دروس من حصار الشعب

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-11-13
  • عمان
  • الأردن

دروس من حصار الشعب

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام؛ قالوا: التاريخ يعيد نفسه، والصحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه ولكن الأحداث تتشابه لأن ملة الكفر واحدة، ولأن ملة الإيمان واحدة، ولأن معركة الحق والباطل قديمة ومستمرة إلى قيام الساعة، فلا بد أن تتشابه الأحداث بل إنك أحياناً تقرأ في التاريخ وكأنك تقرأ في الحاضر، الأدوات والوسائل تختلف ولكن البواعث والأسباب واحدة، فدائماً وأبداً ما كانت المعركة مستمرة ولن تتوقف حتى يرث الله الأرض ومن عليها، إذا قرأنا في التاريخ فإننا نسمع وكنا نقرأ ونسمع عن حصار الشِّعب، نقرأ عنه وكأنه جزء من التاريخ حتى أصبح اليوم شيئاً من الحاضر نلمسه و نشاهده، فأحببت في هذا اللقاء أن نتحدث عن هذا الحصار وما فيه من دروس وعِبر لأنه يتصل بواقعنا اليوم اتصالاً واضحاً، اشتد أذى المشركين على المسلمين كأشد ما يكون حتى بلغ المسلمين الجهد واشتد عليهم البلاء، وأجمعت قريش أمرها أن يقتلوا محمداً- صلى الله عليه وسلم- علانية، لما رأى أبو طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- عمل القوم و إصرارهم على قتل ابن أخيه جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يُدخلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شعبهم في حمايتهم، وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، منهم من فعله حمية للقرابة، و منهم من فعله إيماناً ويقيناً، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم، وألا يبايعوهم، وألا يدخلوا بيوتهم؛ مقاطعة مع حصار، حصار اقتصادي و مقاطعة اجتماعية حتى يسلموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-للقتل، وكتبوا في هذا المكر صحيفة، خطّوا كلاماً: ألا يتقبّلوا من بني هاشم صلحاً ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-للقتل، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، قطعوا عنهم الأسواق فلا يتركون طعاماً يقدم مكة إلا بادروا إليه فاشتروه، ما يسمحون أن يصل إليهم الطعام والشراب، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أبو طالب يأمر ابن أخيه-صلى الله عليه وسلم- أن ينام في فراشه فإذا جنّ الليل سحبه من فراشه وجعل أحداً مكانه، وجعله في مكان آمن حتى لا يتسلل إليه أحد فيقتله، اشتد الحصار على الصحابة وعلى بني هاشم وبني المطلب، على أصحاب الحق والقضية وعلى من ناصرهم، اشتد الحصار على الصحابة وهم أصحاب القضية وعلى كل من أيدهم أو ناصرهم، اليوم يوجد حصار فيسبوكي على كل من يدعم ويناصر، فاشتد الحصار على الصحابة وعلى من أيدهم حتى اضطروا إلى أكل ورق الشجر، ما بقي طعام يُؤكل حتى أكلوا ورق الشجر، وأصيبوا بظلف العيش وشدته حتى إنك لتسمع أو حتى أن قريشاً لتسمع صوت الصبية يتضاغون من الجوع يبكون من وراء الشعب، يسمعون أصوات الصغار تبكي لأنها لا تجد طعاماً، فلما كان رأس ثلاث سنين قيض الله لنقض الصحيفة أناساً من أشراف قريش وكان الذي تولى الأمر هشام بن عمرو الهاشمي قصد إلى زهير بن أمية فقال له : يا زهير-هذا مشرك- قال له: يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت؟! لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إني أحلف بالله: لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته لمثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً، -لو كانوا بني قرابة بني عمومة ما فعلت لكن نفعل ذلك لأنهم من غير بني جلدتنا-، قال: ويحك يا هشام ماذا أصنع - هذا حال كثير اليوم: ماذا أصنع؟ أنا وحدي -إنما أنا رجل واحد؟! والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقال له: قد وجدت رجلاً، قال: من هو؟ قال: أنا، فقال له زهير: ابغنا ثالثاً، فذهب إلى المطعم بن عدي فقال له: أقد رضيت أن يُهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك؟ موافق لقريش فيهم أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنّهم إليها منكم سراعاً-هذا المثل: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض، لو أمكنتموهم منهم سيصل إليكم الأمر، الدور قادم- قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنّما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت لك ثانياً، قال: من؟ قال: أنا، قال: ابغنا ثالثاً، قال: قد فعلت، قال: من؟ قال زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعاً -نعمل تحالفاً-، فذهب إلى أبي البختري بن هشام فقال له نحو ما قال للمطعم بن عدي فقال له: ويحك وهل نجد أحداً يعين على ذلك؟ قال: نعم زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا، فقال: ابغنا خامساً، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب، فكلّمه وذكر له قرابته وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمّى له القوم فتواعدوا خطم الحجون، -الحجون موضع بأعلى مكة وخطمه أي مقدمته- تواعدوا في مكان فاجتمعوا هناك وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة – لبس ثياباً مرتبة -فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس فقال: أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يبتاعون، ولا يُبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فقال أبو جهل وكان في ناحية المسجد: كذبت والله، لا تشقّ، فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كُتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كُتب فيها ولا نقر به، فقال المطعم بن عدي: صدقتما-يد الله مع الجماعة-، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ من الله منها ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك، فقال أبو جهل: هذا أمر قُضي بليل وتُشوّر فيه في غير هذا المكان- هذا ليس وليد اللحظة، هذا كلام فيه ترتيب مسبق-، قال وأبو طالب جالس في ناحية المسجد لا يتكلم، وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقّها فوجد الأرضة –والأرضة دويبة بيضاء تظهر في أيام الربيع تأكل الخشب ونحوه- قد أكلتها إلّا عبارة واحدة: "باسمك اللهم"، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر بذلك عمه أبا طالب فذهب إلى قومه وأخبرهم بذلك، وقال لهم: فإن كان كاذباً فلكم علي أن أدفعكم إليه تقتلونه؛ لأنه يعلم صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وإن كان صادقاً فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟ فأخذ عليهم المواثيق وأخذوا عليه، فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال المطعم بن عدي وهشام بن عمرو نحن براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة ولن نمالئ أحداً في فساد أنفسنا وأشرافنا، وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش، فخرج النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه من الشعب بعد حصار دام ثلاث سنوات.
أيها الإخوة الأحباب؛ شيء مؤسف أن يقول الإنسان اليوم: ليت أعداءنا كأبي جهل على شدة ما كان فيه، وليت منافقينا كعبد الله بن أبي بن سلول لأن العداوة التي تظهر اليوم من أعدائنا يخجل منها أبو جهل، والنفاق الذي يظهر من منافقينا يخجل منه عبد الله بن أبي بن سلول ويقول: إن كان هذا هو النفاق فلست منافقاً، فمن المؤسف جداً أن نصل إلى مرحلة نستذكر فيها أبا جهل بأنه كان يوماً عدواً للمسلمين، فلا أعداؤنا كأعدائهم، ولا منافقونا كمنافقيهم، هذا الحصار أيها الكرام فيه دروس ودروس، وسأختصرها:

دروس من حار الشعب:
صبر الرضا ما بعده إلا العز والتمكين
الدرس الأول: الصبر أيها الكرام صبران؛ صبر قهر وصبر رضا، صبر القهر ما بعده إلا القبر، وصبر الرضا ما بعده إلا العز والتمكين، الصحابة الكرام- رضوان ربي عليهم- مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صبروا في الشعب صبر رضا لذلك كان هذا الحصار منطلق العز والتمكين.

وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ (6)
(سورة القصص)

صبر الرضا يرافقه العمل والسعي، أما صبر القهر فيرافقه القعود والخنوع والاستسلام؛ هذا ليس صبراً، إنسان جالس في مكانه لا يُحرك ساكناً لا يفعل شيئاً يقول لك: صابرون، لا والله لست بصابر، الصبر أرقى من ذلك بكثير، أنت خانع للأسف، فهؤلاء صبروا، قال تعالى:

إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـًٔا ۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
(سورة آل عمران)

الصبر علامة معرفة
فالصبر مع التقوى طريق النصر والتمكين، كان الصبر صعباً، الصبر مر لكن سيدنا عمر كان يقول: "وجدنا خير عيشنا في الصبر"، ما قال: وجدنا خير عيشنا في التمكين، في النصر، قال: في الصبر، لأن الصبر كما قالوا: مطية لا تكبو، كل مطية قد تكبو بك في الطريق إلا الصبر، الصبر طريقه إلى الله سالك، والصبر علامة معرفة يا كرام، هذه الأم التي تودع ابنها تقول: رضينا بالله تعالى، هذه تعرف ربها، وإلا ما صبرت، الإنسان لا يصبر إلا على ما يعرفه، قال:

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِۦ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِىٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرًا وَلَآ أَعْصِى لَكَ أَمْرًا (69)
(سورة الكهف)

لكن بأول مفترق طرق سيدنا موسى على جلال قدره لما رأى أمراً يخالف الأمر الشرعي عنده ويقوم به العبد الصالح فما فهمه، وهذا عبد صالح فكيف يفعل ذلك؟ فاعترض مرة ومرتين وثلاث لأنه لا يعرف ما يعرفه العبد الصالح، فالصبر يحتاج إلى معرفة.

قُلْ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍۢ (10)
(سورة الزمر)

كان بعض العارفين يضع في جيبه رقعة يخرجها كل حين ويقرأ فيها:

وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
(سورة الطور)

وكان سليمان بن القاسم يقول: كل عمل يُعرف ثوابه إلا الصبر، قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍۢ)، كيف يعرف ثوابه إلا الصبر؟ أي أنت أي سلعة تقول له: أعطني ورقة نقدية شيك، يسطر لك شيكاً ستمئة دينار يوقعه ويعطيك إياه، لكن هل هناك شخص يعطيك ورقة نقدية دون أن يضع فيها الرقم ويوقع ويقول لك: ضع الرقم الذي تريده؟ هذا ثواب الصبر، الصبر ليس هناك رقم، الرقم متروك لك تملؤه كيفما شئت (إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍۢ).
العبرة الثانية: ظاهرة أبي جهل في حصاره لسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- تستحق الدراسة لأنها تتكرر كما قلنا، فقد يجد الدعاة، وقد يجد المصلحون، وقد يجد المجاهدون، وقد يجد المرابطون من أقرب قراباتهم من يقلب لهم ظهر المجن، ويبالغ في إيذائهم وحصارهم، ويلقون من بني جلدتهم مالا يلقونه من عدوهم.
وظُلمُ ذوي القربى أشد مضاضةً على المرء من وقع الحسامِ المهنّدِ
{ طرفة بن العبد }
يريد الله تعالى ألا تتعلق القلوب إلا به
يريد الله تعالى من ذلك ألا تتعلق القلوب إلا به، ربنا -عزَّ وجلَّ- يغار، فإذا تعلق القلب بغيره جاءك من أقرب الناس إليك ما يجعلك تيأس مما في يده، أحياناً يكون الإنسان واضعاً الكرت خاصته في جيبك وتقول: أنا إن شاء الله مهما يصيبني من مشكلات متعلقة بالدولة فالهاتف في جيبي واتصل به و يحل المشكلة فوراً، ثم تتفاجأ أنك تتصل فلا يرد، أو يرد فيقول لك: يا أخي دعني و شأني، ستصاب بالإحباط لكن بعد الإحباط تتوجه الى الله تعالى، فالله تعالى يغار، لا يريد من القلب أن يتعلق بغيره، فإذا قلب لك أقرب الناس إليك ظهر المجن اتجهت إلى الله تعالى وحده.
الآلام هي التي تصنع الرجال
الأمر الثالث أيها الكرام؛ هذه السنوات الثلاث -على ما فيها حتى أكلوا ورق الشجر- كانت زاداً في التربية للجيل، في التربية والبناء، المحن و الشدائد هي التي تصنع الرجال والأبطال، وما سمعنا أن حياة اللهو والترف أنتجت رجالاً أو بنت أمة، في التاريخ عموماً لا يوجد حياة ترف، و حتى في القرآن الكريم لا يوجد مكان أو آية ذكرت المُترفين إلا ذكرتهم ذماً، طبعاً الترف لا يعني مجرد الغنى أي المال الذي يُستخدم في الحياة وفي التقرب إلى الله، لكن تعني شدة الركون إلى الدنيا والبذخ الذي ليس وراءه طائل، والركون إلى الدنيا بما يملك الإنسان من مال، فما سمعنا أن هذه الحياة أنتجت رجالاً، الآلام هي التي تصنع الرجال، يقول عمر-رضي الله عنه-: أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريماً، ويقول أيضاً: لو كان الصبر والشكر بعيرين لم أبالي أيهما ركبت؛ أي أمامك بعيران والاثنان يوصلانك إلى مبتغاك، تقول لأحدهم : تركب هنا أو هنا، السيارتان شغالتان لا تفرق، فإذا كان هناك صبر وشكر؛ الشكر في نعمة، الصبر انزوت النعمة، فما دام الصبر يوصل لله والشكر يوصل لله ، فإذا أراد الله أن نصل إليه بالشكر وصلنا، و إذا قدّر علينا أن نصل إليه بالصبر صبرنا، وعن سفيان بن عيينة في قوله تعالى:

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ ۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ (24)
(سورة السجدة)

قال: لما أخذوا برأس الأمر أي الصبر جعلناهم رؤوساً أي أئمة يهدون بأمر الله تعالى.
الأمر الرابع أيها الكرام؛ قيام المعجزات والحجج الدامغة لا يؤثر في أصحاب الأهواء، المعجزات والحجج تؤثر في أصحاب الإيمان، الدليل: الكون اليوم بكل ما فيه ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، نحن اليوم نرى صورة التقطتها وكالة ناسا للفضاء فيقشعر جلدنا لعظمة الله تعالى في هذا الخلق، والذي صوّرها ربما يكون ملحداً لا يؤمن بوجود الله، كيف لم يؤمن؟ لأنه ما اتخذ قراراً بالإيمان، فهؤلاء رأوا الأرضة قد أكلت الصحيفة كلها إلا قوله تعالى "باسمك اللهم:، ولو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخبرهم بذلك لكفى بهذا معجزة، لكن أخبرهم بذلك وبقي اسم الله تعالى دون أن تأكله الأرضة وهذه معجزة ؛ معجزة الإخبار، ومعجزة أن الأرضة وكأنها تعلم أنها لا ينبغي أن تأكل هاتين الكلمتين، و رأوها بأعينهم لكنهم لم يؤمنوا، هذا يدل على أن الإنسان هو صاحب الاختيار، فإما أن يتخذ قراراً بالإيمان فكل ما في الوجود يدله على الله، وإما أن يكون قراره كفراً فكل ما في الوجود يصرفه عن الله لأنه مخير بالمحصلة، فحتى الآيات لا تنفعه فالآيات للمؤمنين، لذلك في آيات كثيرة:

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِۦٓ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحْمِلُهُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)
(سورة البقرة)

الترتيب: الآية تنفعني فأؤمن، الترتيب القرآني إذا كنت مؤمناً تنفعك الآية، أي إذا اتخذت قرارك بالإيمان تنفعك الآيات، أما إذا لم تتخذ القرار بالإيمان فلن تنفعك الآيات.
الواقع فيه حكمة ولو أوقعه مجرم
ثم أيها الكرام الأمر الخامس: هذه المقاطعة -على ما فيها من ألم- كانت سبباً في خدمة الإسلام والمسلمين ظاهرها حصار، تجويع، إبادة، ولكل واقع حكمة ولو كان الموقع مجرماً، الموقع مجرم وحسابه وحساب من مالأه على ظلمه عظيم عند الله، لكن الواقع فيه حكمة ولو أوقعه مجرم، فقد يسخر الله أعداءه لخدمة دينه من غير أن يشعروا أو يريدوا ثم يجعلهم في نار جهنم، هذا الحصار لفت أنظار الجزيرة العربية إلى الدعوة الإسلامية؛ أي ما كان أحد يعلم بأن هناك دعوة للإسلام، لما تحاصروا في الشعب انتشر الخبر، انتشر، انتشر، ثلاث سنوات ينتشر والناس تبحث عن هذا الدين حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، فيقول كتّاب السيرة: فما إن انفك الحصار الظالم حتى أقبل الناس على دين الإسلام فارتد سلاح الحصار على الأعداء بالنقمة، وكان عاملاً من عوامل انتشار الدعوة الإسلامية، على عكس ما أراده المشركون لأن إرادة الله فوق كل إرادة.
كانت الشدائد وما زالت باعثاً على جمع القلوب
الأمر السادس أيها الكرام؛ هذا الحصار -كما قلنا- كان مبدأ النصر والعزة، صبرهم في الشعب جعلهم يدخلون بعد عشر سنوات مكة فاتحين، والمُلاحظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة فاتحاً آثر أن ينزل في خَيف بني كنانة -كما في صحيح مسلم- هناك كتبوا صحيفتهم الظالمة في هذا الموضع، فكان ينزل به ليتذكر مع أصحابه ما كانوا فيه من ضيق وشدة فيشكروا الله على نعمة الفتح العظيم، ثم ليكون صلى الله عليه وسلم وفياً لهذا المكان الذي حُوصر فيه، فكان هذا المكان مبدأ العزة والنصر والتمكين، فأمر أن ينصبوا له خيمته عند خيف بني كنانة حيث كان الحصار واتُفق عليه، فكانت الشدائد وما زالت باعثاً على جمع القلوب.
عِداتي لَهُم فَضلٌ عَليَّ وَمِنَّةٌ فَلا أَذهبَ الرَحمنُ عَنّي الأَعاديا
{ أبو حيان الأندلسي }
فالله تعالى ينصر دينه بالرجل الكافر والفاجر والفاسق.
العبرة في الموقف الذي تتخذه
وأما الأمر السابع: هذا زهير بن أبي أمية المخزومي طاف بالبيت سبعاً -كما قلنا- ثم قال: أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، و بنو هاشم هلكى لا يبتاعون، ولا يُبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تُشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، كان مشركاً ولكنه قال كلمة الحق التي عجز أن يقولها أشراف قريش، أشراف قريش ما قالوها لكنه قالها، فالعبرة ليست في المكان الذي أنت فيه وإنما في الموقف الذي تتخذه، واليوم نقول للمسلمين لن نقول لهم: لا نأكل الطعام، ولا نلبس الثياب، فكلنا يأكل ويلبس، ونسأل الله أن يغفر لنا تقصيرنا، لكن يكفي أن نقول: أنقيم الحفلات التي تكلف مئات الألوف، المهرجانات، المواسم، بل ملايين مملينة تنفق؟! ولا أعتب على من يقوم بها بقدر عتبي عمن يحضرها من المسلمين، وبعض المسلمين لا يجدون طعاماً يأكلونه، أما الأمر الأخير ينبغي على كل أمة، أو كل مجموعة، أو كل فئة تريد أن تحق الحق، وأن تبطل الباطل وتتمسك بدينها و بثوابتها ينبغي عليها أن تتوقع حصاراً كحصار النبي -صلى الله عليه وسلم-لأن ملة الطغاة واحدة، فينبغي أن نوطن أنفسنا على هذه المعركة، وفي الوقت نفسه ألا ندع لليأس سبيلاً إلى قلوبنا أو عقولنا، ونبقى متمسكين بثوابتنا ومبادئنا فهي الأبقى، والحصار والتجويع والتشريد لا بد أن يؤول إلى الزوال، و يبقى أهل الحق وأصحابه شوكة في حلوق أعدائهم والمستهزئين بهم، ويذهب الذين ناصبوهم العداء إلى مصيرهم المحتوم من الذلة والشقاء والصغار وهذه سنة الله تعالى في الأرض وسنة الله لن تجد لها تحويلاً ولن تجد لها تبديلاً، والعبرة في أن نبقى -إن شاء الله- على الحق ثابتين و مقيمين على شرع الله وأمر الله تعالى، نحدث أنفسنا دائماً بنصرة الحق و أهل الحق، والحمد لله رب العالمين.