الإيمان بالغيب فكرٌ وسلوك

  • محاضرة في الأردن - لقاء مع صفحة البيت الحمصي
  • 2023-09-14
  • عمان
  • الأردن

الإيمان بالغيب فكرٌ وسلوك


الدكتور بلال نور الدين:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات وبعد:
فإنني أفتتح هذا اللقاء الطيب بتوجيه الشكر الجزيل للبيت الحمصي بإدارته والقائمين عليه؛ لطلبهم استضافتي في هذا اللقاء الطيب، فهذه فرصة طيبة مباركة للقاء أهل الخير والفضل عبر البيت الحمصي، فجزاهم الله خير الجزاء على ما ينظمونه من هذه المحاضرات النافعة والمفيدة.
وثانياً أستمحكم عذراً، حولي يبدو بعض الكراكيب باللغة الشامية لأنني لست في بيتي، وإنما اضطررت إلى وجودي في مكان لأفرح مع صديقي بزواج ابنته، فطلبت مكاناً يخلو من الأصوات فأُلجِئت إلى هذا المكان، بارك الله بكم.

الدافع لاختيار موضوع الغيب:
فكرة الغيب اليوم فكرة مُغيّبة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، موضوع هذا اللقاء: "الإيمان بالغيب فكر وسلوك"، أيها الكرام ما دفعني لاختيار هذا الموضوع بالتشاور مع أخي الكريم العزيز أبي عامر جزاه الله خيراً، ما دفعني إلى اختياره هو أن فكرة الغيب اليوم فكرة مُغيّبة، الغيب مُغيّب في العالم عموماً، لا سيما في الإعلام، فأنت اليوم إذا جلست في مجلس تحدث الناس في الدنيا، إذا سمعت إلى الإعلام وجدت الإعلام يتحدث عن الدنيا، إذا ذهبت إلى المدارس، وإلى التعليم وجدت كل الهم مُنصَبّ في الحديث عن عالم الشهادة، بالكاد تجد من يتحدث عن عالم الغيب، مع أنه عالم مهم جداً جداً، لكن لأننا لا ندركه بحواسنا فقد ضعف الحديث عنه، فضعف الإيمان به، فكان لا بد من استحضار هذا الموضوع بين الحين والآخر؛ من أجل أن ندخله في خطابنا اليومي، خطابنا الديني، خطابنا الدعوي، خطابنا التربوي، خطابنا التعليمي، خطابنا الأسري، لا بد أن يكون حاضراً في خطابنا.

عالم الغيب وعالم الشهادة:
عالم الشهادة:
عالم الشهادة واضح للجميع
نحن كما تعلمون أيها الكرام لدينا عالم الشهادة، وعالم الغيب؛ عالم الشهادة واضح للجميع، وهو العالم الذي ندركه بحواسنا، فكل ما نشهده فهو من الشهادة، بالحواس الخمس، أنا الآن أنظر فأرى بعيني، هذا شهادة، أسمع الآن أصواتاً بأذني، هذا شهادة، أشم رائحة بأنفي، هذه شهادة، ألمس شيئاً فأشعر به بيدي، هذه شهادة، أتذوق طعاماً فأعرفه، هذه شهادة.
فعملياً الحواس الخمس تُدخِل مُدخَلات Input يتم في القلب عملية العقل، عقل المعلومات، تدخل المدخلات، المعالجة Processer تتم في العقل، والعقل وفق التصور القرآني والوحي:

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ(179)
(سورة الأعراف)

فالعقل يتم في القلب بغض النظر عن القلب هل هو قلب الإنسان بالعموم، يعني داخله، أم قلبه كتلك المضخة على خلاف طويل ربما تكشف الأيام أسفاره، فتتم عملية العقل، معالجة المعلومة فتخرج المُخرَجات Output فإذا تمت المعالجة بشكل صحيح، وكانت المدخلات سليمة من الأخطاء كانت المخرجات صحيحة، لذلك يوم القيامة ما مشكلة أهل النار وهم في النار؟ مشكلتهم أن المدخلات غير صحيحة، أو المعالجة غير صحيحة:

وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10)
(سورة الملك)

أدخلنا مدخلات صحيحة ﴿أَوْ نَعْقِلُ﴾ عالجنا معالجة صحيحة ﴿مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾.

فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
(سورة الملك)

فالذي لا يعقل، ولا يسمع يعني لا يأخذ المعلومة صحيحة، أو لا يعالج الأمور بشكل صحيح يستحق نار جهنم، ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾

فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ(11)
(سورة الملك)

هذا عالم الشهادة وهو ليس موضوع حديثنا اليوم، لكن مهدت به.

عالم الغيب:
عالم الغيب هو ما غاب عنا، كل ما لم تشهده حواسنا فهو غيب؛ لأنه غاب عنا، غاب عن حواسنا، هذا ما نسميه بالعرف العقائدي الشرعي "الخبر"، لكن من عند الله نسميه "الخبر الصادق".

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا(87)
(سورة النساء)

فالخبر هو ما يأتينا من غير أن نشهده بحواسنا، فهو خبر، فهو في الغالب لن نشهده في الوقت القريب فهو غيب، غاب عنا، لكن جاءنا عن طريق الخبر، قال تعالى في الحديث عن عالم الشهادة والغيب آية رائعة جداً:

يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)
(سورة الروم)

هذا عالم الشهادة ﴿وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ هذا عالم الغيب، فهم يعلمون من الحياة الدنيا ظاهرها فقط؛ لأنهم يشهدونه بحواسهم، لكنهم غافلون عن الآخرة التي هي غيب لأنهم لم يدركوها بحواسهم، مع أنه قد جاءتهم الأخبار عنها صحيحة صادقة من خلال كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لكنهم غفلوا عنه.

أول صفة للمؤمنين في كتاب الله:
أول صفة في كتاب الله تعالى للمؤمنين في سورة البقرة، قال تعالى:

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)
(سورة البقرة)

يصلي المؤمن إيماناً بالغيب
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ لماذا كان الإيمان بالغيب أول صفات المؤمنين في سورة البقرة، لأنك لن تصلي، سامحوني ما معنى أن يقف الإنسان الآن، أنتم الآن كنتم في صلاة العشاء، لماذا قمت وقمتم نسأل الله أن يثبتنا ووقفنا وركعنا وسجدنا وكبرنا، هناك غيرنا يقف أمام الشاشة يتابع شيئاً فأذن العشاء وكأنه ما أذن، لا يصلي، لماذ أنا قمت للصلاة؟ لماذا أنفقت من مالي؟ لأنني أؤمن بالغيب، ففي الصلاة طبعاً نشعر بالسكينة، والمصلي يشعر بداخله بقرب من الله، نشعر بأشياء، لكن أين ثواب الصلاة الحقيقي؟ في الآخرة، من الذي قال لي أن هذه الحركات ينبغي أن أؤديها على هذه الشاكلة؟ الله، هل رأيت الله بحواسي؟ لا، فإذاً لماذا يصلي المؤمن؟ إيماناً بالغيب، لماذا يزكي الإنسان؟ إيماناً بالغيب، الله تعالى قال له: أنفقْ أُنفِق عليك، الله تعالى قال له سأضاعف لك، الله تعالى قال له سأعطيك حسنات كثيرة، فقام بالإنفاق، لذلك بدأ الحديث عن صفات المؤمنين في سورة البقرة، وتعلمون أن سورة البقرة بدأت بآيات عن المؤمنين وآيات عن الكافرين وآيات كثيرة عن المنافقين، فكانت كبداية للقرآن الكريم بعد فاتحة الكتاب طبعاً، كانت حديثاً عن صفات النماذج الثلاثة؛ النموذج الإيماني، والنموذج الكفري، والنموذج المنافق الذي أطنبت السورة في الحديث عنه لخطره، فأول خمس آيات كانت عن المؤمنين، أول صفة بالمؤمنين ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ فجاء الإيمان بالغيب بالمقدمة لأهميته.

أيها أوثق؟ عالم الشهادة أم عالم الغيب؟
أيها أوثق؟ هل هو عالم الشهادة أم عالم الغيب؟ لو سألت إنساناً اليوم إن جاءك خبر من شخص معين أن شيئاً حدث الآن في المنطقة الفلانية، في البلد الفلاني، هل هذا أوثق عندك أم إذا رأيت بعينك الحدث يحدث؟ طبعاً سيقول الشهادة، يعني قالوا "ليس مع العين أين" العين واضحة فأنا رأيت بعيني فهي أوثق من الخبر مهما كان الخبر صادقاً فالرؤيا بالعين أوثق، لكن لو كان الخبر من الله تعالى فينبغي أن تكون مصداقيته عندك أيها المؤمن أعظم من مصداقية ما تراه بعينيك، والدليل الله تعالى عندما يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم يقول له:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1)
(سورة الفيل)

هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله ربنا جل جلاله بأصحاب الفيل؟

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6)
(سورة الفجر)

خبر الله ينبغي أن تتلقاه وكأنك تراه بعينك
هل رأى ما فعله ربه بعاد؟ لماذا لم يقل له: ألم تسمع عما فعله، قال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾؟ قال أهل التفسير: لأن خبر الله ينبغي أن تتلقاه وكأنك تراه بعينك، من هنا قال أحد التابعين يوماً: "لقد رأيت الجنة والنار عِياناً"، بعيني، فقالوا له: انظر فيما تقول، فإنه ما منا أحد رأى الجنة والنار عِياناً، نحن سمعنا عن الجنة والنار، فهما غيب، لكن ما شهدناه، فانظر فيما تقول، فقال: والله لقد رأيت الجنة والنار عياناً، فقالوا كيف ذاك؟ قال: لقد رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيتي لهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق عندي من رؤيتي لهما بعيني؛ لأن بصري قد يزيغ وقد يطغى أما بصره:

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ(17)
(سورة النجم)

إذاً عندما يكون الخبر من الله يقول لك الله هناك آخرة، هناك صراط، هناك قنطرة، هناك ميزان، هناك جن، هناك ملائكة لهم أجنحة، هناك، هناك، عندما يبين لك الله أخباراً من الغيب لم تشهدها ينبغي لي أنا المؤمن أن أتلقاها وكأنني أراها بعيني أو أشد موثوقية؛ لأنها جاءت خبراً من الله تعالى.

الخبر الصادق عند المؤمن أشد مصداقية من رؤية عينه:
بصر الإنسان قد يزيغ وقد يطغى
سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ضرب أروع الأمثلة في هذا الموضوع وفي تلك الجزئية، فسيدنا أبو بكر رضي الله عنه جاءه المشركون وانتهزوا فرصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أنه أُسري به من مكة إلى بيت المقدس، ثم عُرج به إلى السماء، وبدأ يصف لهم ما رآه، فوجدوا مطعناً ليصلوا إلى أبي بكر رضي الله عنه ليخبروه أن صاحبك بدأ يتكلم بكلام بعرفنا اليوم نقول: غير معقول، غير منطقي فرضاً ـ حاشاه صلى الله عليه وسلم ـ فجاؤوا إلى أبي بكر قالوا: إن صاحبك يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس، الآن سيدنا أبي بكر ما الذي فعله؟ كان من الممكن أن يقول لهم: أنا سأنظر في الأمر، وأتكلم معه أولاً، وأفهم القضية وأعود إليكم، لا لم يقل ذلك، أبو بكر قال: "إن كان قال فقد صدق"، هذا هو الصديق، إن كان قال فقد صدق، فأنا الآن أنتم تنقلون لي خبراً، ربما لم يقله فأنتم من عادتكم الكذب، فقد يكون ما تنقلونه غير صحيح، أما إذا كانت القضية متعلقة بأنه قال حتماً، فهو صادق انتهى الأمر، فهذه المرتبة من الإيمان بالغيب هي المرتبة التي يكون فيها الخبر الصادق عند المؤمن أشد مصداقية من رؤية عينه؛ لأن بصر الإنسان قد يزيغ وقد يطغى، أما ما يخبره الله تعالى به فهو وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لذلك كان بعض السلف الصالح يقولون: "لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً"، يعني أنت اليوم وأنا ربما أقول لك أنا موقن 100% بالآخرة، الآن إذا رأيت الجنة والنار عياناً يوم القيامة سيرتفع الإيمان عندي لأنه صارت هناك رؤية عينية، لكن بمرحلة معينة يقول هذا التابع الجليل: "لو كشف الغطاء"، الغطاء هو الغيب ورأيت كل الأشياء المغيبة كالجن والملائكة واليوم الآخر...إلخ، "لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً" لأن اليقين وصل 100%، فلم يعد هناك ما يزيد عليه فأنا مؤمن بالخبر كإيماني بالمشاهدة.

علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين:
عندنا في القرآن الكريم ثلاث مصطلحات ما دام الحديث عن اليقين: علم اليقين، عين اليقين، حق اليقين.

علم اليقين:
إنسان لم يزر مكة في حياته، لكن عنده صور من مصادر موثوقة تبين له مكان الكعبة، المسعى، الصفا، المروة، الحرم، أقواس الحرم، مكان صلاة الإمام، مقام إبراهيم، الحِجر، عنده معلومات، وهو متيقن منها بأنها جاءته بخبر صادق، هذا علم اليقين، عنده يقين.

عين اليقين:
شاء الله تعالى له أن يزور مكة، وعندما وصل إلى مكة نزل من الحافلة، ونظر من بعيد فرأى عن بعد الحرم، رآه، رأى مآذنه، رأى الناس يدخلون إليه، فتحول من علم اليقين إلى عين اليقين.

حق اليقين:
ارتاح قليلاً في الفندق واغتسل، ثم نزل، ودخل إلى الحرم، وبدأ يطوف حول الكعبة، داخل الحرم، الآن أصبح في حق اليقين، اليقين ينتقل من العلم إلى العين إلى الحق، من هنا قال تعالى:

كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)
(سورة التكاثر)

اليقين ينتقل من العلم إلى العين إلى الحق
مجرد أنك تعلم يقيناً أن الله سيحاسب، سيعاقب، الجنة، النار، اليوم الآخر، ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ وكأنك تراها رأي العين مع أنك ما زلت في الدنيا، كيف يعني يرى الجحيم؟ إذا إنسان اليوم عرضت له امرأة ذات منصب وجمال، كما في هذا الرجل الذي هو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله، أو كما هو سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، عرضت له امرأة ذات مال، ولا أحد يستطيع أن يعلم بفعله فقال:

كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(16)
(سورة الحشر)

ما الذي حصل معه؟ علمه اليقيني بعقوبة الله، وبرؤية الله له رغم أنه غيب، كله غيب جعله يرى الجحيم في هذه المعصية، فامتنع عنها،ـ كأنه يرى الجحيم الآن، إذا عصيت الله عندي جحيم ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾.
العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه
وهكذا عندما يأتيه مبلغ من المال وهكذا في كل شيء، فعلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، لذلك قالوا: "العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه"، يعني أن ندرك الأشياء بالخبر الصادق قبل أن نصل إليها، فلو أن إنساناً قال لك: أنا غير مؤمن بأن الكهرباء تمسك بالإنسان، وتكهربه، غير مؤمن، عقلياً لم أفهمها، حسناً اذهب الآن وأمسك التيار بيده فتكهرب فأوذي إيذاء شديداً أو ربما قضى نحبه، الآن علم أن الكهرباء فعلاً، وأن الخبر الذي جاءه عن الكهرباء صحيح 100% لكن فات الأوان.
فالكفار والمنافقون والبعيدون والشاردون يوم القيامة سيعرفون الحقائق كاملة، لكن بعد فوات الأوان، حتى فرعون الذي هو أكفر كفار الأرض لما انتقل من الغيب إلى الشهادة، وأدركه الغرق، ورأى بعينه العذاب قال:

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
(سورة يونس)

فقال له الله تعالى:

آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
(سورة يونس)

انتهى الوقت، كطالب يجلس على كرسي الامتحان، وما عرف أن يجيب على أي سؤال، ثم في اللحظة الأخيرة سُحبت منه الورقة فقام وفتح الكتاب فعرف الأجوبة كلها، فقال لهم: ردوا إلي الورقة لقد عرفت الإجابة، يقولون له: انتهى الوقت باختصار.
لذلك العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه، يعني أن تصل إليه بالغيب والخبر أو بالمحاكمة والفكر قبل أن تصل إليه بالجسد.

الغيب لله تعالى وحده:
أحبابنا الكرام، الآن الأمر الآخر في عالم الغيب: الغيب لله تعالى وحده:

قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(65)
(سورة النمل)

لذلك أي إنسان يدعي معرفة الغيب فهو كاذب، ومن ذلك ما يدعيه المنجمون والكهنة والسحرة، والأبراج وبرج كذا، وبرج كذا سيصيبه كذا، هذا كله لا يجوز، وقد قيل: كذب المنجمون ولو صدفوا.
أي إنسان يدعي معرفة الغيب فهو كاذب
من يومين كلمتني أخت من المغرب بعد هذا الزلزال وقالت لي: عندنا واحدة تحدثت أن هناك زلزال سيكون في المغرب في عام 2023 فكيف نرد على من الآن يصدقها ويقول ها قد وقع؟ فقلت لها أعطني اسمها، فأعطتنيه، دخلت إلى يوتيوب وتابعت طويلاً حتى أعرف ما الذي حصل، قلت لها هذه المرأة قد تكلمت تقريباً مئة تنبؤ عن عام 2023 لم تترك بلداً إلا قالت ستقع فيه فتنة، بالمغرب زلزال، وباليمين خسف، وهناك إعصار، وسيموت رئيس دولة كبيرة، وسيصير انقلاب بدولة ثانية بالعالم الغربي، وكذا وكذا وكذا...ما الذي وقع من هذه؟ 99 خبراً كاذباً، وصدف أن خبراً أصاب، فهل هي كاذبة أم صادقة؟ قالت كاذبة، شخص أخبرك 100 خبر، 99 منهم كذب وصدق واحد، فأصل العبارة "كذب المنجمون ولو صدفوا"، وليس صدقوا ولكن صارت تجري على ألسنة الناس "ولو صدقوا"، هم ليسوا صادقين، كاذبين، ولو صدفوا يعني ولو اصطدف أنه مرة وافق أنه حصل مراد الله وهو قد قال ذلك قبلاً هكذا ألقاها جزافاً فهو كاذب، لا يعني ذلك أنه أصبح صادقاً لأنه أصاب مرة وقد أخطأ مئات المرات.
أحبابنا الكرام، الإنسان دائماً يحب أن يرى بعينيه، ومن الناس للأسف يقول لك: أنا لا أصدق حتى أرى، ويظن بذلك أنه يمدح نفسه، وهو في الحقيقة يذم نفسه؛ لأنه ليس من شأن العقلاء أن يقولوا أنا لا أصدق حتى أرى، من منا رأى الفيروسات؟ لكننا نصدق بوجودها، من منا رأى الكهرباء؟ لكننا نصدق بوجودها، من منا رأى بعض الحضارات السابقة؟ لكننا نصدق بوجودها، إذاً كلمة لا أصدق حتى أرى هذه ليست من شأن العقلاء، لا أقول ليست من شأن المؤمنين، هذا مؤكد، لكن ليست حتى من شأن العقلاء.

أمثلة من الأقوام السابقة:
سيدنا موسى عليه السلام مع قومه:
قوم موسى عليه السلام كانوا قوم شهادة، فكل شيء يريدونه شهادة:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(55)
(سورة البقرة)

بهذه الفجاجة ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُّبِينًا(153)
(سورة النساء)

نريد أن نرى الله، فهم قوم يحبون عالم الشهادة، ويربطون إيمانهم بعالم الشهادة، طبعاً سيدنا موسى قال:

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ(143)
(سورة الأعراف)

لكن ما قالها لأنه يربط إيمانه برؤية الله، لا، كما في الحديث الصحيح قال:

{ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن موسى بن عمران لما كلمه ربه أحب أن ينظر إليه فقال: (ربي أرني أنظر إليك). }

(أخرجه الحاكم في المستدرك)

فهو لما كلمه الله وسمع كلام الله مباشرة، فموسى هو الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، اشتاق لرؤية الله، فقال له حباً وليس تبجحاً ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي﴾ فهذا الفرق بين طلب موسى رؤية الله شوقاً وحباً، وبين طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾.

سيدنا إبراهيم عليه السلام:
أيضاً سيدنا إبراهيم عليه السلام قال:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
(سورة البقرة)

إبراهيم عليه السلام لم يشكك في قدرة الله
أيضاً هذه شُبهة تعرض في موضوع الغيب، إبراهيم عليه السلام قال: ﴿أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ﴾ ما شكك في قدرة الله على إحياء الموتى، وإنما أراد أن يرى الكيفية ﴿أَرِنِي كَيْفَ﴾ ما قال هل تحيي الموتى؟ أنت تحيي الموتى يا رب ولكن أريد أن أرى الكيفية، لماذا؟ لأن لدي مواجهة مع قومي، وقومه كانوا أصحاب جدل:

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۚ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ(80)
(سورة الأنعام)

فكان إبراهيم عليه السلام يريد أن ينتقل من الخبر الصادق الذي هو يؤمن به يقيناً، إلى رؤية المعاينة التي يرى فيها الكيفية فيكون أقدر على مواجهة قومه، لذلك قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدح إبراهيم عليه السلام:

{ نحن أحقُّ بالشكِّ من إبراهيمَ }

(صحيح البخاري)

ما شك إبراهيم أبداً، لو كان هناك شك لكان عندنا، إبراهيم لا يمكن أن يشك، فإبراهيم عليه السلام لم يكن شاكاً بقدرة الله؛ لكنه أراد أن يرى بعينيه ما أيقن به بالخبر الصادق، من أجل أن يصبح أكثر قدرة باطمئنان قلبه على مواجهة قومه الذين هم أصحاب عناد واستكبار.

سيدنا عيسى عليه السلام مع قومه:
أيضاً قوم عيسى عليه السلام جزء كبير منهم كانوا أصحاب شهادة، يريدون عالم الشهادة، دليل ذلك:

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (112)
(سورة المائدة)

يريدون أن يروا بعينهم، نريد مائدة من السماء، معجزة خارقة نراها ﴿قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ يعني هذا الطلب لا يجوز أن تطلبوه إن كنتم مؤمنين بالغيب إيماناً حقيقياً، ماذا كان الجواب؟ قال:

قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
(سورة المائدة)

الإنسان دائماً يحاول أن يتهرب من غاياته الحقيقية
أحبابنا الكرام، الإنسان دائماً يحاول أن يتهرب من أهدافه الحقيقية، من غاياته الحقيقية وراء أي شيء يفعله، مثلاً: إذا جلست اليوم مع امرأة تريد الطلاق من زوجها، أو زوج يريد طلاق امرأته، قل له: لماذا تطلقها؟ يقول لك: ليست نظيفة في البيت، فقط المشكلة بالنظافة؟ يعني أنت تدخل على البيت فترى بعض الأوساخ في الأرض فأنت منزعج من ذلك؟ يقول لك: ليس هذا فقط، ولكن قلة النظافة مزعجة، فتقول له: إذا أحضرنا من يساعدها في البيت كخادمة تحل المشكلة؟ فيقول: لا، ليس هذا فقط، هي لا تحترم أهلي، تقول: تمام لا تحترم أهلك، فقط؟ إذا أقنعناها أن تكون بقمة الاحترام مع أهلك هل تحل الأمور؟ يقول: هي لا تريحني، يوجد شيء من العلاقات الداخلية بينه وبينها لا يريد أن يقوله، هو في العمق، يحاول أن يهرب منه.
فالإنسان عنده دائماً، وكلنا كذلك يحاول أن يتهرب من إخبار الناس عن داخله العميق، ﴿قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا﴾ المائدة من أجل أن تأكلوا، ربنا أنزل موائد عظيمة في الأرض، مئات الأصناف من الخضار والفواكه، كله من موائد الله ﴿قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ أنتم مؤمنون ولكن تريدون اطمئنان القلب، كما قال إبراهيم ﴿لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾
﴿وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ أنتم إلى الآن لم تعلموا أن عيسى عليه السلام صادق فيما أخبركم به حتى تروا المائدة؟
﴿وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ يعني نحن بالنتيجة الغيب لا يقنعنا، نريد أن نشهد بعيوننا المائدة، الآن ما مشكلة إنزال المائدة؟ قال الله:

قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (115)
(سورة المائدة)

فأحبابنا الكرام، عندما يحصل الشهادة من الله والمعجزة لا يعود هناك إمهال من الله تعالى، قال تعالى:

وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ(8)
(سورة الأنعام)

حتى قوم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ﴾ يعني لا يمهلون، إذا تريد أن ترى شيئاً من عالم الشهادة لا داعٍ لأخذ الوقت، انتهى الوقت كله، نحن الله عز وجل يعطينا وقتاً للإيمان؛ لأننا نؤمن بالغيب، أما إذا كنت تريد عالم الشهادة فليس هناك داعٍ أن تأخذ وقتاً ﴿وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ﴾.

النظر والأثر والخبر:
فأحبابنا الكرام، دائماً عندنا ثلاث كلمات احفظوها مني: نظر، أثر، خبر.
النظر عالم الشهادة
النظر عالم الشهادة، الأثر جزء منه الشهادة، وجزء محاكمة، يعني النظر: هذه طاولة، الأثر: في هذه الغرفة كهرباء لأن المصباح متألق، ولأن الصوت مكبر، هذا أثر استدلال، الخبر: ليس هناك أي شيء، قال لي أحدهم الآن: هل تدري ماذا حصل في الدوار السابع في عمان؟ خيراً؟ حادث مرور، لا يوجد شيء أستدل من خلاله، ولا يوجد نظر، لا يوجد عندي أي وسيلة؛ إما أن أصدق أو لا أصدق، فالنظر نشترك به مع بقية المخلوقات، بل إن الله تعالى ما خلق شيئاً للإنسان من الحواس إلا جعل هناك من المخلوقات غير العاقلة وغير المكلفة من يفوقه فيها، فإذا قال: أنا أفتخر بنظري الثاقب، نقول له: الصقر يرى ثمانية أضعاف رؤية الإنسان، وإذا قال: أنا حاسة الشم عندي لا تخطئ، نقول له: ـ أجلكم الله ـ الكلاب تشم آلاف مؤلفة مضاعفة عن الإنسان، وإذا قال عندي الحاسة السادسة، أتنبأ بالأشياء قبل وقوعها، نقول له ـ أجلكم الله ـ الحمير تتنبأ بوقوع الزلازل قبل وقوعها بدقائق، بينما الإنسان إلى الآن عاجز عن التنبؤ بالزلازل.
فلا يوجد شيء يفتخر فيه الإنسان بقضية النظر إلا هناك مَن يفوقه من الكائنات الأخرى، يعني بالحواس الخمس، أما هو إذا تفوق بالأثر فهؤلاء العقلاء الذين يحاكمون ويستدلون ويربطون، ما هو العقل؟ الربط والمنع، يمنع نفسه عن الشهوات، ويربط المعلومات ويخرج بمخرجات صحيحة، فالإنسان يتفكر، يتدبّر، يتأمّل، هذا هو الأثر، نظر، أثر.
وأما الخبر فهذا لا يتفوق به إلا المؤمن الذي يؤمن بالغيب، ويؤمن بأن هناك أشياء لا أراها بعيني، ولا أستطيع أن أستدل عليها بعقلي، ولكنها جاءتني جاهزة أؤمن بوقوعها حتماً.
أحبابنا الكرام، هذا تقريباً كله من زاوية الإيمان بالغيب فكر وسلوك، هذا تقريباً كله بالفكر.

سلوكيات تدل على الإيمان بالغيب:
قصة الراعي مع سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه:
في الصيام انتظار لموعود الله عز وجل
أريد أن أنوع الخطاب قليلاً، أتجه إلى بعض السلوكيات؛ هذا الراعي الذي كان في شعاب الجبال يرعى غنماً له، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مع صاحب له في سفر، أو في الشعاب فوضع طعاماً هو وصاحبه، وجلس يأكل فرأى الراعي فنادى عليه يا فلان أيها الراعي تعال فجاء، قال له: هلمّ أعطنا شاة من هذه الشيات لنأكل، قال إني صائم، قال: تصوم في هذا اليوم شديد الحر؟ قال: أبادر أيامي، أصومه ليوم أشد منه حراً، هذا الراعي عنده إيمان بالغيب، فيصوم رغم حرارة العالية وبشعاب الجبال نفلاً؛ لأنه ينتظر موعود الله، فقال له ابن عمر ممتحناً: "بعني شاة" قال: "ليست لي" قال: "قل لصاحبها ماتت" قال: "والله لو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق أمين ثم ولّى الراعي رافعاً أصبعه إلى السماء يقول: أين الله؟ أين الله؟ أين الله؟ فجعل ابن عمر رضي الله عنه يقول: "قال الراعي أين الله".

{ مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِرَاعِي غَنَمٍ , فَقَالَ: "يَا رَاعِيَ الْغَنَمِ هَلْ مِنْ جَزْرَةٍ؟" قَالَ الرَّاعِي: لَيْسَ هَا هُنَا رَبُّهَا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "تَقُولُ: أَكَلَهَا الذِّئْبُ"، فَرَفَعَ الرَّاعِي رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: فَأَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: "فَأَنَا وَاللَّهِ أَحَقُّ أَنْ أَقُولَ: فَأَيْنَ اللَّهُ؟" فَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ الرَّاعِي وَاشْتَرَى الْغَنَمَ، فَأَعْتَقَهُ وَأَعْطَاهُ الْغَنَمَ. }

(المعجم الكبير للطبراني)

هذا الغيب الذي قد يكون الإيمان به عند من لا يحمل معلومات كثيرة أعظم ممن يحمل معلومات كثيرة كهذا الراعي.

قصة بائعة اللبن:
وهذه الفتاة الصغيرة بقصتها المعروفة:
قالــت بنيّـة قومـي فامـذقي اللبنــا الماء سوف يزيد الوزن والثمنا قالت لها البـنت: يا أمّــاه معـذرةً لقـد نهى عـُمـر أن نخـلط اللّبــنا قـالت لها أمّـها: أنّى يرى عـمـر صنيعنا إنّـما الفـاروق ليـس هنـا قـالت لهـا ابنتها: لا تفعــلي أبـداً الـلّه يعــلم منّـــا السـرَّ والعـلـنـا إن لم يكن عمر الفاروق يبصرنا فـإنّ ربّ أبي حفـص هنـا معنـا

قصة سيدنا موسى مع العبد الصالح:
أحبابنا الكرام، في قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح الذي يشار إليه غالباً بالصبر، والله تعالى أعلم، في هذه القصة كان هناك دروس عميقة في قضية الإيمان بالغيب، أعظم هذه الدروس هو قول العبد الصالح لموسى عليه السلام:

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
(سورة الكهف)

الإنسان لماذا يصبر؟ لأنه قد أحاط خُبراً، عنده معلومات، الذي عنده معلومات يصبر، فأبسط مثال: لو أنك ذهبت أنت وطفلك الصغير ذو الخمس سنوات إلى طبيب الأسنان، أنت عندك مشكلة في أسنانك والطفل عنده مشكلة، جلس الطفل أولاً، حاول الطبيب أن يصلح له أسنانه فبكى وأقام الدنيا ولم يقعدها، وربما ضرب برجله الطبيب، والطبيب يضحك ويثبته، وربما تكلم بكلام لا ينبغي مع الطبيب لأنه يريد أن يعبث بفمه...إلخ، حتى أنهى المهمة بشق الأنفس، ثم جاء دور الأب الشاب القوي مفتول العضلات، صاحب الشاربين الكبيرين، جلس على الكرسي وقال للطبيب: خذ راحتك، سأتحمل كل الألم، لماذا الكبير تحمل، والصغير لم يتحمل؟ الكبير قد أحاط خبراً بأن هذا الذي يجري لمصلحته، وأن هذا الطبيب عنده علم فاستسلم له، الصغير لم يحط خبراً لا بعلم الطبيب، ولا بأن ما يجري لمصلحته فظن أن الطبيب يريد أم يعبث بفمه أو يؤلمه فانتفض.

علة صبر الإنسان:
لن تصبر حتى تعرف
إذاً، لماذا يصبر الإنسان؟ لأنه يعرف، لذلك قالوا: لن تصبر حتى تعرف، فالعبد الصالح يقول لموسى: ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ أنا سأقوم بأمور لن تستطيع أن تصبر عليها؛ لأنك لا تملك المعلومات الموجودة عندي، الآن المؤمن لماذا يصبر في الدنيا على المصائب؟ لأنه أحاط خبراً، لماذا يصبر على العطاء يعطي من ماله؟ لأنه أحاط خبراً، أحاط خبراً بماذا؟ أحاط خبراً بما أعده الله لمن أطاعه، وبما أعده لمن عصاه، هل رآه بعينه؟ لا، لكنه أحاط به خبراً من طريق الغيب، فلذلك يلتزم بما أمر الله، وينتهي عما نهى الله وزجر، قال تعالى:

مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(22 (لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
(سورة الحديد)

كيف لا يفرح الإنسان بما آتاه الله، ولا يأسى على شيء فاته؟ لأنه لا يعرف أين الخير، فلذلك هو مستسلم لأمر الله تعالى، قال تعالى:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ(60)
(سورة الروم)

ما دام الوعد حق اصبر حتى تلقى الله،

أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
(سورة القصص)

خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ(37)
(سورة الأنبياء)

الآن يريد الثواب، الآن يريد أن يرى عقاب الطغاة، الآن يريد أن يرى ثواب المحسنين، قال تعالى: ﴿سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ اصبر ستأتي لكن لا تستعجل. فأصل الخلق من عجل، والتكليف لا تستعجلون، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم:

{ ولو أنفقتَ مثلَ أُحُدٍ ذهبًا في سبيلِ اللهِ، ما قَبِلَه اللهُ منك حتى تُؤْمِنَ بالقَدَر، وتَعْلَمَ أن ما أصابَك لم يَكُنْ لِيُخْطِئَك، وأن ما أخطأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَك. }

(صحيح أبي داوود)


الوجدان والوجود:
أحبابنا الكرام، نحن لدينا وُجدان ووجود، علماء المنطق يقولون: عدم وجدان الشيء لا يستلزم نفي وجوده، ما معنى ذلك؟
عدم وجداني الشيء لا يستلزم نفي وجوده
أكثر شيء يضيع بالبيت ما هو؟ جهاز التحكم بالشاشة، فلما ضاع في الغرفة موجود بمكان ما في الغرفة؛ خلف الستارة، تحت الكنبة، موجود، فإذا إنسان ما وجده هل يقول هو غير موجود؟ لا، موجود لكنني لم أجده، فعدم وجداني الشيء لا يستلزم نفي وجوده، هذه مهمة جداً في عالم الغيب، كثير من الأشياء لا نجدها، لا نشاهدها، لكنها موجودة، وهذا هو الإيمان بالغيب، وجئت بهذه الفكرة لآتي بآية بعدها، قال تعالى:

بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(39)
(سورة يونس)

ما تأويل القرآن الكريم؟ وقوع الوعد والوعيد، فهو كذب بوعد الله، أو كذب بوعيد الله ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ لو انتظر وآمن سيأتيه تأويل ذلك، تحقق الوعد والوعيد هو التأويل، يعني المرابي المؤمن الحقيقي يقرأ:

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
(سورة البقرة)

فيترك الربا ويتصدق، إذاً هو صدق بكلام الله، المرابي ماذا يفعل؟ يسمع الآية ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ لكنه لا يعبأ بها ويعمل بالربا، فيكذب بوعيد الله تعالى بمحق الربا، ثم لما يأتيه تأويله لكن سيأتي التأويل، لكن يكون قد أصبح هو التجربة، وقعت عليه التجربة، فلم يبقَ له وقت لينتفع منها، أما المؤمن فهو مصدق قبل أن يأتيه التأويل، يعني وقوع الشيء.

الإيمان بالغيب لا يعني ترك عالم الشهادة:
السير في عالم الشهادة واستصحاب عالم الغيب
أحبابنا الكرام، آخر شيء لدي فكرتان ضروريتان جداً يجب أن أقولهما؛ الفكرة الأولى: أن الإيمان بعالم الغيب لا يعني ترك عالم الشهادة كما يفعل البعض، فكرة مهمة جداً، الإيمان بالغيب لا يعني ترك الشهادة، ولكن يعني أن أسير في عالم الشهادة وأنا مستصحب في كل لحظة لعالم الغيب، دون أن يغيب عن ذهني عالم الغيب، فالإيمان بالشهادة لا يعني ألا أتزوج، لا يعني ألا أتاجر، لا يعني أن أترك الدنيا لغيري فيأخذها ويتحكم بي بعد ذلك، لا يعني ألا أدرس فأنا مؤمن بالغيب، أبداً، يعني أن أسير في عالم الشهادة وأنا مستصحب لعالم الغيب، من هنا يقول صلى الله عليه وسلم:

{ إنْ قامَتِ الساعةُ وفي يدِ أحدِكمْ فَسِيلةٌ، فإنِ استطاعَ أنْ لا تقومَ حتى يَغرِسَها فلْيغرِسْهَا. }

(صحيح الجامع)

فالساعة أصبحت شهادة وليست غيباً، قامت، وما زال إلى اللحظة يعلقنا صلى الله عليه وسلم بالعمل في عالم الشهادة فنغرس تلك الفسيلة، لأن العمل لا يُترَك، لكن عندما يستصحب المؤمن عالم الغيب وهو في عالم الشهادة فإنه لا يمكن أن يستغل عالم الشهادة في شيء يغضب الله تعالى، فقط، فيسير وفق المنهج لكنه لا يتوقف عن المسير، فيأخذ الدنيا ويتحكم بها ولا تتحكم به، ويجعلها في يده لا في قلبه، فتنقاد له ولا ينقاد لها، فقط.

استغلال بعض الناس للغيب:
الفكرة الثانية المهمة جداً والأخيرة: هي استغلال الغيب، فبعض الناس وللأسف بعض الشيوخ، أو من يقولون نحن رجال الدين، نحن ليس عندنا في الإسلام رجال الدين، لكن مَن يدّعون ذلك يستغلون عالم الغيب أبشع استغلال، فالغيب هو ما يخبر الله تعالى به، لكن ليست القضية في أن الأمور غيب فأنت الآن تنتقل بالناس من عالم الغيب إلى عالم الخرافة، تقول لهم: أنا أخبركم، من أنت حتى تخبرهم؟ الغيب من الله: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ أوضح مثال على ذلك ما حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كُسفت الشمس في يوم وفاة ابنه، فتوهم كثيرون أن ذلك حصل إكراماً لرسول الله، وحزناً على وفاته، وكان هذا من أفكارهم المنحرفة في الجاهلية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينتظر وهو في قمة حزنه قام وخطب بالناس وقال:

{ إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتَانِ مِن آيَاتِ اللَّهِ لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذلكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ. }

(البخاري)

الغيب هو ما ورد فقط بالنص
فبيّن الحقيقة، طبعاً حاشاه صلى الله عليه وسلم أن يستغل قضية الغيب، لكن أنا أقول هو الآن يعلمنا أن الغيب هو ما ورد فقط بالنص، أما أن يأتيني شخص بالأمس يقول لي: حضرت مجلس وكان الشيخ الفلاني، وله اسم كبير، وقال: أخبرنا أن الأربعاء الأخير في صفر بلايا، وأشياء فصلوا واقرؤوا 16 مرة سورة الكوثر، قلت له: من قال ذلك؟ قال: هو قال هذا الأمر، قلت: وأنت كيف صدقته؟ قال: هو يعرف فهذا أمر غيبي ونحن لا نعرفه، قلت له: الغيب بحاجة لآية أو حديث، هل أخبرنا الله تعالى أن صفر شهر تشاؤم؟ قال: لا، قلت: هل يوجد حديث صحيح؟ فهذه الحادثة حتى في الضعاف لم ترد أصلاً، فهل هناك حديث صحيح؟ ورد عكسه:

{ لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ، ولا هامَةَ ولا صَفَرَ. }

(صحيح البخاري)

فكيف نتشاءم من شهر وهو عادة من عادات الجاهلية؟ فهذا استغلال للغيب، أنا عندما أقول للناس رأيت مناماً، وصار معي كذا، وأنا أخبركم أشياء أنتم لم تروها، وأنا شاهدت مناماً ورأيتكم تدخلون الجنة قبلي، أنا الآن أشوش على الناس، لذلك هذا الذي قال "الدين أفيون الشعوب" طبعاً للأسف الشديد أقول هذا الأمر، للأسف الشديد الدين الذي هو رآه أو علم عنه فعلاً هو أفيون الشعوب، فعندما لا يكون الدين هو الحق الذي جاء به الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهو أفيون؛ فأنت تستطيع أن تستغل الناس أبشع استغلال بقضية الغيب، فتستطيع أن تحكي لهم خرافات لا حصر لها وهو مستسلمون لأنه غيب، لا أبداً، الغيب قضية متعلقة بما يأتي فقط عن الله تعالى، وليس للإنسان أن يتكلم بهذه القضية، أنت عندما تحدث الناس حدّثهم عن عالمهم عالم الشهادة، وحدّثهم عن الغيب مما جاء في كتاب الله تعالى.

الإيمان بالغيب يجعل الإنسان أكثر تعلقاً بالله:
انظروا في سورة الإنسان وبه أختم، قال تعالى:

وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9)
(سورة الإنسان)

ما قالوا: لا نريد جزاء ولا شكوراً، قال ﴿لَا نُرِيدُ مِنكُمْ﴾، لأنه لا يوجد إنسان لا يريد جزاء ولا شكوراً على عمل يعمله، فلا يوجد إنسان يعمل دون مقابل أبداً، ﴿لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾

فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۖ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا (18) ۞ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ۖ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا (22)
(سورة الإنسان)

لما قال ﴿لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ ﴿إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا﴾ فالإيمان بالغيب يجعل الإنسان متعلقاً أكثر بالله، موظفاً أكثر لعالم الشهادة فيما يرضي الله، لكنه لا يجعله يخرج لا إلى الخرافة، استغلال الغيب في نشر الخرافات بين الناس، ولا في ترك عالم الشهادة وادّعاء أننا نحن أمة الغيب فننتظر الغيب، ولسنا نريد الدنيا، ولسنا طلاب دنيا، وغير ذلك من الكلام الذي يكون أحياناً حقاً، ولكن يُستخدم بطريقة يراد بها السوء والباطل.

خاتمة:
في الختام أعود وأشكر لكم حسن استماعكم، وأشكر للبيت الحمصي حسن استضافته سائلاً المولى جل جلاله أن نلتقيكم دائماً على خير، وما وجدتم من خير فمن الله وحده، وما وجدتم غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والحمد لله رب العالمين.

المداخلة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يمكن أن نسمي ما سمعنا من نفائس المحاضرات، جزى الله عنا الدكتور بلال خير الجزاء وبارك به، الإضافة البسيطة التي أستشيره بها أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام سأل ربه كيف يحيي الموتى، وهو ليطمئن قلبه، ولتطمئن قلوب الآخرين إن كان لهم قلوب، بل إن كان لهم أسماع، إن كان لهم فكر، كأنه ما سأله أن يقوم بالرؤيا بمعزل في صحراء، سيرى الناس أيضاً ما يطمئن قلب إبراهيم، ولعله يطمئن قلوبهم، فيمكن هذه الإضافة جزاك الله خيراً وبارك بك.

الدكتور بلال نور الدين:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، جزاكم الله خيراً، لطيف جداً هذا الكلام، شكراً لكم، وشكراً لحسن ظنكم بي، أكرمكم ربي.

المداخلة الثانية:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، جزاكم الله خيراً وبارك بكم دكتور بلال، سؤالي بالنسبة لما يتكلم به السحرة من ادعاء علم الغيب بالمستقبل، السؤال: ما الفرق بين علم السحرة عن الغيب بالماضي والغيب بالمستقبل؟ أيهما يكون أوثق؟ الشيء الثاني: كيف نفسر لطلابنا علم السحرة فأحياناً يصدق بالمستقبل؟ جزاكم الله خيراً وبارك بكم، محاضرة ماتعة يا دكتور سلمكم الله.

الدكتور بلال نور الدين:
حفظكم الله وبارك بكم، حياكم الله، جميل ما تفضلتم به وجزاكم الله خيراً على السؤال، الحقيقة أن الغيب كما تفضلتم وهناك غيب الماضي، وغيب المستقبل، وغيب الحاضر.
غيب الحاضر أشياء لا أراها أنا الآن لأني غير موجود، فبالنسبة لي الآن الغرفة التي تتكلم أنت منها بما أنه لا يوجد كاميرا فهو غيب، وبالنسبة لك المكان الذي أنا فيه تفاصيله غيب بالنسبة لك، فهذا غيب الحاضر بسبب عدم وجود تواصل، بسبب عدم إمكانية الإنسان التواجد في مكانين معاً، فيصبح عنده غيب حتماً.
ويوجد غيب الماضي؛ هو أشياء وقعت في السابق أخبر بها بعض الناس الذين رأوها، أو بعد مئات السنين وجدنا آثار لها، أو أخبرنا بها الله تعالى.
غيب المستقبل هو الذي يطلق عليه الغيب
ويوجد غيب المستقبل الذي يعني ما سيقع بعد حين، غيب المستقبل هو الذي يطلق عليه الغيب حقيقة عندما نطلق كلمة الغيب، يعني ما سيكون؛ لأن ما سبق هو ليس غيباً مطلقاً وإنما هو غيب زماني، أو غيب مكاني؛ إما لسبب عدم وجودي في المكان، أو الزمان مضى، فهو ما عاد غيباً، أصبح غيباً بالنسبة لفلان، لكنه شهادة بالنسبة لفلان، فغيب المستقبل هو الذي نتحدث عنه ونطلق عليه الغيب.
أما إذا أخبر بعض السحرة أو الكهنة أو المنجمون عن أشياء ستحدث في المستقبل وصدف أن حدثت فهي ما ذكرته في المحاضرة أولاً وهو كذب المنجمون ولو صدفوا، فبالنتيجة لا بد أن تصادف أشياء تقع، وهذا يحدث لأن الله يريد أن يبتلي عباده به، فيظهر ببداية كل سنة ميلادية هؤلاء المنجمون، وأكثرهم من دول عربية وغيرها، حتى في الغرب موجود هذا الأمر والسحر والشعوذة أكثر من عنا، ولكن لا ندري بهم.
فيتكلمون عما سيجري في المستقبل، في هذا العام سيحصل كذا وكذا وكذا، ثم يصادف أن يحدث شيء أو شيئان لهذه الأمور، فينتبه الناس إليها ويغفلون عن 98% التي هي كذب بكذب، فلا بد أن يصادف شيئاً من كلامه،
مرة قاموا بتجربة لأناس قرؤوا الأبراج، فمثلاً فلان برجه العذراء قرأ برجه: اليوم ستصادف خبراً سيئاً، الآخر ستصادف خبراً جيداً، الثالث شخصيتك لطيفة الرابع شخصيتك عصبية المزاج، وهكذا... فعكسوا الأبراج كلها ثم أقرؤوها لبعض الناس، أنا شاهدته برنامج على يوتيوب، أو على الشاشة، ثم نزلوا للناس، فالشخص الذي قرأ أن فلان شخصيته لطيفة مع أنها صفة برج آخر، فانعكس ووضعوها لبرج آخر يقول فعلاً أنا إنسان لطيف جداً، أنا قلبي طيب من أجل ذلك الناس دائماً تأكل حقوقي، والذي قرأ أنه أنت أحياناً تُستفَز يقول فعلاً أحياناً يستفزوني، أنا لا أقدر ولا أتحمل الغلط، يستفزوني، والذي قرأ أنه سيجد خبراً سيئاً، فعلاً الإنسان كل يوم يجد إما خبراً سيئاً، أو جيداً أو الاثنين، فيقول فعلاً هذا الخبر سيئ اليوم، ليته لم يحدث هذا، وفعلاً يوجد خبر جيد، فأنا رأيت شخصاً أحبه وآخر لا أحبه، فتشكيلة حياة الناس تتضمن هذه الأمور، فيصدف أن يحدث بعضها ابتلاء من الله، أو بشكل طبيعي، لأن الحياة متنوعة وفيها كل هذه الأمور التي يذكرونها، فيحدث أن يحصل بعضها، فيتوهم الناس أن ذلك قد حصل، لكن المؤمن يقول: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾.

المداخلة الثالثة:
السلام عليكم سيدي، جزاكم الله خيراً على هذه المحاضرة القيمة، لكن سؤالي ما يُدعَى بالكرامات، ما قلت لنا من أي نوع من الغيبيات تعتبره سيدنا؟ فبعض المشايخ منذ زمن، حالياً غير موجودين، كان الناس يذهبون إلى الشيخ، وينظر ويقول له سافر أو لا تسافر، موضوع خطوبة، زواج، أظن عرفت ما قصدي، جزاك الله خيراً، فما رأيك بهذا الغيب يا سيدنا؟

الدكتور بلال نور الدين:
الإنسان عموماً يخاف من المجهول
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، تمام، جزاك الله خيراً، الإنسان عموماً يخاف من المجهول، والقادم مجهول بالنسبة له، أنا مسافر غداً يا ترى هل سيحدث الذي نويته أم لا؟ أنا أريد أن أتزوج فلانة يا ترى فيها خير أم لا؟ فدائماً يحاول أن يتعرف على المجهول، فيلجأ إلى طرق، والطريقة الشرعية التي وجهنا إليها النبي صلى الله عليه وسلم هي الاستخارة الشرعية، فأقول: يا رب إن كان هذا السفر خيراً لي فيسره وإن لم يكن به خيراً فاصرفه عني، ثم أقبل على الأمر وأترك الأمور لله، هذه الطريقة الحقيقية، لا شك هناك أحياناً أناس ينظرون بنور الله ليس من باب الغيب، مثل عندما قال: أوحياً بعد رسول الله؟ قال لا ولكنها فراسة المؤمن، فلا يدعي الغيب ولا يقول أنه سيحدث معك هكذا يقيناً لا، ولكن يقول له أنا أرى هذا السفر ـ بناء على معلومات معينة من فهمه للحياة ومن فهمه لواقع الحياة ـ أرى أن هذا السفر لن يكون لصالحك، فيستنبط إجابته من فراسته، الفراسة يعني هناك معلومات وإن كانت بسيطة، ولكن بواقع خبرة الحياة يستنبطها فيعطيه إياها، فنجد نصائح الشيوخ من باب هذا الأمر، ليس من باب علمهم بما سيكون، ولكن من باب معرفتهم بهذا الشخص، والعلم الذي تعلموه من علوم الشريعة جعلهم ينظرون بنور الله كما يقال، ولكن المؤمن يرى بنور الله، نور الله يعني منهج الله فهو تعلم المنهج فأصبح عنده أسباب ونتائج، هذا يؤدي إلى ذاك، وذاك يؤدي إلى هذا، فاصبح عنده ما يسمى النصيحة.
بعض الناس يبالغون بذلك فيقول لك: الشيخ يعرف أنني سأغلط، لا أكيد، ولكن بحدود أنها فراسة ونور من الله يقذفه في قلب المؤمن، فيستشف بعض الأمور شفافية بنفسه تجعله يدرك بعض الأمور التي لا يدركها الآخرون فهذا مقبول.

تتمة المداخلة
ويسمى بالإذن سيدي، يقول له يوجد إذن أم لا يوجد إذن؟

الدكتور بلال نور الدين:
نعم، يبالغون قليلاً.

مقدم اللقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، أشكر الدكتور بلال على تلبيته دعوة البيت الحمصي مرات بعد مرات بارك الله فيه، وأشكره على هذه المحاضرة الكريمة، وحقيقة نحن أمة الغيب، أمة آمنت بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، نبينا صلى الله علي وسلم بابنا إلى الله عز وجل، دلنا على الله، فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، والحقيقة هذه المعاني، وهذه اللطائف، بحاجة إليها في هذا العالم المادي، في هذه الأمواج المتلاطمة من المادة، فجزاه الله خيراً، ولا كلمة لي بعد كلامه، وكلام المداخلين الكرام، فجزاهم الله خيراً، وإن شاء الله تعالى هذه المحاضرة موصولة بمحاضرات أخرى بارك الله بكم جميعاً، بارك الله بكم دكتور بلال، نستمع الدعاء منك.

الدكتور بلال نور الدين:

دعاء الختام:
حفظكم الله، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم ما أمسى بنا وبأحد من خلقك من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد على ذلك، فأتم اللهم نعمتك وفضلك وكرمك علينا يا أكرم الأكرمين، اللهم جمعتنا عليك ففرقنا عليك، ولا تجعل حوائجنا إلا إليك، اجعل هذا الجمع جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، فرج عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم فرج عن إخواننا في المغرب وفي ليبيا وفي كل مكان يذكر فيه اسمك يا الله، اللهم اجبر مصابهم، اللهم اجبر خاطرهم، واجبر كسرهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، وتحنن عليهم، وتلطف بهم، وارحم شهداءهم، وداوِ جرحاهم، وردّ المفقودين إلى أهاليهم بخير وعافية يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ بلادنا من كل مكروه ومن كل سوء، اللهم فرج عن السوريين في كل مكان، اللهم فرج عنهم فرجاً يليق برحمتك وعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم اطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، اللهم يا أرحم الراحمين أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، وارزقنا حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راض علينا، أنت حسبنا عليك اتكالنا لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، واجز عنا خير الجزاء في البيت الحمصي على ما يقدمونه ويبذلونه في سبيل نشر دينك وتعليم سنة نبيك صلى الله عليه وسلم. والحمد لله رب العالمين.

مقدم اللقاء:
الحمد لله رب العالمين، جزاكم الله خيراً وتقبل الله دعاءكم، وتقبل الله أعمالكم، وهذه منصتكم منصة البيت الحمصي عامرة ومعمورة بمحاضراتكم، وحضوركم نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.