شفاعته صلى الله عليه وسلم

  • 2019-11-15
  • عمان
  • مسجد الصالحين

شفاعته صلى الله عليه وسلم


الخطبة الأولى :
يا ربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض، ومِلء ما بينهما، ومِلء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكُلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نذلُّ في عزك؟ وكيف نُضامُ في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك؟ وأشهدُ أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً و نذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً، عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

ثلاث شخصيات في حياة كل إنسان :
أيها الأخوة الأحباب؛ في حياة كُلٍّ منّا ثلاث شخصيّات: شخصيّةٌ يكونها، وشخصيّةٌ يكره أن يكونها، وشخصيّةٌ يحب أن يكونها.
كُلٌّ منّا له ثلاث شخصيّاتٌ؛ فأمّا الشخصية التي يكونها فهي أنت وأنا، واقعنا بما فيه من إيجابياتٍ وسلبيات، بما فيه من محاسن ومساوئ، هذه الشخصيّةُ التي يكونها الإنسان.
وهناك شخصيّةٌ يكره أن يكونها؛ والمؤمن إذا نظر إلى البعيد عن الله، الشارد عن منهج الله، الّذي انغمس في ملذّاته إلى قمّة رأسه ونسي ربّه، ونسي الحساب، وأساء إلى خلق الله، فإنه يكره أن يكون تلك الشخصيّة، لا يحب أن يكونها.
المؤمن يتطلّع دائماً إلى الأسوة والقدوة
وأما الشخصيّة التي يتمنّى الإنسان أن يكونها فهي ما يُعبّر عنه بالقدوة الحسنة، أو بالأسوة الحسنة، فما منّا واحدٌ إلّا ويتطلّع إلى أن يكون أفضل مما هو عليه، المؤمن لا ينظر في الدنيا إلى من هو أفضل منه حالاً بمالٍ جمعه، ولا بمنصبٍ تملّكه، ولكن الشخصية التي يحب أن يكونها هي الشخصية الأعظم أخلاقاً، والأقرب إلى الله، والأقرب إلى الكمال البشري، هذه الشخصية التي يتمنّى أن يكونها، ويرجو أن يكونها، المؤمن يتطلّع دائماً إلى الأسوة والقدوة، يتطلّع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهو يتمنى أن يقترب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً من شخصية هذا النبي العظيم الكريم.
أيها الكرام؛ يقول تعالى في كتابه الكريم:

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
(سورة التوبة: الآية 128)

هذه شخصية النبي صلّى الله عليه وسلّم يَعِزُّ عليه ويَصْعُبُ عليه أن يرى عَنَتَ الناس، وأن يرى بعدهم عن الحق، فهو يريد أن يهديهم إلى الصّراط المستقيم:

وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
(سورة الشورى: الآية 52)

يريد أن يقرّبهم إلى الله تعالى، فمتى ابتعدوا أو شردوا فإنّه يكاد يُهلك نفسه صلّى الله عليه وسلّم حسراتٍ عليهم.
يقول تعالى:

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا
(سورة الكهف: الآية 6)

{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} أي مُهْلِكٌ نفسك، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم هو سيّد البشر وقِمّة البشر، أُمِرنا أن نتأسّى به، لأنه صلّى الله عليه وسلّم بشر، قال صلّى الله عليه وسلّم:

{ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ }

(رواه مسلم)

لكنّه صلّى الله عليه وسلّم انتصر على بشريّته فكان بحقٍّ سيد البشر.

محبة رسول الله و السعي لنصرة دينه :
أيها الأخوة الأحباب؛ يقول تعالى:

لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا
(سورة الأحزاب: الآية 21)

كلّنا أيها الأحباب نتحرّق شوقاً لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، المؤمنون يتحرّقون حبّاً لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكننا نريد مع التحرّق تحركاً، لا نريد أن نتحرّق فحسب، وهذا مقامٌ عظيم أن يشتاق الإنسان لرسوله:

{ مِنْ أشَدِّ أُمَّتي لي حُبًّا، ناسٌ يَكونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أحَدُهُمْ لو رَآنِي بأَهْلِهِ ومالِهِ }

(صحيح مسلم)

مرتبةٌ عظيمة أن تتحرّق شوقاً لنبيّك
فمرتبةٌ عظيمة أن تتحرّق شوقاً لنبيّك صلّى الله عليه وسلم، ولكنّ مرتبة أخرى لا تقل عنها بل هما متكاملان أن تتحرّك من أجل نصرة دين نبيك، وشرع نبيك صلّى الله عليه وسلّم، فنحن نريد أن نتحرّق وأن نتحرّك معاً.
أيها الأخوة الأحباب؛ كانت امرأة من الأنصار، من بني دينار، أُصيب زوجها وأخوها يوم أُحُدْ، فلمّا نُعُوا إليها- بُلِّغَت بموتهم - قالت: ما فعل رسول الله؟ قالوا: خيراً يا أمّ فلان، فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه - حتى تطمئن بعينيها- فأشاروا إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل - أي هيّنة-.
أيها الأخوة الأحباب؛

{ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجلٌ إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله: والله إنّك لأحبُّ إليّ من نفسي، وإنّك لأحبُّ إليّ من أهلي ومالي، وأحبُّ إليّ من ولدي، وإنّي لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتّى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنّك إذا دخلت الجنّة رُفِعْتَ مع النّبيين، وأنّي إذا دخلت الجنّة خشيتُ ألا أراك، فلم يردّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشيء حتى أنزل الله قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (سورة النساء: الآية 69) }

(رواه الطبراني)

الله تعالى جلّ جلاله عَلِمَ تحرُّق هذا الرجل، عَلِمَ ما في قلبه من شوقٍ وحبٍّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة جبراً لخاطره ولخاطرنا، بأن المؤمن الحق الذي يحب الله ورسوله، ويتّبع منهج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فهو في الجنّة معه صلّى الله عليه وسلّم.

حبّ النبي حبّ صنع المعجزات :
أيها الأخوة الأحباب؛ وعَقِبَ غزوة بدر اجتمع رهطٌ من قريش لقتل بعض الأسرى في التنعيم، ومنهم زَيْدُ بْنُ الدَّثِنَّة، فقال له أبو سفيان - وكان يومها مشركاً-: أنشدك الله يا زيد - أي أستحلفك بالله- أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا الآنَ في مَكَانِكَ -على خشبة الصلب المعدّة للقتل- فنضربُ عنقه وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ؟ فقَالَ زيد: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ مُحَمَّدًا الآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ، وَأَنِّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يومها: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا.
حبّ النبي صنع المعجزات
هذا هو الحب الذي صنع المعجزات، وهذا هو الحب الذي فتح البلاد، وهذا هو الحب الذي رفرفت بسببه الرايات خافقةً في مشارق الأرض ومغاربها.
نحن اليوم أيها الأحباب ليس عندنا أزمة علم، فالعلم متاحٌ مُباحٌ لمن أراده، أصبح العلم متاحاً، فبضغطة زرٍّ تصل إلى خطبةٍ من مشرق الأرض إلى مغربها، وتسمع درس علمٍ يُلقى في آخر الدنيا، ولكننا بحاجةً إلى هذا الحب الطاهر الذي يسمو بالنفوس، فالإنسان عقلٌ يدرك، وقلبٌ يحب، وجسمٌ يتحرّك، فلا بدّ من أن يغذي عقله بالعلم، ولا بدّ من أن يغذي قلبه بالحب، ويغذي جسمه بالطعام والشراب، هذا هو التكامل.

رحمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم بأمته :
أيها الأخوة الأحباب؛ أيها الأخوة المؤمنون؛ يقول صلّى الله عليه وسلّم كما في صحيح مسلم:

{ مثلي ومثلُكم كمثلِ رجلٍ أوقدَ نارًا، فجعل الفراشُ، والجنادِبُ يقعْنَ فيها، وهو يذُبُّهُنَّ عنها، وأنا آخُذُ بحُجْزِكُمْ عنِ النارِ، وأنتم تفْلِتونَ مِنْ يَدَيْ }

(أخرجه مسلم)

مثلي ومثلُكم كمثلِ رجلٍ أوقدَ نارًا، فجعل الفراشُ والجنادِبُ - نوع من الحشرات- يقعْنَ فيها - الفراش والحشرات تأتي إلى مصدر النار فتقع فيها- وهو يذُبُّهُنَّ عنها - يمنعهن عنها، لا تقتربوا من النار- وأنا آخُذُ بحُجْزِكُمْ - جمع حجزة وهو مَرْبِطْ الإزار، أي يمسك من إزارهم ويشدّهم- عنِ النارِ، وأنتم تفلَّتونَ مِنْ يَدَيْ.
نبي الرحمة
هذه رحمة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأمته، يضرب مثلاً لنا؛ نار موقدة هي نار المعاصي، فالمعصية نار، المعصية جحيم في الدنيا والآخرة، والناس مقبلون على المعاصي كما يقبل الفراش على النار، والنبي صلى الله عليه وسلم يبذل كل جهده فيأخذ بِحجَزِ هؤلاء ويمنعهم عنها، وبعضهم رغم كل هذه الرحمة يتفلّت من يده، ويأبى إلا أن يكون في نار المعصية.

الشفاعة حقٌّ ثابت لا مِراء فيه :
أيها الأخوة الأحباب؛ يقول صلّى الله عليه وسلّم:

{ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ }

(أخرجه مسلم)

ما الذي يكسبك شفاعة رسول الله؟
لعلك تستشعر معي أخي الحبيب هذا المعنى في أنّ نبيّك ونبيي صلّى الله عليه وسلّم يدّخر هذه الدعوة المستجابة لتكون يوم القيامة شفاعةً بين يدي الله تعالى.
الآن أيها الأحباب ما الذي يكسبك شفاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ كلنا يريد هذه الشفاعة، والشفاعة حقٌّ ثابت، ثبت بالنص، لا مِراء فيه، ولكنّ النّاس أيها الأحباب ذهبوا في الشفاعة مذهبين متطرِّفين؛ فبعضهم فهم الشفاعة على أنها أيها المسلم افعل ما شئت فأنت من أمة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وتلك أمّةٌ مرحومة، وهو يشفع لك، ويدخلك الجنّة، أي بالعامّية خذ راحتك في الدنيا فأنت سيُشفع لك يوم القيامة، وهذا فهمٌ سقيم ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعضهم ذهب مذهباً آخر متطرّفاً أيضاً، فأنكر الشفاعة من أصلها رغم أنّ فيها من النصوص الثابتة ما فيها، فالشفاعة حق، ونسأل الله تعالى أن يُشَفِّعَ نبيه فينا يوم القيامة، ولكنّ الشفاعة لا تعني أبداً التساهل في الطاعة، وإنما تعني أن يبذل الإنسان كُلّ وسعه ليكون النبي صلى الله عليه وسلم شفيعاً له يوم القيامة، أن يسعى إلى هذه الشفاعة، أن يبذل جهده من أجل الوصول إليها، لا أن يُقصّر في جنب الله، ويتّكئ على مفهوم الشفاعة، فهذا ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك:

{ أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة يقول: أُمَّتِي أُمَّتِي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك، وفي رواية إنهم بدّلوا بعدك، فيقول سحقاً سحقاً }

(صحيح مسلم)

فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع لقومٍ يُحبّونه، لقومٍ يتّبعون منهجه، لكنّهم قصّروا بعض الشيء، وكُلّنا ذو تقصير، وكلّنا ذو خطأ، فتأتي شفاعته صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة لأمّته من بعده بهذا المعنى أيها الكرام.

أمور توصل الإنسان إلى شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم :
هذه بعض الأمور التي توصلك إلى شفاعة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، يقول صلّى الله عليه وسلّم:

{ مَن قال حِينَ يَسمعُ النِّداءَ: اللهمَّ ربَّ هذه الدعوةِ التامَّةِ، والصَّلاةِ القائمةِ، آتِ محمدًا الوسيلةَ والفضيلةَ، وابعثْه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه؛ حلَّتْ له شَفاعتي يومَ القيامةِ }

(رواه البخاري)

النداء، الأذان.

{ مَن صلَّى عليَّ حينَ يصبحُ عَشراً، وحينَ يُمسي عشراً أدرَكَتْهُ شفاعتي يومَ القيامةِ }

(أخرجه الطبراني)

الشفاعة مرتبطة بصلتك برسول الله
فالشفاعة مربوطةٌ بشيءٍ أيها الأحباب؛ هي ليست اعتباطية، وحاشا لله أن تكون اعتباطية، مربوطةٌ بشيء، مربوطةٌ بصلتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

{ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّا يَقُولُ لِلْخَادِمِ: "أَلَكَ حَاجَةٌ؟" قَالَ: حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! حَاجَتِي؟ قَالَ: "وَمَا حَاجَتُكَ؟" قَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: "وَمَنْ دَلَّكَ عَلَى هَذَا؟" قَالَ: رَبِّي، قَالَ: "إِمَّا لَا! فَأَعِنِّي بِكَثْرَةِ السُّجُودِ }

هذا هو التوجيه أيها الأحباب الذي أردته في المفهوم الصحيح للشفاعة، لمّا قال له: حاجتي أن تشفع لي، ما قال له: قد شفعت لك، ولكنه قال له:

{ فَأَعِنِّي بِكَثْرَةِ السُّجُودِ }

قَدِّمْ السبب، فالشفاعة حق، وهي ثابتة، وسأشفع لك، ولكن أنت لا ترجُها دون عمل، فطلب الشفاعة من غير عمل ذنبٌ من الذنوب:

{ ...قال له: فَأَعِنِّي بِكَثْرَةِ السُّجُودِ }

أكثر من السجود بين يدي ربك
قدّم الذي عندك، أكثر من الطاعات والنوافل، أكثر من السجود بين يدي ربّك فتكون لك الشفاعة إن شاء الله، هذه بعض الأمور التي تكسب المؤمنين شفاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
أيها الأحباب؛

{ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ قوله تعالى على لسان إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فبكى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: أُمَّتِي، أُمَّتِي، ثم قرأ قوله تعالى على لسان عيسى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فبكى صلّى الله عليه وسلّم وقال: أُمَّتِي، أُمَّتِي، فأرسل الله له جبريل ليسأله وهو أعلم جلّ جلاله، فقال: ما يبكيك يا محمد؟ - انظروا إلى مكانة نبيّنا صلى الله عليه وسلّم عند ربّه- فذكر له ما كان، فرجع إلى ربه وهو أعلم فأخبره بما كان، فَقَالَ اللَّه : يَا جبريل اِذْهَبْ إِلَى مُحَمَّد وَقُلْ لَهُ : إِنَّا سَنُرْضِيك فِي أُمَّتك وَلَا نَسُوءك }

(أخرجه مسلم)


أمة النبي قسمان؛ أُمَّةُ التّبليغ وأُمَّةُ الإجابة :
أمّة الاستجابة، كُلِّفَتْ فاستجابت
أُمَّةُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مقسومةٌ إلى قسمين: أُمَّةُ التّبليغ وأُمَّةُ الإجابة، التبليغ: كلّ من وصلته الرسالة فهو من أُمَّتِهِ صلّى الله عليه وسلّم، وأُمَّةُ الاستجابة: نسأل الله أن نكون منها، هو أنتم إن شاء الله الذين ترتادون بيوت الله، وتقومون بالفرائض، وتكثرون من النّوافل، وتُعرضون عن أذى النّاس، وتأتون الخيرات، وتبتعدون عن المنكرات، هذه أمّة الاستجابة، كُلِّفَتْ فاستجابت، فهذه الأمّة أولى بشفاعة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أمّا شفاعته العامّة؛ قد يقول قائل: إنه سيشفع لكل من في قلبه ذرة إيمان وهذا صحيح، ولكن أيها الكرام؛ أيها الأحباب؛

{ يؤتَى يومَ القيامةِ بأنعَمِ أَهْلِ الدُّنيا منَ الكفَّارِ، فيُقالُ: اغمِسوهُ في النَّارِ غَمسةً، فيُغمَسُ فيها، ثمَّ يقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ نعيمٌ قطُّ؟ فيقولُ: لا، ما أصابَني نعيمٌ قطُّ، ويؤتَى بأشدِّ المؤمنينَ ضرًّا، وبلاءً، فيقالُ: اغمِسوهُ غمسةً في الجنَّةِ، فيُغمَسُ فيها غمسةً، فيقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ ضرٌّ قطُّ، أو بلاءٌ، فيقولُ: ما أصابَني قطُّ ضرٌّ، ولا بلاءٌ }

(أخرجه ابن ماجة)

يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا، أكثر إنسان تنعّماً في الدنيا في الأرض فيغمس غمسةً واحدةً في النّار فيقول: لم أر خيراً قط، وهو أنعم أهل الدنيا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع ويُخرج من النّار أقواماً وأقواماً، ويُخرج من كان في قلبه مثقال ذرّةٍ من إيمان، لكننا نريد شفاعته صلّى الله عليه وسلّم بأن نكون من أهل الجنان إن شاء الله، وذلك يكون بأن نكون من أمّة الاستجابة لا من أمّة التبليغ فحسب.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلَموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيَتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، استغفروا الله.

الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

الدعاء :
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيب للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدّين، وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تعاملنا بفعل المسيئين، واجعل اللهم هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، فرج اللهم عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم فرّج عن إخواننا في كلّ مكان، اللهم فرّج عن إخواننا في فلسطين، اللهم فرّج عن إخواننا المستضعفين في غزّة، الّلهم ارحم شهداءهم، واشف جرحاهم، وتقبّلهم عندك بخير ما تتقبل به عبادك الصالحين، اللهم حرّر المسجد الأقصى من أيدي اليهود الغاصبين، واجعل لنا في ذلك سهماً متقبّلاً عندك يا أرحم الرّاحمين، وانصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصرنا على عدوّنا، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.