليست من باب التواضع ولا من باب المجاز، إنما هي حقيقة، كل ما في يدنا من مال سواء كان مالاً منقولاً أو غير منقول كالعقارات والمحلات والبيوت فهو مال الله، ويدنا عليه يد أمانة وليست يد ملك، قال تعالى:

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (33)
(سورة الناس)

فالمال مال الله، أما نحن فمستخلَفون فيه لمدة زمنية محددة، قال تعالى:

آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ(7)
(سورة الحديد)

فما معي ومامعك من مال إنما نحن مستخلفون فيه، أيليق بالإنسان المؤمن أن يتصرف في مال غيره بغير شرعه؟ مادام المال مال الله تعالى، أفنتصرف في المال بغير ما شرع الله! أنت إذا استأجرت بيتاً، البيت يدك عليه يد أمانة، لست مالكاً له، لا تستطيع أن تتصرف فيه إلا بإذن مالكه، تصرفك به محدود، فإذا أيقنا أن المال الذي في أيدينا هو لله تعالى، ألا تقول:

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
(سورة البقرة)

فكل جوارحك، وكل أعضائك، وكل ما في يدك، وكل ما في جيبك هو لله، فتصرّفْ به وفق ما يشرعّ مالكه جل جلاله، هذا الأمر الأول أيها الإخوة.

الله تعالى لكرامة الإنسان جعله مالكاً:
الإنسان إذا ملك فملكه ناقص
الآن لكن الله تعالى لكرامة الإنسان جعله مالكاً، لكن ملك ناقص، كيف الملك ناقص؟ الله تعالى يملك كل شيء خلقاً وتصرفاً ومصيراً، فهو يملك الإنسان خلقه، ويتصرف به كيف يشاء، فهل تملك قطر شريانك التاجي أن يضيق فجأة نسأل الله السلامة، لا تملك ذلك، فالله يملك خلقاً وتصرفاً والمصير إليه، (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) لكن الإنسان إذا ملك فملكه ناقص، قد يملك شيئاً وغالباً ما يملك شيئاً لم ينشئه هو، يملكه لكن ليس هو خالقه بالمعنى المجازي، وقد يتصرف به لكن مصيره ليس إليه، فكل ما في أيدينا سيصير إلى من بعدنا، فالملك ناقص.
لكن الله مالك كل شيء خلقاً وتصرفاً ومصيراً، من كرامة الإنسان على الله تعالى وهو خليفته في الأرض جعله يملك، فملّكه المال، لكنه أعطاه آية قرآنية رائعة، قال:

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
(سورة البقرة)

كيف يأكل الإنسان ماله بالباطل؟ قال العلماء: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم) أي لا تأكل أموال أخيك بالباطل، لكنه سماه مالك من زاوية وجوب الحفاظ عليه، فمالك هو مالي لكن ليس بمعنى أن أستحله معاذ الله، بل بمعنى أن أحافظ عليه كما أحافظ على مالي، كقوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (2)
(سورة النساء)

فإذا قتلت أخاك فكأنك قتلت نفسك، وكقوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
(سورة الحجرات)

فإذا عبت أخاك أو لمزته فكأنك لمزت نفسك، لأن المجتمع المسلم وحدة متكاملة، فما يضرك يضر أخاك، وما يضر أخاك يضرك، هذا هو مجتمع المسلمين.
أكل أموال الناس بالباطل كلمة واسعة
أيها الإخوة الكرام، أكل أموال الناس بالباطل كلمة واسعة، الغش، الرشوة، السرقة، الغصب، الاعتداء على الممتلكات، الأتاوات التي يفرضها البعض على مستثمرٍ جاء إليهم فيفرض عليه الأتاوة ولا بد أن يدفعها، ويقول لك هو يدفعها حتى أحميه، هذا أكل أموال الناس بالباطل، أخذ المال بقوة المنصب وبقوة السلاح دون وجه حق، كله أكلٌ لأموال الناس بالباطل، بل أن تأخذ من مال أخيك بالحياء من غير طيب نفس منه يعطيك ولكن لأنه استحى منك أكل أموال الناس بالباطل، قال صلى الله عليه وسلم:

{ لا يَحِلُّ مالُ امرِيءٍ مُسلمٍ إلَّا بِطِيبِ نفسٍ مِنهُ }

(أخرجه أحمد والبيهقي)

أبداً، أيها الإخوة، وآية أخرى تلفت النظر، يقول تعالى:

إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۚ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
(سورة محمد)

من الذي ولا يسألكم أموالكم؟ الله تعالى، الله تعالى جل جلاله وهو مالكُ مالِك لا يسألك منه إلا ربع العشر 2.5%، لا يقول لك أعطني مالك كله وتصدق به كله، يحترم الخالق جل جلاله ملكيتك للمال، فكيف لا تحترم ملكية أخيك للمال.
أيها الإخوة الكرام، النبي صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فقال:

{ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَومَ النَّحْرِ فَقالَ: يا أيُّها النَّاسُ أيُّ يَومٍ هذا؟، قالوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قالَ: فأيُّ بَلَدٍ هذا؟، قالوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، قالَ: فأيُّ شَهْرٍ هذا؟، قالوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قالَ: فإنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، فأعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقالَ: اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ - قالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا: فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، إنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إلى أُمَّتِهِ، فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ }

(صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس)

كما قال ابن عباس رضي الله عنه.

حرمة المال العام:
حرمة المال العام أعظم من حرمة المال الخاص
أيها الإخوة الكرام، وتزداد حُرمة المال عندما يكون مالاً عاماً، يتخيل البعض أن أكل مال إنسان خاص أعظم عند الله من أكل مال العام، يقول لك: هذا المال ليس لأحد، مال الدولة مثلاً، يرتشي من المواطنين يقول لك: هذا مال العام ليس مالاً محدداً، حرمة المال العام أعظم من حرمة المال الخاص، لأن الذي يطالبك به لأن الذي يأكل والعياذ بالله مالاً حراماً من العام يطالبه به ملايين الناس، أما الذي يأكل مالاً حراماً من شخص معين يطالبه به شخص واحد، فالتوبة سهلة، وإعادة الحقوق سهلة، لذلك أيها الإخوة يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

{ مَنِ استعملناهُ على عملٍ فَرزقناهُ رزقًا ، فمَا أخذ بعدَ ذلكَ فَهوَ غلولٌ }

(صحيح أبي داوود عن بريدة بن الحصيب الأسلمي)

يعني وظيفة وراتب، بعرف اليوم، عمل وأجر (فمَا أخذ بعدَ ذلكَ فَهوَ غلولٌ) سرقة من الغنيمة، كأنه يسرق.

{ مَرّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ َعلَى صُبْرَةِ طَعامٍ فأدْخَلَ يَدَهُ فيها، فَنالَتْ أصابِعُهُ بَلَلًا فقالَ: ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ قالَ أصابَتْهُ السَّماءُ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: أفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعامِ كَيْ يَراهُ النَّاسُ، مَن غَشَّ فليسَ مِنِّي. }

(صحيح مسلم عن أبي هريرة)

أيها الإخوة الكرام:

{ اسْتَعْمَلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ رَجُلًا مِنَ الأسْدِ، يُقَالُ له: ابنُ اللُّتْبِيَّةِ، قالَ عَمْرٌو: وَابنُ أَبِي عُمَرَ، علَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قالَ: هذا لَكُمْ، وَهذا لِي، أُهْدِيَ لِي، قالَ: فَقَامَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ علَى المِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عليه، وَقالَ: ما بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فيَقولُ: هذا لَكُمْ، وَهذا أُهْدِيَ لِي، أَفلا قَعَدَ في بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ في بَيْتِ أُمِّهِ، حتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَنَالُ أَحَدٌ مِنكُم منها شيئًا إلَّا جَاءَ به يَومَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ علَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ له رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إبْطَيْهِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ، هلْ بَلَّغْتُ؟ مَرَّتَيْنِ. }

(صحيح مسلم عن أبي حميد الساعدي)

إن لم يكن موظفاً في هذا المكان لن يُهده أحد، إنما يهدونه ليغض الطرف عن شيء أو ليعطيهم شيئاً ليس لهم، وإلا لما أهدوه.

منهج الإسلام في التعامل مع المال:
هذا منهج الإسلام في التعامل مع المال، فإليكم الآن صورة مشرقة ترسم منهج أمة، لما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة، وهو على فراش الموت دخل عليه مسلمة بن عبد الملك، رجل من الأسرة الأموية الحاكمة وقتها، وقال: إنك يا أمير المؤمنين قد فطمت أفواه أولادك عن هذا المال، ما سمحت لهم أن يأكلوا من بيت مال المسلمين شيئاً، فحبذا لو أوصيت بهم إلي، أو إلى من تفضّله من أهل بيتك، يوصي حتى يكون هناك شخص يرعاهم بعد موتك، فلما انتهى من كلامه قال عمر: أجلسوني فأجلسوه، فقال: قد سمعت مقالتك يا مسلمة، أما إنّ قولك قد فطمت أفواه أولادي عن هذا المال -الآن انظروا- فإني والله ما منعتهم حقاً هو لهم، ولم أكن لأعطيهم شيئاً ليس لهم، أما قولك: لو أوصيت بهم إليّ أو إلى من تفضلهم من أهل بيتك، فإن وصيّ ووليّ فيهم الله الذي نزل الكتاب بالحق وهو يتولى الصالحين، واعلم يا مسلمة أن أبنائي أحد رجلين، صنفين يعني: إما رجل صالح مُتَّقٍ لله، فسيغنيه الله من فضله، وسيجعل له من أمره مخرجاً، وإما رجل طالح، سيئ مكبٌّ على المعاصي، فلن أكون أول من يعينه بالمال على معصية الله، ثم قال ادعُ لي أبنائي، فدعوهم فإذا هم أحد عشر أو بضعة عشر ولداً، فوق العشرة يعني، فلما رآهم عمر ترقرقت عيناه بالدموع، عمر أب يحب أبناءه كما نحب أبناءنا، يرجو لو أنه ترك لهم مالاً وعقاراً، لكنه لن ثنيهم من مال ليس لهم، فترقرقت عيناه بالدموع، ثم قال: أي بني إني قد تركت لكم خيراً كثيراً، أفضل من المال بكثير، ما هو هذا الخير؟ إنكم لا تمرون بأحد من المسلمين أو بأهل ذمتهم، حتى غير المسلمين، إلا رأوا أن لكم عليهم حق، لأنه ترك لهم السمعة الحسنة الطيبة، يقولون هؤلاء أبناء عمر رحم الله والدكم الذي عاش ولم يأكل مالاً حراماً، هذا أفضل من المال، وإن أمامكم خيارين: الآن أنتم أمام خيارين، الأول: إما أن تستغنوا، تصبحون أغنياء، ويدخل أبوكم النار لأنه سوف يعطيكم مالاً ليس لكم، أو أن تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، ولا أحسب أنكم تؤثرون الغنى على أبيكم أن يدخل النار، قوموا حسبكم الله، قوموا رحمكم الله.
الدعوة إلى الحفاظ على المال العام
إخواننا الكرام الآن التفت إليه مسلمة بن عبد الملك قال: أوخير من ذلك يا أمير المؤمنين؟ عندي حل وسط، اسمه حل وسط، قال وما هو؟ قال: لدي ثلاثمائة ألف دينار، وإني أهبها لك ففرقها فيهم، أنا أعطيك إياها وأنت وزعها على أبنائك هذه ليست من بيت مال المسلمين، الآن يوجد حيلة شرعية، مال مني لك، قال عمر أوخير من ذلك؟ قال: وما هو؟ تردها لمن أُخذت منه فإنها ليست لك بحق، أنا أعلم اسم هذا المال، هذا المال فيه شبهة لا يجوز أن تأخذه، رده إلى بيت المال، فبكى مسلمة وقال رحمك الله يا أمير المؤمنين حياً وميتاً فقد ألنت منا قلوباً قاسية وذكرتها وقد كانت ناسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكراً، الآن موطن الشاهد ثم تتبع الناس أخبار أبناء عمر من بعده، الناس بعد هذه الحادثة صاروا يتتبعون أخبار هؤلاء الأحد عشر أو الاثنا عشر ولداً، فقال: فرأوا أنه ما احتاج أحد منهم ولا فقر، وصدق الله تعالى إذ يقول:

وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
(سورة النساء)

أيها الإخوة الكرام، سيدنا عمر بن الخطاب الآن عندما جاءته الغنائم من الفتوحات وُضعت أمامه فرفع الأول رمحه في أول الغنائم، والثاني رمحه في آخر الغنائم، غنائم الفرس، فما رأى صاحب الرمح الأول صاحب الرمح الثاني من كثرة الغنائم، نظر عمر إليها عجيب، قال: إن قوماً أدوا هذا لأُمناء، أمناء كله جاء وكان في الإمكان أن يُسرق، وفي أرض المعركة يختلط الحابل بالنابل كما يقال، فقال له سيدنا علي مقولة رائعة، قال: يا أمير المؤمنين لقد عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا.
فنحن حينما ندعو إلى الحفاظ على المال الخاص ندعو أولاً إلى الحفاظ على المال العام، وندعو كل من مكّنه الله في الأرض أو جعله في منصب أو في مكان يجر قلماً فيُحق حقاً ويبطل باطلاً أن يحافظ على مال المسلمين، لكي ينتشر هذا الأمر في المجتمع فيحافظ الجميع على الأموال، فلا يكون المال دُولةً بين الأغنياء منا فقط، وتُحرم منه الكثرة الكثيرة.
ختاماً أيها الإخوة عمر بن الخطاب أرسل عاملاً، وظّف عاملاً، الآن يرسم للأمة منهجها عمر بن الخطاب يقول له: خذ عهدك وانصرف إلى عملك، هذا كتاب التعيين، كتاب التعيين موقّع من عمر بن الخطاب، خذ عهدك وانصرف إلى عملك، ابدأ بعملك، قال واعلم أنك مصروفٌ رأس سنتك، يعني كتاب التعيين لسنة واحدة فقط ، تجربة، وإنك تصير إلى أربع خِلال بعد السنة أمامك أربع خيارات فاختر لنفسك:
إن وجدناك أميناً، ضعيفاً، استبدلناك لضعفك، لا ينفع أن يكون ضعيفاً ولو كان اميناً، نستبدلك، وسلّمتك من معرتنا أمانتك. لا نعاتبك أبداً لأنك أمين ما سرقت.
وإن وجدناك خائناً قوياً، استهنّا بقوّتك، لا نحتاج قوتك، وأوجعنا ظهرك وأحسنّا أدبك، لأنك سرقت من مال ليس لك، وإن جمعت الجُرمين، خائن وضعيف معاً، جمعنا عليك المضرّتين، عزلناك وأوجعنا ظهرك، وأحسنا أدبك، وإن وجدناك أميناً قوياً، زدناك في عملك، نفذنا كتاب التعيين، ورفعنا لك ذكرك وأوطأنا لك عقبك.

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْت الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
(سورة القصص)

لا تنفع القوة بغير أمانة، ولا تنفع الأمانة بغير قوة، لكن يُسلّم الإنسان من الحساب بين يدي الله إن كان أميناً ولو كان ضعيفاً، ولكن لا ينبغي له أن يستلم منصباً.

الخطبة الثانية:
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبو، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطّى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكَيِّسُ من دان نفسَه وعَمِلَ لما بعدَ الموتِ، والعاجزُ من أَتْبَعَ نفسَه هَوَاها وتَمَنَّى على الله الأماني، استغفروا الله. .

الدعاء:
الحمد لله رب العالمين، والشكر لله لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع قريب ومجيب للدعوات، اللهم برحمتك عمّنا، واكفنا اللهم شرّ ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفّنا، نلقاك وأنت راض عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانتين، ولا تُغررنا بالسنين، ولا تعاملنا بفعل المسيئين، اللهم زدنا ولا تنقصنا برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم اجعل هذا البلد آمنا سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى على أعدائك وأعدائهم يارب العالمين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها فرج عنهم فرجاً عاجلاً غير آجلٍ يا أرحم الراحمين، أطعمْ جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبلاً وسهماً صالحاً يا أكرم الأكرمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.