القَسَم في الجزء الثلاثين - اللقاء الخامس

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-09-25
  • عمان
  • الأردن

القَسَم في الجزء الثلاثين - اللقاء الخامس

السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً، يا رب العالمين وبعد:
هذا لقاؤنا الأخير من لقاءات القَسَم في الجزء الثلاثين من كتاب الله تعالى، وكنا بمعيتكم نتتبع السور القرآنية والآيات القرآنية في الجزء الثلاثين التي جاء فيها قسم من الله تعالى بشيء من مخلوقاته لنربط بين القسم وجوابه، وننظر في هذا الأسلوب القرآني الماتع والجميل، وبقي عندنا ثلاث سور في الجزء الثلاثين فيها قسم وهي السور الأخيرة (التين والعاديات والعصر).
السورة الأولى هي سورة التين، قال تعالى:

وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلْأَمِينِ(3)

قَسَم بأربعة أشياء: بالتين، بالزيتون، بجبل الطور في سيناء، بالبلد الأمين مكة المكرمة، جواب القسم:

لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ فِىٓ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍۢ (4)

التين والزيتون موطنهما فلسطين
القَسَم الأول بالتين؛ والتين هو الشجرة المعروفة التي تؤكل، والزيتون الشجرة المعروفة التي تُعصر؛ تؤكل وتعصر، وهذا تفسير ابن عباس -رضي الله عنهما- ومجاهد وغيره لما سئل: ما التين، والزيتون؟ قال: التين تينكم الذي تأكلون، و الزيتون زيتونكم الذي تعصرون، ربنا -عزَّ وجلَّ- يلفت نظرنا للتين والزيتون، لكن لا يمنع أن يقال: إن التين والزيتون موطنهما هو بلاد الشام وفلسطين على وجه التحديد وما حولها مما بارك الله تعالى فيه من الأرض، فهاتان الثمرتان لهما موطن، فلا يمنع- لاسيما أن بعد ذلك إشارة إلى الطور في سيناء و إشارة إلى البلد الأمين مكة المكرمة-،لا يمنع أن يقال: إن في القسم بالتين والزيتون إشارة إلى مكان التين والزيتون المعروف جغرافياً وهو بلاد الشام المباركة و فلسطين وبيت المقدس التي بارك الله بها وبارك حولها، أي لا يمنع هذا من ذاك، هو قسم بالتين والزيتون وإشارة إلى موطن التين و الزيتون، والزيتون شجرة مباركة وصفها القرآن الكريم بأنها شجرة مباركة، والنبي- صلى الله عليه وسلم- كما في المستدرك على الصحيحين بسند صحيح، قال:

{ كُلوا الزيتَ وادَّهِنُوا بِه؛ فإنَّه من شجرةٍ مُباركةٍ }

(أخرجه الترمذي عن عمر بن الخطاب)

فأوصى بزيت الزيتون، وكما تعلمون إلى أمد ليس ببعيد كثيراً كان كثير من الأطباء يوصون بالابتعاد عن زيت الزيتون، وتكون الإعلانات غالباً للزيوت الخفيفة؛ زيوت النخيل، والذرة وغير ذلك على اعتبار أنها خفيفة، وأما زيت الزيتون فزيت ثقيل ويسبب أمراضاً وكذا، ثم تراجع كل من قال ذلك عن قوله، وتبين أنها كانت دعاية رخيصة للبعد عن المصدر الحقيقي للزيت، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يوصي بأكل الزيت، وما قال: اشربوه لما فيه من فوائد جمة، فهو طعام، وإدام (كُلوا الزيتَ وادَّهِنُوا بِه؛ فإنَّه من شجرةٍ مُباركةٍ) فالإشارة إلى التين وهو ثمرة من ثمار الجنة، والزيتون وهو شجرة مباركة من الأشجار التي ورد ذكرها في سورة النور، وفي سورة المؤمنون:

وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنۢبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍۢ لِّلْءَاكِلِينَ (20)

كل بلاد الشام بوركت ببركة بيت المقدس
إلى غير ذلك من الإشارات إلى الشجرة المباركة التي هي شجرة الزيتون، كل ذلك يوحي بأن القسم بهاتين الشجرتين و بتلكما الثمرتين قسم له أهمية، وكذلك موطنهما وهو بلاد الشام التي هي فلسطين كمركز لبلاد الشام لأن فيها الأقصى الذي تشد إليه الرحال، وما بارك الله من حوله من هذه البلاد المباركة في الأردن وفي دمشق و سوريا وفي جزء سابقاً من بلاد الشام كان جزءاً من تركيا وجزء من العراق، فكل بلاد الشام بوركت ببركة فلسطين، وببركة بيت المقدس، أيضاً ذلك مؤذن بالقسم بمنبت هاتين الشجرتين، أما (طور سينين) سينين هو سيناء، وقيل: هو المكان المثمر الطيب المبارك في لغة ما من اللغات كما فسرها بعض أهل التفسير، والطور هو الجبل (جبل الطور) فهذا الجبل الذي كلّم الله تعالى فيه موسى تكليماً، فأقسم الله بهذا المكان إذ كان فيه نزول الوحي على موسى -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- وبلاد الشام كانت أيضاً في إشارة التين والزيتون مبعث عيسى -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة و السلام-، وجاء البلد الأمين وهو الذي بُعث فيه محمد -صلى الله عليه وسلم- فتكاملت الأماكن مع بعضها (وَهَٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلْأَمِينِ)، جواب القسم (لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ فِىٓ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) و(أحسن) صيغة من صيغ التفضيل على وزن أفعل؛ أي على أحسن ما يكون من القوام، فربنا -جلَّ جلاله- خلق المخلوقات كلها؛ منهم من يمشي على أربعة، ومنهم من يمشي على رجلين لكنه كرّم بني آدم، و كرّم الإنسان بحيث جعله مخلوقاً على أحسن تقويم، سواء في تقويمه الجسدي بحيث وهبه الحواس الخمس التي تكون نوافذ له على العالم، ثم وهبه المعالج الذي يعالج تلك المُدخلات، ثم وهبه الفكر الذي ينتج المعلومات الصحيحة التي تفيد الإنسان في حياته، فعمر الأرض واستعمره الله تعالى فيها وكان خليفته في الأرض، أو كان التقويم الذي هو تقويم نفسه بحيث أصبحت نفسه مهيأة لقبول منهج السماء، فإذا نظرنا إلى هذا القسم بهذا المعنى تبين لنا أن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، فإذا قلنا: التين والزيتون هما الشجرتان فهذا إشارة إلى ما خلقه الله تعالى له من أصناف ليعمر حياته بها، وهذا يكون في أحسن تقويم أو من تمام تقويمه، أي مثلاً -أجلّكم الله- كثير من الحيوانات العاشبة تعيش عمرها وطعامها واحد كل يوم لا يتغير ولا يتبدل، كل يوم يُقدم لها الطعام نفسه، وما قالت يوماً: لقد مللت هذا الطعام، ايتوني برز مطبوخ، وضعوا فوقه اللوز والصنوبر، تأكل الطعام نفسه كل يوم، لكن الإنسان مكرم، ومن ودّ الله تعالى له أن جعل له أصنافاً من الفواكه، و الفواكه هي من اسم الله الودود، فالتين ودّ من الله تعالى طعم حلو طيب، فوائد جمة مذهلة لبناء جسمه، والزيتون أيضاً شجرة مباركة طيبة فيها الفوائد للجسم وفيها القوت للإنسان، فهاتان النبتتان إشارة إلى ما هو أعم منهما، وهو كل ما خلقه الله تعالى للإنسان حتى جعله في أحسن تقويم فسخر له التين والزيتون، وسخر له كل ما خلق من أجله، وأيضاً من تمام تقويمه أنه أكرمه بالمنهج، وهذا الإكرام بالمنهج هو الذي كان في طور سينين لقوم موسى -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام-، وفي البلد الأمين خاتمة الرسالات، فإذاً أحسن التقويم هو تقويم جسمه بحيث خلق له الأرض وما فيها ومن ذلك التين والزيتون، وأنزل عليه المنهج، وهذا المنهج جاءت الإشارة إليه في دعوة سيدنا عيسى إن قلنا بمنبت التين والزيتون، وبدعوة موسى -عليه السلام- في طور سنين إشارة لها، وهذا البلد الأمين إشارة إلى منهج الله تعالى لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فتكامل أحسن التقويم عنده، لكنه أحياناً يأبى هذا المنهج ويرفضه فتكون عاقبته:

ثُمَّ رَدَدْنَٰهُ أَسْفَلَ سَٰفِلِينَ (5) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍۢ (6)

إلا من قَبِل المنهج (ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير منقطع، أجرهم مستمر إلى يوم القيامة.

فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِٱلدِّينِ (7)

ما الذي يدفعك إلى التكذيب بدين الله -عزَّ وجلَّ- وقد جعلك في أحسن تقويم، وأنزل عليك المنهج، وخلق لك ما في السماوات والأرض.

أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَٰكِمِينَ (8)

الله تعالى خلقنا في أحسن تقويم
بلى فهو أحكم الحاكمين في خلقه، وهو أحكم الحاكمين-جلَّ جلاله- في منهجه، التين والزيتون إشارة للخلق، والتين والزيتون بمنبتهما، و طور سيناء بما نزل فيه من منهج، وهذا البلد الأمين بما نزل فيه من منهج، أحكم الحاكمين لمنهجه -جلَّ جلاله-فمنهجه كله حكمة، فبهذا يتكامل القَسم في سورة التين بحيث نفهم منه أن الله تعالى خلقنا في أحسن تقويم إذا نحن آمنا بالله تعالى، واتبعنا منهجه، و أخذنا ما وهبنا إياه من تين وزيتون وغير ذلك، فشكرنا الله على هذه النعمة ثم اتبعنا المنهج الذي جاء من الله تعالى، فنحن قد حققنا الخلافة في الأرض التي أرادها الله تعالى، وإلا فللسافلين- والعياذ بالله-؛ هذه سورة التين، طبعاً علاقة المنهج بالخلق، ربنا -عزَّ وجلَّ- لما قال:

ٱلرَّحْمَـٰنُ (1) عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ (2) خَلَقَ ٱلْإِنسَـٰنَ (3)
(سورة الرحمن)

قال العلماء: لقد خلقه ثم علّمه، لكن الآيات علّمه ثم خلقه، قدّم التعليم على الخلق، قالوا :هذا تقديم رُتبي لا زمني، بمعنى أنه لا معنى لوجود الإنسان على الأرض من غير منهج يسير عليه، فأنت إذا اشتريت آلة بالغة التعقيد غالية الثمن، فإن التعليمات التي تأتي معها أهم منها؛ لأنك إن استخدمتها دون تعليمات أعطبتها، وإن تركت استخدامها عطّلتها، فلا بد أن تستخدمها مع التعليمات من أجل أن تنتفع منها وألا تعطبها، فالإنسان أعقد آلة في الكون، فإذا أراد أن يستخدم ذاته في الأرض؛ فإما أن يستخدمها في طاعة الله وفق المنهج فيَسعد ويُسعد، أو أن يتركها هملاً فيشقى ويشقي، فإذاً المنهج أهم من الخلق، لذلك جاءت الإشارة إلى المنهج بطور سيناء وبالبلد الأمين، وحتى بالتين والزيتون من خلال منبته؛ هذه سورة التين.
وأما السورة الثانية التي فيها قسم فهي سورة العاديات، قال تعالى:

وَٱلْعَٰدِيَٰتِ ضَبْحًا (1)

والعاديات/ هي الخيل التي تعدو فسميت عاديات لكثرة عدوها تركض، تعدو فسميت العادية، وهي تضبح بمعنى أنها تصدر صوتاً يشبه ما نسميه في العامية: يلهث الإنسان؛ صوت الركض والعدو فتضبح فيصدر لها صوت بسبب عدوها.

فَٱلْمُورِيَٰتِ قَدْحًا (2)

هي عندما تعدو هذا العدو السريع تصطك سنابكها بالحجارة وبالأرض فتوري أي تشعل النار، تقدح لشدة عدوها يقدح النار عند اصطكاك سنابكها بالحجارة (فَٱلْمُورِيَٰتِ قَدْحًا)

فَٱلْمُغِيرَٰتِ صُبْحًا (3)

تُغير عند الصباح على الأعداء، فالجيوش غالباً تُسيّر ليلاً، فإذا أصبح القوم وجدوا القوم قد أغاروا عليهم، يسيرون ليلاً ويصبحون عند الأعداء، (فَٱلْمُغِيرَٰتِ صُبْحًا) تغير على الأعداء صبحاً.

فَأَثَرْنَ بِهِۦ نَقْعًا (4)

بهذه الخيل نثير النقع، والنقع هو الغبار، غبار المعركة عندما تركض الخيول تثير النقع.

فَوَسَطْنَ بِهِۦ جَمْعًا (5)

عندما تركض الخيول تثير النقع
وهذا النقع أحياناً يوهم الأعداء بكبر الجيش، كانوا يستخدمونه كحيلة من الحيل الحربية فيسيرونها كثيراً حتى تُثير نقعاً أكبرن فيظن الرائي من بعيد أن الجيش عرمرم وكبير، (فَوَسَطْنَ بِهِۦ جَمْعًا) فتتوسط تلك الخيول الجموع فتنزل وتجالد وتحارب عن صاحبها الذي يجلس فوقها ويديرها، لو تأمل الإنسان في هذه الصورة، والعربي عندما نزلت هذه الآيات يدرك هذه الصورة تماماً، نحن اليوم بسبب المدنية ربما كثير منا ابتعد عن جو الصحراء والخيول وعدو الخيول وقدح الخيول والنقع بسبب حياتنا المدنية، لكن حياة الصحراء هذه الصورة يتخيلها أمامه وكأنها تصوير، وهذا ما دفع سيد قطب -رحمه الله -إلى تأليف كتابه الشهير ((التصوير الفني في القرآن)) لأنه يصور لك المشهد و كأنك تراه بالعبارات التي يأتي بها، فأنت تتخيل هذا المشهد ثم يأتي إلى بالك سؤال، ما الذي يدفع تلك الخيول إلى أن تفعل ما فعلت؟! حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، لماذا تعدو الخيل؟ أنا عندما أركض يكون هناك شيء ينتظروني أو عدو أخافه أركض، يقول لي إنسان: استعجل عندي شيء موعد، فأركض بهدف، أو يركض ورائي إنسان فأركض هرباً منه، فالإنسان يتحرك ويعدو بناءً على هدف معين، ما الذي يدفع هذه الخيل للعدو إلا أنها تكون في خدمة صاحبها، ما الذي يدفعها أن تعدو إلى درجة أن توري القدح بسنابكها؟ ما الذي يدفعها -وهذا الأهم- أن تُغير صبحاً على الأعداء؟ وهل هؤلاء أعدائها؟ وهل فعلوا معها شيئاً حتى تغير عليهم؟ لا والله، إنما هي تفعل ذلك نصرة لصاحبها الذي كان يرعاها ويقوم على شأنها ويطعمها ويسقيها، فهي وفية معه، تقوم بذلك وفاء له، ما الذي يدفعها أن تثير النقع الذي يزكم الأنوف؟ وما الذي يدفعها أن تتوسط الجموع فتقوم بين الجموع وتتحرك وتعرّض نفسها للخطر بسهم يأتي من هنا أو من هناك؟ كما قال هذا الشاعر العربي عنترة، قال:
فازورَّ من وقع القَنا بلبانه وشكا إليَّ بعبرة وتَحمحُمِ لو كان يَدري ما المُحاورة اشتَكى ولكان لو علم الكلام مُكلِّمي
دخل السهم القنا بلبانه هنا في رقبته -الخيل-، فالخيل ما الذي يدفعها أن تقف بين الجموع وتجاهد عن صاحبها، حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل-كما يقال-، لكنها إنما تفعل ذلك كله وفاء لصاحبها الذي رعى لها حقها يوماً، وأطعمها وسقاها وأعطاها الذي تريده فجاءت وفاء لصاحبها، والخيل من سماتها الوفاء.

{ الخيل مَعقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْر إلى يوم القيامة: الأجر، والمَغْنَم }

( متفق عليه عن ابن عمر، وهذا لفظ البخاري)

جاء جواب القسم مفاجئاً وصاعقاً للإنسان عندما ينظر إلى هذه الصورة المهيبة في وفاء الخيل، ثم يقرأ قوله تعالى:

إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ (6)

الكنود هو الذي يعدّ المصائب وينسى النعم
لم يكن وفياً مع خالقه، ولا مع من أمده بحاجاته، ليته كان وفياً كوفاء تلك الخيول، الخيل آية من آيات الله، لما أراد الله تعالى أن يملكها صاحبها وجعلها مسخرة له قامت بواجبها على أتم قيام، فهل قمت بواجبك تجاه ربك؟ (إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ) الكنود: هو الذي يعدّ المصائب وينسى النعم، جاهل بحق ربه، جاحد لنعم ربه، ورد في تفسيرها: يعد المصائب وينسى النعم، فيقول لك: أنا ماذا أخذت من هذه الدنيا، أنا عشت حياتي مريضاً، أو أنا فقير، أو أنا لا أجد مثل ما يجد الآخرون من سيارات وبيوت فارهة، هذه الدنيا لهم نحن لم نأخذ منها شيئاً، فينسى نِعَم الله تعالى عليه، ويعدّ المصائب التي جاءته؛ فهذا كنود، فالكنود هي صيغة مبالغة من كندَ الإنسان إذا أنكر نعم الله تعالى عليه، ولم يرعَ نعم الله عليه، ولم يشكر الله تعالى عليها، فانظر إلى الخيل وتعلم منها، فهذه الخيل سخّرها الله لك فقامت بمهمتها، وسخّرك الله له فهل قمت بمهمتك، فالماء للنبات، والنبات للحيوان، والحيوان للإنسان، والإنسان لمن؟ إنه لخالقه-جلَّ جلاله-إنّا لله، فما جعلك مسخّراً لمخلوق من مخلوقاته، نحن لم نُسخَّر بل سُخِّر لنا، نحن لا نؤكل لكننا نأكل، نحن لا نُرمى لكننا عند الوفاة ندفن دفناً شرعياً، نحن لنا كل المكانة وكل التكريم، كسر عظم الميت ككسره حياً، رعى الله الإنسان في حياته وبعد موته، هذا بخلاف التصرفات التي لا ترضي الله لكن نتكلم عن التشريع الذي شرّعه الله لكرامة الإنسان عليه، فهل كان الإنسان وفياً مع ربه؟! النتيجة (إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ)، والإنسان في القرآن -وقلت ذلك سابقاً- لم يُمدح لأن كلمة الإنسان في القرآن تعني الإنسان قبل أن يؤمن، أينما وردت الإنسان فهي الإنسان قبل الإيمان، أما الإيمان فممدوح، المؤمن يُمدح، لكن الإنسان وفق قبل أن يتبع منهج ربه فهو على إنسانيته، له صفات لا ترضي الله.

إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)
(سورة المعارج)

إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ (6)
(سورة العاديات)

إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ (2)
(سورة العصر)

كَلَّآ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ (6)
(سورة العلق)

فهو إن ترك نفسه، وقد كرمه الله تعالى:

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
(سورة الإسراء )

لكنه إن ترك نفسه لشهواته فليس مكرماً عند الله، لكنه إن استجاب لنداء ربه ونداء فطرته ولنداء عقله فهو مكرم عند الله، فهو المؤمن، وهو الرباني، وهو الشكور، وهو المحسن؛ هذا هو الممدوح في القرآن الكريم، (إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٌ)

وَإِنَّهُۥ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ (7)

يشهد على كنوده بأعماله، أعماله تشهد عليه، وهو يشهد على كل كنوده يوم القيامة أمام ربه.

وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)

أي المال.

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ (180)
(سورة البقرة)

فالمال يوصف بأنه الخير (وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)

أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى ٱلْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِى ٱلصُّدُورِ (10)

مما أخفاه الإنسان من النوايا والبواعث.

إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍۢ لَّخَبِيرٌۢ (11)

العصر هو الزمن
وأما السورة الأخيرة في موضوع القسم في القرآن في هذا الموضوع الجميل والشائق فهي سورة العصر، وقد تحدثنا عنها مراراً لكن إتماماً للبحث نقول: إن الله تعالى أقسم للإنسان بالعصر، والعصر هو الزمن، وقال بعضهم: إن العصر هنا هو عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ كان عصره مستخدماً في أروع استخدام؛ أي لو جئنا بثلاث وستين سنة لأي إنسان فإن أعظم من استخدم ثلاثاً وستين سنة في الأرض هو رسول الله -صل الله عليه وسلم-، هدى أمة بأكملها، انتشر هديه في الخافقين إلى يوم القيامة، لكن العصر هو عموم الزمن على أرجح الأقوال.

وَالْعَصْرِ (1)

والبعض قالوا: (وَالْعَصْرِ) هو وقت العصر، وصلاة العصر لأنها الصلاة الوسطى فأقسم الله بها، لكن لو أخذنا العصر على أنه مطلق الزمن، أي زمن يمضي فهو عصر ومنه وقت العصر، فإن الله تعالى يقسم بالزمن، لماذا يقسم بالزمن؟ لأنه يخاطب الإنسان، والإنسان في حقيقته زمن، فأنا أو أنت أو فلان من الناس لو كان قدره أن يعيش هذا العمر فنقول: إن فلاناً أو مات فبعد أن يموت يمكن أن نقول: فلان، من هو؟ هو تلك الثمانون سنة والتسعة أشهر وعشرة أيام وأربع ساعات وخمس دقائق وثلاث ثوانٍ؛ هذا هو، رأس ماله الزمن، والدليل أنه كلما مضى شيء من الزمن انقضى بضع منه، لذلك قال الحسن البصري: "أيها الإنسان إنما أنت بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منك" فنحن في الحقيقة زمن، فأقسم الله تعالى لنا بمطلق الزمن، وجواب القسم متناسب مع القسم.

إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ (2)

الإنسان يخسر رأسماله وهو الزمن
لأنه يخسر الزمن، يخسر رأس ماله، إذا تاجر رأس ماله مليون دينار، صار رأس ماله بعدما فتح محلاً وباع واشترى وصار له سنة يشتغل، صار بآخر شي خرجت الميزانية وجدنا صار رأس ماله ثمانمئة ألف، معنى هذا هو خسر لأنه خسر من رأس ماله، الآن إذا بقي مليون نقول: والله أنا لا خسرت ولا ربحت، الحمد لله أخرجنا رأس المال، المليون صاروا مليون ومئتين ربح، لما صارت الثمانمئة خسران لأنه يخسر رأس ماله، ويقول بعض السلف: تعلمت معنى سورة العصر من بائع الثلج لما سمعته ينادي: "ارحموا من يذوب رأس ماله"، فرأس مالنا هو الزمن ويذوب في كل لحظة، فنحن خاسرون إذاً؛ هذا الربط بين القسم وجوابه، لكن من ينجو من تلك الخسارة؟ هم أصناف أربعة اجتمعت فيهم تلك الأمور الأربعة معاً لأنها مكملة لبعضها، نحن قلنا معاً لأنها مكملة، وما قال تعالى: آمنوا أو عملوا وإنما:

إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ (3)

يعني فعلوا الأربعة معاً نجوا من الخسارة، فلا يخلو حال إنسان منا أن يدقق في كل لحظة في حياته أن تكون حركته متوافقة مع واحدة من هذه الأربعة؛ فإما أن تكون حركة إيمان (آمنوا)، وإما أن تكون عمل، وإما أن تكون دعوة إلى الله، وإما أن تكون صبراً، وهذا في كل لحظة من حياة المؤمن- ولا أبالغ- هذا المجلس مجلس إيمان حركة، هذه ليست خسارة، هذه النصف ساعة ليست خسارة من حياتك، إذا أحدهم قاعد مع أهله ليست خسارة؛ لأنه عمل صالح يبتغي به وجه الله، يدخل السرور على قلبهم، يتألف قلب بناته، يسمع منهن، يمازحهن، يحكي نكتاً بريئة حتى يحببهن بالبيت ساعة وساعتين وثلاثة، هذا عمل صالح لأنه يصلح للعرض على الله لا يوجد فيه غلط.
الإيمان يزيد بالطاعة
بلحظة معينة كنت في مكان تكلمت بمعنى آية كريمة سمعتها (وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ) مررت في الطريق عرض شيء لا يرضي الله تعالى غضضت البصر عنه صبر عن المعصية، وقفت في الصلاة صبر على الطاعة، توفي صديق عزيز على قلبك صبرت على قضاء الله تعالى وقدره، فكل لحظة من لحظات حياتنا لا تخلو أن تكون واحدة من هذه الأربعة، لذلك كان بعض السلف يقولون: " لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم"؛ لأن كل حركة بحركات حياتنا إذا كانت إيماناً أو عملاً صالحاً أو دعوة أو صبراً، آمنوا الإيمان الذي يحملهم على طاعة الله، طلب العلم إيمان، الصلاة إيمان، قيام الليل إيمان، الصيام إيمان، العمرة إيمان، أي شيء يقربك من الله بناء للإيمان؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
(عَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ) أي عمل صالح يصلح للعرض على الله فهو عمل صالح، ما دام وفق منهج الله، نزهة وفق منهج الله عمل صالح، طعام طيب حلال من مال حلال، بسم الله وبآخره الحمد لله عمل صالح وفق منهج الله، (وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ) كهذا المجلس أمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يا أخي هذا لا يجوز لا يليق بك، أنت إنسان مؤمن، هذا القرض الذي أخذته رباً حرام (وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ) أي صبروا على الإيمان لأن طلب العلم يحتاج صبراً، وصبروا على العمل الصالح، وصبروا على الدعوة إلى الله تعالى، فصار الصبر يشمل الثلاثة كلها، وصبروا على الطاعة، وعن المعصية، وعلى قضاء الله تعالى وقدره، فصار عندنا سورة العصر هي قسم بالزمن و جوابها هو خسارة الإنسان المحققة ما لم يستثمر وقته ولا يستهلكه، ولا يستثمر الوقت حقيقة إلا إن كان في طاعة الله، ولا يكون في طاعة الله إلا إن كان في أربعة أمور: و هي الإيمان والعمل والدعوة إلى الله والتواصي بالحق والصبر، وهذا هو أسلوب القسم في القرآن الكريم ووفق الله تعالى به وأعان، وأحمد الله تعالى إليكم وأشكر لكم حسن استماعكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.