تأملات في سورة الإسراء

  • محاضرة في الأردن
  • 2024-02-05
  • عمان
  • الأردن

تأملات في سورة الإسراء

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وعملًا متقبلًا يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، وبعد:

متى كان الإسراء والمعراج؟
أيها الكرام؛ فإن المسلمين في شهر رجب يستذكرون ذكرى الإسراء والمعراج، والحقيقة أنه لا يوجد إثبات مؤكد لتاريخ الإسراء والمعراج، لكن كثيًرا من المحققين ذهبوا إلى أنه كان في 27 من رجب، وقد اتفقوا على أنه كان قبل الهجرة وبعد البعثة، وأنه كان عقب ما سمّي فيما بعد بعام الحزن، عام الحزن عام أطلقه كتّاب السيرة على عام فقد فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- سنده الداخلي الأول خديجة -رضوان ربي عليها-، وفقد سنده الخارجي عمه أبا طالب الذي كان يذود عنه ويدافع عنه ويحميه من أذى قريش، فذهب إلى الطائف يلتمس من أهلها النصرة، فما كان من أهل الطائف إلا أن أذوه ورموه بالحجارة، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم حتى أوى إلى حائط؛ إلى بستان ودعا بالدعاء المعروف الذي ختمه بقوله: "إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى"، بعد ذلك كان الإسراء والمعراج بغض النظر عن تاريخ الليلة 27 من رجب أو غيرها، فقال المولى -جلّ جلاله- في سورة الإسراء:

سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِى بَٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ (1)
(سورة الإسراء)


الربط بين أواخر سورة النحل وبداية سورة الإسراء:
وأريد أن أرجع قليلًا إلى نهاية سورة النحل، قبل الإسراء عندنا سورة النحل، ومعلوم عندكم أن هناك علمًا في القرآن اسمه (علم المناسبات) بحيث نربط أول السورة بآخرها، وآخر السورة بأول السورة التي تليها، فإذا نظرنا في نهاية سورة النحل وجدنا قوله تعالى:

وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِى ضَيْقٍۢ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127)
(سورة النحل)

هذا عام الحزن.

إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)
(سورة النحل)

كيف كان الله معه بعد ذلك؟ (سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا) دائمًا بعد المِحن هناك مِنح ربانية، وبعد الشدائد هناك شَدّات إلى الله تعالى هذه سنة الله في الأرض، لذلك ختم سورة النحل بالأمر بالصبر لأن الوعد قادم، وابتدأ سورة الإسراء بالمكافأة التي نالها النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ استجاب إلى ربه فصبر ولم يضق صدره بمكرهم، فجاءت رحلة الإسراء تسلية لقلبه- صلى الله عليه وسلم-، وإيذانًا من الله تعالى بأن الله معك وبأنه ناصرك و مؤيدك تشجيًعا له، تسلية له، مواساة له، لذلك خُتمت الآية بقوله تعالى: (إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ) مع أن ما يُتوهم في ذكرنا أن يكون ختامها لو لم نكن نعرفها (إن الله على كل شيء قدير) فهي تتحدث عن معجزة (سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) فهي معجزة، لماذا الختام (إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ)؟ لقد سمعنا قولك ودعاءك في الطائف، وأبصرنا حالك وما فعلوه بك فأريناك هذه الآيات الكبرى وأسرينا بك هذا الإسراء العظيم وعرجنا ذلك المعراج المقدس(إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ)، فالله تعالى يسمع دعاءنا الآن عندما ندعو ونتألم لما يحل بإخواننا، ويبصر حالنا ويبصر هواننا على الناس، ورحلتنا إلى بيت المقدس وعد من الله وعروجنا إلى السماء بالصلة بالله، فالصلاة معراج المؤمن أيضًا أمر واقع، فنحن لئن كان زمن المعجزات قد ولّى لكن الروح تسري فتسري إلى بيت الله الحرام، وتسري إلى مكة المكرمة، وتسري إلى المدينة المنورة، وتسري إلى بيت المقدس، ونعرج إلى ربنا من خلال الصلاة؛ الصلاة معراج المؤمن، لذلك فُرضت الصلاة في المعراج لأنها معراج المؤمن إلى رب الأرض والسموات، فقال: (إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ).

معنى التسبيح و لماذا بدأت سورة الإسراء بالتسبيح؟
أحبابنا الكرام (سُبْحَٰنَ) التسبيح والتنزيه؛ أن أنزه الله عن أن يشبه شيئًا من مخلوقاته في ذاته أو في صفاته أو في أفعاله.

فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَمِنَ ٱلْأَنْعَٰمِ أَزْوَٰجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِۦ شَىْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ (11)
(سورة الشورى)

هذا هو التسبيح، الله تعالى حاشاه أن يكون مثل مخلوقاته في ذاته ولا في صفاته، فأنت تسمع وهو يسمع لكن أين سمعه من سمعك؟! سبحان من وسع سمعه الأصوات! ونحن لا ندرك ذاته فمن باب أولى أننا لا نستطيع أن ندرك كيف صفاته فنفوض الأمر إليه، فنقول: إنه يسمع ويبصر، لكن كيف يسمع ويبصر؟ لا ندري لأننا لا ندرك الذات أصلًا، فكيف ندرك الصفات؟! تمامًا كأن أقول لك مثلًا، إذا قلت لك: يد الطفل، مباشرة يتبادر إلى ذهنك تلك اليد الجارحة التي فيها خمسة أصابع، كلنا تبادر إلى ذهننا اليد، إذا قلت لك الآن: يد الإبريق، ما يتبادر إلى ذهنك أبدًا الخمسة أصابع يتبادر إلى ذهنك تلك الحلقة التي توضع على الإبريق ليحمل بها، لماذا أُدرك الآن صفة اليد؟ لأنني أعرف الذات، لكن لو قلت لك الآن: يد الباب، تدرك أنها قبضة الباب، لو قلت لك: يد الحائط، يد الحائط؟! ما عندك تصور متى كان لحائط يد، فالله تعالى له صفات صفاته عليّة -جلّ جلاله- ننزّهه أن يشبه فيها أحدًا من خلقه، وله أفعال وحاشاه -جلّ جلاله- أن يشبه أحدًا في أفعاله، فنحن نرحم هذا فعل، فنحِنّ على ابننا ونضمه إلى صدرنا هذه رحمتنا، لكن كيف رحمة الله؟ أعظم مما نتصور، وأكبر مما نتخيل، فسبحان أي نحن ننزه الله، نسبّحه، ننزهه عن كل نقص أو عن كل شبه بمخلوقاته في ذاته وصفاته وأفعاله، لكن متى نقول أكثر نحن سبحان الله؟ إذا رأينا وردة جميلة خلق من خلق الله مبدع، نقول: سبحان الله! نظرنا في البحر في تصوير علمي فرأينا الأنواع من الأسماك نقول: سبحان الله! أو رأينا فعلًا من أفعاله عجيبًا -جلّ جلاله- كأن أهلك عدوًا باطشًا، كأن أهلك مرابيًا كان يُقال فيسمع لقوله فإذا به في فراشه لا يقوى على الحراك، نقول: سبحان الله! فنحن نسبّح الله عند رؤية أمر عجيب، لذلك جاء مطلع الآية بالتسبيح لأن ما بعدها أمر عجيب أن يذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى بيت المقدس في ليلة واحدة ويُعرج به إلى السماء بل في جزء من ليلة، تعطّل الزمان أمر عجيب، عجيب عندنا في قوانيننا لكنه عند الله كن فيكون، فهو خالق الزمان المكان (سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ).

هل كان الإسراء بالروح أم بالجسد أم بكليهما؟
وقال: (بِعَبْدِهِ) لنفي شيء وهو أن يقول قائل -كما يحلو للبعض-: إن الإسراء كان رحلة منامية، أين المعجزة في كونها منامًا؟! أنا اليوم أنام فأرى نفسي في بيت المقدس، فهل أقول أنها وقعت معجزة؟ أين الإعجاز؟ فقال: (بِعَبْدِهِ) أي بنفسه و بروحه وبجسده -صلى الله عليه وسلم - به أسرى وليست رؤية منامية كما يحلو للبعض أن يفسرها من أصحاب المدرسة العقلانية التي لا تمت إلى العقل بصلة؛ لأن العقل لا ينكر وقوع الإسراء، ولو وقع اليوم في عصرنا أن قال أحدهم: ذهبت إلى فلسطين وعدت في ليلة واحدة، لما قال أحد منا إنها معجزة لأن الظروف تغيرت، فالعقل لا يحيل وقوع ذلك، ولكن العادة كانت تحيله في ذلك الزمن لعدم توفر المعطيات العلمية التي تجعل الإنسان ينتقل رحلة طويلة في وقت قصير، وقد يأتي زمان على الناس-والله تعالى أعلم، والله يخلق ما يشاء-فتصبح الرحلة في 10 دقائق من مكة إلى بيت المقدس، اليوم ساعتان ممكن تصبح 10 دقائق، ما يوجد شيء يمنع عقلًا أن يحدث ذلك فقال: (بِعَبْدِهِ)، والأمر الآخر أنه لما قال: (بِعَبْدِهِ) عظّم جانب العبودية، فالنبي-صلى الله عليه وسلم- لو شئت أن تقول إنها معجزة لكان في ذهننا أن يُقال: بنبيه، برسوله، لكنه قال: (بِعَبْدِهِ) لأن أعظم مقام يبلغه الإنسان هو مقام العبودية، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الرحلة العظيمة ما ترك عبوديته لله حاشاه -صلى الله عليه وسلم-، فعاد ليجالس الفقراء، وعاد ليقول: لكنني أفقد جليبيبًا، أين جليبيب؟ هذا الفقير الدميم الصورة، وعاد ليقول لما دفنوا امرأة في الليل تقُمُّ المسجد ولم يعلموه، يغضب ويقول: أفلا آذنتموني؟ فقام فوقف على قبرها فصلى عليها، وعاد لتأخذ الجارية بيده فتقوده إلى حيث شاءت، ما تخلى عن أنه عبد لله، اليوم ربما بعض الناس يذهب إلى بلاد في الغرب ويغيب بها سنين ثم يعود فيستحقر أهل بيته وأهل زمانه وأهل بلده ويشيد بحضارة هؤلاء وبثقافتهم وبعلمهم، ولا يجلس مجلسًا إلا ذمنا و انتقص منا وبيّن ثغراتنا بينما يبين محامدهم و يتغافل عن سيئاتهم وهي زيارة إلى غرب الأرض، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينتقل إلى غرب الأرض وإنما انتقل إلى السماء السابعة ثم عاد ليجالس المساكين والفقراء لأنه يدرك معنى العبودية، بل إنه -صلى الله عليه وسلم- أعظم من عبد الله، فقال: (سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ)، وقال: (لَيْلًا) مع أن كلمة أسرى تفيد الليل لأن السرى هو المشي ليلاً، لكن قال: (لَيْلًا) للتأكيد.

أهمية المسجد الأقصى و الربط بينه وبين إفساد بني إسرائيل :
(مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا) وهذه إشارة إلى أن بوابة السماء في هذا المسجد العظيم وأنه أمانة في رقاب المسلمين وأن عليهم أن يحموه وأن يناصروه، (ٱلَّذِى بَٰرَكْنَا حَوْلَهُ)، ونحن في هذا البلد الطيب بركتنا لأننا حول المسجد الأقصى، والشام مباركة لأنها حول بيت الله المسجد الأقصى (لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ)، ثم يقول المولى:

وَءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَٰبَ وَجَعَلْنَٰهُ هُدًى لِّبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلًا (2)
(سورة الإسراء)

هنا أيها الأحباب فورًا هناك ربط، قضية المسجد الأقصى لها علاقة مباشرة بإفساد بني إسرائيل، فجاء الحديث عن بني إسرائيل عقب معجزة الإسراء في إشارة إلى أن المسلمين مأمورون بحماية المسجد الأقصى وأن هؤلاء سيفسدون فيه، إلى أن قال تعالى:

وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ فِى ٱلْكِتَٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
(سورة الإسراء)

القضاء هو حكم، والقاضي يحتاج إلى بيّنات وشهود إلا أن الله تعالى لا راد لقضائه فهو لا يحتاج بينة ولا شهود، فإذا قضى فقضاؤه نافذ، (وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ) بنو إسرائيل؛ إسرائيل هو يعقوب -عليه السلام- ومعناه في العبرية عبد الله، بغض النظر عن تسميتهم به دولتهم المزعومة عدوانًا وظلمًا وبهتانًا، لكن أصل الكلمة هو يعقوب.

كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَىٰةُ ۗ قُلْ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَىٰةِ فَٱتْلُوهَآ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ (93)
(سورة آل عمران)

وهو يعقوب، فهم بنوه، وهذه ليست مدحًا لهم وليست ذمًا وإنما هي توصيف، مبدئيًا هي توصيف، ففي العصور التي كانوا فيها في طاعة الله وفق كتابهم التوراة مُدحوا على ذلك، وعندما تخلوا عن دينهم وعاثوا في الأرض فسادًا ذُموا على ذلك، وفضّلهم الله تعالى وقال:

يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ (47)
(سورة البقرة )

لكن تفضيلهم لا يقتضي الأفضلية، فليس كل مفضل فهو الأفضل، فأنت قد يكون لك ولدان أحدهما متفوق جدًا فتتركه لمدرسته يدرس وينجح ويأخذ أعلى العلامات في الثانوية، ولديك ولد آخر مقصر فتفضّله بمجموعة من المدرّسين الخصوصيين وتدفع له الآلاف المؤلفة، فهل هو أفضل عندك من الأول؟ لا، فأنت قد تفضل المقصر بشيء فلا يعني أنه الأفضل، والله تعالى فضّلهم فأرسل إليهم الأنبياء، فما الذي كان منهم؟ قتلوا الأنبياء، فهل هم الأفضل بقتلهم الأنبياء؟! معاذ الله، لكن الله فضلهم فكانت التفضيل وبالًا عليهم، ونحن أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- قد فضّلنا الله تعالى بنبي هو خاتم النبيين، وهو أعظم النبيين، وهو إمام النبيين، وهو صاحب ذكرى الإسراء والمعراج، وهو من هو، فإذا اتبعناه فنحن الأفضل- إن شاء الله-، وإذا قصّرنا وتركنا منهجه فنحن لسنا الأفضل، فالقضية لا علاقة لها بمدح هؤلاء ولا بذمهم وإنما هي توصيف، فمن يتبع الهدى فهو مفضل عند الله وهو الأفضل، ومن لا يتبع فقد يكون مفضلًا ثم لم ينفعه هذا التفضيل بشيء، فيكون خسارًا ووبالًا عليه، (وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ فِى ٱلْكِتَٰبِ) في كتابهم، في توراتهم، وهؤلاء بنو إسرائيل كان في كتبهم ما يبين بجلاء وبوضوح أنه سيأتي نبي في آخر الزمان، وأنه يجب عليكم أن تؤمنوا به.

ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَعْرِفُونَهُۥ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
(سورة البقرة)

كان أحدهم من يهود كان يقول: والله إني لأعرف محمدًا في كتابي أكثر مما أعرف ابني، أي أنا ابني في ظن منه أن يكون ابني، لكن صفة محمد- صلى الله عليه وسلم- في كتبنا واضحة، وكانوا يقولون للعرب:

وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦ ۚ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ (89)
(سورة البقرة )

سيأتي نبي في آخر الزمان وسنؤمن به وسنقتلكم قتل إرم وعاد للمشركين، (فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦ ۚ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ) أي ليس هناك أسوأ عند الله ممن يعرف الحق ويحرفه، قد يضل الإنسان عن الطريق فلا يعرفه، وهذا خطأ كبير لكن الأعظم منه من يعرف الطريق ثم يحيد عنه، وهو ما فعله كثير من بني إسرائيل، فقال تعالى:(وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ فِى ٱلْكِتَٰبِ لَتُفْسِدُنَّ) هذه اللام جواب قسم، كأن الله تعالى يقول: (وقضينا إلى بني إسرائيل والله لتفسدن في الأرض) قسم، أو أن القضاء نفسه يحمل معنى القسم فجاء الجواب بمعنى القسم(لَتُفْسِدُنَّ) مع التوكيد نون التوكيد الثقيلة أي الإفساد واقع؛ هذا قضاء الله، (لَتُفْسِدُنَّ) هذا قضاء الله لا يعني أنه رضيه، ولا يعني أنه يحبه، ولا يعني أنه يأمر به ولكنه قضاه -جلّ جلاله- لحكمة عظيمة عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
(لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) الإفساد أن تخرج الشيء عما خُلق له، هو خُلق للصلاح، ربنا -عزَّ وجلَّ- خلق الماء صالحًا للشرب يخزّن في الأرض، له مخازن في الجبال ومخازن في الأرض ونشربه عذبًا زلالًا، فإذا أقمنا معملًا لصناعات بلاستيكية عند مصادر المياه ولوثنا المياه أفسدناه، المرأة ربنا-جلّ جلاله- خلقها لتكون أمًا وزوجة وأختًا وجدة في المستقبل، ولتكون مصانة وليكون لها الطهر والعفاف والخير والبركة، فإذا جعلناها إعلانًا لسلعة تجارية فقد أفسدناها، ربنا ما خلقها من أجل أن تعلن تجاريًا وتلبس ثيابًا فاضحة لتدلك لتشتري سلة قمامة، ربنا لم يخلقها من أجل ذلك، خلقها لتكون مكرمة معززة في بيتها لكنهم أفسدوها، فالإفساد أن تخرج الشيء عن أصله إلى ما يفسده، وهؤلاء بنو إسرائيل أفسدوا في الأرض (لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) أهلكوا الحرث والزرع والنسل.

وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ (205)
(سورة البقرة )

فأهلكوا الحرث، وأهلكوا النسل، وأهلكوا الأولاد، وضربوا المستشفيات، وما تركوا شيئًا إلا أفسدوه، المنحرف عن منهج الله فساد بإفساد كله، والملتزم بمنهج الله يُصلح، فقال: (وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ فِى ٱلْكِتَٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا).

تفسير العلماء لوقت إفسادَي بني إسرائيل:
متى كانت هاتان المرتان؟ كثير من المفسرين ذهبوا إلى أن تلك المرتين قد انقضى عهدهما قبل الإسلام، وأن القرآن يتحدث عن شيء تاريخي فقالوا:
1-الأول: عندما كان جالوت ثم قتل، ثم سلطه الله -وجالوت ليس مؤمنًا- سلطه الله عليهم بعد أن تركوا التوراة، وهم التزموا بالتوراة فترة وكان عندهم التابوت الذي فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون ثم انحرفوا عن منهج الله تعالى فسلط الله عليهم جالوت فجاس خلال الديار وقتلهم وأنهى وجودهم إلى أن عادوا إلى ربهم وبعث الله لهم طالوت، وداوود قتل جالوت، قالوا: هذا الإفساد الأول.
2- وأما الإفساد الثاني: فكان بعد ردح من الزمن بعد أن انتشروا في الشرق والغرب فجاء بختنصر وقضى عليهم، فقالوا: الإفسادان قد مضى وقتهما وربنا يتحدث عما مضى، وهذا ما عليه كثير من المفسرين، وبعض المفسرين قالوا: لا، الإفسادان هما في حضن الإسلام بعد الإسلام، ربنا يتحدث الآن عما هو كائن وسيكون وليس عما قد كان وانقضى، ولهم في ذلك أدلة:
أ‌- الدليل الأول: قالوا إن الله يتحدث عن وعد، والوعد يكون لما سيأتي.

فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5)
(سورة الإسراء)

فيتحدث عن شيء وعدنا به، وما مضى لا يسمى وعدًا لأنه قد وقع وانتهى، فأنا لا أعدك بشيء مضى وإنما أعدك بشيء سيأتي.
ب- والأمر الثاني قالوا: إفسادهم قبل الإسلام لم يكن مرتين، أي قتلهم الأنبياء إفساد.

وَجَٰوَزْنَا بِبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٍۢ يَعْكُفُونَ عَلَىٰٓ أَصْنَامٍۢ لَّهُمْ ۚ قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱجْعَل لَّنَآ إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
(سورة الأعراف)

عبدوا العجل، ما تركوا شيئًا إلا وأفسدوا به، فأين المرتان بالموضوع؟ هي إفسادات متكررة وكلها كبيرة.
ج- والأمر الثالث قالوا: ربنا -جلّ جلاله- يقول: (فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا) فيمدح هؤلاء العباد، ولا يُمدح بختنصر ولا جالوت وهما غير مؤمنين أصلًا، فهل يسميهم الله عبادًا لنا؟ لأن العباد في الأصل لا تُطلق إلا على عبد الشكر، وأما العبيد فهم عبيد القهر، ربنا -جلّ جلاله- يوم خلقنا قهرنا بأشياء فنحن كلنا عبيد له، أي أنت قطر شريانك التاجي أنت عبد لله به؛ لأنه إذا ضاق جلطة والعياذ بالله -نسأل الله العافية- نحن مقهورون، أنت تحتاج شربة الماء فأنا وأنت عبد، وأنت تحتاج لتُخرج شربة الماء فنحن عبيد لله.

مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ (46)
(سورة فصلت)

لكن وعباد الرحمن هم عباد الشكر الذين لما كُلّفوا اختاروا، اختاروا طوعًا أن يطيعوا الله هؤلاء عباد وليسوا عبيدًا، نعم وردت بعض الآيات فيها عبادي.

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ ءَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَٰٓؤُلَآءِ أَمْ هُمْ ضَلُّواْ ٱلسَّبِيلَ (17)
(سورة الفرقان)

قالوا: هذه في الآخرة؛ لأنه في الآخرة لم يعد هناك قهر وشكر كله مقهور، أما في الدنيا الغالب أن العباد للشكر والعبيد للقهر، فقالوا: قوله تعالى: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا) ثم ينسبهم لنفسه (لَّنَا) يدل على أن من سيقضي على هذا الفساد ليس جالوت وليس بختنصر وإنما من سيقضي عليه هو عباد الله الموحدون المؤمنون، وهذه الأدلة قوية الحقيقة في بابها، ويستعرضها الشيخ الشعراوي -رحمه الله- في تفسير سورة الإسراء بشكل جيد هذا ملخصها، فقالوا، الإفسادان سيأتيان؛ فالأول هو ما حصل منهم من يهود بني قينقاع وقريظة لما أجلاهم النبي-صلى الله عليه وسلم- عن المدينة، لما دخل المدينة سالمهم وأبرم معهم صلحًا ومواثيق ثم إنهم كعادتهم نقضوا المواثيق وخانوا العهود فأجلاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بني النضير و بني قينقاع وبني قريظة، ثلاثة أجلاهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقوله تعالى: (فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَىٰهُمَا) أي وعد الإفساد الأولى التي كانت منهم بنقض العهود (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍۢ شَدِيدٍ) هم جيش النبي -صلى الله عليه وسلم-،(فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِ) أي تتبعوكم في كل مكان، وهذا جرى بإجلائهم عن المدينة بشكل كامل (فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِ) وكأنه جاس من بحث وتتبعه حتى لم يبقِ له أثر (فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا) هذا الوعد الأول.

ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَٰكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
(سورة الإسراء)

(ثم) للترتيب على التراخي، أي امتد زمنًا من عهد النبوة إلى أن جاء الـ67، فكان من جديد أن علوا هذا العلو الذي سماه الكبير-جلّ جلاله- (عُلُوًّا كَبِيرًا) تخيل الكبير يسمي العلو كبيرًا فما عساه أن يكون؟! قال: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ) من الكر والفر؛ أي الغلبة من جديد؛ وهذا قانون رباني.

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ ۚ وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ (140)
(سورة آل عمران)

والمداولة لا تكون بين مؤمن ومؤمن، أو بين كافر وكافر، وإنما تكون بين مؤمن وكافر، المداولة أي تنتقل قيادة الأرض وقوتها من يد الموحدين إلى يد الكافرين، وهذا لا يكون إلا بتقصير من المؤمنين واقرؤوا التاريخ، المسلمون لما كان يضعف حالهم وتنتهي قيادتهم؛ الأندلس، الخلافة العثمانية، الدولة الأموية، اقرأ التاريخ، كلنا عندما كنا متمسكين بديننا حقًا؛ هذه سنة الله في المسلمين، ليس في كل الناس، سنة الله في المسلمين أن الإنسان المسلم عندما يحيد عن دينه يخرج عن خلافة الأرض، وهذا القانون العمري قال عمر -رضي الله عنه-:" نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله" القانون العمري، فهمها سيدنا عمر المعادلة، هم بماذا أعزهم الله؟ ربما أعزهم الله بأموالهم وأولادهم ودولهم وقواهم والأمم المتحدة ومجالس الأمن لهم قانون آخر، لكن نحن المسلمين ربنا -عزَّ وجلَّ- أراد أن تكون العلاقة معه مبنية على طاعته، فمتى نصرناه نصرنا، ومتى- والعياذ بالله - خذلناه خذلنا، فقال: (فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَىٰهُمَا)، ثم يقول: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) انظر إلى الوصف القرآني الذي يناسب الواقع اليوم (وَأَمْدَدْنَٰكُم بِأَمْوَٰلٍ) كم الأموال اليوم التي تُدفع من 120 يوم فقط في هذه الحرب؟ مليارات، وقال: (وَأَمْدَدْنَٰكُم) أي ليست ذاتية وإنما هناك من يمدهم بإرادة الله ليس برضاه -حاشاه- ولا بأمره لكن يسمح بذلك -جلّ جلاله-، (وَأَمْدَدْنَٰكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ) هم الآن يعلّمون الأجيال، ويعلّمون الأولاد.

ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَٱلْبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46)
(سورة الكهف)

الدنيا كلها مال و بنون (وَأَمْدَدْنَٰكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا)، (نَفِيرًا)أنت تستنفر شخصًا فينفر معك، الآن استنفروا الأرض كلها لهذه الحرب، لهم نفير غير طبيعي ينفرون معهم؛ أي ما أكثر من ينفر معهم من المرتزقة ومن مجالس الحقوق...، ما أحد يستطيع أن يوقفهم عند حدهم (وَجَعَلْنَٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا).

إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْءَاخِرَةِ لِيَسُۥٓـُٔواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا (7)
(سورة الإسراء )

وهم قد أساؤوا لكن ربنا-جلّ جلاله- دائمًا يفتح باب الخير ثم الشر بأنك مخير؛ لك ذلك ولك ذلك، ما حرمتك الاختيار، قال تعالى:

فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍۢ وَٰسِعَةٍۢ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُۥ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ (147)
(سورة الأنعام)

يكذبون رسول الله، ويقول له: (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍۢ وَٰسِعَةٍ) فالله لا يغلق بابه -جلّ جلاله-، قال:(إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْءَاخِرَةِ) وهذه الآخرة ليس بعدها وعد، الآخرة أي الإفسادة الآخرة وليس هي يوم القيامة (الإفسادة الثانية) وعد الآخرة، هما مرتان هذه الثانية، قال:(لِيَسُۥٓـُٔواْ وُجُوهَكُمْ) الخطاب لبني إسرائيل، (لِيَسُۥٓـُٔواْ وُجُوهَكُمْ) أي ليجعلوا الذل والهوان والصغار يبدو على وجوهكم وهذا أعظم أنواع الذل، متى ينتقل ذل الإنسان إلى وجهه؟ عندما يكون في أعمق وأعظم أنواع الذل فيظهر السيئ على وجهه، ترى قسمات وجهه توحي بذله وصغاره وهوانه، (وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ) الأقصى الذي بدأت به الآية (إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا)، (كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) في عهد عمر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- يوم لم يكن من بني إسرائيل كان من الرومان بوقتها، لكن هنا الإساءة هنا الثانية لبني إسرائيل (لِيَسُۥٓـُٔواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ) كما فتحها عمر، وكما حررها صلاح الدين، يدخل عباد الله تعالى في الحرب الأخيرة مع بني إسرائيل والصهاينة والمعتدين وسمهم ما شئت، يدخلون المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرة، (وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا) (مَا عَلَوْاْ) لم يقل: (ما علوتم أنتم) فهم علوا لأنهم لا يُنصرون إلا بحبل من الله وحبل من الناس.

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبْلٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍۢ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُو بِغَضَبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلْأَنۢبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّۢ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ(112)
(سورة آل عمران)

فهم بنوا وأشادوا وعمّروا لكن لا في أرضهم ولا بمالهم وإنما بمن أغدق عليهم وأمدهم، (وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا) أي وليدمروا ويهلكوا، كل ما صنعتموه في تلك الأرض التي ليست بأرضكم وليست لكم بحال، (وَلِيُتَبِّرُواْ) التتبير هو الهلاك والتدمير (وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا).
فأحبابنا الكرام هذه الصفحة الأولى من سورة الإسراء تلقي الضوء في بدايتها على رحلة الإسراء، المعراج سنتحدث عنه- إن شاء الله- في اللقاء القادم، هذه السورة تتحدث عن رحلة الإسراء وتربطها ربطًا متعلقًا بواقعنا اليوم، وقد بينت لكم الرأيين؛ الرأي الذي يقول أن الإفسادتين قد مضتا، والرأي الذي يقول أن الإفسادتين كانتا في حضن الإسلام، انتهت واحدة ونحن الآن في الثانية، ووعد الله هو القضاء على الثالثة، وهذا أمر له مؤيدوه الكثر والحقيقة أن حظه من النظر قوي جدًا لما بيّنّا من الأدلة الموجودة بأن الله يتحدث عن وعد قادم، وبأن الإفسادتين واحدة قد تمت في صدر الإسلام، والثانية ما يجري الآن في آخر الزمان، ووعد الله تعالى حق والله تعالى ناصرنا ومؤيدنا، ولعل ما نراه اليوم من بداية إساءة وجوههم وظهورهم بهذا المظهر بعد تلك الحرب، إن شاء الله يكون بداية للقضاء عليهم ولبنة في تحقيق وعد الله تعالى بدخول المسلمين المسجد كما دخلوه عهد عمر -رضي الله عنه-، والحمد لله رب العالمين.