القَسَم في الجزء الثلاثين - اللقاء الثالث

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-09-11
  • عمان
  • الأردن

القَسَم في الجزء الثلاثين - اللقاء الثالث

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، وبعد:
فهذا هو اللقاء الثالث من لقاءات القَسم في الجزء الثلاثين من كتاب الله تعالى، وقد تحدثنا عن عدة سور في اللقاءات السابقة ووصلنا إلى سورة البلد، من السور التي تحوي في مفتتحها أو ضمنها قَسماً، حلفاً، يميناً، وقلنا إن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته، والإنسان المؤمن لا يقسم إلا بالله تعالى.

{ من كان حالفًا فلْيحلفْ باللهِ أو ليصمتْ. }

(أخرجه الترمذي)


القسم في القرآن للفت النظر إلى عظمة المُقسَم به:
والله تعالى عندما يقسم بشيء من مخلوقاته فما ذلك إلا ليلفت نظرنا إلى عظمة المُقسَم به، فعندما يقول:

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا(1)
(سورة الشمس)

وكأنه يقول جل جلاله يا عبادي انظروا إلى عظمة الشمس، فعظِّموا الخالق من خلال تعظيمها، وعندما يقول:

وَالضُّحَىٰ (1)وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ(2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3)
(سورة الضحى)

فإنما يلفت نظرنا إلى هاتين الآتين من آياته الكونية، لأن الله تعالى يعرفنا على ذاته من خلال خلقه، فالقَسم في القرآن هدفه لفت النظر إلى عظمة ما يقسم الله تعالى به، وليس هدفه أبداً أن نصدق الله تعالى، فالله تعالى ليس من هو أصدق منه:

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا(87)
(سورة النساء)

القسم هدفه لفت النظر إلى عظمة المقسم به
ولا يحتاج القَسم واليمين، وإنما يقسم لبيان عظمة المُقسَم به، فالإنسان لا يقسم إلا بعظيم، حتى عندما يخطئ شرعاً ويريد أن يعظّم شيئاً فيقسم به، فيقسم بحياة أمه مثلاً، لأن أمه عنده عظيمة، ولكن هذا لا يجوز كما قلنا لأن القَسم العظيم في نفس المؤمن الذي يؤمن به هو الله وحده، وما سواه فهو دونه، لكن حتى الإنسان عندما يقسم ولو أخطأ في قسمه فإنما يقسم بعظيم، وعندما يقسم القَسم الشرعي فيقول: "والله" فإنما لأن الله عظيم عنده، وعند من يستمع إليه، فيصدقه عندما يسمعه يقسم بالله تعالى.
فالقَسم في القرآن هدفه لفت النظر إلى عظمة المقسم به، وقلنا أن أسلوب القسم يتضمن حرف القسم؛ واو، تاء، باء، والله، تالله، بالله، ثم يكون المقُسَم به، والشمسِ، الشمس مقسم به، ثم يكون جواب القسم، كأن يقول قائل: "والله إني أحبك"، فالواو حرف قسم، الله: لفظ الجلالة مقسم به، وجواب القسم: إني لأحبك، فهو أسلوب في اللغة العربية: حرف قسم، مقسم به، مقسم عليه.
وانطلقنا من أننا نريد أن نبحث في الجزء الثلاثين عن العلاقة دائماً بين المُقسَم به والمُقسَم عليه، يعني نلمح هذه العلاقة لماذا أقسم هنا بالليل؟ هنا بالشمس؟ هنا بالبلد؟ وهكذا...

القَسَم في سورة البلد:
السورة اليوم هي سورة البلد، قال تعالى:

لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ(1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2)وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)
(سورة البلد)

جواب القسم:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
(سورة البلد)


البلد هو مكة المكرمة:
﴿لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ﴾ قلنا لا أقسم أي أقسم في القرآن، فهو أسلوب قرآني ليست لا النافية، وإنما "لا" للتأكيد، لتأكيد القسم، "لا أقسم" أي أقسم قسماً مؤكداً بهذا البلد، والبلد هو البلد الأمين الذي أقسم الله تعالى به في سورة التين فقال:

وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ(3)
(سورة التين)

وهو مكة المكرمة، وهو بيت الله الحرام، وهو الحرم الآمن الذي جعله الله حرماً آمناً، فالله تعالى يقسم هنا بمكة، بهذا البلد، وكيف لا يقسم الله تعالى به وكيف لا يعظمه المولى جل جلاله وهو ذاك البيت الذي أول ما وضع للناس:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ(96)
(سورة آل عمران)

عظمة المضاف من عظمة المضاف إليه
وكيف لا نعظمه وقد عظمه المولى جل جلاله عندما جعل أنوار الإسلام تسطع منه ابتداءً، ﴿وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ وكيف لا نعظمه وفيه آيات بينات، ومنها مقام إبراهيم حيث قام إبراهيم يبني البيت، وإبراهيم أبو الأنبياء جميعاً ونذكره في كل صلواتنا ونقول: "الله صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم" فهذا البلد له مكانة كبيرة عند الله، لأنه بيت الله المعظم، ولأن هذا البيت شعّ منه نور الإسلام، ونور الهداية إلى العالمين ﴿وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ وليس للعرب فقط، فلذلك يقسم الله تعالى بهذا المكان، والحقيقة أن المكان شرفه من شرف ما يضاف إليه، فأنت إذا قلت بيت، فكلمة بيت وحدها ليس فيها تعظيم لك في ذاتها، لكنك إذا قلت: بيت أبي، فإنك تعظم هذا البيت لأنه بيت أبيك، فعظمة المضاف من عظمة المضاف إليه، وإذا قلت: بيت الوزير فيعني يصبح للبيت مكانة أخرى في داخلك، فإذا قلت: هذا بيت الملك، ملك من ملوك الأرض فيعظم أكثر من عظمة بيت الوزير، وهكذا.. فماذا إذا قلت: هذا بيت الله.

{ إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته، ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره. }

(الزيلعي بسند ضعيف)

فأنت في بيت الله، وبالمقابل عندما يقول تعالى:

نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ(6)
(سورة الهمزة)

فإذا قلت نار الفرن حرارتها 70 درجة، ونار الفرن الذري ألف درجة، وإذا قلت نار الله والله هو أعظم العظماء فما عسى أن تكون ناره لمن طغى وبغى ونسي المبتدى والمنتهى؟ فدائماً عظمة المضاف من عظمة المضاف إليه.

لله خواص في الأمكنة والازمنة والأشخاص:
وهذا البلد الأمين الذي أقسم الله به هو بلد الله تعالى، وهو حرم الله، وهو بيت الله، وكل بيوت الله معظمة، لكن بيت الله الحرام الصلاة فيه تزيد على فيما سواه بمئة ألف صلاة، حتى هو مُكرَّم من بين البيوت، فالله تعالى له خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص:

في الأزمنة:
فجعل الأزمنة كلها كما هي، إذا قلت 1 صفر، يوم من الأيام، 20 صفر يوم من الأيام، لكن عندما تقول 10 ذي الحجة، هو يوم النحر، فجاء شرفه من شرف ما فيه، وعندما تقول 1 رمضان، تقول ليلة السابع والعشرين من رمضان، فعظمة الأزمان تأتي مما يعظم الله تعالى فيها من الخيرات والبركات والطاعات.

في الأمكنة:
في يوم عرفة يتجلى الله على عباده
وكذلك الأماكن، هناك بقع مقدسة، يوم عرفة من أطهر البقاع في ذاك اليوم الذي يتجلى الله فيه على عباده، وبيوت الله كذلك، والمدينة المنورة التي شرفت بالحبيب صلى الله عليه وسلم فأصبحت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أرض كأي أرض، وفلسطين لها في قلوبنا مكانة ليس لأنها فلسطين من ستة حروف، لكن لأن فيها المسجد الاقصى الذي بارك الله حوله، فالله هو الذي يبارك الأماكن وهو الذي يبارك الأزمان.

في الأشخاص:
وهو الذي يبارك الأشخاص؛ فخلق الأشخاص واصطفى منهم الأنبياء، واصطفى من الأنبياء محمداً وأولي العزم من الرسل، واصطفى من العلماء، واصطفى المصلحين، واصطفى المحسنين:

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)
(سورة فاطر)

فقالوا إن لله تعالى خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص.
﴿لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ﴾ أي أقسم بمكة المكرمة ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ﴾ مكة كما قلنا فيها كل ما يدعو لتعظيمها، وفيها من الجلال ما فيها، وفيها كعبة الله، لكن الله تعالى ما قال لا أقسم بهذا البلد وهذا البلد فيه الكعبة، وما قال وهذا البلد فيه مقام إبراهيم، وما قال وهذا البلد شعّ منه ضياء الإسلام، وإنما قال له ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ﴾ فإقامتك في هذا البلد، لأن سورة البلد مكية قبل الهجرة، فكان النبي حالّاً أي مقيماً في مكة، فمن أعظم أسباب عظمة هذا المكان، وإقسام الله تعالى به أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حِلّاً به، أنت اليوم إذا جلست في مجلس، عندك مثلاً في بيتك تقول له تعرف هذا السيف المعلق من حمله؟ رئيس الوزارة الفلاني حمله يوماً وجاء إلى بيتي، تعرف هذا الكرسي الذي تجلس عليه من جلس عليه يوماً؟ والدي المُحسِن الكبير الفلاني كان يجلس عليه، فيكتسب المكان عظمته أعظم ما يكتسبها من وجود الصالحين فيه، من وجود المصلحين فيه.

الأصل إصلاح الإنسان قبل إصلاح أشيائه:
الأنبياء جاؤوا إلى الدنيا لإصلاح الإنسان
أحبابنا الكرام، اليوم كل الناس 90% من الناس وقد أقللت النسبة، ولو قلت 99% لمَا أخطأت فيما أعتقد، كل المؤسسات، كل الهيئات، كل الدول، إنما تُعنى بأشياء الإنسان، يعني تأمين الأشياء للإنسان، ما يريحه، مصانع السيارات لأشياء الإنسان، شركات الإعمار لأشياء الإنسان، شركات الهواتف المحمولة لأشياء الإنسان، الأشياء، لكن من ذا الذي يُعنى بإصلاح الإنسان لا بإصلاح أشيائه؟ هؤلاء هم الأنبياء؛ جاؤوا إلى الدنيا لإصلاح الإنسان، وجعل الله منهم ورثة أرجو الله أن نكون منهم ممن يكون همنا ليس أشياء الإنسان فحسب، أنا لست ضد أشياء الإنسان، لأن الإنسان هو مخلوق الله المكرم.

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
(سورة الإسراء)

فإذا أصلحت له أشياءه، صنعت له لباساً أنيقاً، أو صنعت له طعاماً نفيساً فهذا شيء جيد، تكريماً له والله كرمه، ولكن ماذا عمّن يعتنون بإصلاح الإنسان، وليس بأشيائه، لذلك الدول التي بلغت المجد، ولها سمعة كبيرة جداً كما يحدثوننا عن اليابان عن هذا الكوكب الآخر، بالدنيا طبعاً أتكلم، أول ما اعتنوا به اعتنوا بمن اعتقدوا أنه يصلح الإنسان وهو المعلم، فإصلاح الإنسان أهم من إصلاح أشياء الإنسان، لكن الحياة المادية جعلت إصلاح أشيائه أهم من إصلاحه، فتجد أحياناً ابناً لك يحترم صاحب المحل الذي يصلح له هاتفه الذي عجز ثلاثة عن إصلاحه ويستخرج له الصور منه أكثر مما يحترم معلم التربية الدينية في صفه للأسف، فالناس بحكم المادة أصبحوا يحترمون من يصلح لهم أشياءهم لا من يصلحهم، الأصل هو إصلاح الإنسان.

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
(سورة هود)

كل إنسان هو والد حيناً وولد حيناً آخر
فالنبي صلى الله عليه وسلم ماذا فعل؟ أصلح الإنسان، النبي صلى الله عليه وسلم جاء في عصر ما فيه هذه الرفاهية، ولا فيه هذا التقدم التقني لكن كان عصراً متميزاً بكل شيء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمل فيه على إصلاح الناس ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ﴾ فوجودك رغم شرف مكة العظيم من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، لأن مكة فيها أول بيت وضع للناس من عهد سيدنا إبراهيم، ولكن لما أراد أن يقسم أو يبين عظمة المقسم به قال: ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ﴾
﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ قال بعض المفسرين الوالد هو آدم، ﴿وَمَا وَلَدَ﴾ ذريته، وقال بعضهم: ﴿وَوَالِدٍ﴾ هو كل من يلد، ﴿وَمَا وَلَدَ﴾ نافية، يعني وحتى العقيم الذي لا يلد، وقال بعضهم: بل المقام هنا عن سيدنا إبراهيم وهذا البلد الأمين، فالوالد هنا سيدنا إبراهيم، ومن ذريته كنتم أيها العرب الذين يخاطبهم، لكنني في الحقيقة أجد أن هذه التفسيرات كلها مخصصة ولا داعي للتخصيص، فاللفظ عام ونكرة، وليس هناك نص يخصصه، فلنبقَ على العام، فأنتم كلكم والد، وكلكم وما ولد، وأنا والد الآن، وقد كنت "وما ولد" ولي والد فـ ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَد﴾ كل إنسان هو والد حيناً وما ولد حيناً آخر، فلما يتزوج يأتيه الولد، فيُسمى والداً، الوالدة هي التي تلد، الأم، لكن سُمّوا والدين من باب التغليب، الذي يلد هو واحد، لا أدري إذا كان الآن مع المساواة بين الذكر والأنثى سيصبح الرجل يلد، لا أدري إن كانوا سيصلوا إلى ذلك، لكن حتى الآن الوالدة هي التي تلد، الأنثى، لكن الوالد سُمي والداً باعتبار التغليب، يعني هو ولدهما، فهي ولدت له.

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ۚ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ۗ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۗ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(233)
(سورة البقرة)

﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَد﴾ يعني ووالد وأولاده، فيقسم الله تعالى هنا بهذه الآية العظيمة من آياته وهي آية التوالد، بكل شيء، كل الكون مبني على التوالد بالمعنى العام للتوالد، هناك تكاثر بالولادة، وتكاثر بالبيوض، هذا معنى علمي، لكن معنى التوالد أي التكاثر والتناسل، فكل الكون مبني على التوالد من نبات وحيوان وإنسان، والحشرات، كل الكون مبني على التوالد، التكاثر بالولادة، ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَد﴾ عموم، يقسم الله تعالى بهذه الآية التي هي آية التوالد.

الإنسان في كبد دائم حتى لقاء ربه:
فِي كَبَدٍ أي في تعب وضنك ومشقة
جواب القسم ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ ﴿لَقَدْ﴾ للتأكيد، ﴿خَلَقْنَا الْإِنسَانَ﴾: أيّ إنسان مؤمن وغير مؤمن، ﴿فِي كَبَدٍ﴾: أي في تعب، وفي ضنك، وفي مشقة، وفي نصب، في كبد، حتى أنت لما تضع البذرة في الأرض، ويبدأ الجذير يشق طريقه إلى الأسفل، والساق طريقه إلى الأعلى، ويخرق التراب ويخرج ويحتاج الماء، هذا فيه كبَد ونصَب، أما الإنسان فهو معني أكثر في هذا الخطاب﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ﴾ فالحديث عن الإنسان، فهو في كَبَد من اللحظة الأولى لما تُلقِّح النطفة البويضة، نطفة الرجل بويضة المرأة فتكون البويضة الملقحة، تبدأ تعلق في جدار الرحم فتسمى "علقة" من أجل أن تأخذ غذاءها، تبحث عن مصادر رزقها، ثم تكون المضغة المُخلَّقة وغير المخلَّقة، ثم العظام ثم اللحم، ثم الجنين في هذه الظلمات الثلاث؛ ظلمة الرحم، وجدار الرحم، والكُييس داخل الرحم، في ظلمات ثلاث، ثم بعد ذلك يخرج إلى الدنيا تقلص شديد في العضلات من الحوض، ويخرج بصعوبة بالغة، ويخرج إلى الدنيا فيبدأ يكابد مشاقّها بدءاً من أخذ طعامه، بعد ذلك فطامه عن حليب أمه، ويعاني ما يعاني، ويقضي الليل باكياً أياماً وأياماً حتى يتعود أن مصدر رزقه قد أصبح بعيداً عن ثدي أمه، ولا بد من الطعام، وبعد ذلك يبدأ يعاني بالحبو، ثم إذا حبا يكون فرجٌ من الله، ثم بعد ذلك يقوم، ففي قيامه يقوم ويقعد ويقع على الأرض حتى يستوي قائماً، ثم يتلعثم بالكلام إلى أن ينطق بعض الكلمات، بابا، ماما، عمو...إلخ، فهو في كَبَد، ثم يكابد الدنيا وما فيها من ابتلاءات، وما فيها من مِحن، وما فيها من مصائب، ثم يكابد التعلّم، ويكابد في أمر دينه، فغضّ البصر يحتاج إلى مجاهدة للنفس، والقَبول بالمال الحلال فقط يحتاج إلى مجاهدة للنفس، ومصادر الدخل الحرام والبعد عنها تحتاج إلى مكابدة للنفس، فكله كبد، فأراد الله ألا تكون الدنيا سهلة، فمن جاء إليها وظن أنه سيخرج منها بغير كبَد فقد أخطأ الطريق، هذه ليست للدنيا، الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يحزن لشقاء، ولم يفرح لرخاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، فالدنيا دار ترح وليست دار فرح، دار نصَب، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
(سورة الانشقاق)


المفلح الذي يجعل كبد الدنيا متوجهاً بالطريق الصحيح:
المؤمن ينتهي كَبده بالموت
لكن من الفالح فيها والمُفلِح؟ هو الذي يجعل كبَدها متوجهاً بالطريق الصحيح، فلا يعاني الكبَد إلا في سنوات معدودة، أما الخاسرون أعظم خسارة فهم الذين يتصل عندهم كبد الدنيا المحدود بكَبَد الآخرة العظيم اللامحدود، هذا الذي يخسر، أما الكَبد على الجميع، على المؤمن وغير المؤمن، بل قد يعاني المؤمن من كَبد الدنيا ومكابدتها ما لا يعانيه غير المؤمن، لكن المؤمن ينتهي كَبده بالموت ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ فعندما يلقى الله ينتهي كل الكَبَد ويبدأ العطاء والإكرام، أما غير المؤمن فكَبَده في الدنيا لا يساوي شيئاً أمام كَبَد الآخرة، مثل الفريقين كمثل طالبين ذهبا إلى بلد غربي، وحال أهلهما متوسط، فطلبا منهما أن يجاهدا ويكابدا عناء الدراسة في هذه البلاد حتى يعودا بشهادة الطب، فطالب من الطلبة عانى الكَبَد بأنه أصبح يسهر الليالي، ويعمل أحياناً في الليل ليؤمن أقساط الجامعة، فعانى الكبَد، والثاني عانى الكبَد لكنه لم يدرس، يعني لم يدرس الدراسة التي تؤهله للنجاح، فالأول في اللحظة التي انتهى فيها من سنوات الدراسة الست، ووضع رجله على سلم الطائرة، ليعود إلى بلده وهو موعود ببيت واسع، وبمنصب جيد في بلده، وبعيادة جاهزة للافتتاح، فعندما وضع رجله على سلم الطائرة نسي كل الكَبَد الذي عاناه، والثاني عندما وضع رجله على سلم الطائرة بدأ يتذكر المصائب التي تنتظره وقد عاد صفر اليدين، فكلاهما في كَبد، ولكن من ذا الذي ينتهي كبده بالموت؟ ومن ذا الذي ينتهي كبده بعد الموت؟ ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ وحتى أتم الفائدة هناك من قال إن كبَد هنا بمعنى: كما يقال الشمس في كبِد السماء أي في وسط السماء، ففي كبد أي في اعتدال وفي استقامة، وأنا لا أشجع هذا المعنى أو لا أجده مناسباً لسياق الآيات، خاصة أن الله بعد ذلك سيقول:

أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(5)
(سورة البلد)

يعني أنت حتى وصلت لهذا المكان كابدت الدنيا كلها، تذكر نفسك عندما كنت لا تقوى على تنظيف نفسك، تنظفك أمك، الآن:

أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(5)يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6)أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
(سورة البلد)

فسياق الآيات مع قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ يبين أن الكبَد هنا هو المشقة والنصب والتعب.

علاقة المقسم به بجواب القسم:
ما علاقة المقسم به بجواب القسم؟ المُقسَم به ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَد﴾ وجواب القسم ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ فهو في حالة التوالد يعيش هذه الحياة حياة الكَبد، ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَد*لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾.

القَسَم في سورة الشمس:
السورة الثانية في هذا اللقاء والتي تلي سورة البلد فوراً في ترتيب المصحف هي سورة الشمس، هذه السورة أحبابنا الكرام فيها أطول قسم في القرآن الكريم، يوجد أحد عشر مُقسَماً به:

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)

أحد عشر مقسماً به، ليأتي جواب القسم:

قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)

فأعظم قسم في القرآن، وأطول قسم جوابه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ .بشكل سريع نستعرض هذا القسم:
الشمس آية من آيات الله الدالة على عظمته
الشمس آية من آيات الله الدالة على عظمته، الشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة، فجوف الشمس يتسع لمليون وثلاثمائة ألف أرضاً، طول لسان اللهب الذي يخرج منها مليون كم، الشمس كتلة ملتهبة، يقدّر العلماء أن عمرها خمسة آلاف سنة، وأنها مستمرة إلى خمسة آلاف سنة أخرى، هذا كلام بكلام، فالله أعلم بعمرها ومتى تُكوَّر ومتى تنتهي الحياة فيها، كتلة لهب مشتعلة عظيمة، درجة حرارتها بملايين الدرجات، تبعد عن الأرض 156 مليون كم، هذه الشمس آية من آيات الله يقسم الله تعالى بها، انظر إلى الشمس، العربي بالصحراء ينظر إلى الشمس، ونحن اليوم ننظر، والأمريكي ينظر إلى الشمس فهي آية لكل البشر ﴿وَالشَّمْسِ﴾.
﴿وَضُحَاهَا﴾ قسم ثاني بضحى الشمس، وهو ضوء الشمس، والضحى هو وقت الضحى، لكن هذا الوقت يكون ضوء الشمس ظهر إلى العيان، ما عاد مخفياً، ترتفع الشمس قدر رمحين في السماء، بعد طلوع الشمس بنصف ساعة إلى ثلثي ساعة بعد الشروق يصير وقت الضحى، ﴿وَضُحَاهَا﴾ يعني وضوئها ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾.
﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾ أي إذا تبعها، يعني تغرب الشمس فيظهر القمر.
﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾ النهار يجلّي ضوء الشمس، يظهر ضوء الشمس تماماً في النهار.
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾ يستر ضوء الشمس، الليل يستر الشمس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار؟ }

(مسند الإمام أحمد)

الإنسان إذا جاء النهار يكون بنشاط وهمة، فيأتي الليل:

وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2)
(سورة الضحى)

الأصل هو الضوء والظلام طارئ
سكون الليل وظلمته ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾ لماذا قال: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾ بالماضي ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾ بالمضارع؛ لأن الأصل هو الضوء والظلام طارئ، فعبر عن الظلام بالفعل المضارع الذي يفيد الحدوث، وعن الضوء بالزمن الماضي الذي يفيد الثبات، فالأصل هو ضوء الشمس، والليل طارئ، الأصل هو ضوء الحق، وليل الظالمين هو الطارق، فليل الظالمين لا يمحو ضوء الشمس، لكنه قد يغطيه أحياناً، هذه لطيفة على الهامش.
﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ السماء مبنية، كان يُظن أن السماء فراغ مفتوح، السماء بناء مُحكَم:

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
(سورة الذاريات)

﴿وَمَا بَنَاهَا﴾ قيل هنا "ما" بمعنى "مَن"، ومن بناها أي الله تعالى، أو والسماء وبنائها مصدر، يعني يقسم ببناء السماء.
﴿وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾ يعني بسطها، والأرض ومَن بسطها، بسطها للناس، جعلها مبسوطة، فتسلك منها سبلاً فجاجاً، وتأكل منها، وتعيش عليها.
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ يقسم بالنفس، نفسك ونفسي ونفس الجميع ﴿سَوَّاهَا﴾ إذا كان عندك أمام البيت مدخل أحببت أن تجعله موقفاً لسيارتك، الذي يصنعه لا خبرة لديه، فعمله بعرض معين وطول معين، جئت لتدخل سيارتك فلم تدخل، السقف منخفض، وسيارتك عالية دفع رباعي فلا تدخل، والسيارة عريضة، المرايا قبل أن تدخل عليك أن تحكم إغلاقهم، وليس لديك مرايا كهربائية يجب أن تنزل وتغلق المرايا حتى تدخل، فهو ما سوّى الموقف، هذا غير متناسب مع هذه، أول شيء يجب أخذ القياسات، ووضع 20 سم بـ 20سم حتى تدخل وتخرج بهدوء وبساطة، ويجب ترك مجال نصف متر من السقف حتى تستطيع غسلها داخل الموقف إذا أحببت، فالتسوية هو أن يأتي الشيء متوافقاً مع الهدف الذي وُجد من أجله، هذه التسوية، ربنا سوّى، خلق فسوّى، العين خلقها فسواها؛ متناسبة للإبصار، الأذن متناسبة للسمع، الشعر متناسب.

التسوية لأمرين:
يوجد تسوية ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ التسوية هنا لأمرين:

الأمر الأول: تسوية الخَلق:
الإنسان كله مسوَّى
الأمر الأول خلقي وخلقك مُسوّى، اليد، الأصابع لو كان لا يوجد مفاصل للحركة لما كان هناك إعمار بالأرض نهائياً، كيف تمسك الأشياء؟ هذه الإبهم وحده آية من آيات الله تعالى، القلب الذي يضخ في عمر متوسط ما يملأ أكبر ناطحة من ناطحات السحاب في العالم، يعمل كمضخة متواصلة، إذاً فيه تسوية، مُهيّأ.
الكليتان اللتان تعملان بانتظام، تصفيان الدم في اليوم عشرات المرات، التسوية فيهما أن الله تعالى جعل فيهما احتياطياً هائلاً، فلو كانت كلية من الكليتين تعمل بواحد على عشرة من قدراتها فالدم يُصفَّى، فكل شخص عنده احتياطي 20 ضعفاً عن حاجته في الكلى، الكبد له خمسة آلاف وظيفة، العين؛ القرنية، الشبكية، النظر، القزحية، الأذن، الإنسان كله مسوَّى، هذا تسوية الخلق.

الأمر الثاني: تسوية النفس:
لا يتقي إنسان ولا يفجر إلا بإرادته
وهناك تسوية في النفس من نوع آخر، تسوية الفطرة ودليلها: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ ما معنىَ ﴿فأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ ليس معناها الجبر كما يفهم البعض، أن الله يجعلها تفجر، والله يجعلها تتقي، طبعاً ربنا عز وجل هو الفعال، لا يتقي إنسان إلا بإرادته، ولا يفجر إنسان إلا بإرادته، أكيد، ولكن هنا ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ بمعنى أنها إذا فجرت تعلم أنها فجرت، وإذا اتّقت تعلم أنها اتقت، هذه هي التسوية، بمعنى لو أن إنساناً لم يتلقَّ تعليماً في حياته، هذا فتى الأدغال ماوكلي، وله أم تعبت عليه وربته، وتعبت عليه وأنفقت الليل في تربيته وفي تنشئته، ثم بعد ذلك أصاب طعاماً وأمه جائعة، فأخذ الطعام ودخل إلى مكان تحت الشجرة وأكل الطعام وحده، فإن هذه النفس التي سواها الله تشعر من الداخل بما يسمّى تأنيب الضمير:

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(30)
(سورة الروم)

ولو أحسنت تشعر أنها أحسنت، ولو فجرت تشعر أنها فجرت، هذا الاكتشاف الذاتي، هذه الآلية الذاتية في اكتشاف الخطأ من الصواب هي تسوية للنفس، فهي تكافئ نفسها على إحسانها بالراحة، وتكافئ نفسها عى عصيانها بالانقباض، وعلى ظلمها بالانقباض، هذه تسوية النفس، حتى غير المؤمن اليوم تسوية نفسه إذا أحسن يقول لك: والله شعرت براحة غريبة بصدري وهو غير مؤمن، فعل ذلك، يسمونه: عملاً مجتمعياً، فيلقي الله في قلبه شيئاً من السكينة لأنه أنفق من ماله لمحتاج، يسعد بالعطاء، هذا من تسوية النفس ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾.
جواب القسم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ تزكية النفس هي تطهيرها من الأدران، وحملها على الطاعات وإبعادها عن المعاصي والآثام، يعني مخالفة هوى النفس، والاتجاه إلى الفطرة التي سوّى الله تعالى الناس عليها.
﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ وأما تدسيتها فهو إهمالها وتركها لأدرانها وشهواتها، فيقال: دسّ السم في الدسم، أو دسّ الشيء تحت التراب يعني أخفاه، فإخفاء ما هي عليه من الخير، وتركها لشهواتها هو تدسيةٌ لها. ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ أي وقد خسر وهلك من دساها ولم يعتنِ بها العناية الكافية.

علاقة المقسم به بجواب القسم:
تزكية النفس من خلال النظر في مخلوقات الله تعالى
طبعاً جواب القسم واضح في صلته بالمقسم به، ربنا يقسم بالنفس، وجواب القسم أنه قد أفلح من زكى النفس، واضحة، لكن أيضاً له علاقة بالقَسم من بدايته، من قوله ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ بمعنى أنك إذا أردت أن تزكي هذه النفس، فإن من أعظم الطرق لتزكيتها، وإن أول الطريق في تزكيتها أن تنظر في مخلوقات الله تعالى، في الشمس، وفي ضحاها، وفي القمر إذا تلاها، وفي النهار إذا جلاها، وفي الليل إذا يغشاها، وفي السماء وبنائها، وفي الأرض وبسطها، فإذا نظرت في هذا الكون فهذا هو الطريق في تزكية النفس، الطريق المنطقي تنظر فتقول: الله أكبر ما هذا الخالق العظيم! سبحان الخالق المبدع العظيم! فتعظمه فتقرأ منهجه، وكلامه؛ لأن العظيم عظيم في كلامه فتتبع منهجه؛ افعل ولا تفعل، صلِّ فتصلي فتُزكَّى النفس، لا تغتب الناس، تترك الغيبة فتزكى النفس، فبداية الطريق هي التفكر في خلق السماوات والأرض، فجعل هذه الأشياء المُقسَم بها في البداية من أجل أن يوضح جل جلاله أن بداية الطريق هو في التفكر في خلق السماوات والأرض وختمه بقوله:

وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9)وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)
(سورة الشمس)

ونكتفي بهذا القدر.
والحمد لله رب العالمين