وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ ..

  • محاضرة في الأردن
  • 2023-12-25
  • عمان
  • الأردن

وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ ..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وعملًا متقبّلاً يا رب العالمين، وبعد: فيا أيها الإخوة الأحباب؛ في مطلع سورة القصص.

طسٓمٓ (1) تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ (2)

ثم يقول تعالى:

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِۦ نِسَآءَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ (6)


سنن الله-عزَّ وجلَّ- في الأرض:
أحبابنا الكرام؛ الله تعالى -كما أسلفنا سابقًا- له سُنَن، والسُّنن هي التعبير القرآني عما نسميه اليوم القوانين؛ بمعنى أن السُّنن هي مقدمات تؤدي إلى نتائج، فإذا وُجدت المقدمات وُجدت النتائج، السُّنة واقعة لا محالة، قال تعالى:

ٱسْتِكْبَارًا فِى ٱلْأَرْضِ وَمَكْرَ ٱلسَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِۦ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
(سورة فاطر)

فسنة الله لا تُبدل ولا تُحوّل، فربنا -عزَّ وجلَّ، جلَّ جلاله- من سننه أن الحق والباطل يصطرعان هذه سنة من سنن الله -عزَّ وجلَّ-، فلن تستطيع أن تجد في عصر من العصور باطلًا قد استفرد بالساحة، ولا حقًّا قد استفرد بالساحة أبداً، في كل العصور تجد دائمًا حربًا مستمرة بين الحق والباطل، أعطني دقيقة لم يكن فيها باطل أو دقيقة لم يكن فيها حق، حتى في آخر الزمان.

{ لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ }

(أخرجه مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم)

لا يخلو الزمان من أهل الحق ولا يخلو من أهل الباطل، ولكن قد يقوى أهل الحق ويشتد ساعدهم فيجد الناس أن الحق قد أصبح قويًا لقوة أهله، وقد ينتفش الباطل وينزوي أهل الحق بحقهم فيظن الناس أن الباطل قد علا شأنه، والباطل زهوق والحق دائم مستمر.

تعريف الحق والباطل والصراع بينهما:
الحق -أحبابنا الكرام-: هو من حقَّ الشيء يحِقُّ إذا ثبت، فكل شيء ثابت حق، وكل شيء زائل زهوق فهو باطل، مهما كثُر الباطل فهو إلى زوال، ومهما قلَّ الحق فهو إلى بقاء هذه سنة الله، ما معنى حق؟ أنت مثلًا أنشأت جامعة عمرها الآن مئة سنة، الجامعة بعُرف أهل الأرض حق تخرّج أجيالًا، تخرّج بناة للوطن، تخرّج مثقفين في شتى المجالات فهي شيء ثابت وهادف؛ له هدف.
الباطل: في العيد نحتاج إلى خيمة نضع فيها سيركًا، ونأتي بدب-أعزكم الله- يقوم ببعض الحركات البهلوانية، فنقيم سيركًا سريعًا لمدة ثلاثة أيام، الخيمة سريعة ومنصة خشبية قديمة ويأتي الناس وينتهي ثم تعود الساحة كما كانت؛ شيء عابث ليس له هدف وزائل يزول بسرعة، فالباطل عابث وزائل، والحق ثابت وهادف.
في مطلع سورة القصص، يحدثنا الله تعالى عن صراع بين الحق والباطل، ويتلو علينا من نبأ موسى وفرعون لقوم يؤمنون، يقول: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) فرعون يمثّل الباطل وأهل الباطل، وجنوده يمثّلون أعوان الباطل، وموسى-عليه السلام وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- يمثّل الحق، ومن حوله يمثّلون أعوان الحق وجند الحق، (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ) علا: من العلو وهو الاستعلاء، الإنسان ليس تواضعًا لكن حقيقةً لا ينبغي أن يعلو إلا بإيمانه، لا يستقوي إلا بإيمانه لأننا ضعاف.

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ (15)
(سورة فاطر)


مكان الإنسان التواضع وليس العلو:
كيف يعلو الإنسان- وأسأل الله لكم العافية جميعًا- خثرة في دمه تتجمد في عرق من عروقه فتصيبه بالشلل في جزء من الثانية، كيف يعلو؟! لماذا العلو؟! كيف يعلو الإنسان وقد يصيبه مرض يمنع خروج البول منه فيشعر بنفسه يكاد ينفجر إلا أن تركّب له القسطرة، وهو غير قادر على إخراج البول؟! كيف يعلو وهو إذا كان في رمضان وصام أتى المغرب وقد ذبلت قواه وخارت قواه وهو مفتقر إلى شربة ماء، كيف يعلو؟! فالإنسان ليس تواضعًا هو لا يحِقّ له أن يعلو لأنه هو مفتقر في كل شيء إلى وجود الله تعالى، مفتقر في كل شيء، فإذا علا فهو إنما يأخذ موضعًا ليس له، ليس مكان الإنسان العلو، مكانه التواضع فقال: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ) فرعون لم يعلُ، علا على جنده، وعلا على أعوانه، وعلا على بني إسرائيل، -والعياذ بالله -ظن أنه قد علا على ربه فقال:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّى صَرْحًا لَّعَلِّىٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّى لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ (38)
(سورة القصص)

ثم قال: رب العالمين، ففرعون علا في الأرض، والله تعالى يقول:

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
(سورة الكهف)

مرة عالم من العلماء؛ علماء مصر، سأل أحد الشيوخ من دمشق، قال له: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا) الهاء تعود على ماذا؟ قال له: "واضحة، تعود على الأرض"، لماذا سأله هذا السؤال؟ قال: ما دامت تعود على الأرض فما على الأرض زينة للأرض، فمن يغتر بها إنما يغتر بزينة ليست له، (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا) كل ما على الأرض حتى الناس يزينون الأرض فما على الأرض زينة للأرض، فقال: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا).

أساليب الطغاة في كل عصر:
1-فرق تسد:
من أساليب الطغاة في كل عصر، وفي كل مصر، وفي كل أوان، أنهم يزرعون التفرقة، (فرق تسد) قانون الطغاة المعروف، فيجعلون الناس شيعًا، شيعًا أي طوائف، طوائف إما مبنية على المعتقدات أو مبنية على الأصول( النَّسبية) أو على الأعراق فيقال هذا عربي وهذا عجمي، هذا عربي هذا كردي، أو مبنية على المعتقدات فيقال هذا مثلًا في أكثر ما يقال الآن: سلفي وصوفي وأشعري وأثري، وغالب خلافاتنا التي نختلف عليها اليوم إنما هي نابعة من تغذية سياسية يريدها الطغاة في الأرض، حتى الخلافات التي كانت في العراق بين طوائف المجتمع يقول أهل العراق: ما كنا نعرفها قبل أن يدخل المحتل الأمريكي، ما كنا نذكرها، بغض النظر عن صوابية من هو على صواب ومن هو على خطأ، لكن ما كنا نعرفها لكن هم يغذونها، هم يعتاشون على (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) لأن التفرقة تصب في صالحهم، ففرعون هو نموذج لمن يجعل أهل المكان شيعًا، فرعون ميّز بين الأقباط و بني إسرائيل، بين الأقباط الذين هم المصريون وأصل كلمة الأقباط ليست من النصارى، القبطي كان معناه مصري ، بعدها صارت الأقباط تدل على طائفة دينية، أما هي في الأصل القبطي هو المصري الأصلي وبنو إسرائيل، وبدأ يلعب على هذا الوتر الطائفي فيغذّيه (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا)، فغالب خلافاتنا -أيها الكرام- دائمًا غالبها تنبع من تغذية خارجية، لا أقول هي غير موجودة وأحيانًا موجودة ولها وجه من النظر، أي يوجد خلاف مبني على عقائد وينبغي أن يتبرأ الإنسان ممن يفعل كذا وكذا، أنا الآن لا أقول إنه لا يوجد خلافات، لكن يغذّيها أعداؤنا ويركبون عليها من أجل مصالحهم، فقبل أيام كنت أقول: نحن بداخل الصف المسلم السني-إن صح التعبير- عندنا الخلافات المشهورة؛ العقيدة بين الأشاعرة والأثرية، فمثلا ربنا -جلَّ جلاله- يقول:

{ يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟ }

(أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة)

فكثير من المسلمين انشغلوا في قضية (ينزلوا ربكم) كيف ينزل؟ إذا كان في السماء فنزل، حسنًا الأرض كروية فالجهة الثانية، كيف نزل؟ وإذا كان نزل فقد نسبنا له مكان معنى هذا حواه مكان، وإذا كان نزل في ثلث الليل الآخر ففي كل لحظة في الوجود يوجد ثلث ليل آخر، والمفوضة قالوا: ينزل وانتهى، نكتفي بما جاء في الوحي، نؤمن بأنه ينزل نزولًا ليس كمثله شيء؛ نزولًا يليق بعظمته، والمؤولة: لا، ينزل أي ينزل أمره ليس هو -جلَّ جلاله- بذاته، وخاضوا في ذلك، فقلت لهم: مرة في إحدى الليالي اختلف أشعري وأثري فقضوا الليل وهم يتحدثون كيف ينزل ربنا، ثم أذّن الفجر ولم يقم أحدهم لقيام الليل، فتركنا الهدف من الحديث وهو أن نقوم في ثلث الليل الآخر ونناجي ربنا، ونطلب منه حاجتنا، ونستغفره، وندعوه، وبدأنا ننشغل بكيف ينزل، والصحابة الكرام -رضوان ربي عليهم- سمعوا الحديث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما بلغنا أنهم سألوا كيف ينزل، وإنما بلغنا أنهم كانوا يقومون الليل، وكانوا يناجون ربهم، وكانوا يتضرعون إليه، فالخلافات العقدية أو الفقهية عندما نكبّرها و نتمادى فيها نخدم الطريقة الفرعونية؛ وهي أننا نجعل أنفسنا شيعًا، فيقول له: هذا المسجد من يصلي فيه؟ فلان، فلان كأنه سلفي والله لا أحب يصلي بهذا المسجد، فلان ماذا يصلي، يوجد فلان كذا لا أريد...، فنحن عندما نغذي هذه الخلافات أكثر وأكثر فنحن نخدم الطريقة الفرعونية وليس الطريقة الموسوية بطريقة موسى-عليه السلام- الذي جاء ليوحد الناس ويجمعهم، قلت لهم من أيام: العقيدة الحقيقية هي الإيمان في الأصل، أصلاً مصطلح العقيدة مصطلح جديد مُستحدث، ما كان يوجد مصطلح العقيدة سابقًا، هو مصطلح الإيمان من الأمن، من التصديق، الأمن إيمان، الإيمان أمن بمعنى ضد الخوف و تصديق؛ من آمن ومن أمِن، فانظروا ما أجمل المصطلح، ونحن جعلناه عقيدة عقّدناها بمعنى أنها تنعقد في القلب، ما في مانع نحن لسنا في حرب مصطلحات، لكن قلت لهم: ما هي العقيدة؟ ما هو الإيمان؟ هو هذا الذي تراه اليوم على الشاشة، هذه المرأة التي لم تأخذ في حياتها درسًا في العقيدة؛ درسًا أكاديميًا، لكن تلقت خبر موت ابنها بصبر ورضا، قالت: يا ربِّ لك الحمد، رضينا بقضائك؛ وهذه العقيدة، العقيدة هي هذا الرجل الذي كان يقول للثاني: " يا زلمة إحنا مشاريع الشهادة ما تعيطش"، هذه العقيدة، هذا الإيمان بالله الثبات عند المحن عند الشدائد؛ هذه العقيدة، طبعًا أنا لست ضد دراسة العقيدة للمتخصصين حتى يردوا على الآخرين لكن أن يصبح العقيدة التي وجدت من الإيمان لنؤمن جميعًا ونتحد لهدف واحد أن تصبح باعثًا للتفرقة، فهذا الشيء ليس صحيحًا، ومن أيام أيضًا ما زلت في (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا)، هناك لعبة كنا نلعبها ونحن صغار يضعون لنا صورتين ويقولون: أوجد الفوارق العشرة بين الصورتين، ندقق كثيرًا نحب هذه اللعبة و بالكاد نجمع ثمانية، يقول لك: يوجد اثنتان أيضاً ما شاهدتهما، فندقق حتى نجمع العشرة، فلعبة الفوارق علمتنا أن نبحث دائمًا على ما يفرقونا لا على ما يجمعنا، مع أنه إذا وضعت الصورتين وأبعدتهم قليلاً عن عينك لا يفرقون عن بعض أبداً، واليوم إذا ذهبت إلى الحرم المكي وتبتعد من بعيد وتصوّر الناس وتنظر إليهم تجدهم كلهم يصلون مثل بعضهم، لا تنتبه كثيرًا من الذي أنزل يده تحت صرته أو من رفعها قليلاً أو سنتيمترين زيادة، لا تنتبه على هذا الاختلاف، أو حتى المالكية لأهل المغرب الذين يسدلون لا يضمون أيديهم لا تنتبه، عندما يجلسون للقعود لا تنتبه من الذي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، أو أشار بها وبقي رافعًا لها إلى نهاية التشهد، أو بين من يحركها الحنابلة لا تنتبه؛ لأن الصورة واحدة، نحن أمة واحدة.

شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحًا وَٱلَّذِىٓ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِۦٓ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓ ۖ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ ٱللَّهُ يَجْتَبِىٓ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِىٓ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13)
( سورة الشورى )

فإذا كان الدين قد وجِد ليجمعنا، فإذا تفرقنا فيه فقد خالفنا ما وجِد الدين من أجله، ووجِد ليجمعنا على كلمة سواء لا ليفرقنا، ففرعون كان أسلوبه أنه (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) أعراق، أديان، شرائع، ففرّق، وهذا أسلوب الطغاة في كل عصر ويتكرر بشكل دائم.

2-استضعاف الناس:
(يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ) الذين هم بنو إسرائيل، يستضعفهم إذًا هم بالأصل ما ينبغي أن يكونوا ضِعافًا في وجه الطغيان؛ لأنه استضعفه أي جعله ضعيفًا، لكن هو في الأصل ليس ضعيفًا لأنك قوي بقوة الحق، لكن لا تسمح لأحد أن يستضعفك.

إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِىٓ أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ قَالُوٓاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَآءَتْ مَصِيرًا (97)
(سورة النساء)

أنت لست ضعيفًا، أنت خلقك الله قويًا؛ قويًا بإيمانك، بمبادئك، بقيمك، فأنت عندما تسمح لأحد أن يستضعفك فأنت جعلت نفسك ضعيفًا، لكن أنت ما ينبغي أن تكون ضعيفًا، لذلك قال: (يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ) فالأسلوب الأول(وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا)، الثاني(يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ) من استضعافه لهم قال: (يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِۦ نِسَآءَهُمْ) مما يفعله الطغاة في كل عصر هو ما نسميها الإبادة الجماعية، (يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِۦ نِسَآءَهُمْ)، لكن فراعنة العصر الماضي كانوا أفضل من فراعنة هذا العصر، على الأقل يستحيون، الآن الدمار والقصف لا يستثني لا نساءً ولا أطفالًا ولا رجالًا (يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِۦ نِسَآءَهُمْ) .
قال: (إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ) الإفساد -أيها الكرام- هو أن تخرج الشيء عن غايته التي وُجِد من أجلها، نحن نقول: فسد الطحين، أو فسد الماء، أو فسد الطعام إذا تغير، تغير عما وجد من أجله فما عاد يؤكل، أحيانًا تكون المواد جيدة لكن سوء استخدامها يؤدي إلى الفساد، أي أنت عندك سكر وعندك ملح وأخطأت وعملت كنافة بالملح؛ إلى القمامة، أو أخطأت وعملت منسفًا بالسكر؛ إلى القمامة، فأنت ما الذي صنعته؟ وضعت موادًا صالحة لكن استخدمت بغير ما وجدت له، فالإفساد أن تخرج الشيء عن طبيعته، ففرعون وأسلوب فرعون والطغاة في كل عصر مهمتهم الإفساد؛ أن يخرج الشيء عن طبيعته، المرأة ربنا -عزَّ وجلَّ- خلقها لتكون أمًا، زوجة، أختًا، عمة، جدة، بكل مرحلة من عمرها لها مكانة كبيرة، تبدأ بنتًا ريحانة أشمها وعلى الله رزقها تملأ البيت سرورًا، يربيها أبوها ويُسرّ بها وتملأ البيت سرورًا، بنت تكبر يزوجها تصير زوجة لها مكانتها، " أكرموهن ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم" ، ثم تصبح أمًا فواجب كل أبنائها تقبيل يدها و يحترمونها، ويلبونها و يسمعون كلامها، ثم تصبح جدّة فيصير لها المكان الأوفى بالبيت بصدر البيت، والجميع يدخل ويطلب رضاها، ولا أحد يتكلم معها أي كلام يزعجها، ويتسابقون لخدمتها، هكذا خلق الله الفتاة جعلها بهذا الأمر، إذا أردت أن تعمل يقول لها: لا مانع من أن تعملي لكن هناك شروط لعملك لأنك أنت بديننا مقدسة، فنريد إعطاءكِ شروطًا: فعندك مهمة رئيسية هي البيت، عندك ألا تصبحي سلعة، لا ندعك تعملين إعلانات من أجل جذب الزبائن لشراء السلع أنتِ أقدس من ذلك بكثير، يعطيها مجال عملها الذي يخدم أمتها، ما الذي يفعله الطغاة؟ يفسدونها ويخرجونها عما خلقها الله تعالى من أجله، "اخرجي من البيت، لا تسمعي كلمته، المدير في العمل اسمعي كلمته، لا يصح من أجل رزقك يطردك من العمل، زوجك لا تسمعي كلمته مثلما هو له أمر أنتِ لك أمر"، حسنًا، والقوامة؟ " لا يوجد قوامة هذه من الماضي، اليوم العصر تغير؛ يفسدونها، النسويات اليوم يفسدون المرأة، نحن لسنا ضد حقوق المرأة، لكن أن تُستغل حقوق المرأة من أجل إفساد المرأة فهنا المصيبة، " لماذا الحجاب؟ اخرجي بكامل مفاتنك واعرضيها على الجمهور" إفساد للمرأة، ما هكذا خُلقت المرأة، فإذًا الإفساد هو أن تخرج الشيء عن طبيعته التي خلقه الله تعالى عليها، (إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ).

الخطة الفرعونية:
هذا ما يفعله فرعون تفريق الناس وتحزيبهم بناءً على طوائف، أعراق، أديان... إلخ، استضعاف للناس، إذلال لهم، استعباد لهم، قتل وإجرام وإبقاء للنساء من أجل الإذلال أيضًا والخدمة وجعلهم في مكان غير ما خُلقوا من أجله، إفساد في الأرض هذه الخطة الفرعونية، الآن لو نظر إنسان لها بشكل مجرد خطة جدًا محْكمة محبوكة، الخطة محبوكة 100%، هل حبْكُها بهذا الشكل المتقن؟ وهل قوة فرعون؟ وهل؟ وهل؟.... يمكن أن تحقق الغاية التي وُجدت من أجلها؟ قال تعالى:( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ ) ربنا له إرادة، وإرادة ربنا -عزَّ وجلَّ-لا غالب لها.

إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (40)
(سورة النحل)


قصة موسى وفرعون:
( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ) هنا في سورة القصص هذه مقدمة القصة، هذا يسمونه بالرواية أو بالقصة بالأدب (فرش) يعطيك الملخص ثم يأتي إلى التفاصيل، هذا الفرش الابتدائي، فبالابتداء هناك معركة.

نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ لِقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ (3)
(سورة القصص)

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) ...إلخ ،( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ) ثم بدأت القصة:

وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ (7)
(سورة القصص)

فهذه المقدمة، المقدمة هي أن الصراع قائم مستمر إلى يوم القيامة، المقدمة هي أن الله عرض لك الخطة الفرعونية بكون أبعادها وتفاصيلها وهي خطة محكمة ومبنية على معطيات...إلخ، لكن هذا لا يمنع أنه ليس كل ما يريده فرعون يتحقق.

سُنّة التدافع:
نحن بفعل -لا أبالغ إذا قلت- ثقافة الهزيمة التي عشناها على مدى العقود الماضية؛ الثلاثون الأربعون سنة الماضية، أصبحنا نظن أنهم يفعلون كل ما يخططون له، الحقيقة ليست كذلك، الحقيقة أنهم مُنُوا بخيبات عظيمة جدًا، صحيح أنّ تراجُعنا في السُّلْم الحضاري للأمم واستغناؤنا عن ديننا الذي هو مصدر قوتنا وعزتنا جعلنا متأخرين قليلًا وجعلهم ينتفشون ويعلون-و هذه السُنّة كما قلنا: سُنّة التدافع- فنحن عشنا في السنوات الأخيرة التي جعلنا نضعف، نضعف، وجعلوا يستغلون الموقف؛ لأنه دائمًا ربنا ما ترك في الأرض فراغًا، هذه سُنّة التدافع لا يوجد فراغ، الفراغ الذي تتركه أنت يملؤه غيرك، لا يوجد منطقة تبقى فارغة، الفراغ الذي يتركه أهل الحق يملؤه أهل الباطل، فنحن تركنا فراغًا فملؤوه، الآن حتى نملأ الفراغ من جديد و نزيحهم عنه صعب ليس بيوم ولا يومين، نحن لن ننام ونصحى، ننام مئة سنة ثم نصحى يوم فيتغير كل شيء، لا، لن أقول: المئة يلزمها مئة -إن شاء الله لا- لكن قل: المئة تحتاج عشرة يا أخي، 10% وقت لتعدّل الخطأ الذي ارتكبناه، نحن قعدنا، تركنا الجهاد، وتركنا الحديث عنهم تركناهم وشأنهم، حتى صار الواحد منا ربما يفتخر بنفسه بين مجالسنا يقول: الموضوع هذا لا علاقة لي به نهائيًا، أنا يهمني أخي تجارتي وبيتي، و تصلي وتعبد ربك انتهى، أبقه بينك وبين ربك، نحن تراجعنا لأننا تركنا فترة طويلة العمل، فالآن لا يتعدل الموقف بيوم وليلة فلا بد من وقت، ربنا -جلَّ جلاله- بعدما عرض الخطة الفرعونية بكل أبعادها، قال:( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ) هذه إرادة الله، وإرادة الله حاصلة، وهذا وعد، والوعد لا يتخلّف من الله:( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ) والمَنّ هو العطاء بلا حدود.

إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍۢ (6)
(سورة التين)

أي غير منقطع، والمَنّ عطاء بلا مقابل (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ) فهي مِنّة من الله تعالى، نحن الآن إذا نصرنا الله تعالى هو كل النصر من الله تعالى منا؛ لأننا ما قدمنا شيئًا يكافئ النصر، لكن قال العلماء: هناك نصر استحقاقي، وهناك نصر تَفَضُّلي؛ الاستحقاقي أنت تستحقه من الله، مِنّة من الله بسببٍ قدمته مثل نصر المسلمين في بدر، لكن هناك نصر تَفَضُّلي بمعنى أن الله تعالى يتفضّل على عباده وإن كانوا مقصرين في أداء ما عليهم بجرعة منعشة من النصر من أجل أن يحملهم على الرجوع إليه، فنحن كل النصر مِنّة من الله تعالى.
(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ) أئمة في كل الميادين، الإمام هو الذي يِأْتم به الناس، يقتدي به الناس، إمام في الخير، أئمة في الاقتصاد، أئمة في العلم، أئمة في التطور، في التكنولوجيا، في كل شيء، (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي يِأْتم الناس بهم، (وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ) الذين يرثون الأرض من أعدائهم لإنه -كما قلنا- السنة سنة التدافع، دائمًا:

ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍۢ لَّهُدِّمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَٰتٌ وَمَسَٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسْمُ ٱللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ (40)
(سورة الحج)

فسنة التدافع هي وجود دائمًا معركة،( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ) مكَّن له: جعله ذا مكانة.

وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِى بِهِۦٓ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
(سورة يوسف)

وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ(56)
(سورة يوسف)

مكّنّا له: جعلناه ذا مكانة؛ له سلطة يأمر فيُطاع، ينهى فيُطاع، له مكانة (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ).

الاستخلاف والتمكين وعد:
الآن أحبابنا الكرام؛ لو نظرنا إلى التمكين في الأرض لوجدنا أن معظم ما ورد، أو كل ما ورد في القرآن الكريم من التمكين إنما هو وعد، الاستخلاف والتمكين وعد، كيف وعد؟ نحن عندنا شيء مطلوب منك وهناك شيء أنت موعود به، لا يوجد بالقرآن الكريم ولا آية تقول: (يا أيها الذين آمنوا كونوا مستخلفين في الأرض)، (كونوا من المُمكّن لهم في الأرض) مع أن التمكين والاستخلاف مطلب؛ لأننا عندما نُستخلف ويُمكّن لنا في الأرض ننشر العدل، ننشر الخير، نحن إذا مُكّن لنا في الأرض نوقف العدوان، إذا مُكّن لنا في الأرض نمنع الطغاة من أن يستبدوا بالناس، نحن لا نجبر أحدًا على شيء كما يفعلون هم، نحن لا نقصف الناس بالطائرات إذا مُكّن لنا في الأرض.

ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ (41)
(سورة الحج)

فعندما كان ممكّنًا للمسلمين في الأرض ما سمعنا أحدًا قُتل، و ما سمعنا أن حرب إبادة شُنت، أعداد على أصابع اليد الواحدة كانت في الحروب من أجل الوصول إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل، ثم كان الجميع يعيشون في كنف الدولة الإسلامية في أهنأ حال، حتى كان أهل الكتاب إذا خُيّروا بين أن يتركوا أو أن يعيشوا في كنف الدولة الإسلامية كانوا يختارون العيش في كنف الدولة الإسلامية؛ لأنه لا يوجد دولة حقيقية تعطي لجميع الناس حقوقها و يتكافأ الناس أمامها مثل أن يقام شرع الله -عزَّ وجلَّ-، لكن في القرآن الكريم ما عندنا نحن (أن تمكّنوا لأنفسكم في الأرض) لأن هذا وعد، أنت مطلوب منك أن تقدم أسباب التمكين، أنت لست قادرًا أن يمكّن لك في الأرض، لكن أنت قادر تقدم الأسباب التي تجعل أمتك مُمكّنًا لها في الأرض، فكل ما في القرآن الكريم هو وعد بالاستخلاف والتمكين وليس أمرًا به، (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ) وعد من الله، لكن متى يأتي التمكين؟ عندما نكون نحن أهلًا لأن يكون مُمكّنًا لنا في الأرض.
اليوم ربنا -عزَّ وجلَّ- قال: (ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ) اليوم ما يجري على أرض فلسطين الحبيبة يؤلمنا جميعًا، وما يجري في غزة يعتصر فؤادنا ألمًا كلنا، وهذا من الإيمان، والذي لا يتحرك داخله أسفًا ولا يدعم أهل الحق، ولا يناصر أهل الحق، ولا يقف في وجه الباطل فليراجع إيمانه فإن عنده خللًا هذا مقياس إيمان اليوم، اليوم ربنا -عزَّ وجلَّ- يمتحن إيماننا، كلنا يؤلمنا ما نرى، اليوم إذا ربنا -عزَّ وجلَّ- شاء -وأسأل الله أن يشاء- أن يُمكّن لنا في الأرض، فهل نحن سنقيم شرع الله؟ هذا السؤال المحرج جدًا، اليوم من مكّن الله له في بقعة جغرافية معينة هل هو مهيأ ليقيم شرع الله؟ أم سيقيم في هذا المكان الحفلات الماجنة؟ هذا السؤال، فربنا -عزَّ وجلَّ-قال: (ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ) حسنًا يا ربي، قوى كبرى وطغيان (وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ) الأمر لله كله، أنت إذا مُكّنت يجب أن تقيم شرع الله، أما إذا مُكّنت ثم فعلت ما يفعله أعداؤك هذا ليس تمكينًا، هذا لم يُمكّن لك في الأرض، هذا مُكّن لهم في الأرض عن طريقك، هم مُكّن لهم في الأرض عن طريقنا إذا كنا سنفعل أفعالهم؛ لأنهم يحققون كل ما يريدونه بأيادٍ أخرى كما يجري اليوم في بعض بلاد المسلمين، بعض بلاد المسلمين اليوم لا يُسمح فيها بلقاء طيب كهذا اللقاء، هل مُمكّن لهم في الأرض، أو ممكن لأعدائنا في الأرض؟ لأعدائنا؛ لأنهم يأتمرون بأمر الأعداء، فأين التمكين في الأرض؟! (ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ)
(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم) من المستضعفين (مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ) أي هم كانوا يحذرون من هؤلاء المستضعفين أن ينهضوا يومًا، هم كانوا يحذرون من هؤلاء المستضعفين أن يطالبوا بحقوقهم يومًا، كانوا يحذرون من هؤلاء المستضعفين أن يستفيق مارد الإيمان في داخلهم، فيتنادى بعضهم مع بعض الحي على الجهاد هذا ما كان يخيفهم، هذا ما كان يحذرون منهم، قال: (وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ) هذه إرادة الله، هامان هو الوزير وهو المفتي، قال:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّى صَرْحًا لَّعَلِّىٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّى لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ (38)
(سورة القصص)


أركان الطغيان في الأرض:
فرعون كان يمثّل القوة السياسية العسكرية؛ الجبروت والطغيان، وهامان كان يمثّل القوة الروحية التي هي تبرير أفعال الطغاة؛ أي يعطيه ما يبرر فعله الوزير المقرب منه، وقارون كان يمثّل القوة المالية، وكل طغيان في الأرض يحتاج إلى هذه الأركان الثلاثة، يحتاج إلى قوة عسكرية يمثلها طاغية، وإلى مال يضعه في أيدي أناس مقربين منه فكأنه في يده، لكن هو لا يلوث يده بهذا الموضوع، يصله جاهزًا فيضع جهة ثانية، ويحتاج إلى وزير يبرر له حماقاته ويخرج ويؤولها له على الإعلام، ويقول له: الذي فعلته عين الصواب، فهو يحتاج لثلاثة أمور فهنا جاء فرعون وهامان الذي هو الوزير المقرب من فرعون، (وَجُنُودَهُمَا) جنود فرعون وهامان(مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ).
أحبابنا الكرام؛ دائمًا شيء مخيف جدًا موضوع الجنود، الإمام أحمد بن حنبل جاءه رجل قال له: أنا أخيط الثوب للسلطان -السلطان كان ظالمًا الذي كان يخيط له الثوب-، قال له: فهل أنا شريك له في ظلمه؟ قال: لا، أنت الظالمُ نفسُه، شريكك من يبيعك القماش، الشراكة للذي يبيعك القماش، أما أنت الذي تحيك الثوب كي يلبسه و يجلس في مجلسه ويظلم الناس، أنت لست شريكًا أنت معه، أنت الظالمُ نفسُه، والله الجنود المجندون أنفسهم لخدمة الباطل -كما نرى اليوم ونسمع مع هؤلاء الذين يقتلون الناس ويستبيحون الدماء- هؤلاء باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، الإنسان أحيانًا يبيع آخرته بدنياه، والله شيء مؤسف، يعيش حياة مرفهة، يطغى في الأرض، يستمتع سبعين سنة، حمق ما بعده حمق لأنه ترك الأبد، لا يوجد أحمق من ذلك، لكن إذا نظرت لها تقول: أخذ شيئًا (لحس إصبعه)، شاهد خيرًا، أما يأتي أحدهم يبيع آخرته بدنيا غيره من أجل أن يعيش غيره حياة مرفهة فهو يبرر له إجرامه، ويبرر له باطله، ويعيش حياته فقيرًا، فقط أنا كنت جنديًا لفلان، فقط من أجل أن يحقق الجندية ويترك أن يكون جنديًا لله تعالى.

وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ (173)
(سورة الصافات)

فهذا لا يوجد أحمق منه أنه يبيع آخرته بدنيا غيره، هذا لا أخذ الدنيا ولا أخذ الآخرة، خرج خالي الوفاض لا دنيا ولا آخرة، فإذًا(وَجُنُودَهُمَا) هذه إشارة إلى أن من يقف مع الطغاة، ومن يقف مع الظالمين، ومن يؤيدهم، ومن يناصرهم بكلمة (من أعان على قتل امرئ بشطر كلمة، لقي الله مكتوبًا بين عينيه آيس من رحمة الله)، ماذا فعلنا؟ طلعت وعملت بثًا وقلت: "والله معهم حق"، كيف معهم حق؟ "هم يقتلون سواءً تكلمت أو لا"، (أعان على قتل امرئ بشطر كلمة)، فالإنسان ليوطن نفسه ألا يكون جنديًا من جنود الطاغية أو من جنود وزراء الطاغية من يقفون معه، ومن يؤيدونه في طغيانهم، (وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ).

أركان الطغيان في الأرض:
أحبابنا الكرام؛ ما الذي حصل بين إرادة الله -عزَّ وجلَّ- والإرادة الفرعونية؟ طبعًا الإرادة الفرعونية تجاوزًا، الذي حصل أن فرعون ربّى من يريد أن يقضي على ملكه في قصره، واعتنى به ونشّأه وربّاه على عينه حتى كبر وشبّ وقضى على ملكه، هو رأى في المنام أن من بني إسرائيل من سيقضي على ملكه، فلما وجد التابوت في الماء كل فطنته، وكل ذكائه، وكل ترتيباته ذهبت سدًى، إذا أراد الله إنفاذ أمر أخذ من كل ذي لب لبه، لا يوجد مع ربنا -عزَّ وجلَّ- ذكي، لا يوجد عاقل، هناك إما أن تكون مستقيمًا على منهجه أو أن يكون الآخر منحرفًا -والعياذ بالله-، فلما وجد الغلام وقع حبه في قلبه، فرعون يُحب؟!! فرعون الذي يذبّح يحب غلامًا صغيرًا يبكي؟!!

وَقَالَتِ ٱمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍۢ لِّى وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
(سورة القصص)

قال:

فَٱلۡتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرۡعَوۡنَ لِيَكُونَ لَهُمۡ عَدُوّٗا وَحَزَنًاۗ إِنَّ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَٰطِـِٔينَ (8)
(سورة القصص)

عندنا باللغة العربية يوجد لام اسمها لام التعليل (درست لأنجح) أي ماقبلها سبب لما بعدها، الدراسة سبب للنجاح (درست لأنجح)، حسنًا (فَٱلۡتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرۡعَوۡنَ لِيَكُونَ لَهُمۡ عَدُوّٗا وَحَزَنًا) هم لما التقطوه التقطوه ليكون لهم عدوًا وحزنًا معقول؟! لكن هذه يسميها النحاة لام العاقبة، هي نفسها لام التعليل ونفس عمل لام التعليل لكن نسمي لام العاقبة؛ أي التقطوه فكانت العاقبة أنه كان لهم عدوًا وحزنًا، لكن تهكمًا بهم قال: (فَٱلۡتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرۡعَوۡنَ لِيَكُونَ لَهُمۡ عَدُوّٗا وَحَزَنًا) أي هم ربوه و اعتنوا به كي يحزنهم و يعاديهم بعدها، لا شيء يبرر أن يلتقط فرعون هذا الغلام ويربيه بقصره غير أن الله تعالى لما قال: ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ) هذه إرادة الله، وإرادة الله لا رادّ لها، فربّاه في قصره وعلى عينيه، ولما كبر قضى على ملكه، فإذًا ربنا -عزَّ وجلَّ-

وَقَالَ ٱلَّذِى ٱشْتَرَىٰهُ مِن مِّصْرَ لِٱمْرَأَتِهِۦٓ أَكْرِمِى مَثْوَىٰهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأْوِيلِ ٱلْأَحَادِيثِ ۚ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمْرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
(سورة يوسف)

هذا والله تعالى أعلم وأجلُّ.

الدعاء:
اللهم انصر إخواننا المستضعفين في غزة، اللهم ثبتهم سدد رأيهم، وسدد رميهم، اجعل الدائرة تدور على عدوهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم ارحم شهداءهم، واشفِ مرضاهم، وداوِ جرحاهم، و أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، اللهم احمِ أعراضهم، اللهم ثبتهم في دُورهم وبين أهليهم، اللهم بارك في عُدتهم وعتادهم، اللهم عليك بالصهاينة ومن والاهم ومن وقف معهم ومن أيدهم ومن ناصرهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اجعل اللهم هذا الجمع جمعًا مباركًا مرحومًا، واجعل التفرق من بعده معصومًا، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقيًّا ولا محرومًا، ، بارك الدار وأهلها، اللهم أنزل عليها رحماتك وبركاتك وصلواتك يا أرحم الراحمين، وصلِ وسلم وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.