• محاضرة في الأردن
  • 2024-01-29
  • عمان
  • الأردن

الراكب المهاجر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فيا أيها الإخوة الأكارم؛ حديثنا اليوم اخترته من كتاب (موقف وعِبرة)، هذا الكتاب قد كتبته من مجموعة مواقف من السيرة النبوية ومن التاريخ ومن سير الصحابة الكرام، واستنبطت من كل موقف من 47 موقفًا الدروس والعبر من كل موقف من المواقف، الموقف اليوم بعنوان: الراكب المهاجر.

موقف إسلام عكرمة بن أبي جهل:
يقول عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- قالت أم حكيم زوجة عكرمة بن أبي جهل: " يا رسول الله قد هرب عكرمة منك إلى اليمن وخاف أن تقتله فأمّنه"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:[هو آمن]، فخرجت أم حكيم في طلبه ومعها غلام لها رومي فراودها عن نفسها( أي أراد فعل الفاحشة معها -والعياذ بالله-) فجعلت تمنّيه (تجعله يتمنى بأنها موافقة على مراده حتى تتخلص منه)، حتى قدمت على حي من عك (عك قبيلة من قبائل اليمن)، فاستعانتهم عليه (وطلبت منهم النجدة)، فأوثقوه رباطًا وأدركت عكرمة، وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة، فجعل نوتي السفينة(الملاح) يقول له: أخلص، قال: أي شيء أقول؟ (النوتي يقول لعكرمة: أخلص)، قال: أي شيء أقول؟ قال: قل لا إله إلا الله، قال عكرمة: ما هربت إلا من هذا، فجاءت أم حكيم فجعلت تقول: يا ابن عم جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس(تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم-) لا تُهلك نفسك، وقالت: إني قد استأمنت لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم– قال: أنت فعلتِ؟! قالت: نعم أنا كلمته فأمّنك، فرجع معها وقال: ما لقيتِ من غلامك الرومي؟(بلغه الخبر)، فخبرته خبره فقتله عكرمة في طريقه وهو يومئذ لم يسلم، قال" وجعل عكرمة يطلب امرأته يجامعها فتأبى عليه ( في الطريق يريدها، يريد ما يريد الرجل من زوجته فتأبى عليه؛ ترفض) وتقول: إنك كافر وأنا مسلمة، فيقول: إن أمرًا منعك مني لأمر كبير) شيء يمنع الزوجة عن زوجها أمر كبير) فلما وصل عكرمة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف بين يديه وزوجته منتقبة، فقال: يا محمد إن هذه(زوجته) أخبرتني أنك أمنتني، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم : [صدقت، فأنت آمن]، فقال عكرمة: فإلامَ تدعو يا محمد ؟ قال: [أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتفعل، وتفعل..] ، حتى عَدَّ خصال الإسلام، فقال عكرمة: والله ما دعوتَ إلا إلى الحق وأمرٍ حسن جميل، قد كنتَ والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثًا وأبرنا برًا ...، ثم قال عكرمة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فسُرَّ بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ثم قال عكرمة: يا رسول الله علمني خير شيء أقوله، قال: [تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله] قال عكرمة: ثم ماذا؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:[تقول أُشْهِد الله وأشهد من حضر أني مسلم مهاجر ومجاهد]، فقال عكرمة ذلك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:[ لا تسألني اليوم شيئًا أعطيه أحدًا إلا أعطيتكه] (سلني ما تريد)، فقال عكرمة: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها، أو مسير وضعت فيه، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك أو وأنت غائب عنه(استغفر لي) ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم[ :- اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها ، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك، فاغفر له ما نال مني من عرض في وجهي أو وأنا غائب عنه]، فقال عكرمة: رضيت يا رسول الله(لا أريد شيئًا غير ذلك)،ثم قال عكرمة: أما والله يا رسول الله لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدٍ عن سبيل الله إلا أنفقتُ ضعفها في سبيل الله ، ولا قتالًا كنت أقاتل في صد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله .. ثم اجتهد في القتال حتى قُتِل شهيدًا (والراجح أنه قُتل يوم أجنادين في خلافة أبي بكر- رضي الله عنه وأرضاه-).

الدروس والعبر من قصة عكرمة بن أبي جهل:
أيها الإخوة الكرام؛ هذا هو الموقف، وأما الدروس والعبر:

الدعوة إلى الله ليست حكرًا على أحد:
1-العبرة الأولى أحبابنا الكرام، أن الدعوة إلى الله ليست حكرًا على أحد، الدعوة إلى الله في نظر كثير من الناس هي حكر على بعض الدعاة الذين فرّغوا شيئًا من وقتهم وتبحروا في العلم ودرسوا العلوم الشرعية، لكن في الإسلام لا يوجد رجال دين، كل المسلمين دعاة إلى الله، كلنا دعاة.
الدعوة إلى الله نوعان: فرض عين وفرض كفاية؛ فرض العين على كل مسلم، وفرض الكفاية على العلماء الذين تفرّغوا للدعوة إلى الله.
أ- فرض عين على كل مسلم دليل ذلك قوله تعالى:

قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى وَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ(108)
(سورة يوسف)

فمن يكون داعيًا إلى الله فهو يتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ومن يترك الدعوة إلى الله فهو يترك شيئًا من اتّباع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، لكن هذه الدعوة كل إنسان يصنعها بما آتاه الله قال تعالى:

لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍۢ مِّن سَعَتِهِۦ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُۥ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَا ۚ سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍۢ يُسْرًا (7)
(سورة الطلاق)

كل إنسان آتاه الله شيئًا يستطيع أن يدعو من خلاله، أقل إنسان في الدعوة يمكن أن يدعو إلى الله بسلوكه، أي ما نسميه اليوم الدعوة الصامتة، هو في سفر، الناس يعلمون أنه ملتزم رأوه يصلي فعرفوا أنه ملتزم، فلما تعامل بالصدق والأمانة الناس نظروا إليه على أن المصلي صادق وأمين فأحبوا الصلاة وأحبوا الدين من خلاله؛ هذه دعوة صامتة، ما تكلم لكن فعله هو دعوة، هو تاجر يأتيه زبائن يعلمون أنه ملتزم ويحضر درسًا فلما رأوا أن عمله بالدرهم والدينار معاملة صادقة نصح لهم ولم يغش؛ فعله هذا دعوة إلى الله -عزّ وجلّ-، فالدعوة إلى الله-عزّ وجلّ-تبدأ من الدعوة الصامتة وتنتهي ببيان الأدلة والشرح والنصوص وغير ذلك، هذه العبر من أين استنبطناها من القصة؟ هذا النوتي هو ملاح سفينة خرج معه عكرمة بعد فتح مكة، هذا الرجل غير مسلم، قال له:" أخلص" كلمة، قال: أي شيء أقول؟ قال: قل لا إله إلا الله، هذا الرجل ما عنده معلومات كثيرة نوتي السفينة (بحار) يخرج كل يوم إلى السفينة، لكن ما تخلى عن الدعوة إلى الله-عزّ وجلّ-، وجد فرصة مناسبة لإنسان ليقول له:"أخلص" فقال، ما عنده معلومات فُتية وفقه، لكن هو وجد رجلًا بحاجة إلى نصح فنصح له، الرجل ما استجاب لكن هذه الكلمة (أخلص) سُجّلت في صحائف هذا النوتي إلى يوم القيامة، يوم القيامة يجدها كجبل أُحد لأنه فعل شيئًا، فمن هنا استنبطنا أن كل إنسان ينبغي أن يكون داعيًا إلى الله -عزّ وجلّ-، بحاله أو بمقاله لا مانع؛ بالمقال: خطبة الجمعة كلنا نحضرها؛ فيها آية وشرح لطيف أو حديث وشرح مبسط تكلم به مع زوجته وأولاده عندما عاد إلى البيت، في السهرة مساء على العشاء تكلم كلمة مع أولاده؛ دعوة إلى الله -عزّ وجلّ- ، فالدعوة إلى الله -عزّ وجلّ- أحبابنا الكرام ليست فرض كفاية أن يتخلى الإنسان، يقول: الدعاة شأنهم هذا، والله أنا مهندس، أنا تاجر، أنا طبيب، كل إنسان في مكانه يمكن أن يدعو إلى الله-عزّ وجلّ- بحاله أو بمقاله أو بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، هذه من الدعوة إلى الله تعالى.

الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم:
2-العبرة الثانية أيها الكرام في هذا الموقف نستنبطها من قول أم حكيم لزوجها، قالت له: "جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس" لما أرادت أن تبين له من هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماذا اختارت؟ اختارت صفات خُلقية هذه الصفات: أوصل الناس يصل الرحم، يصل أقرباءه، يصل أرحامه، يصل الناس جميعًا، وأفضل الناس وأبر الناس عنده بر للناس، وخير الناس، فما الذي اختارته من صفاته -صلى الله عليه وسلم-؟ هو كان جميل الصورة -صلى الله عليه وسلم- لكن ما قالت له: أجمل الناس خَلقًا، وهو كان جميل الصورة، وما قالت له: أفقه الناس، وقد كان أفقه الناس-صلى الله عليه وسلم-، وما قالت له: جئتك من عند النبي المرسل وهو كذلك-صلى الله عليه وسلم-، ما الذي اختارته فطرتها حتى تحببه برسول الله-صلى الله عليه وسلم-، الصفات الخُلقية الأخلاق أوصل الناس، أبر الناس، أرحم الناس، خير الناس للناس، هذا الأمر يعلمنا أيها الكرام أنه إذا أردت لدعوتك أن تنجح؛ الأب في بيته، المعلم في صفه، التاجر في متجره، فينبغي أن تبدأ بهذه الصفات الخُلقية لأن الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم، بين العين والأذن يوجد أربعة أصابع وليس من رأى كمن سمع، الرؤية شيء والسمع شيء آخر، ألف محاضرة في الصدق يمحوها موقف واحد في الكذب وكأنه ما قال شيئًا، فالناس يتعلمون بعيونهم فإذا أراد الإنسان أن يدعو إلى الله؛ أن يكون أبًا ناجحًا، مربيًا فاضلًا، فينبغي أن يبدأ بتعليم الناس بما يشاهدونه بما يرونه بأعينهم، فهذه رأت من رسول الله خيرًا قالت: "جئتك من عند أوصل للناس وأبر الناس".
سفّانة بنت حاتم الطائي لما أُسرت في إحدى المعارك، ومر النبي -صلى الله عليه وسلم بالأسرى، فقامت وقالت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي منّ الله عليك، فقال صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ قالت: أنا سفّانة، قال: سفّانة بنت حاتم طيء؟ قالت: نعم، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أطلقوا سفانة فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق؛ أي جعل لها مزية لأن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، فاستأذنته بأن تخرج، فقال: لا تخرجي حتى تجدي من يأخذك، فإن لم تجدي فعندما يأتيني وفد أو أحد أرسلك معه؛ خاف عليها، فاستأذنته أن تدعو له: ائذن لي أن أدعو لك، فقال لأصحابه: اسمعوا وعوا، -صلى الله عليه وسلم – أي هذه سفّانة ستتكلم كلامًا مهمًا، هي بنت حاتم الطائي!! فقالت له: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب عن كريم قوم نعمة إلا جعلك سببًا في ردها.
"أصاب الله ببرك مواقعه" أنت أحيانًا إذا أنفقت عشرة دنانير وبعدها وجدت فرحة وأحسست أنك وضعتها بالمكان المناسب يمتلك قلبك فرحًا، وأحيانًا إذا وضعت دينارًا واحدًا بعدها استنتجت أن هذا المتسول نال منك وأخذه وعنده بيت كبير وواسع تنزعج لأن برك لم يُصِب مواقعه، مع أن النية -إن شاء الله- أخذت الأجر بالحالين لكن يحب الإنسان أن يصيب بالبر مواقعه، قالت: "أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة"؛ لأن أصعب شيء في الدنيا أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يرده "ولا جعل لك إلى لئيم حاجة"، قالت: ولا سلب عن كريم قوم (قوم كرام سُلبت عنهم نعمة من النعم) قالت:" إلا جعلك سببًا في ردها" فالنبي -صلى الله عليه وسلم- جهزها وبعثها، موطن الشاهد لما جاءت إلى أخيها تريد أن تدعوه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ليسلم (عدي بن حاتم)، ماذا قالت له أخته؟ قالت له: "جئتك من عند أكرم الناس"، من التي تقول؟ سفانة، بنت من؟ بنت حاتم الطائي الذي هو أكرم العرب، ماذا قالت؟ "جئتك من عند أكرم الناس" هي التي تربت عند أبيها الذي يضرب به وبجوده المثل، لما رأت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هان كرم أبيها أمام كرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: جئتك من عند أكرم الناس، فالناس أيها الكرام يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم.

الحياة في منهج الله، والهلاك في الإعراض عن منهج الله تعالى:
3-العبرة الثالثة: نستنبطها من مقولة أم حكيم لزوجها، قالت له: لا تُهلك نفسك-انظر للأسلوب الدعوي والمرأة الصالحة-قالت: لا تهلك نفسك، كيف لا تهلك نفسك؟ هل لا تمت، أو لا تعرض نفسك للخطر؟! أي لا تهلك نفسك عندما تحجبها عن الحق، أحبابنا الكرام أعظم هلاك يحصل للإنسان عندما يُحجب عن ربه هذا الهلاك، والله كل هلاك دون ذلك فهو هين، قال تعالى:

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْـَٔوْنَ عَنْهُ ۖ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
(سورة الأنعام)

هلاك النفس هو أن تحرمها من الجنة، هلاك النفس في الدنيا أن تحرمها من منهج الله تعالى؛ لأنها إذا سارت على غير منهج الله كانت كمركبة صنعت للطرقات المعبدة ثم سرت بها في الجبال الوعرة، تصدر أصواتًا مزعجة وترهقك، ويرتطم رأسك بسقفها؛ لأن هذه المركبة صنعت للطرق المعبدة، فهذه النفس فُطرت لتكون على منهج الله تعالى فلما يصرفها الإنسان عن منهج الله تعالى يهلكها؛ هذا هلاك النفس أيها الكرام، فقالت له: "لا تُهلك نفسك"، آية كريمة أو جزء من آية أذكر أنني من بدايات ما سمعته يوم أكرمني الله بسلوك طريق العلم، فكنت أحضر في مسجد الشيخ عبد الغني النابلسي بدمشق وهو إلى جوار بيتنا في دمشق، عند شيخنا الدكتور راتب النابلسي فمن أول ما سمعته منه وحفرت في ذاكرتي وأنا ابن عشر سنوات، كان يفسر قوله تعالى:

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
(سورة البقرة )

فكان يقول: أنت تعرض عن أشياء كثيرة ترغب عنها، رغب عنه غير رغب فيه، رغب عنه: أعرض، رغب فيه: أراده، فأنت ترغب عن أشياء كثيرة لأنك تسفهها، فيقال لك: ما رأيك بالسفر؟ تقول: والله سفر طويل والرزق فيه قليل، وأهل الشام يقولون: الله لا يبارك بسفر خطواته أكثر من لقماته، لا يحبون السفر حتى يكون فيه لقمات-خير-ماعدا ذلك فما هذا السفر؟!! فيسفهه، وقد في عمر معين تريد الزواج فتُعرض عليك امرأة فترفضها لأنك لا تجدها مناسبة لك، وقد يعرض عليك بيت فتقول: لا يناسبني أريده أوسع، فالإنسان عندما يُعرض عن الأشياء يعرض عنها لأنه يسفهها؛ أي يجدها سفيهة في مقابل طموحه إلا شيئًا واحدًا عندما يُعرض عنه الإنسان فإنه لا يسفه هذا الشيء وإنما يسفه نفسه وهو منهج الله تعالى، قال:(وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) لأنه عندما ترك منهج الله تعالى واتبع هوى نفسه هو لم يسفه المنهج فالمنهج عظيم جدًا، والمنهج في عليائه، لكن هو احتقر نفسه -والعياذ بالله- عندما حرمها من منهل الله تعالى، (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ)، فقالت له: لا تهلك نفسك، قال تعالى:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
(سورة الأنفال)

الحياة في منهج الله، والهلاك في الإعراض عن منهج الله تعالى.

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ (124)
(سورة طه)

وما قال: حياة ضنكًا؛ لأن البعد عن منهج الله ليس فيه حياة، فيه عيش؛ يعيش على مقولة إخواننا المصريين (أكل عيش) أي أكل وشرب ونكاح فقط، عائشون لكن لا يوجد حياة، الحياة:

مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97)
(سورة النحل)

(ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، والهلاك بالإعراض عن منهج الله، قالت له: لا تهلك نفسه.

لاتزر وازرة وزر أخرى:
4-العبرة الرابعة أحبابنا الكرام هي في استقبال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعكرمة وتأمينه له، عكرمة ابن من؟ ابن أبي جهل، أبو جهل أعدى أعداء الإسلام، وأعدى أعداء رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم-، فهذا الأدب وهذا الذوق هو الذي دفع عكرمة إلى الإسلام، نحن اليوم بدافع من قبلية معينة، إذا كرهنا إنسانًا أو أزعجنا إنسان في عُرفنا تزر وازرة وزر أخرى، فلا نتأدب معه ولا مع من يصله ولا مع من يقف معه، ولا مع من يزوره، ولا مع ابن له....، لكن الأدب الإسلامي عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، عكرمة مطلوب لرحمة الله تعالى، ومطلوب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان ابن أبي جهل، هناك في بعض الروايات وإن كان فيها ضعف: "لا تسبوا أباه"، الرواية فيها إشكال لكن يستأنس بها بفضائل الأعمال، حتى لا تؤذيه وتسب أباه أمامه، بالنهاية هو أبوه وإن كان أبا جهل، هذا من لطائف والأذواق العالية التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان.

دور الزوجة في هداية زوجها:
5-العبرة الخامسة: هي متعلقة بالنساء وهي دور أم حكيم هذه الزوجة في هداية زوجها، فعلت ما فعلت؛ ذهبت إلى رسول الله أمّنته لحقت به وهو قد ركب البحر يريد أن يهرب، أدركته وأعادته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذه المرأة سيكون زوجها في صحيفتها، نساء السلف الصالح كانت الواحدة منهن تلحق زوجها وقد أصابه من الفقر ما أصابه تلحقه على الباب تقول له، يا أبا فلان اتقِ الله فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على الحرام؛ أي لا تحضر مالاً حرامًا وتكسب مالاً حرامًا نحن نصبر على الجوع ولكن على الحرام لا؛ هذا من صلاح المرأة.

المسلم لا ينبغي أن يستحيي بدينه:
6-وأما العبرة السادسة :لما قال عكرمة لزوجه: إن أمرًا منعني منك لأمر كبير، أي المسلم لا ينبغي أحبابنا الكرام أن يستحيي بدينه، أن يخجل بدينه بمعنى أنا أردت أن أصلي لكن الموقف كان مؤتمرًا والكل لا يصلون فلم أطلب صلاةً وقلت لنفسي: أجمع أو أصليها مساء، مدت يدها لتصافح فأنا والله خجلت وصافحتها مثلاً، المؤمن عندما يعتز بدينه يدعو إلى الله بما فعله، هذه الزوجة باختصار مع أنها مسلمة حديثة تعلم أنه لا يجوز أن يقربها زوجها وهو كافر وهي مسلمة، ما ينفع ذلك حتى يسلم، لما قالت له: لا أريد، قال: إن أمرًا منعني منك لأمر كبير، هناك شي مهم، الناس أحبابنا الكرام اليوم أنت عندما تدعوهم إلى الله تعالى: أنا لا آكل الربا، أنا لا أفوت صلاتي، أنا لا أسمح بهذه العلاقة الآثمة، أنا لا يمكن بن أرضى بإطلاق البصر، أنا....إلخ هذه الأمور التي اليوم استهان بها الناس لكن هي أمور عقدية ينظرون إليها نظرة مختلفة، اليوم عندما نقول: هناك في بلاد الغرب وغيرها أناس لفت نظرهم الإسلام بما يرون من أهل غزة، ما الذي وجدوه؟ وجدوا عقيدة شيء يدفع الإنسان لأن يتمسك بدينه رغم كل سياط الجلادين اللاذعة، وأيضًا إذا كان يتمسك بدينه رغم سبائك الذهب اللامعة فأيضًا الأمر سيان، سواء وجدوا من المسلم أنه صامد أمام الشهوات أو أنه صامد أمام الشبهات والضغط والعنف وما يُحاك له وهو راضٍ بقضاء الله، ففي الحالتين يلفت نظرهم الدين، أما عندما يقول الإنسان: أنا لا أريد أن أظهر بمظهر المتشدد أمامهم فسأمرر، هم يستهينون بدين هذا الإنسان، هو يستهين بدينه معنى هذا لا يوجد شيء مميز، كل الناس تفضل دنياها على دينها، أما عندما يجد مسلمًا دينه غالٍ عليه يلفت نظره أن هذا الدين الذي يدعو أتباعه إلى هذا الشيء فهو شيء مهم جدًا، فأم حكيم لما رفضت زوجها قال: إن أمرًا منعني منك لأمر كبير، وكان سببًا من أسباب اندفاعه ليفهم هذا الدين ثم كان سببًا من أسباب إسلامه، الأمر الآخر أحبابنا الكرام عكرمة كان صادقًا في إسلامه والدليل أنه لم يطلب من رسول الله دنيا، قال له: سلني ما تريد حتى أعطيك، فقال: استغفر لي، فالإنسان عندما يتعلق بقضايا الآخرة فهذا دليل صدق في الإيمان، عندما يخاف على آخرته أكثر مما يخاف على دنياه فهذا علامة الآخرة، أما مجمل الناس اليوم يخافون على دنياهم، طلبات للدنيا، الخوف على الدنيا.

الحق واضح أبلج يحتاج فقط لحسن عرضه:
7-العبرة الأخيرة: أحبابنا الكرام؛ النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض الروايات رحب بعكرمة وقال له: مرحبًا بالراكب المهاجر، سمينا الموقف (الراكب المهاجر) لأنه رحب به، قال: مرحبًا بالراكب المهاجر، فهذا الأسلوب الذي فيه حنان مع هذا الرجل وتواضع له كان أحد الأسباب المهمة في جذبه إلى دين الله تعالى، أحيانًا الإنسان يكلفه الأمر ابتسامة أو كلمة طيبة أو يكلفه تواضعًا معينًا في تعامله مع الآخرين، فيكون ذلك دافعًا إلى انجذابهم نحوه، النبي -صلى الله عليه وسلم- عامله باللين، استقبله، أعطاه مكانته، تواضع له ثم بيّن له الحق فأسلم، الحق أيها الكرام واضح أبلج والباطل كما يقولون لجلج زهوق؛ يذهب بسرعة، فالحق فيه قوة ذاتية فأنت حتى تظهره للناس تحتاج فقط أن تظهره، فقط لا شيء آخر حتى يقبله الناس، أحيانًا قد يكون عندك فكرة خطأ تحتاج تسويق، اليوم إذا عندك منتج بأفضل سعر وبأفضل نوع، فيقول لك التجار: المنتج مسوّق نفسه لا يحتاج تسويقًا، مبيعاتي لست شهور منتهية، المنافسة غير موجودة، والمنتج مرتبة أولى وأسعاره ممتازة فلا يحتاج تسويقًا، يقول لك: أنا أحيانًا أعمل إعلانات لأن الصيغة العامة يجب أن يظل في أذهان الناس بالسوق، أما هو لا يحتاج إلى إعلان المبيعات دائمًا مستمرة، لكن عندما يكون السعر غالياً يجب أن تعمل تسويقًا زيادة، عندما يكون المنتج ضعيفًا نوعًا ما بالنوعية تعمل تسويقًا آخر وهكذا، نحن البضاعة التي عندنا هي الحق، والحق ليس له منافس أبدًا لأنه كل ما سواه باطل، لا يوجد اليوم نظرية بالسوق موجودة تنافس الحق، بمرحلة معينة طرح المعسكر الرأسمالي الاشتراكي نفسه كبديل، كحقوق إنسان وحريات...وكذا ثم تهاوى من الداخل، وبمرحلة ثانية طرح الغرب نفسه أيضًا كمنافس، واليوم بسبب الازدواجية بالمعايير واصطفاف الغرب مع الباطل بشكل واضح كان مثقفونا يعرفون أنه باطل، اليوم أطفالنا أصبحوا يعرفون أنه باطل، فربنا-عزَّ وجلّ- يجعل كل القيم المستحدثة منهارة، فلم يبقَ منافس للبضاعة التي عندنا، لا يوجد منافس لا بالجودة ولا بالسعر يوجد سهولة؛ دين حق واضح، متوافق مع الفطرة، يريح النفس، يسعد في الدنيا والآخرة، يقدم تصورات صحيحة عن الكون والإنسان والحياة، المنتج الذي عندنا رائع جدًا، فأنت فقط تحتاج إلى أن تعرضه بالطريقة الصحيحة فقط، هذا أحد الغرب الذين أسلموا (توماس) أو غيره، قال: "أنا لا أصدق أن يستطيع العالم الإسلامي اللحاق بالغرب-على الأقل في المدى المنظور- لاتساع الهوة بينهما"، مثل دارجة تلحق روز رايز بكل دقيقة يزداد الفارق، لا يقترب من الوصول يزداد الفارق بينهما، فقال: "على الأقل في المدى المنظور لاتساع الهوة بينهما، ولكنني مؤمن أشد الإيمان أن العالم كله سيركع أما أقدام المسلمين لا لأنهم أقوياء ولا لأنهم أغنياء ولكن لأن خلاص العالم في الإسلام"، قال: " بشرط على المسلمين أن يحسنوا فهم دينهم، وأن يحسنوا تطبيقه، وأن يحسنوا عرضه على غيرهم"، فنحن الذين أحسنا بفضل الله- أتكلم مع جمهور أحسن فهم دينه، وإن شاء الله بذلنا جهدنا في إحسان تطبيقه كل بما يستطيع-، الآن أيضًا نحتاج إلى أن نُحسن عرضه فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكل مواقفه فيمن أسلم معه كان يحسن عرضه على الطرف الآخر، الحق واضح يقبله الإنسان بفطرته لكن يحتاج أن نحسن عرضه على الطرف الآخر، وأتوقع -إن شاء الله- ولا نتألى على الله لكن كل المؤشرات تشير إلى أن هذه المئة سنة الأخيرة التي كانت مظلمة جدًا في تاريخ أمة الإسلام هي في نهاياتها- إن شاء الله-، وقد اقتربنا بإذن الله تعالى من أن نعرض هذا الدين على الطرف الآخر وأن نقنعه به، فنحتاج اليوم أكثر أن نوعّي الناس في طرق التعامل مع الآخرين، في طريقة التواضع للناس، تحبيب الناس بدين الله ، إظهار الدين على وجهه الصحيح الذي جاء رحمة للعالمين، والحمد لله رب العالمين.