القَسَم في الجزء الثلاثين - اللقاء الخامس
القَسَم في الجزء الثلاثين - اللقاء الخامس
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. |
اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً، يا رب العالمين وبعد: |
هذا لقاؤنا الأخير من لقاءات القَسَم في الجزء الثلاثين من كتاب الله تعالى، وكنا بمعيتكم نتتبع السور القرآنية والآيات القرآنية في الجزء الثلاثين التي جاء فيها قسم من الله تعالى بشيء من مخلوقاته لنربط بين القسم وجوابه، وننظر في هذا الأسلوب القرآني الماتع والجميل، وبقي عندنا ثلاث سور في الجزء الثلاثين فيها قسم وهي السور الأخيرة (التين والعاديات والعصر). |
السورة الأولى هي سورة التين، قال تعالى: |
وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلْأَمِينِ(3)
قَسَم بأربعة أشياء: بالتين، بالزيتون، بجبل الطور في سيناء، بالبلد الأمين مكة المكرمة، جواب القسم: |
لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ فِىٓ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍۢ (4)
التين والزيتون موطنهما فلسطين
|
{ كُلوا الزيتَ وادَّهِنُوا بِه؛ فإنَّه من شجرةٍ مُباركةٍ }
(أخرجه الترمذي عن عمر بن الخطاب)
فأوصى بزيت الزيتون، وكما تعلمون إلى أمد ليس ببعيد كثيراً كان كثير من الأطباء يوصون بالابتعاد عن زيت الزيتون، وتكون الإعلانات غالباً للزيوت الخفيفة؛ زيوت النخيل، والذرة وغير ذلك على اعتبار أنها خفيفة، وأما زيت الزيتون فزيت ثقيل ويسبب أمراضاً وكذا، ثم تراجع كل من قال ذلك عن قوله، وتبين أنها كانت دعاية رخيصة للبعد عن المصدر الحقيقي للزيت، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يوصي بأكل الزيت، وما قال: اشربوه لما فيه من فوائد جمة، فهو طعام، وإدام (كُلوا الزيتَ وادَّهِنُوا بِه؛ فإنَّه من شجرةٍ مُباركةٍ) فالإشارة إلى التين وهو ثمرة من ثمار الجنة، والزيتون وهو شجرة مباركة من الأشجار التي ورد ذكرها في سورة النور، وفي سورة المؤمنون: |
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنۢبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍۢ لِّلْءَاكِلِينَ (20)
كل بلاد الشام بوركت ببركة بيت المقدس
|
ثُمَّ رَدَدْنَٰهُ أَسْفَلَ سَٰفِلِينَ (5) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍۢ (6)
إلا من قَبِل المنهج (ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير منقطع، أجرهم مستمر إلى يوم القيامة. |
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِٱلدِّينِ (7)
ما الذي يدفعك إلى التكذيب بدين الله -عزَّ وجلَّ- وقد جعلك في أحسن تقويم، وأنزل عليك المنهج، وخلق لك ما في السماوات والأرض. |
أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَٰكِمِينَ (8)
الله تعالى خلقنا في أحسن تقويم
|
ٱلرَّحْمَـٰنُ (1) عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ (2) خَلَقَ ٱلْإِنسَـٰنَ (3)(سورة الرحمن)
قال العلماء: لقد خلقه ثم علّمه، لكن الآيات علّمه ثم خلقه، قدّم التعليم على الخلق، قالوا :هذا تقديم رُتبي لا زمني، بمعنى أنه لا معنى لوجود الإنسان على الأرض من غير منهج يسير عليه، فأنت إذا اشتريت آلة بالغة التعقيد غالية الثمن، فإن التعليمات التي تأتي معها أهم منها؛ لأنك إن استخدمتها دون تعليمات أعطبتها، وإن تركت استخدامها عطّلتها، فلا بد أن تستخدمها مع التعليمات من أجل أن تنتفع منها وألا تعطبها، فالإنسان أعقد آلة في الكون، فإذا أراد أن يستخدم ذاته في الأرض؛ فإما أن يستخدمها في طاعة الله وفق المنهج فيَسعد ويُسعد، أو أن يتركها هملاً فيشقى ويشقي، فإذاً المنهج أهم من الخلق، لذلك جاءت الإشارة إلى المنهج بطور سيناء وبالبلد الأمين، وحتى بالتين والزيتون من خلال منبته؛ هذه سورة التين. |
وأما السورة الثانية التي فيها قسم فهي سورة العاديات، قال تعالى: |
وَٱلْعَٰدِيَٰتِ ضَبْحًا (1)
والعاديات/ هي الخيل التي تعدو فسميت عاديات لكثرة عدوها تركض، تعدو فسميت العادية، وهي تضبح بمعنى أنها تصدر صوتاً يشبه ما نسميه في العامية: يلهث الإنسان؛ صوت الركض والعدو فتضبح فيصدر لها صوت بسبب عدوها. |
فَٱلْمُورِيَٰتِ قَدْحًا (2)
هي عندما تعدو هذا العدو السريع تصطك سنابكها بالحجارة وبالأرض فتوري أي تشعل النار، تقدح لشدة عدوها يقدح النار عند اصطكاك سنابكها بالحجارة (فَٱلْمُورِيَٰتِ قَدْحًا) |
فَٱلْمُغِيرَٰتِ صُبْحًا (3)
تُغير عند الصباح على الأعداء، فالجيوش غالباً تُسيّر ليلاً، فإذا أصبح القوم وجدوا القوم قد أغاروا عليهم، يسيرون ليلاً ويصبحون عند الأعداء، (فَٱلْمُغِيرَٰتِ صُبْحًا) تغير على الأعداء صبحاً. |
فَأَثَرْنَ بِهِۦ نَقْعًا (4)
بهذه الخيل نثير النقع، والنقع هو الغبار، غبار المعركة عندما تركض الخيول تثير النقع. |
فَوَسَطْنَ بِهِۦ جَمْعًا (5)
عندما تركض الخيول تثير النقع
|
فازورَّ من وقع القَنا بلبانه وشكا إليَّ بعبرة وتَحمحُمِ لو كان يَدري ما المُحاورة اشتَكى ولكان لو علم الكلام مُكلِّمي
دخل السهم القنا بلبانه هنا في رقبته -الخيل-، فالخيل ما الذي يدفعها أن تقف بين الجموع وتجاهد عن صاحبها، حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل-كما يقال-، لكنها إنما تفعل ذلك كله وفاء لصاحبها الذي رعى لها حقها يوماً، وأطعمها وسقاها وأعطاها الذي تريده فجاءت وفاء لصاحبها، والخيل من سماتها الوفاء. |
{ الخيل مَعقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْر إلى يوم القيامة: الأجر، والمَغْنَم }
( متفق عليه عن ابن عمر، وهذا لفظ البخاري)
جاء جواب القسم مفاجئاً وصاعقاً للإنسان عندما ينظر إلى هذه الصورة المهيبة في وفاء الخيل، ثم يقرأ قوله تعالى: |
إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ (6)
الكنود هو الذي يعدّ المصائب وينسى النعم
|
إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)(سورة المعارج)
إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ (6)(سورة العاديات)
إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ (2)(سورة العصر)
كَلَّآ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ (6)(سورة العلق)
فهو إن ترك نفسه، وقد كرمه الله تعالى: |
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)(سورة الإسراء )
لكنه إن ترك نفسه لشهواته فليس مكرماً عند الله، لكنه إن استجاب لنداء ربه ونداء فطرته ولنداء عقله فهو مكرم عند الله، فهو المؤمن، وهو الرباني، وهو الشكور، وهو المحسن؛ هذا هو الممدوح في القرآن الكريم، (إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ) |
وَإِنَّهُۥ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ (7)
يشهد على كنوده بأعماله، أعماله تشهد عليه، وهو يشهد على كل كنوده يوم القيامة أمام ربه. |
وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
أي المال. |
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ (180)(سورة البقرة)
فالمال يوصف بأنه الخير (وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) |
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى ٱلْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِى ٱلصُّدُورِ (10)
مما أخفاه الإنسان من النوايا والبواعث. |
إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍۢ لَّخَبِيرٌۢ (11)
العصر هو الزمن
|
وَالْعَصْرِ (1)
والبعض قالوا: (وَالْعَصْرِ) هو وقت العصر، وصلاة العصر لأنها الصلاة الوسطى فأقسم الله بها، لكن لو أخذنا العصر على أنه مطلق الزمن، أي زمن يمضي فهو عصر ومنه وقت العصر، فإن الله تعالى يقسم بالزمن، لماذا يقسم بالزمن؟ لأنه يخاطب الإنسان، والإنسان في حقيقته زمن، فأنا أو أنت أو فلان من الناس لو كان قدره أن يعيش هذا العمر فنقول: إن فلاناً أو مات فبعد أن يموت يمكن أن نقول: فلان، من هو؟ هو تلك الثمانون سنة والتسعة أشهر وعشرة أيام وأربع ساعات وخمس دقائق وثلاث ثوانٍ؛ هذا هو، رأس ماله الزمن، والدليل أنه كلما مضى شيء من الزمن انقضى بضع منه، لذلك قال الحسن البصري: "أيها الإنسان إنما أنت بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منك" فنحن في الحقيقة زمن، فأقسم الله تعالى لنا بمطلق الزمن، وجواب القسم متناسب مع القسم. |
إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ (2)
الإنسان يخسر رأسماله وهو الزمن
|
إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ (3)
يعني فعلوا الأربعة معاً نجوا من الخسارة، فلا يخلو حال إنسان منا أن يدقق في كل لحظة في حياته أن تكون حركته متوافقة مع واحدة من هذه الأربعة؛ فإما أن تكون حركة إيمان (آمنوا)، وإما أن تكون عمل، وإما أن تكون دعوة إلى الله، وإما أن تكون صبراً، وهذا في كل لحظة من حياة المؤمن- ولا أبالغ- هذا المجلس مجلس إيمان حركة، هذه ليست خسارة، هذه النصف ساعة ليست خسارة من حياتك، إذا أحدهم قاعد مع أهله ليست خسارة؛ لأنه عمل صالح يبتغي به وجه الله، يدخل السرور على قلبهم، يتألف قلب بناته، يسمع منهن، يمازحهن، يحكي نكتاً بريئة حتى يحببهن بالبيت ساعة وساعتين وثلاثة، هذا عمل صالح لأنه يصلح للعرض على الله لا يوجد فيه غلط. |
الإيمان يزيد بالطاعة
|
(عَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ) أي عمل صالح يصلح للعرض على الله فهو عمل صالح، ما دام وفق منهج الله، نزهة وفق منهج الله عمل صالح، طعام طيب حلال من مال حلال، بسم الله وبآخره الحمد لله عمل صالح وفق منهج الله، (وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ) كهذا المجلس أمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يا أخي هذا لا يجوز لا يليق بك، أنت إنسان مؤمن، هذا القرض الذي أخذته رباً حرام (وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ) أي صبروا على الإيمان لأن طلب العلم يحتاج صبراً، وصبروا على العمل الصالح، وصبروا على الدعوة إلى الله تعالى، فصار الصبر يشمل الثلاثة كلها، وصبروا على الطاعة، وعن المعصية، وعلى قضاء الله تعالى وقدره، فصار عندنا سورة العصر هي قسم بالزمن و جوابها هو خسارة الإنسان المحققة ما لم يستثمر وقته ولا يستهلكه، ولا يستثمر الوقت حقيقة إلا إن كان في طاعة الله، ولا يكون في طاعة الله إلا إن كان في أربعة أمور: و هي الإيمان والعمل والدعوة إلى الله والتواصي بالحق والصبر، وهذا هو أسلوب القسم في القرآن الكريم ووفق الله تعالى به وأعان، وأحمد الله تعالى إليكم وأشكر لكم حسن استماعكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |