دروس من حصار الشعب
دروس من حصار الشعب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. |
أيها الإخوة الكرام؛ قالوا: التاريخ يعيد نفسه، والصحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه ولكن الأحداث تتشابه لأن ملة الكفر واحدة، ولأن ملة الإيمان واحدة، ولأن معركة الحق والباطل قديمة ومستمرة إلى قيام الساعة، فلا بد أن تتشابه الأحداث بل إنك أحياناً تقرأ في التاريخ وكأنك تقرأ في الحاضر، الأدوات والوسائل تختلف ولكن البواعث والأسباب واحدة، فدائماً وأبداً ما كانت المعركة مستمرة ولن تتوقف حتى يرث الله الأرض ومن عليها، إذا قرأنا في التاريخ فإننا نسمع وكنا نقرأ ونسمع عن حصار الشِّعب، نقرأ عنه وكأنه جزء من التاريخ حتى أصبح اليوم شيئاً من الحاضر نلمسه و نشاهده، فأحببت في هذا اللقاء أن نتحدث عن هذا الحصار وما فيه من دروس وعِبر لأنه يتصل بواقعنا اليوم اتصالاً واضحاً، اشتد أذى المشركين على المسلمين كأشد ما يكون حتى بلغ المسلمين الجهد واشتد عليهم البلاء، وأجمعت قريش أمرها أن يقتلوا محمداً- صلى الله عليه وسلم- علانية، لما رأى أبو طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- عمل القوم و إصرارهم على قتل ابن أخيه جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يُدخلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شعبهم في حمايتهم، وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، منهم من فعله حمية للقرابة، و منهم من فعله إيماناً ويقيناً، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم، وألا يبايعوهم، وألا يدخلوا بيوتهم؛ مقاطعة مع حصار، حصار اقتصادي و مقاطعة اجتماعية حتى يسلموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-للقتل، وكتبوا في هذا المكر صحيفة، خطّوا كلاماً: ألا يتقبّلوا من بني هاشم صلحاً ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-للقتل، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، قطعوا عنهم الأسواق فلا يتركون طعاماً يقدم مكة إلا بادروا إليه فاشتروه، ما يسمحون أن يصل إليهم الطعام والشراب، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أبو طالب يأمر ابن أخيه-صلى الله عليه وسلم- أن ينام في فراشه فإذا جنّ الليل سحبه من فراشه وجعل أحداً مكانه، وجعله في مكان آمن حتى لا يتسلل إليه أحد فيقتله، اشتد الحصار على الصحابة وعلى بني هاشم وبني المطلب، على أصحاب الحق والقضية وعلى من ناصرهم، اشتد الحصار على الصحابة وهم أصحاب القضية وعلى كل من أيدهم أو ناصرهم، اليوم يوجد حصار فيسبوكي على كل من يدعم ويناصر، فاشتد الحصار على الصحابة وعلى من أيدهم حتى اضطروا إلى أكل ورق الشجر، ما بقي طعام يُؤكل حتى أكلوا ورق الشجر، وأصيبوا بظلف العيش وشدته حتى إنك لتسمع أو حتى أن قريشاً لتسمع صوت الصبية يتضاغون من الجوع يبكون من وراء الشعب، يسمعون أصوات الصغار تبكي لأنها لا تجد طعاماً، فلما كان رأس ثلاث سنين قيض الله لنقض الصحيفة أناساً من أشراف قريش وكان الذي تولى الأمر هشام بن عمرو الهاشمي قصد إلى زهير بن أمية فقال له : يا زهير-هذا مشرك- قال له: يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت؟! لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إني أحلف بالله: لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته لمثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً، -لو كانوا بني قرابة بني عمومة ما فعلت لكن نفعل ذلك لأنهم من غير بني جلدتنا-، قال: ويحك يا هشام ماذا أصنع - هذا حال كثير اليوم: ماذا أصنع؟ أنا وحدي -إنما أنا رجل واحد؟! والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقال له: قد وجدت رجلاً، قال: من هو؟ قال: أنا، فقال له زهير: ابغنا ثالثاً، فذهب إلى المطعم بن عدي فقال له: أقد رضيت أن يُهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك؟ موافق لقريش فيهم أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنّهم إليها منكم سراعاً-هذا المثل: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض، لو أمكنتموهم منهم سيصل إليكم الأمر، الدور قادم- قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنّما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت لك ثانياً، قال: من؟ قال: أنا، قال: ابغنا ثالثاً، قال: قد فعلت، قال: من؟ قال زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعاً -نعمل تحالفاً-، فذهب إلى أبي البختري بن هشام فقال له نحو ما قال للمطعم بن عدي فقال له: ويحك وهل نجد أحداً يعين على ذلك؟ قال: نعم زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا، فقال: ابغنا خامساً، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب، فكلّمه وذكر له قرابته وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمّى له القوم فتواعدوا خطم الحجون، -الحجون موضع بأعلى مكة وخطمه أي مقدمته- تواعدوا في مكان فاجتمعوا هناك وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة – لبس ثياباً مرتبة -فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس فقال: أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يبتاعون، ولا يُبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فقال أبو جهل وكان في ناحية المسجد: كذبت والله، لا تشقّ، فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كُتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كُتب فيها ولا نقر به، فقال المطعم بن عدي: صدقتما-يد الله مع الجماعة-، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ من الله منها ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك، فقال أبو جهل: هذا أمر قُضي بليل وتُشوّر فيه في غير هذا المكان- هذا ليس وليد اللحظة، هذا كلام فيه ترتيب مسبق-، قال وأبو طالب جالس في ناحية المسجد لا يتكلم، وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقّها فوجد الأرضة –والأرضة دويبة بيضاء تظهر في أيام الربيع تأكل الخشب ونحوه- قد أكلتها إلّا عبارة واحدة: "باسمك اللهم"، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر بذلك عمه أبا طالب فذهب إلى قومه وأخبرهم بذلك، وقال لهم: فإن كان كاذباً فلكم علي أن أدفعكم إليه تقتلونه؛ لأنه يعلم صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وإن كان صادقاً فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟ فأخذ عليهم المواثيق وأخذوا عليه، فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال المطعم بن عدي وهشام بن عمرو نحن براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة ولن نمالئ أحداً في فساد أنفسنا وأشرافنا، وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش، فخرج النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه من الشعب بعد حصار دام ثلاث سنوات. |
أيها الإخوة الأحباب؛ شيء مؤسف أن يقول الإنسان اليوم: ليت أعداءنا كأبي جهل على شدة ما كان فيه، وليت منافقينا كعبد الله بن أبي بن سلول لأن العداوة التي تظهر اليوم من أعدائنا يخجل منها أبو جهل، والنفاق الذي يظهر من منافقينا يخجل منه عبد الله بن أبي بن سلول ويقول: إن كان هذا هو النفاق فلست منافقاً، فمن المؤسف جداً أن نصل إلى مرحلة نستذكر فيها أبا جهل بأنه كان يوماً عدواً للمسلمين، فلا أعداؤنا كأعدائهم، ولا منافقونا كمنافقيهم، هذا الحصار أيها الكرام فيه دروس ودروس، وسأختصرها: |
دروس من حار الشعب:
صبر الرضا ما بعده إلا العز والتمكين
|
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ (6)(سورة القصص)
صبر الرضا يرافقه العمل والسعي، أما صبر القهر فيرافقه القعود والخنوع والاستسلام؛ هذا ليس صبراً، إنسان جالس في مكانه لا يُحرك ساكناً لا يفعل شيئاً يقول لك: صابرون، لا والله لست بصابر، الصبر أرقى من ذلك بكثير، أنت خانع للأسف، فهؤلاء صبروا، قال تعالى: |
إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـًٔا ۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)(سورة آل عمران)
الصبر علامة معرفة
|
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِۦ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِىٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرًا وَلَآ أَعْصِى لَكَ أَمْرًا (69)(سورة الكهف)
لكن بأول مفترق طرق سيدنا موسى على جلال قدره لما رأى أمراً يخالف الأمر الشرعي عنده ويقوم به العبد الصالح فما فهمه، وهذا عبد صالح فكيف يفعل ذلك؟ فاعترض مرة ومرتين وثلاث لأنه لا يعرف ما يعرفه العبد الصالح، فالصبر يحتاج إلى معرفة. |
قُلْ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍۢ (10)(سورة الزمر)
كان بعض العارفين يضع في جيبه رقعة يخرجها كل حين ويقرأ فيها: |
وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)(سورة الطور)
وكان سليمان بن القاسم يقول: كل عمل يُعرف ثوابه إلا الصبر، قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍۢ)، كيف يعرف ثوابه إلا الصبر؟ أي أنت أي سلعة تقول له: أعطني ورقة نقدية شيك، يسطر لك شيكاً ستمئة دينار يوقعه ويعطيك إياه، لكن هل هناك شخص يعطيك ورقة نقدية دون أن يضع فيها الرقم ويوقع ويقول لك: ضع الرقم الذي تريده؟ هذا ثواب الصبر، الصبر ليس هناك رقم، الرقم متروك لك تملؤه كيفما شئت (إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍۢ). |
العبرة الثانية: ظاهرة أبي جهل في حصاره لسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- تستحق الدراسة لأنها تتكرر كما قلنا، فقد يجد الدعاة، وقد يجد المصلحون، وقد يجد المجاهدون، وقد يجد المرابطون من أقرب قراباتهم من يقلب لهم ظهر المجن، ويبالغ في إيذائهم وحصارهم، ويلقون من بني جلدتهم مالا يلقونه من عدوهم. |
وظُلمُ ذوي القربى أشد مضاضةً على المرء من وقع الحسامِ المهنّدِ{ طرفة بن العبد }
يريد الله تعالى ألا تتعلق القلوب إلا به
|
الآلام هي التي تصنع الرجال
|
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ ۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ (24)(سورة السجدة)
قال: لما أخذوا برأس الأمر أي الصبر جعلناهم رؤوساً أي أئمة يهدون بأمر الله تعالى. |
الأمر الرابع أيها الكرام؛ قيام المعجزات والحجج الدامغة لا يؤثر في أصحاب الأهواء، المعجزات والحجج تؤثر في أصحاب الإيمان، الدليل: الكون اليوم بكل ما فيه ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، نحن اليوم نرى صورة التقطتها وكالة ناسا للفضاء فيقشعر جلدنا لعظمة الله تعالى في هذا الخلق، والذي صوّرها ربما يكون ملحداً لا يؤمن بوجود الله، كيف لم يؤمن؟ لأنه ما اتخذ قراراً بالإيمان، فهؤلاء رأوا الأرضة قد أكلت الصحيفة كلها إلا قوله تعالى "باسمك اللهم:، ولو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخبرهم بذلك لكفى بهذا معجزة، لكن أخبرهم بذلك وبقي اسم الله تعالى دون أن تأكله الأرضة وهذه معجزة ؛ معجزة الإخبار، ومعجزة أن الأرضة وكأنها تعلم أنها لا ينبغي أن تأكل هاتين الكلمتين، و رأوها بأعينهم لكنهم لم يؤمنوا، هذا يدل على أن الإنسان هو صاحب الاختيار، فإما أن يتخذ قراراً بالإيمان فكل ما في الوجود يدله على الله، وإما أن يكون قراره كفراً فكل ما في الوجود يصرفه عن الله لأنه مخير بالمحصلة، فحتى الآيات لا تنفعه فالآيات للمؤمنين، لذلك في آيات كثيرة: |
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِۦٓ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحْمِلُهُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)(سورة البقرة)
الترتيب: الآية تنفعني فأؤمن، الترتيب القرآني إذا كنت مؤمناً تنفعك الآية، أي إذا اتخذت قرارك بالإيمان تنفعك الآيات، أما إذا لم تتخذ القرار بالإيمان فلن تنفعك الآيات. |
الواقع فيه حكمة ولو أوقعه مجرم
|
كانت الشدائد وما زالت باعثاً على جمع القلوب
|
عِداتي لَهُم فَضلٌ عَليَّ وَمِنَّةٌ فَلا أَذهبَ الرَحمنُ عَنّي الأَعاديا{ أبو حيان الأندلسي }
فالله تعالى ينصر دينه بالرجل الكافر والفاجر والفاسق. |
العبرة في الموقف الذي تتخذه
|