• محاضرة في الأردن
  • 2024-01-01
  • عمان
  • الأردن

بذور التمكين

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

الوعد بالتمكين حتمي الوقوع بشروط:
فيا أيها الإخوة الأحباب؛ كما أسلفنا في اللقاء السابق فإن التمكين للمؤمنين في الأرض وعد من الله تعالى، ووعد الله تعالى لا يُخلف.

فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
(سورة الروم)

هذا الوعد بالتمكين حتمي الوقوع لكن أسبابه قد أُمرنا بها، نحن لم نُؤمر أمرًا مباشرًا بأن نُمكّن في الأرض لأن هذا وعد من الله، لكننا أُمرنا أن نقدّم الأسباب التي تجعلنا مؤهلين ليُمكّن الله لنا في الأرض، قال تعالى:

وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا ۚوَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ (55)
(سورة النور)

وفي هذا إشارة إلى أن هذا قانون إلهي (كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) أي انظر كيف استُخلف من قبلك حتى تُستخلف كما استُخلفوا، (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ) أي دينٍ وعد بتمكينه؟ لأن كل إنسان يقول: أنا على دين، لكن قال: (ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ) فإن لم يُمكّن لنا في الأرض يومًا فمعنى ذلك أن التدين الذي نحن عليه أو أن فهمنا للدين الذي نحن عليه لم يرتضه الله لنا (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) فهذه وعود ثلاث؛ وعد بالاستخلاف، ووعد بالتمكين في الأرض، ووعد بالأمن (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) ثلاثة وعود، ثم جاء تذييل الآية بقوله تعالى: (يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا) وكأن الله تعالى يقول لك: إن هذه الوعود مرتبطة بعبادة الله تعالى وتوحيده، فإذا حقق المؤمن ما عليه من عبادة الله تعالى مع التوحيد كانت له تلك الوعود الثلاثة، وفي هذا المعنى أردف النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا معاذاً وقال له:

{ بيْنَا أنَا رَدِيفُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليسَ بَيْنِي وبيْنَهُ إلَّا أخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقالَ: يا مُعَاذُ بنَ جَبَلٍ، قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قالَ: يا مُعَاذُ، قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قالَ: يا مُعَاذُ، قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: هلْ تَدْرِي ما حَقُّ اللَّهِ علَى عِبَادِهِ؟ قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: حَقُّ اللَّهِ علَى عِبَادِهِ أنْ يَعْبُدُوهُ ولَا يُشْرِكُوا به شيئًا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قالَ: يا مُعَاذُ بنَ جَبَلٍ، قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ، فَقالَ: هلْ تَدْرِي ما حَقُّ العِبَادِ علَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوهُ؟ قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: حَقُّ العِبَادِ علَى اللَّهِ أنْ لا يُعَذِّبَهُمْ. }

(أخرجه البخاري ومسلم عن معاذ بن جبل )

ربنا له حق علينا؛ خلقنا، رزقنا، أعطانا، أكرمنا، وهبنا هبات عامة وهبات خاصة، ما حقه علينا؟ قال: (اللهُ ورَسولُه أعلَمُ) سأله ثانية وثالثة، ثم قال له: (حَقُّ اللَّهِ علَى عِبَادِهِ أنْ يَعْبُدُوهُ ولَا يُشْرِكُوا به شيئًا) عبادة خالصة.

وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلْقَيِّمَةِ (5)
(سورة البينة)

ثم قال له: (هلْ تَدْرِي ما حَقُّ العِبَادِ علَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوهُ) أي الخالق أنشأ لك حقًّا عليه، الخالق العظيم أنشأ لعباده حقًّا عليه، جعله حقًّا، حق من حقوقك عليه، قال: (اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قالَ: حَقُّ العِبَادِ علَى اللَّهِ أنْ لا يُعَذِّبَهُمْ) فإذًا أيها الكرام لله حق ولنا حق، والإنسان عندما يقتضي أو يطالب بحقه دون أن يقدم ما عليه فهذا ليس أدبًا، لو فعله مع إنسان ليس أدبًا، إذا موظف غاب في الشهر ستة أيام، وتأخر ستة أو سبعة، وأخذ إذن خروج مبكر ستة وسبعة أيام أخرى وبعدها جاء عند المدير وقال له: أريد حقي، أريد راتبي غير منقوص، يقول له المدير: أنت ماذا قدمت؟ أنت ما الذي قدمته حتى تطالب بحقك؟! يستحي الإنسان أن يطالب بحقه إذا لم يقدم الذي عليه، فربنا -جلَّ جلاله- أنشأ لنا حقًّا عليه وهو الغني عنا، ولو شاء لما جعل لنا حقًّا لكنه الكريم جعل لنا حقًّا، لكن لا يُعقل أن نطالبه بحقنا عليه في عدم العذاب في الأرض والاستخلاف والتمكين والأمن ونحن لم نقدم ما أُمرنا به من عبادته وحده دون أن نشرك به شيئًا.

بذور النصر والتمكين:
أيها الإخوة الكرام؛ هذه مقدمة، الموضوع اليوم عن بذور النصر والتمكين، أحيانًا الإنسان من غير أن يشعر يكون التمكين قد بدأ؛ أي ربنا -جلَّ جلاله- الزمن بالنسبة له كن فيكون، نحن نقيس الأمور بالزمن فنقول: عمري كذا، بقي من الزمن كذا، أتوقع كذا لأننا مرتبطون بالزمن، لكن ربنا -جلَّ جلاله- هو خالق الزمان، والدليل عندما أراد-جلَّ جلاله- عطل الزمن، رحلة الإسراء والمعراج تحتاج أيامًا، الإسراء يحتاج أيامًا وليالٍ، والمعراج مستحيل الحدوث أو دعنا نقول: غير ممكن الحدوث، ومع ذلك ربنا -جلَّ جلاله- عطّل الأزمان كلها فانتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- بلمحة عين وعُرج به إلى السماء وعاد وفراشه ما يزال دافئًا؛ لأن الزمن مخلوق من مخلوقات الله كما نحن مخلوق من مخلوقات الله، فإذا شاء خالق الزمن عطّله ألغاه، فأحيانًا نحن بعُرف الزمان نقول: تأخر، تأخر ماذا؟ أنت ما النقطة التي وضعتها في الزمن لتقول تأخر؟ تأخر على عمري أنا؟ أنا متوقع أن أعيش 80 سنة وما شاهدت التمكين أقول: تأخر، تأخر كيف؟ أي تأخر 80سنة، عند ربنا -عزَّ وجلَّ-:

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُۥ ۚ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍۢ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47)
(سورة الحج)

فعند ربنا لا يوجد شيء اسمه تأخّر ولا شيء اسمه بكّر، عند ربنا-عزَّ وجلَّ-الأمور كلها كن فيكون، فلذلك أيها الكرام أحيانًا بذور النصر والتمكين تبدأ دون أن نشعر؛ لأننا نحن متعلقون بالزمن أما ربنا -عزَّ وجلَّ-خالق الزمن، النبي -صلى الله عليه وسلم- جهّز لغزوة تبوك بالسنة التاسعة للهجرة أي بعد هجرته بتسع سنوات، أكثر من 3000 يوم جهّز لغزوة تبوك، غزوة تبوك كانت صعبة والجو حار، والعدد قليل، وعتاد المسلمين لا يوازي عتاد المشركين، غزوة صعبة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- جهّز هذه الغزوة، فبدأ بعض المنافقين وبعض الناس يتلكؤون في نصرته، الأمور صارت مريحة نوعًا ما بالدولة الإسلامية والناس مرتاحة، بدأ البعض يتلكؤون، فخاطبهم المولى -جلَّ جلاله- فقال لهم:

إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍۢ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
(سورة التوبة)

بلحظة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار:

{ لو أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟! }

(أخرجه البخاري، ومسلم عن أبي بكر الصديق)

ومئة ناقة لمن يأتي به حيًا أو ميتًا، هذه اللحظة عند عموم الناس عند أي إنسان سلوا ما هذه اللحظة؟ يقول لك: قمة الاستضعاف والضعف، بين الإسلام يكون أو لا يكون نظرة أحدهم إلى موطئ قدميه، بهذه اللحظة كان التمكين قد بدأ، قال: (إِلَّا تَنصُرُوهُ) يذكّرهم قبل تسع سنوات (فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ) متى نصره الله ببدر؟ بأحد؟ قال:(إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ) هناك كان يُمكّن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأصحابه ولكن أكثر الناس لا يعلمون، بعد أن ترك الغار ومشى تبعه سراقة بن مالك، طمع بمئة ناقة لمن يأتي به حيًا أو ميتًا وسراقة فارس من الفرسان المعدودين، فبدأ يجري بفرسه لعله يدركه وأدركه ولو شاء الله لما أدركه، لكن شاء الله أن يدركه، ولما نشب قوسه يريد أن يرميه به ساخت قوائم فرسه في الرمال وجمدت يده في مكانها، أوقفه الله تعالى، الآن قال: "علمت أنك محفوظ من الله، اكتب لي كتابًا" يقول له: "يا سراقة، كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟" بهذه اللحظة كان التمكين قد بدأ لكن الناس لا يعلمون بأن التمكين قد بدأ، الناس ترى المشهد صعبًا جدًا، قائد الأمة الذي يتعلق الإسلام كله به لأنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وينبغي أن يبلّغ الدعوة قد جُعل دمه هدرًا، ويسير وحده وليس معه إلا أبو بكر-رضي الله عنه- وثالثهم الله -جلَّ جلاله- والوضع صعب جدًا، وبلوغ المدينة صعب جدًا، والمشركون كُثر وقد تكاثروا عليه، بهذه اللحظة الموقف موقف استضعاف لكن الحقيقة بذور تمكين، الحقيقة كانت بذور التمكين قد بدأت من هذه اللحظة فيقول له: " كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟" ما معنى هذا الكلام؟ معناه أنني سأصل إلى المدينة الموضوع محسوم، وهناك سأنشئ دولة وسأؤسس لها جيشًا وسيخوض هذا الجيش الحروب القريبة ثم البعيدة، وستصل الفتوحات إلى بلاد فارس وستأتي كنوز فارس، وسيكون لك يا سراقة تاج كسرى أو سوارا كسرى كما في الروايات، وهذا ما حصل في عهد عمر أمير المؤمنين -رضي الله عنه وأرضاه- وقال أمير المؤمنين عمر بعد أن ألبسه سواري كسرى: "بخ بخ، أُعيرابي من بني مُدلج يلبس سواري كسرى وتاجه"، كان قد جاوز المئة من عمره، وعُمّر سواقة حتى لبس سواري كسرى، المشهد بلحظة الهجرة مشهد ضعف، الحقيقة كانت حقيقة تمكين، فربنا -عزَّ وجلَّ-كيف يسيّر الأقدار لا أحد يعلم، النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح، قال:

{ بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا ‏ ‏قُسْطَنْطِينِيَّةُ ‏ ‏أَوْ ‏ ‏رُومِيَّةُ؟ ‏ ‏فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏ ‏مَدِينَةُ ‏ ‏هِرَقْلَ ‏ ‏تُفْتَحُ أَوَّلًا ‏ ‏يَعْنِي ‏ ‏قُسْطَنْطِينِيَّةَ. ‏ }

(أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو )

وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم:

{ لَتُفتَحنَّ القُسطنطينيةُ ولنِعمَ الأميرُ أميرُها ولنِعم َالجيشُ ذلك الجيشُ }

(أخرجه أحمد، والبخاري في ((التاريخ الكبير))، والطبراني عن بشر الغنوي)

تحقق الفتح على يد محمد الفاتح وكان عمره 22 سنة، متى تحقق الفتح بعد هذا الحديث؟ 800 سنة أي جاءت دولة الخلافة الراشدة سيدنا أبو بكر، سيدنا عمر، سيدنا عثمان، سيدنا علي وانتهت، وجاءت فترة الحكم الأموي بسنواتها، ثم جاءت الخلافة العباسية بسنواتها، ثم جاءت حملات التتار والمغول وبما فيها من مآسٍ، ثم جاءت الخلافة العثمانية والخليفة العثماني السابع الذي هو محمد بن مراد الثاني الذي هو محمد الفاتح فتح القسطنطينية، في اللحظة التي كان يقول فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَتُفتَحنَّ القُسطنطينيةُ) كان جالسًا في المدينة، دولة الإسلام معروفة الحجم، معروفة الحدود، معروفة الأبعاد، ما أحد يتصور كيف النبي -صلى الله عليه وسلم- يستشرف هذا المستقبل للإسلام، اللحظة لحظة تمكين لكن تمكين محدود، أما تمكين لحدود القسطنطينية؟!! حسنًا معنى ذلك تمكين رومية قادم التي هي روما كما يقول أكثر شراح الحديث، فإذًا اللحظات التي ننظر إليها أحيانًا على أنها لحظات ضعف هذه اللحظات هي لحظات التمكين نفسها لكن نظرنا القاصر واستعجالنا لا يجعلنا دائمًا ندرك هذا الأمر، فُتحت القسطنطينية بعد 800 سنة، سنة 857للهجرة أي بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأكثر من 008 سنة لكن فُتحت ببشارة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
يوم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحفر الخندق:

{ ‏أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏بِحَفْرِ ‏ ‏الْخَنْدَقِ ‏ وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنْ ‏ ‏الخَنْدَقِ ‏ ‏لَا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ(ما استطاعوا أن يضربوا هذه الصخرة) فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: ‏بِسْمِ اللَّهِ، فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ ‏ ‏الشَّامِ ‏ ‏وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ ‏ ‏فَارِسَ ‏ ‏وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا ثُمَّ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ ‏ ‏الْيَمَنِ ‏ ‏وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ ‏ ‏صَنْعَاءَ ‏ ‏مِنْ مَكَانِي هَذَا }

(أخرجه أحمد، والنسائي، والبيهقي عَنِ ‏ ‏الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ‏)

الآن طبعًا مشهد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- الموحى إليه؛ الأصحاب ينظرون إليه نظرة صاحب الوحي الذي:

وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰٓ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَىٰ (4)
(سورة النجم )

لكن لو أن شخصًا ليس من الصحابة الكرام ينظر إلى المشهد، أحد المنافقين قال في الخندق: "أيعدنا صاحبكم أن تُفتح علينا بلاد كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته"، نحن غير قادرين على الذهاب للحمام، مازلتم تقولون: كسرى وقيصر.. فُتحت..!!، المظهر مظهر استضعاف شديد مظهر عجز عند غير المؤمن، النبي -صلى الله عليه وسلم- يستشرف المستقبل طبعًا بوحي من الله تعالى، لكن أيضاً يوجد تفاؤل بنصر الله -عزَّ وجلَّ-، فقال: (اللَّهُ أَكْبَرُ! أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ ‏ ‏الشَّامِ، ‏وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا) يرى بعينه -صلى الله عليه وسلم- لا يخبّر بسمِعَ، يخبّر برأى لأنه وعد الله، وعد الله ليس فيه سمعَ.

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
(سورة الفجر)

ما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف فعل ربه بعاد؛ سمع، لكن قال له تعالى: (أَلَمْ تَرَ) لأن هذا أمر الله، وأمر الله لا بد آتٍ، لما افتتح ربنا -جلَّ جلاله- سورة النحل، قال:

بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ أَتَىٰٓ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
(سورة النحل)

(أَتَىٰ) في الماضي، (فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) معنى هذا لم يأتِ، (أَتَىٰٓ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) كيف لا نستعجل أمر الله وقد أتى وانتهى الأمر؟! هو لم يأت هو سيأتي لكن ربنا -عزَّ وجلَّ-يعبّر عن الأشياء التي وقوعها حتمي بصيغة الماضي، لا يقول: (سيأتي) أتى وانتهى، لأنه وعد من الله ووعد الله آتٍ لامحالة، فقال: (أَتَىٰٓ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) هذه أول آية من النحل، وفي الآخر: (فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ)
إن أمر الله آت، وعد الله حق وهو آتٍ لا محالة (أَتَىٰٓ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)، فإذًا أمر الله -عزَّ وجلَّ-، عندما يكون الأمر من الله فهو آتٍ لا محالة فاستخدم صيغة الماضي، أحيانًا للتوضيح والطرفة: شخص نازل بمنحدر وبنهايته حفرة عميقة، وبالسيارة صارت السرعة مئة بالمنحدر أو 120-140، واكتشف أنه لا يوجد مكابح نهائيًا، فهل يقول: سنموت أم يقول: متنا؟ يقول: متنا، رحنا فيها، لا يقول: سنروح فيها، يقول: رحنا فيها؛ لأنه صار أمرًا محتمًا بقي ثوان، لا يوجد حل كيف ستقف السيارة؟ لا يوجد شيء، فعندما يوقن الإنسان بشيء أنه واقع يستخدم صيغة الماضي، وربنا -جلَّ جلاله-قال: (أَتَىٰٓ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) لكن اصبروا، لكنه أتى، مجيئه حتمي.
فقال: (إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ ‏ ‏فَارِسَ) أصبحنا بعصور سيدنا عمر بن الخطاب ‏(وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ ‏ ‏الْيَمَنِ ‏ ‏وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ ‏ ‏صَنْعَاءَ ‏ ‏مِنْ مَكَانِي هَذَا) فالنبي -صلى الله عليه وسلم-كان متفائلاً، كان يستشرف في أشد لحظات الضعف أقوى لحظات التمكين لأنه مع الله، ومن كان مع الله كان الله معه، أنت فقط كن مع الله تستشرف التمكين، أما عندنا يشعر الإنسان نفسه وحيدًا يستشعر لحظات الضعف فقط، "أنا وحيد لا نستطيع أن نعمل شيئًا، الوضع صعب، الأمم متكالبة علينا، قد جمعوا لنا".

ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ(173) فَٱنقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍۢ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوٓءٌ وَٱتَّبَعُواْ رِضْوَٰنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
(سورة آل عمران)

لأنهم استشعروا معية الله، سئل أحد الصالحين: كيف أنجو من سهام القدر-مصائب تأتيني-؟ قال له: كن بجوار الرامي تنجو، قف مع الرامي الذي يرمي، فسهام القدر كلها يرميها المولى -جلَّ جلاله-.

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَآءً حَسَنًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
(سورة الأنفال)

فهو الذي يرمي-جلَّ جلاله-فأنت كن معه ولا تبالي لأنك بجواره -جلَّ جلاله-، فمهما رمى فهي لن تصيبك.

بذور التمكين دائمًا تكون في أشد ساعات الحلكة:
فإذًا أيها الكرام نحن اليوم فيما يجري في غزة، وفي فلسطين الحبيبة ربما تكون من أشد ساعات الليل حلكة وهي ما يسبق بزوغ الفجر، ما يجريه الله تعالى اليوم لا نستطيع أن ندريه، ولكن عندما ندركه أو يدركه أولادنا سنخرّ لله سجودًا، وستصبح هذه الرواية تضاف إلى تلك الروايات، هل تتذكرون كيف؟! حتى النبي -صلى الله عليه وسلم- ورد ببعض السِّيّر أنه كان عندما نزل في خيف بني كنانة عندما رجع كان يستذكر مع أصحابه أيام الحصار في الشِّعب، الحصار في الشِّعب ما كان هناك تمكين، لا يوجد طعام وشراب، أكلوا أوراق الشجر حتى إن صبيانهم ليتضاغون من الجوع، يسمعون بكاءهم خارج الشِّعب وما يطعمونهم، ثلاث سنوات في حصار الشِّعب، لكن -النبي صلى الله عليه وسلم- عندما رجع إلى مكة فاتحًا كان يستذكر فنزل بخيف بني كنانة، من هنا كان مبدأ النصر والتمكين، ثلاث عشرة سنة غبنا ورجعنا، فالآن ما يجري في الأرض المحتلة وفي غزة العزة لعله مبدأ التمكين، وهذا ما نحسبه لأنه خطوة على الطريق -إن شاء الله- ولعلها اقتربت -إن شاء الله-، لكن نحن لا ندرك تمامًا ما الذي يجري؛ لأن عقولنا قاصرة عن إدراك المرامي لأنه ليس لنا علم كعلم الله، ولا تستطيع أن تدرك حكمته إلا إن ملكت علمه وهذا مستحيل، أيضًا من الأمثلة على هذا الذي أقوله، الفكرة التي أحوم حولها اليوم هي أن بذور التمكين دائمًا تكون في أشد ساعات الحلكة وأشد الساعات صعوبة، تكون منها بذور التمكين في الأرض، من ذلك ما تلوناه في اللقاء السابق:

وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ (6)
(سورة القصص)


بذور التمكين في الأرض لموسى-عليه السلام-:
بعدها مباشرة قال تعالى:

وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ (7)
(سورة القصص)

وبعدها كم سنة؟ أربعون وأكثر حتى ذهب عند شعيب ورجع؛ قصة حياة، لكن وهو طفل رضيع بدأ التمكين (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ) بدأ من هذه اللحظة، لكن الناظر للمشهد الواقف على شاطئ النهر ويرى طفلاً لا يقوى على شيء موضوع بتابوت ويمشي لا يرى تمكينًا في ذلك يرى قمة الاستضعاف، من خوفهم على أولادهم أصبحوا يلقونهم في الأنهار قمة الاستضعاف، والله تعالى يقول: (وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰ) بدأ التمكين الذي يعدنا الله تعالى به (وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ)، قالوا: هذه الآية فيها أمران، ونهيان، وخبران، وبشارتان ففيها ثمانية أشياء:
(وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ) خبر، (أَنْ أَرْضِعِيهِ) أمر، (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ) خبر ثانٍ،(فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمّ)ِ الأمر، (وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى) نهيان، (إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ) بشارتان، آية واحدة فيها خبران وأمران ونهيان وبشارتان، فأمرها ألا تخاف وألا تحزن وهي في أشد ساعات العسرة، وبشّرها بشيئين: موسى سيرجع وليس ذلك فحسب -ما ليس ببالكِ في الحسبان-، وسيكون مرسلًا من الله تعالى وأمرها أن تلقيه وأن ترضعه، أرضعيه وألقيه في اليم (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ) أي إنسان منا يتصور: إذا خفتِ عليه فاحضنيه، إذا خفتِ عليه فخبئيه، إذا خفتِ عليه فاحجزيه عن فرعون وملئه، إذا خفتِ عليه فسافري به، قال: (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمّ)ِ، إذا كان احتمال النجاة 1% صار 0%، إذا كان هناك احتمال ينجو من فرعون 10% الآن لم يعد لدي احتمال نهائيًا، وضعته في الموت بيدي، ومن هنا بدأت بذور التمكين ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

بذور التمكين في الأرض ليوسف-عليه السلام-:
يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- لما وُضع في الجب قال:

فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِۦ وَأَجْمَعُوٓاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
(سورة يوسف)

في هذه اللحظة (وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) 22 سنة، ببعض الروايات 38، ببعض الروايات 80 سنة، ببعض الروايات غاب عن أبيه الله أعلم لكن عشرات السنين أكيد لأنه في السجن لبث بضع سنين من سبعة إلى عشرة، و حتى كبر وصار عزيز مصر... سنوات، عشرات السنين غاب ثم قال:

قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَٰهِلُونَ (89)
(سورة يوسف)

أنبأهم بأمرهم هذا، من لحظة الوضع في الجب كانت لحظة ضعف واستضعاف، طفل صغير لا يقوى على شيء يأتي به إخوته غيرة وحسدًا ويلقونه في غيابت الجب، وفي تلك اللحظة كان الله تعالى يهيئ يوسف ليكون عزيز مصر وليكون نبيًا مرسلًا منه، ويقول: (وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، (لَتُنَبِّئَنَّهُم) هذه لام القسم أي: أقسم لتنبئنهم، سيأتي اليوم الذي تقول لهم: هل تتذكرون ما عملتم؟ وهم عند إلقائه بالجب غالبًا إما موت أو استعباد أو الله أعلم أين يكون بعد ذلك وانتهوا منه إلى أبد الأبدين، والله تعالى يهيئه لأمر آخر، هذه كلها أمثلة توضح أن بذور التمكين وبذور النصر كامنة في العسر دائمًا، قال تعالى:

فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا (6)
(سورة الشرح)

ما قال: أن بعد العسر يسرًا، نعم في آية أخرى:

لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍۢ مِّن سَعَتِهِۦ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُۥ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَا ۚ سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍۢ يُسْرًا (7)
(سورة الطلاق)

لكن في هذه الآية قال: (فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا) لماذا قال: مع؟ قال: لأن بذور اليسر دائًما كامنة في العسر، فالعسر واليسر يأتيان معًا، ولكنك قد ترى العسر ويغيب عنك اليسر، إلا أن اليسر في العسر دائمًا هكذا سنة الحياة.

ليست الحكمة بانشغالنا بوقت التمكين بل بالإعداد لهذا التمكين:
أحبابنا الكرام؛ المحصلة في هذا الموضوع ما دام الوعد حقًا، ومادام النصر آتيًا، ومادام التمكين متحققًا، إذًا ليس من الحكمة أن نشغل أنفسنا بوقته لأن الوقت بعلم الله -عزَّ وجلَّ-لكن الحكمة تقتضي أن نشغل أنفسنا فيما نحن عليه من جندية لهذا التمكين أو عدم جندية لهذا التمكين، فالحكمة دائمًا ليس أن تقول: متى الامتحان؟ وإنما تقول: ماذا أعددت لهذا الامتحان؟ وهذا ما فعله عليه -صلى الله عليه وسلم-مع الصحابي الذي سأله:

{ مَتَى السَّاعَةُ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ما أعْدَدْتَ لَهَا؟ قالَ: ما أعْدَدْتُ لَهَا مِن كَثِيرِ صَلَاةٍ ولَا صَوْمٍ ولَا صَدَقَةٍ، ولَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ، قالَ: أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ. }

(أخرجه البخاري ومسلم باختلاف يسير عن أنس بن مالك)

وإن سأل سائل: متى التمكين؟ نقول له: وماذا أعددت له؟ وإن قال: متى نصر الله؟ فنقول له: هل أنت ممن قدّم

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
(سورة محمد)

بطاعته وفضله أم أنت تنتظر النصر من أجل أن تأكل حلويات النصر؟! لا، فدائمًا ينبغي أننا نشغل أنفسنا فيما نحن عليه، اليوم قد يقول قائل: وماذا أفعل؟ نعم، أنا معكم في أنهم قد حددوا خياراتنا جدًا، ولكن لا ينبغي أن نضيّع الموجود في طلب المفقود.

العمل على التمكين يكون بكلّ ما يستطيعه المؤمن وما هو قادر عليه:
ابن الجوزي-رحمه الله- له كتاب اسمه (تلبيس إبليس) يبين فيه كيف يلبّس إبليس على الناس، وعلى العلماء، وعلى المفتين، وعلى الأمراء، وعلى السلاطين، وعلى العوام، وعلى النساء، له فصول، رتبه في فصول، من تلبيس إبليس على بعض الناس أنه يزهّدهم فيما هم عليه قادرون، ويطمّعهم فيما هم عليه ليسوا الآن بقادرين، يطمّعه بشيء لا يستطيعه ويزهّده بشيء يستطيعه، فإذا كان يستطيع أن ينفق ماله يقول له: أين أنت من المال؟ انظر إلى من يقدم نفسه، حسنًا معي مال الآن دعني أنفق، أنا لست قادرًا الآن أن أقدم نفسي لكنني قادر أن أقدم مالي فدعني أقدم ما أستطيعه؛ يزهّده، فتقول له مثلًا: اتقِ الله، يقول لك: الآن ليس وقت هذا الوعظ، الآن ممكن مثلًا أن تقوم ببث على الفيسبوك إذا تكلمت عن قضايا متعلقة بالأخلاق، بالقيم، بالأسرة يقول لك بعض الناس: هذا ليس وقته يا أخي، ألا ترى المسلمين ماذا يحصل لهم؟! حسنًا أنا أرى المسلمين ماذا يحصل لهم، لكن أيضًا أرى أنه ينبغي أن أفعل شيئًا قادر أنا عليه وضمن إمكاني وضمن وسعي وأنا مقصّر فيه، اليوم لا يُقبل -هو مضى رأس السنة- ما يقبل من مسلم أن يكون حزينًا على ما يجري لأهل غزة ثم يقيم الاحتفالات ويدفع تكاليف باهظة ليحيي رأس السنة ليست من ثقافتنا ولا من ديننا ما يُقبل ذلك صراحةً، ما يُقبل من إنسان أن يقول: أنا مع غزة ومع أهل غزة وهو يربي أولاده على غير منهج الله تعالى، ولا يعظهم ولا يذكّرهم بالله تعالى، نقول له: على العين والرأس، عواطفك تلك نضعها على عيننا ورأسنا ولكن هل أنت تسعى لخدمة دين الله -عزَّ وجلَّ-أم أنت مقصّر في ذلك؟ اليوم مدارسنا معاهدنا التي ما تزال إلى اليوم يتسرب إليها الأفكار الهدامة، مؤسساتنا التي يتسرب إليها الأفكار النسوية حينًا والجندرة حينًا آخر والشذوذ حينًا ثالثًا باسم متألق وندعمها من غير أن نشعر، ما يُقبل من إنسان اليوم أن يقول: أنا مع غزة ومع أهل غزة، وأنا غير قادر أن أقدم شيئًا، وهو ما يزال مقصّرًا في قوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) ما معنى (إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ)؟ ننصره بطاعتنا له، ننصره بتقوانا له -عزَّ وجلَّ-، ننصره بإقامة شرعه في مملكتنا التي نملكها، ضمن العمل ألا يستطيع أحدنا أن يملك بيته؟! يملكه، يستطيع أن يأمر أهله بالصلاة أم لا؟

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْـَٔلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ (132)
(سورة طه)

يستطيع أن يوقظهم لصلاة الفجر أم لا يستطيع؟! يستطيع أن يؤدي ما استطاع من الصلوات في جماعة أم لا يستطيع؟! يستطيع أن يأمر بناته بالحجاب أم لا يستطيع؟! يستطيع في عمله المملكة الثانية، مملكتك الأولى بيتك الثانية عملك، يستطيع أن يقيم أمر الله في عمله فلا يأخذ قرضًا ربويًا أم لا يستطيع؟! يستطيع أن ينصِف عماله أم لا يستطيع؟! يستطيع أن يعدل بينهم أم لا يستطيع؟! الموظف الحكومي يستطيع أن يهيئ لمراجعيه أسباب الراحة أم يرهقهم بما لا يحتاجونه من أجل أن يُذهب أوقاتهم ويقضي وقته دون عمل، الطبيب، المحامي كلٌّ في موقعه، هذا الكلام قد يبدو للبعض أو يقول البعض: ليس وقته، لا والله هذا وقته، وقته في وقت الأزمات من أجل أن نتفاعل أكثر أن نقيم أمر الله تعالى فيما نملك، وهذا لا يعني أننا تخلينا عن الأمور التي لا نملكها الآن تمامًا أو نملك بعضها، لا يوجد إنسان حتى بالوضع العادي لا يملك شيئًا، الذي يملك المال، الذي يملك سلاح المقاطعة، الذي يملك الدعاء، كل إنسان بما يستطيع، ربنا-عزَّ وجلَّ-قال:

لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍۢ مِّن سَعَتِهِۦ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُۥ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَا ۚ سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍۢ يُسْرًا (7)
(سورة الطلاق)

ربنا سيحاسبك على ما آتاك إياه، أنا ربنا-عزَّ وجلَّ-ماذا آتاني؟ آتاني مالًا سيحاسبني على ما قدمته من مال، فإذا قلت له: يا ربي أتيتني مالاً لكن أنا اتجهت للدعاء وجدته أيسر، لا يصح، أنت صاحب مال عندك بالمجتمع خدمات كبيرة تقدمها للناس، عندك معالجة مرضى، عندك رعاية أيتام، عندك...إلخ، فأنت ماذا قدمت بمالك؟ لكن المستضعف الذي لا يقوى على شيء نقول له: باب السماء مفتوح، والأول طبعًا يدعو لكن لا يُقبل الدعاء وحده لمن يستطيع أن يقدم معه شيئًا، الدعاء كلنا-إن شاء الله -نفعله لكن كل إنسان بما آتاه الله جاه، علم، خبرة، كلمة طيبة، كلمة في مجلس، اليوم يوجد البعض الله -عزَّ وجلَّ-آتاهم منطقًا وكلامًا لكن آثروا الصمت، والعياذ بالله جزء آخر لم يؤثر الصمت آثر التخذيل والتخوين والوقوف مع المعتدي والظالم بحجة أن المظلوم أخطأ بزعمه، يا أخي ولو كان أخطأ المظلوم فهل تقف مع الظالم؟! فإذًا اليوم الموطن موطن عمل كلٌّ بما يستطيعه نصرة لله تعالى فكل منا ينصر الله تعالى بما يستطيعه وبما يقدمه، إذًا بدل أن نسأل دائمًا: متى التمكين؟ متى النصر؟ يكون السؤال دائماً: أين موقعنا من النصر؟ ماذا نحن فاعلون؟ ماذا يمكن أن نقدم؟ وكلٌّ منا لديه ما يقدمه وفق طاقته ووفق وسعه.

لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَٰفِرِينَ (286)
(سورة البقرة)

(لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَا) هاتان الآيتان عمدة في تكليف الإنسان بأصول الدين، لكن دائمًا نحن نقول واحدة وننسى الثانية، نقول: (لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) والبعض يحتجّ بها على ترك العمل بمعنى أنه ليس من وسعي، فنقول له: الوسع يقدره الله وليس أنت، فإذا قلت له: لماذا لا تغض بصرك؟ فقال: يا أخي (لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) نقول له: مادام الله كلّفك بغض البصر فهو ضمن وسعك، لو لم يكن ضمن وسعك لما كلّفك به، هذا وسع، فالوسع ليس أنت من تقدره وإنما الله تعالى، فضُمّ إليها الآية الثانية (لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَا) أي لا يكلف الله نفسًا من التكاليف إلا بمقدار ما آتاه من العطاء، فكل إنسان يوم القيامة له حساب عند ربه، كل واحد.

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَٰٓؤُاْ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
(سورة الأنعام)

لأنه عدل ربنا-جلَّ جلاله- لأن كل واحد أوتي غير ما أوتي الثاني، نحن اليوم بالدولة الموظفون في كل الدول لهم مراتب فيقولون: هذا بالمرتبة الخامسة، الرابعة، الثالثة، الثانية، الأولى، يترفّع وخامسة أ، وخامسة ب، خامسة ج، وهكذا يدرجونهم بعشرين بندًا أكثر شيء ليعطوهم رواتب، فيكون كل المليون موظف قد نزلوا في عشرة بنود أو عشرين بندًا، عند ربنا -عزَّ وجلَّ-:

وَلِكُلٍّۢ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
(سورة الأنعام)

كل واحد له مرتبة عند ربنا-عزَّ وجلَّ- متعلقة بما آتاه الله وبما أعطى مما آتاه الله، فكل واحد له درجة عند الله -عزَّ وجلَّ-؛ هذا معنى فرادى (جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ) لأن ربنا-عزَّ وجلَّ- عدل، والعدل لا يحاسب نفس الحساب لاثنين، لا يوجد عند ربنا-عزَّ وجلَّ- مثل أستاذ المدرسة يغضب- حاشاه جلَّ جلاله -فلا يعرف من الذي أخطأ فيقول لهم: كلكم معاقبون، أو كلكم اكتبوا الدرس عشر مرات، ربنا -عزَّ وجلَّ- عدل -جلَّ جلاله- فيحاسب كل نفس بما آتاها وبما قدمت (وَلِكُلٍّۢ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ)، هذا والله أجلّ وأعلم، والحمد لله رب العالمين.