القَسَم في الجزء الثلاثين - اللقاء الرابع

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-09-18
  • عمان
  • الأردن

القَسَم في الجزء الثلاثين - اللقاء الرابع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.
وبعد: أيها الكرام، هذا هو اللقاء الرابع من لقاءات القَسَم في الجزء الثلاثين من كتاب الله، وحتى نعيد المقدمة التي بدأنا بها كل هذه اللقاءات الطيبة مع كتاب الله، وعلى مائدة القرآن، انطلقنا في هذه اللقاءات من أننا نبحث عن السور التي تحتوي قسَماً، حلفاً، يميناً في كتاب الله، ونبحث عن الترابط بين المُقسَم به، وجواب القسم، أو المُقسم به والمُقسم عليه، فعندما أقول: "والله إني لأحبك"، فالواو أداة القسم، الله: مقسم به لفظ الجلالة جل جلاله، إني لأحبك: المقسم عليه أو جواب القسم، فهي أركان ثلاثة في كل جملة من جمل القسم، والقرآن الكريم يقسم بأشياء كثيرة، ربنا جل جلاله يقسم بمخلوقاته ليلفت نظرنا إليها، فتارة يقسم بالشمس، وتارة بالليل، وتارة بالضحى، وتارة بالقمر، وبغير ذلك من آياته، فيقسم الله تعالى بما يشاء من مخلوقاته بينما نحن لا يجوز لنا أن نقسم إلا بخالقنا جل جلاله لأنه لا عظيم إلا الله:

{ من كان حالفًا فلْيحلفْ باللهِ أو ليصمتْ. }

(أخرجه الترمذي)

{ من حلفَ بغيرِ اللهِ فقد أشركَ. }

(أخرجه الترمذي)

كما قال صلى الله عليه وسلم.

القَسَم في سورة الليل:
بحثنا في عدة سور، ووصلنا إلى سورة الليل، يقول تعالى:

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (3)
(سورة الليل)

هذا المقسم به، جواب القسم:

إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ (4)
(سورة الليل)


المقسم به:
نبدأ بالمُقسَم به، المقسم به أشياء ثلاثة:
1. الليل حالة يغشى الأرض ويغطيها، ويغطي ظلامه كل شيء فيها.
2. والنهار حالة يتجلى وينشر ضياءه في كل مكان.
3. والقسم الثالث بخلق الذكر والأنثى؛ أي بما خلق الله تعالى من ذكر أو أنثى.
جواب القسم ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ﴾.

الليل والنهار آيتان من أيات الله:
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ﴾ كما قلنا يقسم الله تعالى بالليل، والليل آية من آيات الله الدالة على عظمته، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار؟ }

(مسند الإمام أحمد)

آية من آيات الله الدالة على عظمته هذا الليل، فنحن الآن في الليل، والليل يكون فيه السكون، يكون فيه الراحة، يكون فيه الهدوء ﴿والليل إذا سجى﴾ كما سيأتي في سورة الضحى، يسكن فيه كل شيء فيكون مناسباً لنوم الإنسان، لراحته، لهدوء أعصابه، إلى غير ذلك، فيقسم الله تعالى بالليل.
الليل والنهار لا يُستغنَى عن أحدهما بالآخر
﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ﴾ النهار آية أخرى من آيات الله عز وجل، يكون فيه النشاط، والهمة، والعمل، والكد، والسعي، والحيوية، ويذهب الطلاب إلى مدارسهم، والعمال إلى معاملهم، وكل إلى نشاطه، فالليل آية، والنهار آية، الليل والنهار لا يُستغنَى عن أحدهما بالآخر، بعض الناس الذين يعيشون في مناطق محددة من شمال السويد، أو في القطبين يعلمون قدر النعمة التي نتكلم عليها، معظم الأرض فيها ليل ونهار، لكن مناطق قليلة جداً، أنا أسميها مناطق خدمات، سكنها البشر ليس فيها ليل ونهار، أو فيها لا يظهر ضوء الشمس إلا شيئاً يسيراً، أو لا يظهر أبداً، فعندما لا يتمايز الليل والنهار يكون الشعور بالكآبة، ومن يسافر إلى تلك المناطق البعيدة، شمال الأرض وجنوبها يشعر بهذا، توالد الليل من النهار، والنهار من الليل آية من آيات الله، كل منهما يكمل الآخر، لو أن إنساناً سأل أيهما أفضل الليل أم النهار؟ نقول له سؤالك غلط؛ لأن لا الليل بأفضل من النهار، ولا النهار أفضل من الليل، الليل أفضل للنوم والسكينة والراحة والهدوء، ومناجاة الله عز وجل، وغير ذلك مما يكون في الليل، والنهار أفضل للعمل والسعي والكد والتعب وتحصيل الرزق، فليس بينهما أفضلية، فهما متكاملان فلا مفاضلة بينهما، كل منهما يكمّل الآخر.
لماذا جئت لهذا المعنى؟ لأن تتمة القسم قال: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ﴾ فالذكر والأنثى ليس بينهما مفاضلة، كما أن الليل والنهار ليس بينهما مفاضلة، ليس هناك سؤال صحيح منطقياً أن يقال: الرجل أفضل أم المرأة؟ المعادلة غلط، السؤال ليس بالمستويات المنطقية الفكرية الصحيحة؛ لأن الذكر أفضل لمهمته التي خُلق من أجلها، والمرأة أفضل لمهمتها التي خُلقت من أجلها، وهذه المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم " المجادلة خولة" التي شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن زوجها ظاهرَ منها، قالت كلمة رائعة ما أحوجنا أن يعيها رجال ونساء اليوم، قالت له: "ولي منه أولاد، إن ضممتهم إلي جاعوا، وإن تركتهم إليه ضاعوا" فلخصت المهمة الرئيسية للمرأة، وهي أعظم مهمة وهي تربية الأولاد ورعايتهم، ولخصت أهم مهمة للرجل وهي:

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
(سورة النساء)

فأعطت للرجل والمرأة المكانة الصحيحة التي يريدها الإسلام، هذا لا يعني أن الرجل غير مسؤول عن التربية طبعاً، ولا يعني أن المرأة يحرم عليها أن تعمل إذا كان العمل منضبطاً بضوابط الشرع، ولم يلهها عن بيتها وأولادها، لكن يعني أن يعيَ كل إنسان دوره الرئيسي، ثم لا بأس أن يقوم بفضول أوقاته بدور آخر ضمن ضوابط الشريعة.
﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ﴾ جاءت مناسبة مع الليل والنهار؛ لأن الذكر يكمل الأنثى كما أن الليل يكمل النهار.

العلاقة بين الذكر والأنثى:
قبل أن آتي إلى جواب القسم ونربطه بالمقسم به، أريد أن أعلق على قضية مهمة جداً، اليوم العلاقة بين الذكر والأنثى ربنا جل جلاله

وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ(45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ (46)
(سورة النجم)

خلق الذكر وخلق الأنثى، وجعل نظام الزوجية في كل شيء في الأرض، قال تعالى:

وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(49)
(سورة الذاريات)

تنظيم العلاقة بين الذكر والأنثى بمنهج
هذا النظام الذي خلقه الله تعالى هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، نظم العلاقة بين الذكر والأنثى بمنهج، هذا المنهج يقتضي أن الذكر أحياناً يكون ابناً فعلاقته مع أمه مرتبطة بالبر، وتارة تكون تلك المرأة عمة أو خالة له ليس لها معيل، فعلاقته معها علاقة إنفاق، ينفق عليها، مُكلّف بها، وتارة تكون بنتاً فيحسن تربيتها فتكون له الجنة، وتارة تكون له أختاً فهي شرفه وعِرضه يحافظ عليه ويعطيها من وقته وجهده وماله وما تحتاجه، ويرعاها ويحوطها ويحفها بالرعاية، وتارة تكون زوجة فيحسن إليها، ويعطيها وينفق عليها، ويكرمها إلى غير ذلك.
لكن علاقات أخرى آثمة مرفوضة في منهج الله عز وجل، يعني أن يرتبط الذكر والأنثى بعلاقة خارج إطار الزواج، الأبوة، البنوة، البنات، الإخوة، لا يوجد في الإسلام علاقة زنا، هذه فاحشة في الإسلام، لا يوجد في الإسلام علاقة صداقة فيها تمادي، من هذه؟ صديقتي، هي أختك في الإسلام، ترعاها، تغض بصرك عن عورتها، تعتبرها من عِرضك لأنها أخت مسلمة لك، لا يوجد في الإسلام علاقات بين الذكر والأنثى خارج إطار الزواج أو المحارم، فربط الإسلام هذه العلاقة وضبطها ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ﴾.
المجتمعات المتفلتة أرادت أن تجعل العلاقة بين الذكر والأنثى غير منضبطة، غير محدودة بحد، لا يوجد أي حدود تضبطها، فهذا أدى إلى فساد عريض في الأرض، بعد حين الذي وصلنا له للأسف الشديد بدأ الاعتداء على أصل الفكرة، فكان الاعتداء مرتبطاً بالعلاقة بين الذكر والأنثى، كل الناس يقرون هذا ذكر وهذا أنثى، لكن العلاقة بينهما هناك اعتداء عليها، العلاقة معتدى عليها ببعض المجتمعات، نحن المسلمون لا نعتدي على هذه العلاقة، نضبطها من ضوابط الشرع، هذه المرأة إذا كانت من محارمي فهي محارم، وإن كانت زوجة فليس هناك حدود بين الزوج وزوجته بالمعروف، إذا كانت غير ذلك فهي أخت لي في الإسلام، أو في الإنسانية أعتز بها، أعتبرها أختاً لي في الإسلام، أو أختاً لي في الإنسانية فأعاملها بضوابط معينة، لا يوجد مصافحة ولا خلوة...إلخ.
الأنوثة والذكورة مرتبطة بخلق الله تعالى
اعتدوا على العلاقة فنشأت الفواحش، اليوم أصبح الاعتداء ليس على العلاقة وإنما على أصل الفكرة، الذكورة والأنوثة، فبدأنا نسمع في بعض الولايات في أمريكا: لماذا يُسجَّل الذكر والأنثى من لحظة الولادة، لننتظر ليكبر ويقرر جنسه إن كان ذكراً أو أنثى، أصبحنا نسمع عن الجندرة، أصبحنا نسمع عن النوع الاجتماعي، الخلط بين مفهوم الذكورة والأنوثة على أنه ليس مفهوماً عضوياً، وإنما هو مفهوم يختاره الإنسان، فالاعتداء اليوم صار على الفطرة الرئيسية وليس على المنهج، على الفطرة الرئيسية وليس على المنهج في التعامل، فهذه مصيبة كبيرة جداً جداً، الذي دعاني إلى هذا الكلام هو دقة اللفظ القرآني ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ﴾ فالله تعالى خلق الذكر ذكراً وخلق الأنثى أنثى، فليس هناك ذكر ليس ذكراً، وليس هناك أنثى ليست أنثى، الأنوثة والذكورة مرتبطة بخلق الله تعالى، فالذي خلقه الله ذكراً ذكر، والذي خلقها الله أنثى هي أنثى، فاليوم الاعتداء شديد جداً، ومجتمعاتنا بحاجة إلى تحصين دائم، للأسف الشديد كنا نتكلم عن العلاقة بين الذكر والأنثى، أصبحنا نتكلم عن أصل الفكرة، وهذا بعد كبير عن إنسانية الإنسان، وليس عن منهج الواحد الديان.
لذلك أيها الكرام، دائماً نركز على هذه الفكرة؛ أن الله تعالى فطر الإنسان على شيء، والاعتداء على الفطرة أمر عظيم نخشى إذا استسهلناه، أو تجاوبنا معه أن تصيبنا والعياذ بالله قارعة من السماء؛ لأن هذا اعتداء على خلق الله عز وجل، ومن أعظم أساليب الشيطان قال:

وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا(119)
(سورة النساء)

أحياناً تسمع، لماذا يتكلم هكذا؟ ما مشكلة الشيطان؟ ترك كل هذا وقال أريد أن أغير خلق الله؟ من يغير خلق الله عز وجل؟ اليوم أصبحنا نرى ذلك، ففعل الشيطان واضح في كثير من المجتمعات، الذكر يحاول أن يظهر بمظهر الأنثى، والعكس صحيح، أصبحنا نرى نماذج جديدة فلا تعرف إن كان ذكراً أم أنثى والعياذ بالله، فلا بد من التركيز على هذا الأمر.

تكامل الذكر والأنثى كتكامل الليل والنهار:
تكامل الذكر والأنثى كتكامل الليل والنهار
على كلٍّ ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ*وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ*وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ﴾ تكامل الذكر والأنثى كتكامل الليل والنهار، خصائص الذكر الجسمية والنفسية والاجتماعية كمال مطلق للمهمة التي أُنيطت به، وخصائص المرأة الجسمية والنفسية والاجتماعية كمال مطلق للمهمة التي أُنيطت بها، فليست القضية قضية حرب بين الذكر والأنثى كما حاول الغرب دائماً أن يوهمنا، فأصبحنا نطالب بحقوق النساء، وكثرت حقوق النساء والنسويات، وصرنا نريد أن نشكل جمعية لحقوق الرجال الآن، فالقضية ليست بمعركة، بحياتنا لم يكن لدينا معركة بين الذكر والأنثى، عنا تكامل، الذكر يؤدي مهمته، الأنثى تؤدي مهمتها، الأفضل عند الله هو الذي يقوم بأداء مهمته بشكل أفضل:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
(سورة الحجرات)

جواب القسم ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ﴾ شتى أي متفرق، الآن لو وقفت على هذه الشرفة، ونظرت بهذه البيوت، بيوت عمان الكثيرة والسيارات التي تمشي في الطرقات، كم شخصاً رأيت؟ بعددهم يوجد سعي، لا يوجد سعي متشابه مع سعي آخر، هناك بيت الآن يُتلى فيه القرآن، وهناك بيت فيه مباحات، وهناك بيت فيه محرمات، والسيارات؛ هناك شخص يقود سيارته الآن والعياذ بالله إلى الملهى ليقضي ليلة في معصية الله، وهناك شخص يقود سيارته إلى بيته لينفق على عياله، ومعه ما يدخل السرور به على أهل بيته، وهناك شخص ثالث ركب سيارته ومعه بعض الطعام للمحتاجين، وهناك، وهناك.. فكل شخص له سعي، فسعي الناس متفرق، ليس هناك سعي مشتركاً ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ﴾ ما علاقة جواب القسم بالمقسم به؟

علاقة جواب القسم بالمقسم به:
المقسم به ليل ونهار، وذكر وأنثى، والسعي سواء كان بالليل أو بالنهار من ذكر أو أنثى فهو سعي متفرق، مختلف، هناك أنثى تسعى لمرضاة الله عز وجل، ولإعفاف الشباب، وتتقي الله في نفسها، وفي أهل بيتها، وهناك أنثى متفلتة من منهج الله، تغوي الشباب، وتغوي المجتمع بما تظهره من مفاتنها...إلخ، السعي مختلف، هذا سعي، وهذا سعي ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ﴾.
ففي الليل وفي النهار، ففي الليل هناك شخص والعياذ بالله في ملهى ليلي نسأل الله السلامة، ويوجد شخص بقيام الليل، وفي النهار هناك شخص يعمل عملاً حلالاً، وهناك شخص يغش الناس، فالسعي متفرق ليلاً أو نهاراً، ومتفرق ذكراً أو أنثى، فجاء جواب القسم﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ﴾ متوافق مع المقسم به وهو الليل والنهار، والذكر والأنثى، فجاء جواب القسم ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ﴾.

الله تعالى دمج السعي بحقلين فقط رغم اختلافه:
بالمناسبة، وإن كان هذا خارج ما نتحدث به عن القسَم تحديداً؛ السعي مختلف، لكن ربنا عز وجل دمج السعي كله بحقلين فقط، السعي مختلف، فاليوم هناك سبع مليارات إنسان في الأرض، بهذه اللحظة يوجد سبع مليارات سعياً، كل شخص يسعى لشيء في هذه اللحظة، لكن هل يمكن أن نجملهم في حقلين اثنين؟ هذا ما فعله القرآن، قال:

فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7)وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8)وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ(10)
(سورة الليل)

الحسنى هي الجنة، قال تعالى

لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(26)
(سورة يونس)

نحن نطيع الله عز وجل لجنة عرضها السماوات والأرض
والزيادة: النظر إلى وجه الكريم جل جلاله، فالحسنى هي الجنة، فمن صدق بالحسنى، يتقي أن يعصي الله، فسعيه منضبط بمنهج الله، إذا كان هناك حرام يبتعد عنه، ويعطي، يبذل، يحسن، عطاء، ومن كذّب بالحسنى يستغني عن طاعة الله، لأن لا يوجد جنة، فلماذا يطيع؟ نحن الآن لماذا نطيع الله عز وجل؟ تنتظرنا جنة عرضها السماوات والأرض، هذا واقع، قد تقول لي: سمعنا أن هذه التي قالت ويُنسب إلى رابعة العدوية: "ما عبدتك رجاء جنتك، ولا خشية نارك ولكن لأنك أهل أن تعبد" جميل، ولكن بالواقع ربنا عز وجل يعلم النفوس التي خلقها، أنت ابنك اليوم إذا كنت تريده أن يفعل شيئاً صحيحاً تعده بشيء، وإذا أردته ألا يفعل تخيفه، هذه النفوس وطبيعتها:

تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16)
(سورة السجدة)

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
(سورة الأنبياء)

فنحن في المحصلة نبتغي شيئاً، هذا الشيء هو الجنة، فلما نصدق بالحسنى، أن الجنة قادمة لا محالة نتقي أن نعصي الله، ونعطي، لأن العطاء سوف يُعوَّض عند الله، وبالمقابل الذي يكذب بالجنة يستغني عن طاعة الله، ويبخل، لا يريد أن يعطي، لأنه لا يرى نتيجة لعمله، فلماذا يعطي؟ لماذا يدفع مئة إن لم يكن يعلم أن الله سيعطيه عليها ألفاً في الدنيا أو يوم القيامة، فيبخل.
فدمج الله كل سعي الناس بالأرض في حقلين اثنين ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ*وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ﴾ ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ﴾ هذا تُيسر أموره، وهذا تُعسر أموره، هذا يُيَسّر لما خلق له إلى الجنة، وهذا تُعسر أموره إلى النار والعياذ بالله، فكل سعي الناس يندمج ضمن هذين الحقلين، هذه سورة الليل.

القَسَم في سورة الضحى:
السورة الثانية الضحى، التي تلي الليل مباشرة، نحن طبعاً لا نفسر السورة، نحن فقط نبحث عن القسم:

وَالضُّحَىٰ (1)وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2)مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (3)
(سورة الضحى)

سورة الضحى أحبابنا الكرام سورة تبين رعاية الله تعالى لأنبيائه، ولأوليائه، وللمؤمنين من بعده، ولكل مؤمن منها نصيب، وإن كان الخطاب فيها موجهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هي لكل مؤمن بها نصيب.

سبب نزول السورة:
الوحي فيه أُنس
مناسبة السورة، أو سبب نزول السورة أن الوحي فتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فترة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم دائماً ينزل عليه الوحي، فيستأنس به، يستأنس بالقرآن، نحن اليوم بعد 1400 سنة نقرأ آية من كتاب الله فنستأنس بها، الوحي فيه أُنس، برمضان تقف بين يدي الله بالتراويح فتستأنس، تسمع كتاب الله، تصلي بالجامع وتسمع الإمام، تصلي بالحرم أجمل وأجمل، فالوحي أُنس، فكان يستأنس صلى الله عليه وسلم بالوحي، فلما فترَ عنه حيناً شعر بجفوة، كأنه فراغ، لماذا فتر الوحي؟ فأصبح بعض المُرجِفين في مكة وجدوا فرصة للنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يقولون: ودّعه ربه يعني تركه، لم يعد يوحي إليه، وجعل بعضهم يقول بل قلاه يعني أبغضه، والقِلى هو الكره:

قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ(168)
(سورة الشعراء)

كما قال شعيب، يعني من الكارهين، فبعضهم يقول ودعه أي تركه، وبعضهم يقول: بل قلاه أي كرهه، فنزلت سورة الضحى؛ لبيان مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه، وهذا تأديب لنا في علاقتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون علاقة حب وعلاقة اتباع، فقال له ﴿وَالضُّحَىٰ﴾ أقسم له بالضحى ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ﴾.

المقسم به:
الضحى وقت انبثاق النور، بعد طلوع الشمس عندما يتضح كل شيء في الوجود، وقت الضحى، هو وقت صلاة أيضاً، وقت له فضيلة ومنزلة؛ لأن فيه نافلة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتركها، الضحى.
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ﴾ التسجية هي التغطية، ويقال: سُجِّي الميت في قبره يعني غُطِّي، والتغطية تؤدي إلى السكون، فسجى بمعنى سكن، يعني أصلها من التغطية ثم استعملت في السكون، سجى: سكن الليل.
﴿وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ﴾ سكون الليل.

علاقة جواب القسم بالمقسم به:
جواب القسم﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ﴾ الليل أيضاً فيه نافلة، قيام الليل، الضحى فيه صلاة الضحى، والليل فيه قيام في الليل، الضحى وقت حصل فيه انتصار موسى على السحرة:

قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى(59)
(سورة طه)

فهذا أيضاً فيه تذكير برعاية الله لموسى عليه السلام بهذا الوقت الذي له منزلة.
﴿وَالضُّحَىٰ*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ *مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ﴾ الضحى يأتي بعد الليل، ومهما امتدت فترة الوحي عنك فسيأتي الوحي من جديد، الضحى نور، والنور يبدد الظلمة، والوحي نور سيبدد الظلمة التي هي ظلمة الشرك، والبعد عن الله عز وجل، هذه علاقة المقسم به بالمقسم عليه أو بجواب القسم.

ثبت الله قوانين الأرض لتسير الحياة بشكل صحيح:
تثبيت القوانين رحمة من الله عز وجل
﴿وَالضُّحَىٰ*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ *مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ﴾ كما أن الضحى يأتي بعد الليل، فإن الوحي قادم بعد ليل فتوره عنك، قادم لا محالة، لأنه لا يوجد إنسان ينام ويشك أن غداً يوجد ضحى أو لا، لا يوجد إنسان يشاهد نشرة الأخبار ليرى إن كان هناك شمس أو لا، يقول هناك مطر أم لا، الرزق متحرك، حركة الأسواق متحركة، لكن ربنا عز وجل ثبّت قوانين الأرض حتى تسير الحياة بشكل صحيح، فأنت من اليوم تعلم أن في الـ 2029 في يوم 30 آذار أي ساعة ستشرق الشمس، لا تختلف عن موعدها، هذا التثبيت لقوانين الحياة حتى تعمر الأرض، وإلا كان الإنسان لا يعرف كيف يحيا حياته، الأشياء التي في الأرض أيضاً تثبيت قوانينها جعل فيه حياة، فالمعادن تتمدد بالحرارة، لا يوم السبت تتمدد بالحرارة، ويوم الأحد لا تتمدد، وليس هناك معادن تتمدد ومعادن لا تتمدد، لما كان هناك إعمار في الأرض ولا سكك حديدية، فواصل التمدد ثابتة وانتهى، المعادن تتمدد بالحرارة وانتهى، المبدأ واحد لا يتغير، فخصائص الأشياء كالخشب يطفو، الكثافة نفسها، فجعل هناك قوانين في الفيزياء والكيمياء، هذه القوانين هي التي جعلت هناك حضارة في الأرض، لا أسميها حضارة، أسميها مدنيّة في الأرض، أما لو كانت الأشياء متغيرة غير ثابتة لما استطاع الإنسان من إعمار الأرض، لأن ليس لديه قوانين يسير عليها، حتى جسم الإنسان فيه قوانين من أجل ذلك كان هناك الطب، أما لو إنسان كليته تعمل غير عمل كلية الإنسان الآخر تشريحياً من الصعب أن أعمل عمليات جراحية، كل شخص يصبح بحاجة إلى طبيب خاص به، فتثبيت القوانين رحمة من الله عز وجل.
فالضحى وقته ثابت، والليل وقته ثابت، إذاً لا بد أن يأتي الضحى، ولا خلاف على ذلك، ولا بد أن يأتي الوحي وينير الظلمات ولو بعد حين.
وهذا فيه درس لنا؛ مهما امتد ليل الظلم، وليل الطغيان، وليل الاحتلال، وليل العتوّ في الأرض، مهما امتد سيأتي بعده الضحى، ففكرة أن الضحى يأتي بعد الليل يُستفاد منها بأكثر من مسار، ﴿وَالضُّحَىٰ*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ *مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ﴾.
العين لا يمكن أن تبصر الأشياء إلا بوسيط وهو النور
أحبابنا الكرام، نحن عندما ننظر إلى الأشياء نحتاج إلى وسط، يتوسط بين العين والشيء المرئي، وإلا لو ما كان هناك نور فالأعمى والبصير سواء، فالعين لا يمكن أن تبصر الأشياء إلا بوسيط وهو النور، بالظلام لا يوجد رؤية للجميع، العقل البشري حتى يبصر الأشياء على حقيقتها لا بد له من وسيط يتوسط بينه وبين المرئيات وهو الوحي، دون وحي يضل، دون وحي يصل إلى الجندرة التي تكلمنا عنها قبل قليل، دون وحي يصل إلى أن يقلد الكلب، البشر الذي يُلبِسون الإنسان زي الكلب سيعيش كلباً لا إنساناً.
فالإنسان عندما يبتعد عن المنهج ولا يريد وحي السماء، فالآن هو سيتصرف تصرفات شاذة جداً، العقل حتى يفكر بشكل صحيح يحتاج إلى وحي، وإلا مهما عمّر، تقول لي: عمّر الأرض وعمّر الدنيا من غير وحي، هذه الدنيا، أنا أتحدث عن استقامة الحياة، استقامة العلاقات الأسرية، استقامة الآخرة، لا أتحدث عن المدنية؛ لأن ربنا عز وجل تركها، أي إنسان يملك مقوماتها يأخذ نتائجها، لكن عندما يتصرف العقل البشري بغير استنارة بنور الوحي فهو ضلال مبين.
لذلك ﴿وَالضُّحَىٰ*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ﴾ كما أن الضحى يجعلك ترى الأشياء، ويبدد ظلمة الليل، فالوحي الذي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعلك ترى الأشياء، وتبدد ظلمة الليل الشرك بهذا المعنى.
وكما أن الضحى وقت نافلة كما قلنا، والليل وقت نافلة، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان بالليل هو والصحابة تسمع أصواتهم في المدينة، فجاء﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ﴾ فهذا السكون الذي في الليل بترداد آيات الوحي فيه سيبقى كما هو.

لطيفة في قوله تعالى "وما قلى":
آخر شيء ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ﴾ فقط إشارة ربما قلتها قبل ذلك، قال: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ﴾، وما قال: ما ودعك ربك وما قلاك، طبعاً يقول المفسرون هذا لمناسبة الفاصلة، يعني ﴿وَالضُّحَىٰ*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ*مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ *وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى﴾ يعني مناسبة السماع، لكن هناك شيء أعمق من ذلك، مناسبة الفاصلة لا تكفي وحدها لفهم المعنى، الشيء الأعمق من ذلك، لو قال له: وما قلاك لانحصرت به صلى الله عليه وسلم أي: وما كرهك، لكن لما أطلقها جل جلاله ﴿وَمَا قَلَىٰ﴾ يعني وما كرهك ولا كره منهجك، ولا كره صحابتك، ولا كره شيئاً جل جلاله، مطلقة، وكل من اتبعك وما قلى.
والأمر الثاني أنك عندما تواجه إنساناً يعني إذا شخص يجلس مع أبيه، وقال لأبيه: أنا يا أبي لا أكرهك، لا تصح، أن تواجه إنساناً وتقول له: لا أكرهك، فحتى مواجهتك إياه بكاف الخطاب ولو كانت نفياً توهم أن ذلك يمكن أن يكون؛ لأن نفي الشيء أحد فروع تصوره، فإذا نزلت إلى موقف المنزل، وقلت له لا يوجد سيارة هنا، فيمكن أن يكون هناك سيارة، لكن الآن لا يوجد سيارة، فنفي الشيء أحد فروع تصوره، والعكس قائم.
أما لما قال له ﴿وَمَا قَلَىٰ﴾، فما أراد جل جلاله أن يقول لنبيه أنا لا أكرهك، وإنما قال وما كره حتى لا يخاطبه بالنفي حتى كانت كرامته عند ربه جل جلاله أنه حتى بالنفي ما خاطبه، بنفي كرهه، وإنما قال: ﴿وَمَا قَلَىٰ﴾، وهذا تعليم لنا أن نتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتأدب مع سنته ومع منهجه، نسأل الله تعالى أن يجمعنا به في مستقر رحمته.
والحمد لله رب العالمين.