• محاضرة في الأردن
  • 2023-11-20
  • عمان
  • الأردن

حسن الظن بالله

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، موضوعنا اليوم أيها الكرام تشتد الحاجة إليه في المِحن والأزمات، وهو موضوع: حسن الظن بالله.
أيها الإخوة الأحباب، النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهو يُحْسِنُ الظَّنَّ باللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. }

(صحيح مسلم)

وفي الحديث القدسي يقول المولى جل جلاله:

{ أنا عندَ ظنِّ عبدي بي فلْيظُنَّ بي ما شاء. }

(صحيح ابن حبان)

وفي رواية أخرى:

{ أنا عند ظنِّ عبدِي بي إنْ ظنَّ خيرًا فلهُ، وإنْ ظنَّ شرًّا فلهُ. }

(صحيح الجامع)

(أنا عند ظنِّ عبدِي بي) فمن ظن بالله أنه يغفر غفر له، ومن ظن بالله أنه يرحم رحمه، ومن ظن بالله تعالى ظن السَّوء كان له السوء الذي ظنه.

الفرق بين حسن الظن والغرور:
قبل أن نمضي في موضوع حسن الظن أريد أن أفرق بين حسن الظن والغرور؛ لأن حسن الظن عند بعض الناس ينتقل إلى الغرور، والله تعالى يقول:

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6)
(سورة الانفطار)

حسن الظن عندما يؤدي إلى المسارعة إلى الخيرات
حسن الظن عندما يؤدي إلى المسارعة إلى الخيرات فهو حسن ظن، عندما يرافقه العمل فهو حسن ظن، أما عندما يكون هناك تقصير، وإساءة، وسوء علاقة مع الله ومع خلقه؛ ترك للفرائض، وإتيان للنواهي، وظلم للعباد، ويقول: أنا أحسن الظن بالله تعالى، فنقول له: هذا هو الغرور، أنت تغتر برحمة الله، وتبني عليها أوهاماً، وتسيء إلى الناس، وتظن أن الله يغفر لك، لا والله، هذا سوء ظن بالله، فمن اعتقد أنه يفعل ما يحلو الله، والله لن يحاسبه، فقد أساء الظن بالله، ولم يحسن الظن بالله.
طالب يدرس، يجتهد، يأتي ما أمره به المعلم، يترك ما نهاه عنه المعلم، بعد ذلك يقول: أنا أحسن الظن أن هذا الأستاذ سيعطيني حقي في الامتحان، أما إذا لم يدرس أبداً، قال: أنا حسن ظني بالأستاذ أنه سينجحني ولو لم أكتب شيئاً بالورقة، هذا أساء الظن بالأستاذ، لم يحسن الظن به، لأن الأستاذ عندما يعامل المقصر كالمتفوق فهذا تقصير منه، فهذه إساءة ظن؛ أن تعتقد أن الأستاذ سيعطيك العلامة وإن لم تدرس، أنت تسيء الظن به هنا، ولا تحسن الظن به، فهناك فرق بين حسن الظن والغرور.
الغرور: ترك العمل.
حسن الظن: يأتي ما أمره الله به ويحسن الظن بالله تعالى أنه إن شاء الله يغفر له ويتوب عليه ويرحمه.

الظن في القرآن الكريم:
لذلك، الظن في القرآن الكريم ورد بمعنى سوء الظن في قوله تعالى:

وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ(22) وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (23)
(سورة فصلت)

لما ظنوا أن الله لا يطّلع على أعمالهم، أو ظنوا أن الله يعلم أعمالهم لكن لن يحاسبهم عليها، فكان هذا الظن تردية لهم في نار جهنم، فليس حسن الظن بالله تعالى يعني أن تعتقد أنه لن يحاسبك، لا سيحاسبك، لكن حسن ظنك به أنه جل جلاله إن كنت في توحيده، وعلى طاعته فإنه يغفر لك ما جاء من تقصيرك، ويتجاوز عنك، ويقبل توبتك، هذا حسن الظن.

منبع حسن الظن بالله:
حسن الظن منبعه المعرفة بالله
الأمر الثاني أيها الكرام، حسن الظن بالله من أين يأتي؟ ما منبعه؟ منبعه المعرفة بالله، اليوم أنت إذا قيل لك: فلان من الناس فعل كذا من المنكرات؛ أكل مالاً من حرام، أخذ أموالاً من شخص على أن يتاجر بها، ثم أنفقها ولم يتاجر بها، وقال له: ليس لك عندي شيء، فأنت لا تعرف هذا الشخص، فلا تعلق، ولكن لو قيل لك: أخذ من فلان، وفلان تعرفه، وتعرف أخلاقه، وتعرف ورعه، وتعرف دينه فتقول: لعل في الموضوع سوء فهم، فلان لا يفعلها، من أين جاء حسن ظنك به؟ من معرفتك به، وبالمقابل سوء الظن يأتي من المعرفة أيضاً، ولكن بشكل عكسي، تقول دائماً يفعلها، الآن فعلها معك، دائماً يفعلها، فسوء الظن وحسن الظن يأتي من المعرفة، ويأتي من القياس على السابق، فأنت تقيس على شيء مضى فتحسن الظن، أو تسيء الظن، لذلك قالوا: "الله عوّدك الجميل، فقس على ما قد مضى"، يعني ربنا عز وجل خلقك، رزقك، زوّجك، أعطاك الولد، وهبك مالاً يكفيك، الكفاية، نعمة الإيمان، نعمة الستر، يوجد مسكن يؤويك، نعمة الستر، عُرضك مُصان، الأولاد صالحون، لم يأتِ منهم سوء يفضحك بين الخلق -والعياذ بالله- أمورك مستورة، الله عوّدك الجميل، الآن جاءك شيء من الله لم تفهم حكمته، قال: فقِس على ما قد مضى، فربنا كل أفعاله جميلة، الآن جاءك بمصيبة معينة، أنت ما فهمت لماذا مرضت؟ قس على ما قد مضى، ربنا كل أفعاله جميلة معك، وهذه جميلة ولكنك لم تفهمها، "الله عودك الجميل فقس على ما قد مضى".
فحسن الظن يأتي من المعرفة ويأتي من القياس على ما قد مضى، فالله تعالى نحسن الظن به لأننا نعرفه، ولأننا نعرف أنه لم يأتنا منه إلا الخير جل جلاله، فإذا جاءنا ما ظاهره شر نقول: لعل فيه حكمة لم نفهمها، لعل ما يجري مما يسوءنا ويزعجنا فيه من الله تعالى حكمة غابت عنا، قد تنكشف لنا اليوم أو بعد اليوم، أو في المستقبل، وسنذوب حباً لله تعالى لمَا أجراه من هذا القدر الذي لم نفهم حكمته لقصر نظرنا، ولكننا نحسن الظن بخالقنا.

سوء الظن بالله تعالى أكبر من أي مصيبة:
الرضا بقضاء الله تعالى أكبر من كل المصائب
أحبابنا الكرام، أي مصيبة تأتي العبد، والله أي مصيبة مهما كبرت، فسوء الظن بالله تعالى أكبر منها، أي مصيبة مهما كبرت إذا أساء الظنَّ الإنسانُ بربه، فإساءته الظن أعظم من المصيبة التي جاءته، فإذا مرض وقال: يا رب لماذا فعلت بي ذلك؟ والله أنا لم أغلط، قوله ذلك أسوأ من المرض الذي هو فيه، أما إذا قال: الحمد لله يا رب، ما جاءنا من الله إلا الخير، الحمد لله، جعلها الله تكفير سيئات، ورفع درجات، رضينا بقضاء الله، فرضاه بقضاء الله تعالى أكبر من كل المصائب التي جاءته.

مواطن الحاجة إلى حسن الظن بالله:
أحبابنا الكرام، يحتاج الإنسان إلى حسن الظن في مواطن، طبعاً دائماً نحتاج إلى حسن الظن، لكن عند مواطن محددة نكون بحاجة إلى حسن الظن أكثر من غيرها من المواطن، أول المواطن التي نحتاج فيها إلى حسن الظن:

أولاً_ عند الأزمات والملمات والمحن:
نحن بحاجة اليوم إلى أن نحسن الظن بخالقنا
عند الأزمات والمُلِمّات والمِحن؛ كهذه المحنة اليوم التي تعصف منها أمة الإسلام بمُصابنا بأهل فلسطين، وأهل غزة، هذه مِحنة عظيمة اليوم، فنحن بحاجة اليوم إلى أن نحسن الظن بخالقنا، أكثر من أي وقت مضى، أنا بحكم ما أكرمني الله تعالى به من التواصل مع الناس الدعوي جاءني في الفترة الأخيرة، ويأتيني في كل حالة حرب أشياء مزعجة جداً ممن يسيؤون الظن بخالقهم، الحمد لله قلة لكن موجودة، انظر إلى الشاشة، شعب يُباد، شعب ضعيف يُقتل، قصف، اقتحام للمستشفيات، جرائم يندى لها الجبين، شيء مؤلم جداً، وهو في ظنه -وهذا صحيح- الله على كل شيء قدير، فلماذا لا يتدخل الله الآن في هذه اللحظة؟ ويقتل لنا هؤلاء المجرمين، وينصر عباده المستضعفين، والله على كل شيء قدير؟ كلنا نرجو ذلك، وندعو الله به، لكن أحياناً بعض الناس لضعف إيمانه يسيء الظن بربه؛ لأنه في زعمه لم يتدخل لنصرة المستضعفين، وهو ليس له علم كعلم الله، وليس له حكمة كحكمة الله.

قصر علم الإنسان لحكمة الله مما يجري:
أحبابنا الكرام، دائماً تصرف الإنسان ينبع عن حكمة معينة، هذه الحكمة تنبع عن علم معين، فأنت إذا أردت أن تفهم الحكمة مما يجري فعليك أن تملك العلم الذي يملكه من يفعل، طفل صغير نظر فوجد رجل كبير بالعمر بالخمسين من عمره يصفع ولداً على يده عدة صفعات حتى بكى الطفل، هذا الطفل الصغير بالنسبة له هذا الرجل مجرم، وذاك الطفل مظلوم، وهذا الرجل يتصرف تصرفاً بخلاف الرحمة، رجل آخر صديق هذا الرجل يعلم أنه أبٌ رحيمٌ جداً، ولكن يبدو أن الابن أساء إساءة بالغة، فأراد الأب أن يؤدبه حتى لا يكررها، وقلبه من الداخل يمتلئ رحمة بهذا الطفل، لكن لا بد من هذا العقاب، فعاقبه، الكبير ما تألم، الصغير تألم، ما الفرق بينهما؟ الكبير يعلم ما عند الأب من علم، لأنه أب مثله، ويعرف أن الأب يتصرف بدافع الرحمة، لكنه يقسو أحياناً، الصغير نظر للموقف من غير علم، فوجده خلاف العدل والرحمة.
أعظم فتنة هي فتنة الدين
فإذاً نحن حتى نفهم حكمة الله فيما يجري في كل شيء نحتاج أن يكون لنا علم كعلم الله، هل هذا ممكن؟ مستحيل، إذاً نسلّم، ليس لدينا غير التسليم، نحن لا نملك العلم الذي عند الله تعالى، فإذاً حكمته فيما يجري تغيب عنا، تظهر أحياناً، وأحياناً تظهر بعد حين، وأحياناً لا تظهر إلا إلى يوم القيامة، وهذا الدرس تعلمناه دائماً ونتعلمه في كل أسبوع عندما نقرأ سورة الكهف، كل أسبوع، لماذا نقرأ الكهف كل أسبوع؟ حتى لا نُفتَن في ديننا، حتى نعتصم بالكهف الذي يحمينا من فتن الدين، لأن أعظم فتنة هي فتنة الدين.

سورة الكهف تعلمنا الحماية من الفتن:
فتنة الدين:

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(191)
(سورة البقرة)

إخواننا في غزة الآن الذين يقضون إلى الله تعالى، القتل أعظم أم أن يُفتَنوا في دينهم فيخونوا الأمانة؟ خيانة الأمانة أعظم، لأن خيانة الأمانة خسارة الأبد، أمّا القتل خسارة ما يُتوّهم أنها سنوات متبقية، هو لم يتبقَّ شيء، العمر انتهى.

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
(سورة الأعراف)

﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾، كان الجاهلي يئد ابنته، يقتلها، بعض القبائل:

وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9)
(سورة التكوير)

يئدها، وهذا جرم عظيم، إذا أب ما وأد ابنته، بالعكس ربّاها وكبّرها، ولكن لم ينتبه إلى دينها، ولا إلى عفتها، ولا إلى طهارتها، وتركها هَمَلاً حتى شبّت، وأقامت -والعياذ بالله- علاقات آثمة، وأصبحت ربما نجمة مشهورة بأي قناة أو شيء، صارت تغري الناس وتغويهم، وتلبس الثياب الفاضحة...إلخ، فأيهما أعظم جرماً الذي وأدها في التراب، أم الذي قتل دينها ولم يعلمها أن تصلي لله ركعة؟ الثاني، إذاً ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾، فالله تعالى لخص قال: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾، فيُفتَن الإنسان في دينه، لأن هذه الآية جاءت في معرِض القتال في الأشهر الحرم، يفتنون الناس عن دينهم في الشهر الحرام، ثم يُقال لا نقاتل في الشهر الحرام، الفتنة أشد من القتل، فيوم الجمعة نقرأ سورة الكهف فنتعلم أن فتنة الدين فتنة عظيمة جداً، ينبغي أن نؤوي دائماً إلى الكهف، والكهف هنا هو كتاب الله تعالى، وسنة رسوله.

فتنة المال:
ونقرؤها أيضاً حتى نفهم أن فتنة المال بقصة صاحب الجنتين أيضاً من أعظم الفتن؛ أن يُفتن الإنسان بماله.

فتنة القوة:
ونقرؤها أيضاً حتى نعلم أن فتنة القوة والتمكن من الأسباب ينبغي أن ننتبه لها، فعندما يستجمع الإنسان:

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
(سورة الكهف)

ذو القرنين، فيظن أنه ملك كل شيء، فيترك التوكل على الله، أما ذو القرنين قال:

قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
(سورة الكهف)

لا أريد منكم شيئاً، فنتعلم أن فتنة القوة والتمكين في الأرض لا تجعلنا نحيد عن هدفنا.

فتنة العلم:
فوق كل ذي علم عليم
ونتعلم أيضاً فتنة العلم، وهي فتنة موسى مع العبد الصالح يوم ظن موسى أنه يعلم كل شيء، فسأله أحد بني إسرائيل: من أكثر أهل الأرض علماً اليوم؟ فقال موسى: أنا، ما قالها فخراً موسى عليه السلام، قالها واقعاً؛ لأنه نبي الله، فأراد الله أن يعلمه أن فوق كل ذي علم عليم، فساقه إلى هذا العبد الذي تصرف تصرفات لم تظهر الحكمة فيها لموسى عليه السلام لنقص العلم عنده، بينما لمّا آتاه من لدنه جل جلاله علماً للعبد الصالح أجرى على يديه أشياء لم يفهمها موسى عليه السلام، فكان منها:
ما ظهرت حكمته فوراً، أصحاب السفينة في المساء علموا أن خرق السفينة كان خيراً لهم،
وكان ما ظهرت حكمته بعد سنوات لما شبّ الغلامان في المدينة، وكان تحت الجدار كنز لهما، فعلم الناس لماذا بنى الجدار دون أجر، واستخرجوا كنزهما الذي كان سيذهب هباء لو لم يفعل ذلك العبد الصالح.
• ومات الولد الذي ذُبح، ولم يُدرَ لماذا ذُبِح، وقتلت نفس زكية بغير نفس، ولم يدرِ أحد في الدنيا لماذا، ولكن سيعلم الوالدان يوم القيامة أن قتل هذا الغلام الذي أرهقما حزناً عليه إنما كان لمصلحة لهما؛ حتى لا يشبّ هذا الغلام فيكون فاسقاً عاصياً يستحق نار جهنم.
الفتن التي تجري في الدنيا كلها لها حكم
إذاً الفتن التي تجري في الدنيا على كثرتها كلها لها حكم، لكن بعضها نعلمه، وبعضها سنعلمه، وبعضها سوف نعلمه، السين للمستقبل القريب، وسوف للمستقبل البعيد، لكن كله سيُعلم حتى إذا جاء الخلائق يوم القيامة، ووقفوا بين يدي الله في محصلة الأمر:

وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(75)
(سورة الزمر)

على كل شيء الحمد لله رب العالمين؛ لأنهم سيفهمون الحكمة في كل ما جرى، لكن المؤمن يفهمها من الآن، ويقول: الحمد لله على كل حال، كلها متغيرات، النصر متغير، والهزيمة متغيرة، الحياة متغيرة، والموت متغير، لكن العبرة بمن ثبت، ولقي الله والله تعالى عنه راضٍ.
إذاً أيها الكرام عند الأزمات والملمات نحن بحاجة جداً إلى حسن الظن بالله، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ مَن نَزَلتْ به فَاقةٌ، فأَنَزَلَها بالنَّاسِ، لَم تُسدَّ فاقتُه، و مَن نَزلَتْ به فاقةً، فأنزلَها باللهِ، فيُوشِكُ اللهُ له برزقٍ عاجلٍ، أو آجلٍ. }

(أخرجه أبو داوود)

نزلت بك فاقة، فقر، يا رب أنزلت فاقتي بك، فسيرزقه الله عاجلاً أو آجلاً.

نماذج من حسن ظن الأنبياء بالله:
وسيدنا موسى عليه السلام في المحن لما كان البحر أمامه والعدو خلفه قال:

قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ(62)
(سورة الشعراء)

فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
(سورة الشعراء)

حسن ظنه بالله قال: ﴿قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾
وإبراهيم عليه السلام وهو في النار قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، والنار كانت تحرق كل شيء، قلنا:

قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ(69)
(سورة الانبياء)

ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء قال لأبي بكر لما قال له لقد رأونا، قال:

{ ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟! }

(صحيح البخاري)

إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)
(سورة التوبة)

هذا حسن الظن بالله تعالى، ففي المُلمات، في الشدائد نحن بحاجة إلى حسن الظن بالله.

ثانياً_ عند الدعاء:
وأيضاً عند الدعاء، عند الدعاء نحن بحاجة إلى حسن الظن، قال صلى الله عليه وسلم:

{ ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ }

(صحيح الترمذي)

كان عمر رضي الله عنه -وهذا من فقه عمر- كان يقول: "إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن أحمل همّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء فالإجابة معه" أنا لا أحمل هم أن يستجيب ربنا أو لا يستجيب، أو متى سيستجيب، أنا أحمل همّ هل أنا أهل للدعاء؟ أناجي ربنا بصدق؟ أتوجه لله بصدق؟ ما دمت بعبادة لله، وأدعو الله، فأنا هذا همي، أن أكون بالقرب من الله، أما الإجابة فتأتي عندما يريد الله، فأنا لا أحمل همها.

ثالثاً_ عند التوبة:
عند التوبة نحن بحاجة إلى حسن الظن بالله
وعند التوبة أيضاً نحن بحاجة إلى حسن الظن بالله، الفُضَيل بن عِياض ذهب إلى سفيان الثوري يوم عرفة، فقال له: "من أسوأ الناس حالاً هذا اليوم؟ قال: الذي يظن أن الله تعالى لا يغفر له" فعندما تتوب إلى الله، عندما نستغفر الله، عندما نطلب من الله، يجب أن تكون بقمة حسن الظن بالله، أنت تقول له: اغفر لي ثم لا يغفر لك؟ أنت إذا كان لديك حسن ظن بوالدك تقول: أنا مهما أسأت لوالدي إن قلت له: بابا سامحني يقول لي: سامحتك، كيف حسن ظن الإنسان بوالدته؟ الوالدة أكثر من الوالد، مهما قام الولد بأخطاء يأتي لأمه يقبل يدها، ويقول لها: ماما سامحيني، فتقول له: سامحتك، يكون لديه حسن ظن عجيب، هل من المعقول ألا تسامحني الوالدة؟ حسن ظننا بالله أعظم من ذلك، إن قلت له: اغفر لي، سوف يغفر لك:

{ يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ، ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً. }

(صحيح الترمذي)

فالإنسان عندما يستغفر الله ويتوب إليه ينبغي أن يحسن الظن بالله، لا يقول مثل هذا الرجل الذي كان يطوف بالكعبة، ويقول: يا رب اغفر لي ولا أظنك تفعل، فمر خلفه أحدهم وقال: يا هذا، ما سوء ظنك بالله، ما أشد قنوطك من رحمة الله! ما هذا الدعاء: اغفر لي ولا أظنك تقعل؟ قال: اذهب عني، قال: أنشدك بالله ماذا فعلت؟ قال: كان هناك فتنة في العصر العباسي، ودخلنا قرية وأُبيحت لنا، وكل جندي أخذ ما أخذ، بنهاية المعركة دخلوا، صاروا بالبلد، فخذ ما تريد، يعطونها مكافأة للجنود كما يحدث في العصر الحديث، دائماً التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن الأحداث تتشابه، يقول لك: لماذا لا يضبطون الجيوش بعد أن تدخل؟ لأنهم وعدوهم أنك إذا فتحت هذا المكان، أو حررته من هؤلاء الإرهابيين، فادخل وخذ ما شئت، صار البلد مباح لك بكل ما فيه، فقال: دخلت إلى امرأة وولد ورجل، فقلت: أعطني ما عندك، فأعطتني بعد الدريهمات، فقتلت الرجل، فقلت لها أعطني، فقالت: ما عندي شيء آخر، فلما رأتني جاداً في قتل غلامها أخرجت لي درعاً مُذْهَبة، درع كلها من الذهب، فأمسكتها فقرأت عليها:
إذا جارَ الأميرُ وحاجبـاه وقاضي الأرض أسرفَ في القضاءِ فـويــــــلٌ ثم ويـــلٌ ثم ويــلٌ لـقاضي الأرضِ من قاضي السّماءِ
{ محمد الشوكاني }
فوضعتها، وهِمْتُ على وجهي إلى حيث ترى، وأنا أقول: يا رب اغفر لي ولا أظنك تفعل. فالإنسان عندما يستغفر الله، فنحن الحمد لله ذنوبنا ليست كهذه:

{ لا يَزَالُ العبدُ في فَسْحَةٍ من دِينِه ما لم يُصِبْ دَمًا حرامًا. }

(أخرجه البخاري)

قال: "وكل الذنوب يرجى مغفرتها"، ولله الحمد والمِنّة حتى القتل، في عقيدتنا أهل السنة أنه يُرجى له المغفرة إن شاء الله.
لكن يعني من ورطات الأمور، كان ابن عباس يقول: "ومن وَرَطات الأمور التي لا مخرج لها القتل"

{ من قتَل مؤمنًا فاغتبط بقتله، لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً. }

(أخرجه أبو داوود)

يعني لا فرض ولا نافلة، فالحمد لله أن الإنسان إذا ما وصل لمرحلة فيها اجتراء على القتل، فهذه من نعم الله عز وجل الكبرى.

رابعاً_ عند الاحتضار:
وتشتد الحاجة إلى حسن الظن بالله عند الاحتضار إذا جاء ملك الموت، هذا من أعظم المواضع التي ينبغي فيها حسن الظن بالله، لقول صلى الله عليه وسلم:

{ لا يَمُوتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسنُ الظَّنَّ بالله عز وجل. }

(رواه مسلم)

هذا الحديث ومثله آية قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(102)
(سورة آل عمران)

الموت، من أعظم مواضع حسن الظن بالله
تُحيّر، لأن أنت عندما تنهى الإنسان أن يفعل شيئاً معيناً فهو يملك وقته، لا تمت إلا وأنت مسلم، أنا لا أعرف متى سأموت، (لا يَمُوتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسنُ الظَّنَّ بالله عز وجل).
متى سأموت حتى أحسن الظن بالله؟ هذا الحديث، وتلك الآية معناهما أنك كن دائماَ على حسن ظن بالله، حتى إذا جاء ملك الموت كنت في استعداد لهذا الحَدث، وكن دائماً مسلماً لله أمرك، حتى إذا جاء ملك الموت مُتَّ وأنت مسلم.
مثال من محاضرات شيخنا الدكتور راتب جزاه الله خيراً: لديك سفر إلى بلد بعيد، والتذكرة غالية، ولم يُحدد موعد المغادرة، هكذا طبيعة شركة الطيران لا تعطيك موعد المغادرة، تقول لك من الساعة 12 ليلاً الأحد إلى الساعة 12 ليلاً الاثنين، خلال 24 ساعة نطلبك يجب أن تكون جاهزاً، ماذا يفعل؟ والتذكرة لا تُعاد، يضع حقائبه خلف الباب ويقف، حتى إذا جاء الاتصال فوراً خلال ربع ساعة يجب أن يكون جاهزاً لدخول الطائرة، هو مهيّئ نفسه، فعندما يقول تعالى: ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ ، يعني كن جاهزاً دائماً، (لا يَمُوتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسنُ الظَّنَّ بالله عز وجل) يعني دائماً أحسِنْ ظنك بالله، حتى إذا جاءك ملك الموت تقول: يا رب أنا أحسن الظن بك أنني إلى الجنة إن شاء الله.

أمثلة عن حسن الظن بالله:
• مرض أعرابي فقال له الطبيب: إنك ستموت، هذا الطبيب كلامه غير مُجمّل، الأصل في الطبيب أن ينفّس للمريض في الأجل، لكن ربما هذا طبيب أمريكي، يقول الكلام مباشرة: إنك ستموت، قال: ثم إلى أين؟ قال: إلى الله تعالى، فقال: "ما كراهتي أن أذهب إلى من لا أرى الخير إلا منه"؟ لماذا أكره من لم أرَ الخير إلا منه؟ والله ما رأينا الخير إلا من الله.
• احتضر رجل فقيل له: ما ترى الله فاعلاً بك؟ قال: "لقد أكرمني وأنا في داري، فلن يكون أقل كرماً وأنا في داره".
• قال أعرابي لابن عباس رضي الله عنه: من يحاسب الناس يوم القيامة؟ قال: الله، قال: "نجوت ورب الكعبة، لأن الكريم إذا ملك رحم، وإذا قدر عفا".
ربنا هو الكريم جل جلاله
الكريم في الدنيا، ما معنى أن يكون الشخص كريم؟ يعني إذا صار له ملك معين يتكرم على الناس ويرحمهم، وعند المقدرة يسامح، ربنا هو الكريم جل جلاله، فإذا ملك رحم، وإذا قدر عفا.
فأحبابنا الكرام، حسن الظن بالله، يقال: حسن الظن بالله ثمنه الجنة، وإن لم يكن حديثاً، الجنة ليس لها ثمن، ولكن من أسباب دخول الجنة حسن الظن بالله، (لا يَمُوتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسنُ الظَّنَّ بالله عز وجل).

الحاجة الماسّة إلى حسن الظن بالله في هذه الأيام:
فنحن بحاجة في هذه الأوقات العصيبة التي نمر بها، وفي كل وقت أن نحسن الظن بخالقنا، والله يا أحبابنا ربنا عز وجل ليس لديه إلا الخير، وربنا عز وجل لا ييسر إلا الخير، ولا يقضي إلا بخير:

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141)
(سورة آل عمران)

يكفي أن نبقى ثابتين ومؤيدين للحق
وما يجري اليوم على الساحة سيكون له من آثار الخير التي سنراها أو يراها من بعدنا، إن قدّر الله لنا أن نعيش فنراها وإن لم يقدر سيراها مَن بعدنا، يكفي أن نبقى ثابتين على الحق، يكفي أن نبقى مؤيدين للحق، يكفي ألا نخون الأمانة، وألا نجامل في ديننا، وألا تخور قِوانا، وألا نُهزَم من الداخل، لكن ربنا عز وجل سينصر سينصر، ووعده آت، ووعده آت، ويقيننا بذلك لا يتغير ولا يتخلف.

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ(60)
(سورة الروم)

إياك ثم إياك أن يأتي ضعيف إيمان، وضعيف يقين فيستخفّك في دينك، ويلعب بعقلك، ويقول لك: أين النصر الذي توعدون به؟ اليوم على وسائل التواصل يخرج إلينا أعداؤنا، ومَن يصفّ في صفّهم، ويأتينا بعبارات من أجل أن يعبث بديننا، والعبث بالدين والمبادئ والقيم أعظم من كل نصر، ومن كل هزيمة، أن يُعبث الإنسان بمبادئه، أن يخسر دينه من أجل عرَضٍ من الدنيا قليل، كل شيء في الدنيا زائل، أما الباقي الواحد هو وجهه الكريم، والثابت الواحد هو أننا سنلقى الله تعالى، وأنه سيحاسبنا، فهنيئاً لمن عاش على الحق، ومات على الحق، والخسران الخسران لمن نافق، ولمن غيّر، ولمن بدّل فيُذاد يوم القيامة عن الحوض، ويقول صلى الله عليه وسلم:

{ أَنا فرطُكُم على الحوضِ، ثمَّ قالَ: ليُذادنَّ رجالٌ عن حوضي، كما يذادُ البعيرُ الضَّالُّ، فأُناديهم: ألا هلمُّوا فيقالُ: إنَّهم قد بدَّلوا بعدَكَ، ولم يزالوا يرجعونَ على أعقابِهِم، فأقولُ: ألا سُحقًا، سُحقًا. }

(صحيح ابن ماجه)

نسأل الله تعالى أن يسقينا من حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها.

دعاء الختام:
اللهم انصر إخواننا المستضعفين في غزة وفي فلسطين، اللهم نصرك المبين الذي وعدت به عبادك الصالحين.
اللهم زلزل الأرض تحت أقدام أعدائهم، واجعل الدائرة تدور عليهم، اللهم عليك بالصهاينة، والمتصهينين، اللهم عليك بهم وبمن والاهم، وبمن وقف معهم، وبمن أيدهم.
اللهم ثبّت أقدام إخواننا المرابطين في فلسطين وفي غزة، اللهم سدد رأيهم، وسدد رميهم، واربط على قلوبهم، وأنجِ المستضعفين من المؤمنين.
اللهم اكتبنا معهم في الأجر وفي الثواب، فإنك تعلم أننا مستضعفون لا نقوى إلا على الدعاء لهم، ومدّهم بما نستطيع من أسباب القوة، فاجعل لنا في ذلك أجراً متقبلاً وعملاً صالحاً يا أكرم الأكرمين.
وصل إلهي وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين