• محاضرة في الأردن
  • 2024-01-22
  • عمان
  • الأردن

رجب مُضَر

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:


خواص الله في الأزمنة والأمكنة والأشخاص:
فيا أيها الإخوة الأكارم؛ إن الله تعالى -جلَّ جلاله- خلق السماوات والأرض فخلق الأماكن، وخلق الأزمان، وخلق الأشخاص، واصطفى من أماكنه أماكن، واصطفى من الأشخاص أشخاصًا، واصطفى من الأزمان أزمانًا، فقالوا: إن لله تعالى خواصَّ في الأزمنة والأمكنة والأشخاص فخلق الزمان وجعل شهر رمضان غُرة الزمان، وخلق الليالي وجعل ليلة القدر غُرة الليالي، وخلق الأماكن واصطفى منها بيوته، واصطفى من بيوته ثلاثًا لا تُشدّ الرحال إلا إليها؛ المسجد الحرام ومسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسجد الأقصى، وخلق الأشخاص واصطفى منهم الأنبياء والرسل، واصطفى من الرسل أولي العزم، واصطفى من أولي العزم محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: إن لله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، والله تعالى عندما خلق الشهور قال -جلّ من قائل-:

إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِى كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ۚ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ (36)
(سورة التوبة)

أي في هذه الأشهر الحرم، والنبي- صلى الله عليه وسلم- بيّن هذه الأشهر الحُرم، فقال: -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع:

{ إنَّ الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ -ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ- وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. }

(أخرجه البخاري، ومسلم عن أبي بكرة نفيع بن الحارث)

فالله -جلَّ جلاله- جعل من خلال حركة القمر أشهرًا نميز بها الزمان ورتّب على ذلك العبادات، فنحن يدخل شهر رمضان عندنا وفق حركة القمر، ونعرف أشهر الحج المعلومات وفق حركة القمر، ونعرف بعض الليالي التي لها فضل ومزيّة كليلة القدر وفق دورة القمر، ونعرف صيام عاشوراء والمحرم وفق دورة القمر.. وهكذا، فرتّب العبادات على حركة الأفلاك وفي هذا إشارة إلى أهمية النظر في الكون، والتفكّر في خلق السماوات والأرض:

يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِىَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ ۗ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَٰبِهَا ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
(سورة البقرة)


سبب تسمية شهر رجب:
فمن نِعم الله تعالى الظاهرة على بني آدم أنه جعل لهم هذه الحركة في الأفلاك التي يعدّون من خلالها الأيام والشهور والسنوات، وإلا لضاع الإنسان وما عرف أن يميز سنة من سنة، أو شهرًا من شهر أو...إلخ، فإذًا نحن قد ابتدأ شهر رجب، ورجب من الأشهر الحُرم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- سماه رجب مُضر كما كانت تسميه العرب، ومُضَر قبيلة من قبائل العرب كان من ميزتها أنها لا تغير رجب بل توقعه في وقته، وسنأتي كيف كانت بعض قبائل العرب تغير في الشهور، وكلمة رجب جاءت من رجَبَ الشيء إذا عظّمه؛ رجبت الشيء أي عظّمته، فلأن العرب كانوا يعظّمون هذا الشهر قبل الإسلام، سُمّي رجب لشدة تعظيمه في نفوس العرب.

تعريف النسيء؟
ما الذي كانت تفعله العرب ولا تفعله مضر، فسمّي رجب مضر؟ الذي كانت تفعله العرب هو ما يسمى النسيء، المشركون كانوا يفعلون ما يسمى النسيء، وقد بيّن الله تعالى فعلتهم الشنيعة تلك فقال:

إِنَّمَا ٱلنَّسِىٓءُ زِيَادَةٌ فِى ٱلْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامًا لِّيُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوٓءُ أَعْمَٰلِهِمْ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ (37)
(سورة التوبة)

أي كفر فوق كفر لأنه عبث بخلق الله تعالى (يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامًا لِّيُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ) هنا موطن الشاهد (فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ)؛ أي الفعل كان للثلاث المتواليات الذين هم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، يشتد عليهم طول الأمد وهم حياتهم إغارة وحروب، فثلاثة أشهر 90 يومًا كثيرة، فيأتي شهر المحرم وقد ضاقوا ذرعًا، فينقلون المحرم يجعلونه بصفر، ويقولون: أليسوا أربعة شهور هذه أربعة شهور أيضًا، لكن أربعة شهور حُرم لكن بدل محرم نجعله بصفر، يأتي صفر لا ينتهي القتال ينقلونه لربيع، فآخر شيء عندنا 120 يوم بلا قتال، لكن لا نضع الأشهر بمكانها المناسب فينسؤونه أي يؤخرونه من شهر إلى شهر.

{ مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، أوْ يُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. }

(أخرجه البخاري، ومسلم باختلاف يسير عن أنس بن مالك)

أي يُمدّ له، يُؤخّر له في أثره، في عمره (فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)، وعندنا بالفقه (ربا النسيئة وربا الفضل) ربا النسيئة: هو أن تعطي مالًا وتأخذ على الزمن ثمنًا فأعطيك 100 و ترجعها 120 هذا ربا النسيئة؛ ربا التأخير، فالنسيء هو التأخير، فكانوا يؤخّرون الأشهر الحُرم من وقتها إلى وقت آخر حتى يحلوا ما حرم الله، وزعمهم في ذلك أننا نقوم بما وجب علينا من ترك القتال في الأشهر الأربعة، لكن نحن نفصّلها حسب حاجتنا للحرب، طبعًا ربنا -عزَّ وجلَّ- يوم خلق السماوات والأرض وخلق الأشهر وجعل منها الأربعة الحرم هذه لها حكمة، الحكمة بذلك أن الإنسان بدافع قوته وبدافع عنفوانه لا يرضى أن يوقف الحرب إلا بمبدأ غالب ومغلوب، بدافع من عنفوانه وقوته، فكأن الله تعالى قال: سأجعل لكم أشهرًا سيكون إيقاف الحرب فيها لزامًا على الطرفين، فعندها لا تنكسر شوكة لا هذا ولا ذاك، فيقول له: الشهر الحرام، الآن ربما يكون الطرفان يتمنون إيقاف الحرب، تعبوا.
وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
{ زهير بن أبي سلمى }
فالحرب صعبة على الطرفين لكن عزة النفس وعزة العربي لا يقف حتى لا يُقال غُلب، فنأتي بالأشهر الحُرم فيتوقف القتال فيذوق الناس طعم الأمن لعلهم لا يعودون إلى تلك الحروب، طبعًا ليس الجهاد شيء آخر، نتكلم عن الحروب العبثية التي هي عبارة عن داحس والغبراء، وقتال من أجل ناقة وكذا كما كان العرب، فجُعلت لهم هذه الأشهر الحُرم يتوقف فيها القتال بأمر الله تعالى وليس على مبدأ الغالب والمغلوب، هذه حكمة الأشهر الحرم في الأصل، لكن هؤلاء رغبتهم في متابعة القتال من أجل الغنائم والإغارة... وكذا جعلوا يتلاعبون بدين الله تعالى، إذا نظرنا إلى هذا التلاعب قد يقول قائل: الجماعة 120 يوم ما قصّروا ورغُم ذلك قال الله تعالى: (إِنَّمَا ٱلنَّسِىٓءُ زِيَادَةٌ فِى ٱلْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامًا لِّيُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ) العدد بالنتيجة جئنا به تمامًا، قال: (فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ) فشنّع الله عليهم فعلتهم لأن الله أمرهم بشيء ثم استحلوا حرامًا حرمه الله تعالى، لذلك كان السلف يقولون: "لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر على من اجترأت" المشكلة في أنك اجترأت -والعياذ بالله- أنك العاصي الذي لا يتوب، العاصي الذي يفعل ويقول: ماذا فعلت؟! المشكلة أنك اجترأت على الخالق -جلَّ جلاله- الذي قال لك: الربا حرام ثم رابيت، أو الزنا حرام ثم فعلت، فلا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت.

امتحان الحلال والحرام حاصل لا يتوقف:
اليهود كانوا يفعلون الفعلة نفسها بطريقة مختلفة، قال تعالى:

وَسْـَٔلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (163)
(سورة الأعراف)

قرية من قرى بني إسرائيل كانت على البحر مباشرة (إِذْ يَعْدُونَ فِى ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا)، هؤلاء قال لهم ربنا-عزّ وجل-: "هذا السبت مُعظّم، الصيد يوم السبت ممنوع "، يأتون للبحر يرون السمك يوم السبت يخرج شُرّعًا؛ يظهر على السطح، وهم بداخلهم يريدون أكل السمك، البارحة ما كان هناك سمك!!! (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ) أي يوم لا يراعون أمر السبت لا تأتيهم، يوم يقولون: هذا السبت لن نصيد سنلتزم تخرج الحيتان، هذا السبت لن نلتزم تذهب الحيتان؛ شيء غير طبيعي، قال: (كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) هذه العقوبة تأديبية بسبب فسقهم، فجعل الله تعالى عقوبتهم وابتلاءهم في هذا الأمر، وهذا مثله- أريد أن أصل إلى فكرة الموضوع- وهذا مثله جرى مع صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَىْءٍۢ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُۥٓ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلْغَيْبِ ۚ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
(سورة المائدة)

يخاطب المؤمنين، (لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَىْءٍۢ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُۥٓ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) مُحرِم لبس ملابس الإحرام ودخل في النسك وخرجت له الغزلان وخرج له الصيد-والعربي يحب الصيد-، وصارت (تَنَالُهُۥٓ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) يمر من أمامه يستطيع إمساكه والصيد ممنوع (تَنَالُهُۥٓ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ)، ما السبب؟ قال: (لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلْغَيْبِ) هي القصة امتحان، أحيانًا يسأل الإنسان ما الحكمة؟ يا أخي ألا يكفي أن الحكمة أنك تُمتحن، فتثبت أنك تحب الله تعالى أكثر مما تحب هذا الصيد، أو مما تحب هذا السمك؟! هي القصة امتحان فمجموع هذه النصوص تؤكد حقيقة؛ أن المؤمن ينبغي أن يكون بعيدًا عن إحلال ما حرمه الله تعالى بعد الأرض عن السماء، ما يسمى بالحيل يسمونها زورًا (حيلًا شرعية) المؤمن ليس له إليها سبيل، المؤمن لا يحتال أن الحول يحول بـ1 شعبان على ماله، وهو بـ29 رجب يقوم بشراء بيت، يشتري ويقول: صار الآن بيتًا ليس عليه زكاة، وثم يقوم بعرضه للبيع؛ أي باختصار لا يتحايل المؤمن لأن القصة علاقة مع ربنا -عزَّ وجلَّ-، فلا يحاول أن يتهرب من زكاة ماله، ولا يقول لك: هذه التي آخذها عوائد وليست فوائد، هل إذا أبدلت الفاء ووضعت عينًا تمرّ؟!! ولا يشربون الخمر يسمونها بغير مسمياتها مشروبات روحية، ولا يستمعون للأغاني الماجنة والمحرّمة التي فيها فسق وفجور، ويقول لك: هذا على الإذاعة غير المجالس، ويفعل أشياء لا ترضي الله -عزَّ وجلَّ- ثم يقول: الزمن تغير، ولا يقول لك: على الشاشة لا يوجد مشكلة في النظر، النظر المحرم هو النظر للمرأة مباشرة، هنا على الشاشة لا يوجد مشكلة والشهوة موجودة، والمحرّم موجود، والنظر الذي منعه الله موجود، أي أفعال اليهود في حيلتهم التي كانوا يسمونها حيلة شرعية، ما الذي كانوا يفعلونه؟ عندما يريدون أن يلتزموا بيوم السبت لا بد يأتون يوم السبت يضعون -لأن الحيتان شُرّع -يضعون الشباك ويضمونها لتصير عندهم كلها، يوم الأحد يأخذونها، تمام هكذا؟ يقول لك: سيدي هذا فقه؟ فيقول: والله صحيحة، الأحد أنا اصطدت وليس السبت.
المؤمن عنده حب لتنفيذ أمر الله-عزَّ وجلَّ-، هو يتفانى إخلاصًا في أنني أطيع الله تعالى فيما أمر، ليست القضية في أن أبحث عن فتوى أتهرب بها من قضية الشرعية، وإنما أنا بالعكس إذا قيل لي: "حرام"، حرام، حتى إذا قيل لي: إن هذا الأمر فيه شبهة يميل حينًا إلى الحلال وحينًا إلى الحرام فالتزم قوله -صلى الله عليه وسلم-:

{ دع ما يَريبكَ إلى ما لا يَريبُكَ، فإنَّ الصِّدقَ طُمأنينةٌ وإنَّ الكذبَ رِيبةٌ }

(أخرجه الترمذي، وأحمد واللفظ لهما، والنسائي مختصرًا عن الحسن بن علي بن أبي طالب)

فالذي خطر ببالي في شهر رجب، جاءت الفكرة من النسيء وهو نقل الشهر، والثانية الصيد نضع الشباك يوم السبت ونخرجهم الأحد حيلة، والثالثة ما حصلت- الحمد لله- لأن صحابة رسول الله أشد الناس التزامًا، لكن رغم ذلك خاطبهم ربنا قال: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَىْءٍۢ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُۥٓ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ)، فالامتحان يا كرام بالحلال والحرام حاصل لن يتوقف، والحكمة في أن تُظهر أنت لله تعالى مدى التزامك بشرع الله تعالى، يقول لك أحدهم: أنا البارحة التزمت وتركت المجالس، اليوم رفاقي لي فترة لم أرهم من سنة، اليوم اتصلوا وقالوا لي: تعال هناك سهرة، وسهرتهم لا ترضي الله عورات وكلام وحديث خارج، اليوم اتصلوا بي (لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَىْءٍۢ مِّنَ ٱلصَّيْدِ)، والله كان يوجد شخص بالشام له جلسة لا ترضي الله أبدًا وفيها خمر-والعياذ بالله- وبعدها ذهب للحج، أحد الشيوخ الذين أعرفهم قال له: إن شاء الله هذه الحجة كفارة لما قبلها، ومن اليوم تنتهي وكذا ....إلخ، اتصل به رفاقه: لا الله تعال، تأتي لا تأتي... ذهب للسهرة، عندما أصبح في الداخل المعصية لها قوة جذب، قوة جذب مخيفة مثل التيار الكهربائي، ألا نقول: لا تقترب من منطقة التيار الكهربائي حتى لا يجذبك، لذلك ربنا قال:

قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ (151)
(سورة الأنعام)

وَلَا تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلًا (32)
(سورة الإسراء)

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَٱلْـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلْأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلْأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَٰكِفُونَ فِى ٱلْمَسَٰجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(187)
(سورة البقرة)

ابقَ بعيدًا دع مسافة أمان، فهو لم يترك مسافة أمان" أذهب لكن لن أشرب" أحدهم سأله: كم كلفتك حجتك؟ كانت الحجة بوقتها تكلّف حوالي سبعين أو ثمانين ألفًا قرابة الألف.. الألف وخمسمئة دولار، قال له: سبعون ثمانون ألفاً، قال له: هذه السبعون الثمانون ألفًا مني واشرب، من كلمة لكلمة شرب، توفي بعد أسبوع، فالابتلاء حاصل يا كرام، ربنا يريد أن يمده، سيأخذ منك آخر الشيء موقفًا إما أنت ثابت أو غير ثابت، فالإنسان يجب أن يجهز نفسه، أن يقول بلا امتحان فيقول: الله يبعد عني الحرام فلا يأتي- إن شاء الله -نسأل الله ذلك كلنا، نسأل الله ألا يفتننا بشيء لا نستطيع قوة عليه لكن ربنا لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فالإنسان يوطن نفسه دائمًا بأن هناك (بِشَىْءٍۢ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُۥٓ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ)، أي يوجد معصية قريبة منك لا تفعلها، أما إذا كانت المعاصي كلها مغلقة لم يعد هناك امتحان، يريد أن يسرق البيت وجدهم غيّروا القفل، يريد أن يزني عمل حادث سيارة على الطريق، تحصل أحيانًا ربنا يؤدب الإنسان يحجبه عن المعصية، لكن آخر شيء يوجد شيء تناله يدك، كل إنسان فينا يوجد شيء تناله يده، مضطر لمبلغ مالي وموظف وجاءته رشوة، ربنا يريد أن يمتحنك ويرى هذا الصيد تلتقطه أم تتركه مثل صيد الحَرم تمامًا، عندما تثبت لله -عزّ وجلّ-أنك أنت فعلاً مؤمن ولا ترضى فعل هذه المعاصي والآثام يبدأ بالمرحلة الجديدة التي هي مرحلة الإكرام و التمكين من ربنا-عزّ وجلّ-، تشعر بالثبات بعدها، تقول: أشعر بنفسي أصبحت بمنطقة ثابت فيها، لم تعد تثنيني سبائك الذهب اللامعة ولا سياط الجلادين اللاذعة عن ديني، صرت في حرز، لا يوجد حرز 100% لأننا كلنا دائمًا في طور:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
(سورة الفاتحة)

الاستعانة بالله -عزّ وجلّ-.

{ كُنَّا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سَفَرٍ، فَكُنَّا إذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّها النَّاسُ ارْبَعُوا علَى أنْفُسِكُمْ، فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولَا غَائِبًا، ولَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا ثُمَّ أتَى عَلَيَّ وأَنَا أقُولُ في نَفْسِي: لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ، فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ بنَ قَيْسٍ، قُلْ: لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ، فإنَّهَا كَنْزٌ مِن كُنُوزِ الجَنَّةِ أوْ قالَ: ألَا أدُلُّكَ علَى كَلِمَةٍ هي كَنْزٌ مِن كُنُوزِ الجَنَّةِ؟ لا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ. }

(أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري)

لا حول عن معصيته، ولا قوة على طاعته إلا به -جلّ جلاله-، لا نستطيع أن نتقوى على طاعته إلا إذا أعاننا، ولا نحول عن معصيته إلا إذا أعاننا، وكلنا ذو خطأ، وخير الخطائين التوابون وكل بني آدم خطاء، ولكن إن شاء الله يصبح الإنسان بحرز بمعنى أنه تسره حسنته وتسوؤه سيئته، قال -صلى الله عليه وسلم-:

{ .......مَن سرَّتهُ حسنتُهُ وساءتْهُ سَيِّئتُهُ فذلِكم المؤمنُ }

(أخرجه الترمذي، وأحمد باختلاف يسير عن عمر بن الخطاب)

إذا أحسن يُسر، وإذا جاءت سيئة من الصغائر تسوؤه فيتوب منها، هذا الحرز الذي قصدته، أما بالبداية لا بد من بعض....، الآن هناك مرحلة لكن أنا أعلم والله أن هناك أشخاصًا ربنا مكّنهم منها-نسأل الله أن يمكّننا منها- حديث وإن كان فيه ضعف، صححه بعض أهل العلم، قال: " لا يُؤمِنُ أحدُكُم حتَّى يكونَ هواهُ تَبَعًا لما جئتُ بهِ" أي بالإيمان الكامل، التام 100%، هذه مرحلة متقدمة جدًا، كل واحد منا يشعر بها بمكانها، أنا مثلاً أحسب الكرام الذين أخاطبهم الآن لا يوجد إنسان يرغب– والعياذ بالله– بالزنا مثلاً.

وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً وَمَقْتًا وَسَآءَ سَبِيلًا (22)
(سورة النساء)

ليس لا يفعله لأنه حرام فقط ولكن لأنه فعلاً هو لا يجد في نفسه رغبة به، لأن هذا – والعياذ بالله – دمار وكذا ...إلخ، ربما نفس الشيء مع الخمر، وهذا من نعم الله أن يكون هواك تبعًا لما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكن بمرحلة معينة يصير فعلاً بكل شيء أُمِر بالقيام وهو يحب القيام، أُمر بالصلاة وهو يحب الصلاة، نُهي عن الكذب وهو يقول لك: "ما أفحش الكذب!! لا أحبه ولا أحب من يكذب ولا أقترب ممن يكذب"، يصبح ما تهواه نفسه تبعًا لما جاء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فالقضية مدارها على أن ما يُسمّى الحيل -و إن سمّوها حيلاً شرعية- ينبغي أن نبتعد عن الحيل لأن مع ربنا-عزّ وجلّ- لا يوجد حيل، الحرام بيّن والحلال بيّن، فإذا كان الإنسان يريد أن يحتال على ترك الزكاة أو يحتال على أخذ الربا أو يحتال على أكل المنكرات فيكون حاله كحال من كانوا ينسؤون في الشهر الحرام فيبدلونه، أو كحال هؤلاء الذين كانوا لا يعظّمون السبت كما أمرهم الله فبلاهم الله.

العقوبات التأديبية لبني إسرائيل:
بالمناسبة بنو إسرائيل كان هناك عقوبات تأديبية جدًا لهم -أجارنا الله تعالى منها-، ربنا -عزّ وجلّ- بسورة الأنعام عندما ذكر:

ثَمَٰنِيَةَ أَزۡوَٰجٖۖ مِّنَ ٱلضَّأۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَمِنَ ٱلۡمَعۡزِ ٱثۡنَيۡنِۗ قُلۡ ءَآلذَّكَرَيۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَيۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۖ نَبِّـُٔونِي بِعِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ (143)
(سورة الأنعام)

بيّن المحللات من الطعام ثم بيّن المحرمات.

قُل لَّآ أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍۢ يَطْعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍۢ فَإِنَّهُۥ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ ۚ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍۢ وَلَا عَادٍۢ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (145)
(سورة الأنعام)

إلخ، ثم جاء بعد ذلك جاء بما يسمى بالعقوبات التأديبية، فجاء بعقوبات بني إسرائيل:

وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٖۖ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ وَٱلۡغَنَمِ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ شُحُومَهُمَآ إِلَّا مَا حَمَلَتۡ ظُهُورُهُمَآ أَوِ ٱلۡحَوَايَآ أَوۡ مَا ٱخۡتَلَطَ بِعَظۡمٖۚ ذَٰلِكَ جَزَيۡنَٰهُم بِبَغۡيِهِمۡۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ (146)
(سورة الأنعام)

البطة والوزة والإبل، كل ما كان ليس له أصابع منفصلة والأرنب؛ هو ليس حرامًا، ثم قال: أيضًا حُرمت عليهم الشحوم (الإلية)، حرّم عليهم (أَوِ ٱلۡحَوَايَا أَوۡ مَا ٱخۡتَلَطَ بِعَظۡمٖ) التي على الظهر(مَا حَمَلَتۡ ظُهُورُهُمَا) (أَوۡ مَا ٱخۡتَلَطَ بِعَظۡمٖ) الشيء اليسير، (أَوِ ٱلۡحَوَايَا) التي هي الأمعاء الغليظة أما الباقي مُحرّم، آخر شيء ماذا قال ربنا؟ قال: (ذَٰلِكَ جَزَيۡنَٰهُم بِبَغۡيِهِم) هذه عقوبة تأديبية، ربنا -عزّ وجلّ- كان يعاقبهم بسبب بغيهم، اليوم لا يوجد تشريع أن يعاقبنا الله -نسأل الله السلامة- بسبب ما نفعله أمة الإسلام، لكن ينبغي أن نفهم من ذلك أن الإنسان ممكن أن يعاقب على مستوى الفرد إذا كان ابتعد عن منهج الله تعالى.

هل يجوز القتال في الأشهر الحُرُم؟
الأمر الأخير في هذا اللقاء الطيب متعلق أيضًا بالأشهر الحُرم وهو قوله تعالى:

يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍۢ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌۢ بِهِۦ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِۦ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ ۚ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ ٱسْتَطَٰعُواْ ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَٰٓئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ ۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ (217)
(سورة البقرة)

أي هل في الشهر الحرام قتال؟ (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أي عظيم عند الله أن تنتهك حرمة الشهر وأن تقاتل فيه، الآن كلام مُستأنف جديد قال: (وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌۢ بِهِۦ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِۦ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ ۚ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ) هنا فكرة جديدة متعلقة، طبعًا هو سبب نزول الآية كما تعلمون النبي -صلى الله عليه وسلم-أرسل سرية قبل بدر بشهرين التي هي سرية نخلة، نخلة هي منطقة بين الطائف ومكة، بعثه كسرية استطلاعية، هناك عير لقريش استطلع وارجع؛ استطلاع، ما كان هناك نية للقتال كانت الليلة الأخيرة بجمادى أو الليلة الأولى برجب؛ لأن هذه تعتمد على القمر، فالمنطقة حساسة يوجد قتال أو لا يوجد، قُتل أحد المشركين الذي هو ابن الحضرمي بعد مناوشات بين السرية وكذا...، فالمشركون استغلوا الموقف وصاروا يقولون: المسلمون ابتدؤونا القتال في الشهر الحرام، الله أكبر!! تقاتلونا في الشهر الحرام؟! والنبي-صلى الله عليه وسلم-كبُر ذلك عليه حتى الصحابة الذين كانوا بالسرية هم اثنا عشر تقريبًا أُسقط في يدهم وخافوا أن يكونوا قد فعلوا كبيرة من كبائر الله في الشهر الحرام وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، للاستطلاع، قالوا: يا رسول الله اختلط علينا بين جمادى و بين رجب، فنزل قوله تعالى تطمينًا لهم وبيانًا للأمر:

يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍۢ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌۢ بِهِۦ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِۦ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ ۚ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ ٱسْتَطَٰعُواْ ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَٰٓئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ ۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ (217)
(سورة البقرة)

لكن أنتم الصد عن سبيل الله والكفر بالله والمسجد الحرام وإكراه الناس على الشرك بالفتنة- تفتنهم عن دينهم- هذا أشد من القتل الذي تتحدثون عنه قتل شخص، فهذه الآية أيضًا فيها جانب تعليمي مهم جدًا لنا، وهو أنه من العيب أن يرى الإنسان عورة أخيه ولا ينظر إلى القذى في عينه، من المؤلم جدًا أن تكون ديار المسلمين اليوم تُستباح و القتل يُعمل بهم ويتعامى عن كل جرائم المجرمين ثم ينظر إلى أخطاء المجاهدين، من المعيب جدًا أن تتعامى عن الفضائح التي يفعلها الأعداء ثم تركّز على أخطاء بسيطة متعلقة في أشياء يسوغ فيها الخلاف، من السيء جدًا أن يكون الإنسان يأكل الربا ويفعل الموبقات ثم يقول لك: فلان في الصلاة كأنه أنزل يديه قليلاً لو رفعهم قليلاً أو أنزلهم؛ هذه قضية فقهية تُعالج في مكانها لا يوجد أي مشكلة لكن من المعيب- أهل الشام كان عندهم مثل يقولون: يأكل الثور ويغص بالذنب ، الثور كله يبتلعه وعندما يصل عند الذنب يغص فيقول: كأنه ثقيل على المعدة، والثور قد مرّ كله ما شعر به- فمن المعيب جدًا أن الإنسان ينظر إلى أخطاء بسيطة يفعلها بنو جلدته و يتعامى عن بلايا أعدائه، وهذا اليوم نسمعه على وسائل التواصل الاجتماعي وكذا، "أن هؤلاء كأنهم من جماعة كذا، أو جماعة...."، الآن لا يوجد جماعة الآن هناك عدو غاشم يستبيح دماءهم، هم إخوتنا هم منا ونحن منهم ، لهم منا كل الدعم وكل الحب الخلافات جانبًا، فهذا أيضًا درس تأديبي من دروس الأشهر الحرم (يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍۢ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) لا نختلف، لكن الصد عن سبيل الله و الكفر بالله وإخراج الناس من المسجد الحرام ومنعهم من دخوله وإكراههم على الشرك هذا أشد من القتل، فهذا درس آخر من دروس هذا الشهر الحرام الذي أحببت الحديث عنه، هذا والله تعالى أجلّ وأعلم، والحمد لله رب العالمين.