• محاضرة في الأردن
  • 2024-02-19
  • عمان
  • الأردن

بيت في الجنة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نَبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم عَلِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا عِلماً وعَملاً مُتقبلاً يا ربَّ العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القُربات وبعد:
فيا أيُّها الإخوة الأكارم، عنوان لقائنا اليوم بيتٌ في الجنَّة، لو أنَّ إنساناً حاز بيتاً في أرقى أحياء العاصمة، فإنه يُسرُّ به سُروراً عظيماً، ولو قيل له: إننا سنُملّكك بيتاً في مدينةٍ من المدن العالمية بإطلالة رائعةٍ فخمة على بحرٍ من البحار، أو جبلٍ أخضَر من الجبال، لسُرَّ بذلك سروراً عظيماً، الإنسان يُحبُّ التَملُّك، يُحبُّ الجمال، يُحبُّ العطاء، يُحبُّ الكمال، كلُّ إنسانٍ منّا يُحبُّ الجمال والكمال والنوال، فطرة فطره الله عليها إذا رأى شيئاً جميلاً أحبَّه، طفل يأخذ بالألباب، يُسرّ ينظر إليه، وردةٌ جميلة ينظر إليها، يُحبُّ الجمال، ويُحبُّ الكمال، لو أنَّ إنساناً وقف معه موقفاً كاملاً فصَدَق معه، أو كان أميناً في موقفه معه، أو قام بموقفٍ نبيل، شهامة، مروءة، يُحبُّ ذلك، و يُحبُّ النوال يعني العطاء، يُعطى شيئاً فيُحبُّه، فالإنسان إذا قيل له هذا بيت فيه جمال، وفيه عطاء، وفيه كمال، لا شكَّ أنه يُسرّ، عطاء ربنا جلَّ جلاله ليس في الدنيا، لا يليق بعطاء الكريم أن يُعطيك عطاءً في الدنيا ينقطع، عطاء الدنيا ينقطع، والكريم لا يُعطي عطاءً ينتهي بالموت، الكريم إذا أعطى، أعطى الأبد، أعطى عطاءً لا ينقطع، لذلك جعل الله عز وجل ثواب المؤمن في الجنَّة، وكل ما يلقاه في الدنيا من صنوف الإكرام، إنما هي دفعات بسيطة مُشجّعات لكن:

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجنَّة فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
(سورة آل عمران)


عطاء الله لا ينقطع ويُعطيك ما لا يخطر على بالك:
وبالمقابل الإنسان المُنحرف الضّال، الكافر، كل ما يلقاه في الدنيا من عذاب، من بُعد عن الله، من ضيق في الصدر، أيضاً هي دفعات بسيطة، لكن أيضاً عذاب المُنتقم لا ينقطع، لذلك جعله في نارٍ خالدين فيها أبدا، فعطاء الكريم لا ينقطع، فالله تعالى إذا أعطاك لا يُعطيك بيتاً في الدنيا، يُعطيك بيتاً في الجنَّة، لا يُعطيك قصراً في الدنيا، يُعطيك قصراً في الجنَّة، ما الجنَّة؟ الجنَّةُ ما لا عينٌ رأت، ولا أُذن ٌسمعت، ولا خطر على قلب بشر.

{ قالَ اللَّهُ: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. }

(صحيح البخاري)

كلنا لنا مشاهدات، (عَيْنٌ رَأَتْ)، أنا بالنسبة لي شخصياً، لو سألتني ماذا شاهدت من دول العالم؟ أعدُّها لك على أصابع اليدين، زرت هذه البلاد فقط، عن ماذا سمعت؟ أقول لك سمعت الكثير، سمعت عن الولايات المتحدة الأمريكية، وسمعت عن استراليا، وسمعت عن القطبين، لكن لم أزرها، عيني لم ترها لكنني سمعت عنها، (ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ،)، حسناً ما الذي خطر في بالك؟ الخواطر لا حدود لها، أضيق دائرة دائرةُ المرئيات، الأوسع المسموعات، الأوسع الخواطر، يعني لو خطر ببالي الآن أنَّ شجرةً بطول ناطحة سحاب، غير موجودة لكن خطرت في بالي.
في الجنَّة (ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ)، حتى الخواطر لا يمكن أن تدرك ما أعدَّه الله تعالى في الجنَّة لمن أطاعه، فإذاً عندما نتحدث عن عطاء الكريم، نتحدث عن الجنَّة، نتحدث عن الآخرة، وما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المِخيط " إبرة الخياطة" إذا غُمِس في مياه البحر، فلينظر أحدكم بما يرجع.

{ واللهِ ما الدنيا في الآخرةِ إلا مثلُ ما يجعلُ أحدُكم إصبعَه في اليمِّ ، فلينظر بم يرجعُ }

(صحيح مسلم)

ضع الإبرة في البحر واسحبها كم تأخذ الإبرة من البحر؟ هذا ما أخذته الدنيا من الآخرة، فعطاء الكريم لا ينقطع.

امرأة فرعون ثبتت على إيمانها بالرغم من ظروفها الصعبة:
هناك أحاديث شريفة دلّت على أعمالٍ طيبة، يبني الله تعالى لصاحبها بيتاً في الجنَّة، نبدأ بآيةٍ كريمة وهي قوله تعالى:

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجنَّة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
(سورة التحريم)

امرأة فرعون كانت مُؤمنة، أين كانت تعيش؟ في قصر فرعون، وهي مؤمنة، وزوجها أكفر كُفار الأرض الذي قال:

فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24)
(سورة النازعات)

وقال:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
(سورة القصص)

ومع ذلك في هذه الظروف العصيبة الصعبة، كانت مؤمنةً ثابتةً على إيمانها، لماذا ضربها الله مثلاً للذين آمنوا هذه المرأة؟ لأنّك مهما كانت ظروفك صعبةً لن تكون في قصر فرعون.
يعني إذا إنسان قال والله أنا صعب جداً، وضعي بالعمل لا يسمح لي أن أكون مُتديّن وأُصلّي، كل من حولي بعيدين، هل هذا عُذرٌ مقبول؟ لا والله، إذا إنسان قال والله الشهوات جداً جداً مُنتشرة يعني أنا أين أذهب بعيوني؟ أين أذهب بشهوتي، أنا أضطر أن أُجامل ببعض القضايا، الرشاوى، أريد أن أُجامل العصر، أو أطلق بصري في الحرام، أو أفعل الحرام، الوضع صعب، هل هذا أشد، أم أن تكون في قصر فرعون وأنت مؤمن؟
فلذلك (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ)، أولاً هي امرأة، ما قالت أنا تَبَع لزوجي وزوجي كافر، ثانياً لو قالت أنا تَبَع لزوجي لنالت من الميزات ما لم يناله أحد، زوجة والعياذ بالله كما يدعي، زوجة الإله، الذي يأمر وينهى في نظر الناس، لكنها ما قالت ذلك، ما قالت أنا كما يريد زوجي، قالت: أنا لي ديني الذي أعتزُّ به، فهي في قصر فرعون آمنت بالله وتعرَّضت للعذاب، وتعرَّضت للضغوط حتى تترك دينها لكنها رفضت، فقد ورد في بعض التفاسير، أنَّ فرعون لمَّا أراد أن يُثنيها عن دينها جعل يُعذبها، فقالت: (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجنَّة) فنظرت في السماء فأراها الله تعالى بيتها في الجنَّة، فضحكت حين رأت بيتها في الجنَّة، فقال فرعون لزبانيته، ألا تعجبون من جنونها؟ نُعذّبها وهي تضحك! هو لا يدرِ ما الذي يحدث، هي رأت مقامها عند الله.

بيتُ الجنَّة عَظَمته في أنه عند الله عز وجل:
والإنسان عند موته أحياناً يكون في أسعد لحظات حياته، لِما يرى من نعيم الله تعالى له، فقبض الله روحها وهي على هذه الحال، (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجنَّة)، ما قالت رب ابنِ لي بيتاً في الجنَّة، وما قالت ربِّ ابنِ لي بيتاً في الجنَّة، عندك، قالت: (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجنَّة)، يعني قدّمت الجار على الدار، العوام يقولوا: الجار قبل الدار، إذا أردت أن تشتري بيت تسأل عن الجوار قبل الدار، فإذا قيل لك أنَّ الجوار جيدون ولو كان البيت دون طموحك نوعاً ما، تقول الجار قبل الدار، لو كان أغلى من الثمن الذي وضعته، تقول يكفيني أنَّه بجوار المسجد، أو بجوار فلان من العلماء.
وأنا أعلم قصةً واقعية، عدة أبنية سكنها أحد الرجال الصالحين، يعني بيعت العمارة في أسابيع معدودة، صار الناس يقولوا جيرت فلان نأخذ فوراً، الجار قبل الدار، فامرأة فرعون قالت: (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجنَّة)، فقدّمت الجار على الدار، تريد جوار الله، فالبيت في الجنَّة ليست قيمته فقط من عظمته مما فيه، من صنوف النعيم، الأمر أعمق من ذلك بكثير، الأمر أنه عند الله، (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجنَّة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، ويُستنبَط من فعل امرأة فرعون، أنَّ المرأة مستقلةٌ في دينها عن زوجها.

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۗ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
(سورة فاطر)

ولذلك ضربها الله تعالى مثلاً، فالمرأة مستقلة بدينها عن زوجها، فلا تقول مثلاً زوجي أمرني بذلك، زوجي طلب مني ذلك، إذا كان ما يطلبه حراماً، فلا ينبغي أن تطيعه في حرام، (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجنَّة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

أعمال يبني الله تعالى لصاحبها بيتاً في الجنَّة:
بعض الأحاديث الشريفة التي تَعِد ببيت في الجنَّة، أمور بسيطة يستطيعها كل إنسان، وجزاءُها بيتٌ في الجنَّة، الأمر الأول رجلٌ من الرجال جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
"يا رسول الله إن لفلانٍ نخلةً، وأنا أقيم حائطي بها، بستاني أريد أن أبنيه، فالنخلة تُعيق البناء تأتي بيني وبينه، وأنا أُقيم حائطي بها، فأمُرْهُ حتى أُقيم حائطي بها، أن يُعطيني نخلته، أي يتنازل عن النخلة، فقال: أعطِه إياها بنخلةٍ في الجنَّة، هذا ليس بيت بل نخلة، النبي صلى الله عليه وسلم شجّعه، تنازل لجارك عن نخلتك، حتى يُقيم بيته بشكلٍ طبيعي، ولك نخلةٌ في الجنَّة"، فالرجل لم يقبل بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأخذ حقَّاً لشخص لا يريد أن يتنازل عنه، فأتاه أبو الدحداح رضي الله عنه فقال له:" بِعني نخلتك ببستاني كله، ففعل، فأتاه فقال: ابتَعتُ النخلة بحائطي، قدّمت الحائط وأخذت النخلة لأُعطيها للرجل وآخُذ أنا نخلةً في الجنَّة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كم من عِذقٍ رداح، ليس نخلةً واحدة، كم من عِذق يعني ثمار النخلة، رداح يعني مُمتد لأبي الدحداح في الجنَّة، فأتى زوجته فقال: اخرجي من الحائط، لقد بعته بنخلةٍ في الجنَّة، فقالت زوجته: ربح البيع ربح البيع".

{ أنَّ رجُلًا قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لفُلانٍ نَخلةً، وأنا أُقيمُ حائطي بها، فأْمُرْه أنْ يُعطيَني حتى أُقيمَ حائطي بها، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَعطِها إيَّاه بنَخلةٍ في الجنَّة فأَبى، فأَتاه أبو الدَّحْداحِ فقال: بِعْني نَخلتَكَ بحائطي، ففعَلَ، فأَتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي قدِ ابتَعْتُ النَّخلةَ بحائطي، قال: فاجعَلْها له، فقد أَعطَيْتُكها، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كم من عِذقٍ رَداحٍ لأبي الدَّحْداحِ في الجنَّة، قالها مِرارًا، قال: فأَتى امرأتَه فقال: يا أُمَّ الدَّحْداحِ، اخرُجي منَ الحائطِ؛ فإنِّي قد بِعْتُه بنَخلةٍ في الجنَّة، فقالت: ربِحَ البَيعُ، أو كلمةً تُشبِهُها. }

( إسناده صحيح على شرط مسلم)

بيعة رابحة إذا قدَّم الإنسان شيء يسير ويأخذ مقابله شيء عظيم، فالمُنفِق اليوم الذي يتنازل عن شيء من حقه في مقابل سداد دين إنسان، أو تفريج كُربة عن مُعسِر، أو مداواة مريض، أو إغاثة الذين لا يجدون طعاماً، يعني هذا الدينار الذي يدفعه رابح، بَيع رابح لأنَّك تُقدِّم اليسير وتأخذ الكثير.
يقول صلى الله عليه وسلم:

{ أنا زعيمٌ ببيتِ في رَبَضِ الجنَّة لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّا،وببيتِ في وسطِ الجنَّة لمَن تركَ الكذبَ و إن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنَّة لمَن حَسُنَ خُلُقُه. }

( صحيح أبي داوود)

أنا زعيمٌ يعني أنا ضامنٌ، كفيلٌ، الزعيم يعني ضامن، وكفيل، ولذلك كان يُسمّى الزعيم زعيماً، لأنه كافل ضامن، إذا تكلم كلامه مضمون، رَبَضِ الجنَّة أي أدنى الجنَّة ( لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّا، وببيتِ في وسطِ الجنَّة لمَن تركَ الكذبَ و إن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنَّة لمَن حَسُنَ خُلُقُه).
هذه ثلاثة بيوت أدنى وأعلى ووسط، لِمَن؟ (لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّا) يعني نعوِّد أنفسنا إذا كنت في مجلس ودخلت في جدال، وأصبح الجدال مِراءً ، يعني كل شخص يريد أن يُثبِت حُجّته على الآخر في قضيةٍ لا تُقدّم ولا تؤخِّر، وأنت تعلم أنَّك مُحقّ، وإنَّ ما تقوله مبني على عِلم، لكن وجدتَّ أن المِراء قد اشتد، وأصبح لا طائل وراءه سكتت، زعموا أنَّ سكوتك فُهِمَ منه أنك ضعيف وليكن، هناك بيت في ربَض الجنَّة.
الإنسان أحبابنا الكرام، في النقاش والجدال غالباً ما يُعلِّق أفكاره بكرامته، وهذا غلط، يعني بلحظة المِراء يكون هو يرى أنَّ فكره أو الفكرة التي يطرحها هي كرامته، فإن سقطت فكرته، بعقله الباطن يظنّ أنَّ كرامته سقطت، هذا غير صحيح ، فيشتدّ الجدال، ولذلك الله تعالى قال:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
(سورة النحل)


المؤمن لا يكذِب فالكذب يتناقض مع الإيمان:
ما قال بالحُسنى بل بالأحسن، يعني إذا وجدت كلمتين، كلمة حسنة وكلمة أحسن، دَع الحسنة وخُذ الأحسن منها، حتى في نهاية المطاف الكلام الجميل يجعلهم يقبلون بحجتك، لأنه كما قلت لكم، الناس يربطون أفكارهم بكرامتهم، هو نضاله حتى يُثبت فكرته، ليس لإثبات الفكرة، ولكن لأنه يشعر بعقله الباطن، بأنه إذا خرج مُخطِئاً من هذا الحوار، فقد نيل منه، وقد انتُقِصَت كرامته، لا يوجد علاقة، كرامتك محفوظة، وأنت تركت المِراء إرضاءً لله تعالى، ولك بيتٌ في ربَض الجنَّة، في وسط الجنة لِمن ترك الكذب، وفي رواية ولو مازِحاً، المؤمن لا يكذب.
المؤمن ممكن أن تزلَّ قدمه بشهوة، فيستغفر الله ويتوب إليه فوراً، أما الكذب يتناقض مع الإيمان، لأنَّ الكذب ليس شهوةً، الكذب تَعمُّد، إطلاق البصر شهوة، المال شهوة، فيُمكن للإنسان أن تزلَّ قدمه فيتوب فوراً إلى الله، يا ربِّ تُبتُ إليك، وربنا يقول: و أنا يا عبدي قبلت، أما الكذب فهو تَعمُّد، شيءٌ ليس له علاقة بالشهوات، يعني لا يوجد شيءٌ بداخلك يدفعك إلى الكذب، لكن هذا الإنسان الكاذب يتعمَّد، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:

{ عليكُم بالصِّدقِ؛ فإنَّ الصِّدقَ يَهدي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنَّة، وما زالَ الرَّجلُ يصدُقُ ويتحَرَّى الصِّدقَ، حتَّى يُكتَبَ عند اللهِ صدِّيقًا، وإيَّاكم والكذبَ؛ فإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفُجورِ، وإنَّ الفُجورَ يهدي إلى النَّارِ، وما يزالُ الرَّجلُ يكذِبُ ويتحَرَّى الكذبَ، حتَّى يُكتَبَ عند اللهِ كذَّابًا. }

(الألباني صحيح)

يتحرّى الكذب يبحث عنه، حتى يُكتَبَ عند اللهِ كذَّاباً، فالمؤمن لا يكذب، ومن ترك الكذب له بيتٌ في وسط الجنَّة.

الخُلُق الحسن يُقرّبك من النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة:
أما بيت في أعلى الجنَّة لِمن حَسُنَ خُلُقه:

{ لمْ يَكُن النبيَّ صلّى اللهْ عليهِ وسلّم فاحِشاً ولا مُتَفَحِّشاً،وكان يقولُ: إنَّ مِن خِيارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أَخْلَاقَاً. }

(صحيح البخاري)

{ إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا ، وإنَّ مِن أبغضِكُم إليَّ وأبعدكم منِّي يومَ القيامةِ الثَّرثارونَ والمتشدِّقونَ والمتفَيهِقونَ، قالوا : يا رسولَ اللَّهِ، قد علِمنا الثَّرثارينَ والمتشدِّقين فما المتفَيهقونَ ؟ قالَ : المتَكَبِّرونَ }

(صحيح الترمذي)

أقرب الناس مجلساً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاسُن الناس أخلاقاً، وحُسن الخُلُق يشمل كل ما في الأخلاق من تواضع، ومن كرم، ومن حب، ومن إيثار، ومن عفو، ومن تسامح، كله يندرج تحت حُسن الخلق، أن يكون خُلق الإنسان حَسناً.

اعتيادك المساجد يجعل لك بيتاً في الجنَّة:
يقول صلى الله عليه وسلم:

{ مَن غَدَا إلى المَسْجِدِ ورَاحَ، أعَدَّ اللَّهُ له نُزُلَهُ مِنَ الجنَّة كُلَّما غَدَا أوْ رَاحَ. }

( صحيح البخاري)

مِمَا يبني لك بيتاً في الجنَّة نُزُل، كانوا يقولوا على الفنادق قديماً نُزُل، ينزل بها الإنسان، فمَن غدا إلى المسجد أو راح .... نزلت إلى صلاة الفجر ورجعت، نزلت إلى صلاة الجمعة ورجعت، نزلت إلى إن شاء الله غداً يبلّغنا رمضان، نزلت إلى قيام الليل ورجعت، كلما غدا أو راح أعدَّ الله له نُزُلاً في الجنَّة، فتخيل كم يكون للإنسان من منازل عند الله تعالى في الجنَّة باعتياده المساجد.
يقول صلى الله عليه وسلم:

{ من صلَّى في اليومِ و الليلةِ اثنتي عشرةَ ركعةً تطوُّعًا ، بنى اللهُ له بيتًا في الجنَّة : أربعًا قبلَ الظُّهرِ، و ركعتَين بعدها، و ركعتَين بعد المغربِ، و ركعتَينِ بعد العشاءِ، و ركعتَينِ قبلَ صلاةِ الغَداةِ }

(الألباني صحيح الجامع)

اثنتي عشر ركعة في اليوم والليلة تطوعاً لله، يعني السُنَّن الرواتب، أوضحها حديث الترمذي بيَّن ما هي الاثنتي عشر ركعة، فقال: (أربعًا قبلَ الظُّهرِ، و ركعتَين بعدها، و ركعتَين بعد المغربِ، و ركعتَينِ بعد العشاءِ، و ركعتَينِ قبلَ صلاةِ الغَداةِ)، مجموعها اثنتي عشر ركعة وهي السُنَّن الرواتب، من صلّاها في يومه وليلته بنى الله له بيتاً في الجنَّة، يعني من واظب عليها، من داوم عليها، تطوعاً، يعني عندنا شيء اسمه فريضة، يعني لا يوجد مؤمن لا يُصلِّ الصلوات الخمس، لكن كيف يرقى الإنسان عند الله ويأخذ الدرجات في الجنَّة، بالتطوع.

الإنسان يرقى في الجنَّة بالتطوع وكلما كَثُرت الأعمال كان المكان بالجنَّة أعلى:

وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
(سورة المعارج)

ربع العشر، اثنان ونصف بالمئة (لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)
وفي آية أُخرى:

وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
(سورة الذاريات)

هناك حقٌّ معلوم اثنان ونصف بالمئة، وهناك حقّ للسائل والمحروم مفتوح، فالاثنان والنصف بالمئة هذا على العين والرأس، وإن شاء الله من يؤدي الفرائض له الجنَّة، برحمة الله وفضله، لكن الدرجات والبيوت والقصور هذه تحتاج إلى المزيد على الفرض، المزيد في الصلاة الرواتب، الحد الأدنى، في الزكاة التطوع الصدقات، في المال حقٌّ سوى الزكاة كما قال أهل العِلم، الزكاة اثنان ونصف بالمئة.
"أحد الصالحين قيل له كم الزكاة؟ قال: عندنا أم عندكم؟ قال: ما عندنا وما عندكم؟ قال: عندكم ربع العشر، قال: وعندكم؟ قال: العبد وما مَلَك لسيده، لا نحسب لأننا كلنا لله"، إنّا لله، في المال حقٌّ سوى الزكاة.
الحج فرض، ويوجد عمرة تطوع، ويوجد حج نفل، فربنا عز وجل وضع لنا دائماً حدّ أدنى، وحدّ أعلى، أو حدّ مفتوح، الصيام يوجد شهر رمضان، الذي يؤدي شهر رمضان أموره تمام، وما عليه صيام غيره ولا يوم، إلا إذا أفطر في رمضان فعليه قضاء ما أفطر، وأموره بخير، لكن الذي يُحبّ أن يصوم ويكثِر في شعبان، هذا الذي يرفع مقامه، اثنين وخميس، يوم عرفة، يوم عاشوراء، ست من شوال ، فربنا عز وجل أعطانا الحدّ الأدنى وقال لك الحدّ الأعلى مفتوح، وتسابقوا بالدرجات في الجنَّة بأعمالكم، ادخلوها برحمتي وتقاسموها بأعمالكم.
يُدخلنا ربنا جلَّ جلاله الجنَّة برحمته، ليس لنا عمل يوازي الجنَّة، أبداً، ثم يقول تقاسموها بأعمالكم، فكلما كثرت الأعمال يكون المكان في الجنَّة أعلى.

{ إنَّ في الجنَّة غُرَفًا يُرى ظاهرُها مِن باطنِها، و باطنُها مِن ظاهرِها، أعدَّها اللهُ لمَن أطعَم الطَّعامَ، و أفشَى السَّلامَ، و صلَّى باللَّيلِ و النَّاسُ نيامٌ . }

( أخرجه أحمد وابن حبان)

يقول لك اليوم عملنا غرفة يرى الإنسان من خلالها ما يشاء.
(أعدَّها اللَّهُ لمن أطعمَ الطَّعامَ) إطعام الطعام أيُّها الكرام يجمع الناس على الخير، إطعام الطعام فيه فضل، طبعاً يوجد إطعام الطعام للفقراء لكن هنا على المُطلق، لا شكّ أنَّ إطعام الطعام للفقراء مطلوب، لكن هنا المُطلق على إطلاقه، يعني الإنسان الذي يطعم الطعام له هذه الغرف في الجنَّة، (وأفشَى السَّلامَ)، لم يقول وسلَّم بل قال: (وأفشَى السَّلامَ)، الإفشاء يعني أن ينشر السلام في كل مكان، يعني يدخل السلام عليكم، بالحافلة السلام عليكم، يدخل إلى مكتبه، يوجد عامل بسيط على الباب، مِن جبر خاطرهِ أن تقول له السلام عليكم، كيف حالك؟ اجبُر بخاطرهِ فالناس تُسلّم عليه، (وأفشَى السَّلامَ)، لم يجعله خاصّاً بمجلس أو خاصّاً بأُناس مُعينين، وإنما أفشى السلام بين الناس، يجعل ديدنه أن يسلّم على الناس.
واليوم من ثقافة العصر الحديث، أنَّ الناس استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، أصبحوا يُسلّموا بالعبارات الحديثة، إذا دخل هاي وإذا خرج باي، وهذا ليس فيه أجر، فضلاً على أنه ليس من ثقافتنا وليس من ديننا، ولا مِن لغتنا، في الجاهلية قال عِمت صباحاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: قُل السلام عليكم، لعمير بن وهب، قال له: أبدَلنا الله بتحيةٍ خيرٍ من تحيتك، وهي صباح الخير فما بالك بالعبارات الحديثة، لو إنسان أراد أن يقول صباح الخير، فليقُل أولاً السلام عليكم، ثم صبّحكم الله بالخيرات، لكن ابدأ الناس بالسلام،(وأفشَى السَّلامَ)،(و صلَّى باللَّيلِ و النَّاسُ نيامٌ )انظر للمنزلة، الناس نيام وهو قام ليصلّي في جوف الليل، هذا إن شاء الله له هذه الغرف في الجنَّة، وأول ما سمع المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قَدِم قُباء أن قال:

{ يا أَيُّها الناسُ ! أَفْشُوا السلامَ ،وأطْعِمُوا الطعامَ ، وصِلُوا الأرحامَ ، وصَلُّوا بالليلِ والناسُ نِيَامٌ ، تَدْخُلوا الجنَّة بسَلامٍ }

(الألباني صحيح الجامع)

أول ما سمعه الناس من رسول الله، أطعِموا الطعام، المؤمن كريم،

وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
(سورة الإنسان)

وأيضاً مِمَا يجعل الله تعالى لصاحبه بيتاً في الجنَّة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّكُمْ قدْ أكْثَرْتُمْ، وإنِّي سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: مَن بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى، قالَ بُكَيْرٌ: حَسِبْتُ أنَّه قالَ: يَبْتَغِي به وجْهَ اللهِ، بَنَى اللَّهُ له بَيْتًا في الجنَّة. وَقالَ ابنُ عِيسَى في رِوَايَتِهِ مِثْلَهُ في الجنَّة. }

(صحيح مسلم)

بَنيت لله مسجداً تبتغي به وجه الله، يعني ليس المقصود أن توضَع رُخامة على المسجد، وتُصَوَّر، وتخرج إلى الإعلام بأنَّ فُلاناً بنى المسجد، قد يحدث هذا عَرَضاً، لكنه ليس مقصوداً ابتداءً، المقصود ابتداءً أن تُرضي الله تعالى، عَلِم الناس أو لم يعلموا، (بَنَى اللَّهُ له بَيْتًا في الجنَّة)، وقد إنسان يقول ما عندي ما أبني به بيت، لكن عندي ما أُساهم، قد تدخل إلى مسجد، فترى هذا المسجد سيوسّع أو يُرمّم، أو سيُبنى مسجد جديد في مكانٍ ما، فتضع شيئاً مِن مالِك، فيكون لك جزء من هذا البيت في الجنَّة.

الله تعالى أوصى بالضُعفاء والمريض ضعيف عند الله:
يقول صلى الله عليه وسلم:

{ مَن عادَ مريضًا ، أو زارَ أخًا لَهُ في اللَّهِ ناداهُ مُنادٍ : أن طِبتَ وطابَ مَمشاكَ وتبوَّأتَ مِنَ الجنَّة منزلًا }

(أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد)

هنا الأمر مُنوّع بين أمرين، عُدّت مريضاً، (أو زارَ أخًا لَهُ في اللَّهِ)، زيارة كهذه الزيارة اليوم، (ناداهُ مُنادٍ : أن طِبتَ وطابَ مَمشاكَ وتبوَّأتَ مِنَ الجنَّة منزلًا)، هُنا لا بُدّ من تعليق:
الأمر الأول: من عَادَ مريضاً، والمريض أحبابنا الكرام ضعيف، والله تعالى أوصى بالضُعفاء، والمريض قريب من الله، والدليل: أنَّ الله تعالى يقول:

{ إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أعُودُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قالَ: يا رَبِّ، وكيفَ أُطْعِمُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي، يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أسْقِيكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أمَا إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي. }

(صحيح مسلم)

(أَمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي) أي لوجدّت أجر ذلك عندي، أنا أعطيك الأجر، (قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟) لم يقُل لوجدّت ذلك عندي، بل قال لوجدّتني عنده، ربنا قريب من المريض، والمريض قريب من الله، لأن:

كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7)
(سورة العلق)

عندما يفتقر ويشعر بمرضه، يصبح قريباً من الله، وربنا عز وجل يصبح قريباً منه، يواسيه، يُطمئنه، يُكفّر ذنوبه، يرفع درجاته، فالمريض في عناية الله، فلمّا تزوره فأنت في عناية الله معه، ولك بيتٌ في الجنَّة.

الحُبّ في الله له منزلة كبيرة عند الله تعالى:
(أو زارَ أخًا لَهُ في اللَّهِ)، ليس الأخ النسبي، طبعاً الاخ النسبي مطلوب وأشد طلباً، لكن هنا عموم، في الله، أُخوّة في الله، ليست لمصلحة، ليست لدنيا، أخوّة في الله، ليس مريضاً لكن زرته، وهنا أيضاً تعليق بسيط، أحياناً الإنسان بحكم تجارته، بحكم عمله، يوجد سجل زيارات لا بُد منه للمصلحة العامة، يعني هو يجب أن يزور شريكه في العيد، من أجل استمرارية العمل، يجب أن يزور الشركة الذي هو آخذ وكالتها، بروتوكول، ويجب أن يأخذ معه أيضاً هدية، وهذا الشيء ليس عليه أي حرج، لكن الزيارة التي نريدها هي الزيارة التي تكون خارج المصلحة نهائياً، زيارة لله تعالى لا يوجد فيها مصلحة، لأنَّ الله تعالى لمّا أرادَ أخٌ أن يزور أخاً له في قرية، قرية بعيدة مضى إليه، فأرسل الله على مدرجتِه مَلَكاً، على طريقه، "فقال له المَلَك: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمةٍ ترُبّها، يعني في مصلحة؟ قال: لا، غير أنني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك، لأخبرك بأن الله يحبك كما أحببته".

{ زارَ رجُلٌ أخًا لَهُ في قريَةٍ فأرْصَدَ اللهُ لَهُ ملَكًا علَى مَدْرَجَتِه ، فقال : أينَ تُرِيدُ ؟ قال : أخًا لِي في هذِهِ القرْيَةِ ، فقال : هل لَّهُ عليكَ مِنْ نعمةٍ ترُبُّها ؟ قال : لَا ؛ إلَّا أنِّي أُحِبُّه فِي اللهِ ، قال : فإِنَّي رسولُ اللهِ إليكَ أنَّ اللهَ أحبَّكَ كمَا أَحْبَبْتَهُ. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

فهذا الحُبّ في الله أحبابنا الكرام منزلة عالية، نحن إن شاء الله نُحبُّ بعضنا في الله، نزور من غير مصلحة، هذا زيارة الأخ في الله تعالى.
وفي تعليق آخر، أحياناً الإنسان بحكم الحالة الاجتماعية الذي هو فيها، يزور مثلاً صهره زوج أخته، لديه ثلاث أخوات متزوجات، الأخوين قريبين منه والثالث وضعه المادي ضعيف، فسكن في ظاهر المدينة، بعيد عن العاصمة، فالقريبان يزورهما، لكن ينسى هذا البعيد، وهذه الأخت يُجبَر خاطرها إذا طرق الباب عليها أخوها، وتعتز بأخيها أمام زوجها وأهل زوجها، فينسى البعيد ويأتي إلى القريب، وهذا أيضاً غير صحيح، دائماً الفقير والضعيف أشدُّ حاجةً لزيارتك من القوي والغني، لأنَّ القوي والغني كثيرٌ من الناس يزورونهم، لكن إذا قصدت إنسان ضعيف و زرته، قريب، ابن عمك لا أحد يتفقّده في العيد، وبيته بعيد، ركبت السيارة وقلت أريد أن أزوره في هذا العيد، دائماً نضع في برنامج الزيارة أن يكون الأشدُّ فقراً وضعفاً، مقدَمين على الأكثر غنىً وقوةً، فهذا فيه رضا لله تعالى.
(مَن عادَ مريضًا ، أو زارَ أخًا لَهُ في اللَّهِ ناداهُ مُنادٍ : أن طِبتَ وطابَ مَمشاكَ وتبوَّأتَ مِنَ الجنَّة منزلًا)، هذه أعمال بسيطة، رحمة الله أنه جعل لها بيتاً في الجنَّة، ماذا يفعل من صلّى في اليوم والليلة اثنتا عشر ركعة في عشر دقائق؟ ماذا يفعل من زار أخاً له زيارة أُنس وحُب؟ ماذا يفعل من غدا إلى المسجد أو راح؟ يعني الدنيا تستهلك ثمانين بالمئة من أوقاتنا، فما الذي نفعله عندما نُخصّص وقتاً لله تعالى؟ فيُبنى لنا مقابله بيتٌ في الجنَّة! والله لو قيل بيت في باريس وافعلوا ذلك لفعلناه جميعاً، فكيف بيتٌ في الجنَّة؟! في الجِنان عند الله:

{ قالَ اللَّهُ: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. }

(صحيح البخاري )

اللهم إنَّا نسألك أن تبني لنا جميعاً بيتاً في الجنَّة، نسألك يا الله أن تبني لكل شهيدٍ من شهداء غزَّة بيتاً في الجنَّة، نسألك يا الله أن تعوض كل من فَقَد بيته بالهدم والقصف في غزَّة بيتاً في الجنَّة، اللهم إنَّ القريب والبعيد قد تخلّوا عنهم، وأنت وحدك معهم يا الله، فاجعل لهم قصوراً عندك يا الله، في أعلى الجِنان، اللهم داوِ جرحاهم، واشفِ مرضاهم، وعافِ مبتلاهم، وهيئ لهم الخير يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل رحماتك، وبركاتك، وصلواتك، تُصَبُّ على أهل هذه الديار صبَّاً صبَّاً، ولا تجعل عيشنا ولا عيشهم كدَّاً كَدَّاً.
اللهم ارحم صاحب هذه الدار، واجعله في أعلى عليين الجِنان يا أرحم الراحمين، واغفر له ذنبه، وتجاوز عنه، وارفع درجته، وزِد في إحسانه، وتجاوز عن إساءته يا أرحم الراحمين، وصلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.