السلامة والسعادة

  • محاضرة في الأردن
  • 2024-04-22
  • عمان
  • الأردن

السلامة والسعادة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا عِلماً وعَملاً مُتقبَّلاً يا ربّ العالمين، اللهم أخرِجنا من ظُلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القُربات.

الناس جميعاً لهم مطلبان أساسيان هُما السلامة والسعادة:
وبعد أيُّها الإخوة الأحباب: فإنَّ الناس جميعاً، في كل زمانٍ وفي كل مكان، وعلى اختلاف انتماءاتهم، وأعراقهم وأنسابهم، يشتركون في شيءٍ واحد، وهو أنَّهم جميعاً بلا استثناء، لهُم مَطلبان أساسيان، فكلٌ من الناس يبحث عن سلامته وعن سعادته، كل الناس، فمِن بحثِه عن سلامته يتجَّنب كل ما يؤذيه، هَب أنك تُريد أن تعبُر الشارع ومرَّت سيارةٌ مسرعة، فإنك تعود فوراً، هذا من بحثك عن سلامتك، هَب أنه قيل لك إنَّ هذا الدواء مُضِرٌ فإياك أن تأخذه، فإنك تتركه، مثلاً.
الناس يبحثون عن سلامتهم فيتجنّبوا ما يؤذيهم، وفي الوقت نفسه يبحثون عن سعادتهم، فيأتون كل ما يُدخِل البهجة إلى قلوبهم، فإذا قيل له هذه السهرة لطيفة فيها أصدقاء، فيها لهو، فيها شيء يُبهِج النفوس، يذهب إليها، يبحث الإنسان عن سلامته وعن سعادته.
والحقيقة أنَّ الناس عموماً مُتحيّرون في أسباب السلامة والسعادة، كثيرون مثلاً يجدون سعادتهم في المعاصي والآثام، ما ذاق غيرها فهو يعرف أنَّ سعادته في دور اللهو مثلاً، التي لا تُرضي الله تعالى، أو في مالٍ يكسبه من حلالٍ أو من حرام، لا فرق عنده، يجد سعادته هنا.
المسلم بحث عن السلامة والسعادة في مظانِّهما، ما معنى في مظانِّهما؟ يعني الذي يبحث عن اللؤلؤ في الصحراء، يبحث عن اللؤلؤ في غير مظانِّه، فلن يصل إليه، لأن اللؤلؤ لا يمكن أن يوجد في الصحراء، اللؤلؤ يحتاج أن تغوص في أعماق البحار، فمَن يبحث عنه في الصحراء، سيعود خالي الوِفاض، أمَّا مَن يبحث عن الشيء في مكانه، فيمكن أن يصل إليه، فالمسلم بحث عن السلامة والسعادة في مظانِّهما، بمعنى أنه رجع إلى الخبير

إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
(سورة فاطر)

فالله تعالى هو الذي خلقنا، وهو الذي رزقنا، وهو أعلم بما يُسلِّمُنا، وبما يُسعدنا، فإذا أخذت منه المعلومة فوراً، بأنَّ سلامتك في كذا وسعادتك في كذا، فقد وفّرت الجهد الكبير في البحث، يعني أنا الآن في هذه الغرفة فَقدّتُ هاتفي، والغرفة فيها أشياء كثيرة، ربما اختفى الهاتف تحت أحدها دون أن أشعر مثلاً، فعندي طريقتان للهاتف، إمَّا أن أبحث وقد يستغرق نصف ساعة، وإمَّا أن أسأل فيقول لي أحدهم هنا الهاتف، أنت وضعته هنا ونسيت، فالطريقة الأسرع أن أسأل، فيُخبرني الخبير بالمكان، والطريقة الأطول والأعقد أن أبحث بنفسي، وقد أصِل وقد لا أصِل، لذلك في القرآن الكريم في سورة المُلك:

وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)
(سورة الملك)


الإنسان إمَّا أن يسمع وإمَّا أن يعقِل:
يعني لو أصَخنا السمع للأنبياء، لأهل العِلم، لمَن عندهم خبرة، كانوا أعطونا المعلومة فوراً، أو لو بحثنا عنها بعقولٍ صافية، بشكل صحيح لوصلنا إليها فما وصلنا إلى النار، فالإنسان إمَّا أن يسمَع وإمَّا أن يَعقِل، إمَّا أن يُخبره أحد، أو أن يبحث بنفسه، فالمسلم لمَّا أراد أن يصِل إلى السلامة والسعادة اختصر الطريق في أنّه سأل عنها الخبير، والخبير هو الله،(وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) فهو جلَّ جلاله أعلم بما يُصلِح عبده، وأعلم بما يُسلِّمه وأعلم بما يُسعده.
الآخر قضى وقته يتنقل، السعادة بالمال جمع مالاً، فلمَّا وصل إليه فَقدَ بعضاً من صحته، فما استمتع بالمال، ثم قال ليتني أفقِدُ مالي كله وتُعاد لي صحتي، وفي اللحظة التي ظنَّ أنَّ السعادة كلها في الصحة، امتلأ فتوةً وشباباً، فلم يجد مالاً يُنفِق منه ليُحقّق ما يظنه سعادةً، يعني ما اجتمعت له الأسباب الخارجية التي تُحقّق سعادته، وقيل له السعادة في تحقيق الشهوات، فذهب من بيت لهو إلى بيت لهو والعياذ بالله، ليرجِع بعد نهاية المعصية واللذّة بقلبٍ مُنقبِض، كسير، ضعيف، ذليل أمام شهوته، والبعض قيل له السعادة في الشُهرة، فأصبح مُغنّياً لامعاً أو مشهوراً، ولمّا بلغ من الشُهرة ما بلغ، وجد نفسه لم يُحقّق شيئاً من السعادة، وإنما زادته الشُهرة همّاً وضيقاً، فهو يبحث لكن لم يصِل، المسلم قيل له، أُخبِر بنص الكتاب الحكيم والسُنَّة النبوية، أنَّ سلامتك في اتباع منهج ربِّك، بمعنى أنك إذا أتيت ما أمر الله، واجتنبت ما نهى الله عنه، فأنت في سلام، سلام مع نفسك، مع الكون من حولك.
حسناً هناك مصائب؟ طبعاً يوجد مصائب، لا تخلُ الدنيا، لكن سلامتك الحقيقية، الأبدية، هل هناك أعظم من السلامة من النار؟ أعظم سلامة أن ينجو الإنسان من نار جهنم، فإذا ظنَّ أنه قد سَلِم من كل مرض في الدنيا، ثم بعد الموت إلى نارٍ لا ينفذ عذابها فهل سَلِم؟ لا والله.

أقصر طريق للسلامة والسعادة هو اتباع منهج الله تعالى:
فالمسلم أُخبِر بأنَّ السلامة في أن تتّبِع منهج الله، فإذا اتبعت منهج ربّك فأنت في سلام، وأُخبِر أنَّ سعادتك في طاعة الله، في عملٍ صالحٍ تُدخِل به سروراً على قلب مسلم، في الرضا عمّا أعطاك الله، أُخبِر بذلك خبراً أيضاً، فسَلِم وسَعِد في الدنيا والآخرة.
فأقصَر طريقٍ للسلامة والسعادة هو منهج الله تعالى، اتباع المنهج

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(38)
(سورة البقرة)

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ(123)
(سورة طه)

لا يخاف مِمَا هو آت، ولا يحزن على ما مضى، ولا يضل عقله ولا تشقى نفسه، فما فاته من سعادة الدنيا أو الآخرة شيء.
قيل وهذا ذَكَره ابن الجوزي رحمه الله، قال: "مشّقة الطاعة تذهب ويبقى ثوابها، ولذُّة المعصية تذهب ويبقى عقابها"، رمضان انتهى، انقضى من خمسة عشر يوماً تقريباً، كان فيه مشقّة؟ طبعاً، الطاعة لها مشقّة، هي بالأصل تكليف، ولماذا سُمّيَ التكليف تكليفاً؟ لأنَّ فيه كُلفة، يعني ليس سهلاً على النفس، فرمضان انقضى، فيه مشقّة؟ نعم فيه مشقّة، الآن كلنا ماذا تذكُر من مشقّة رمضان؟ لا شيء، ما الذي بقي؟ الثواب إلى أبد الآبدين، جنة يدوم نعيمها، والذي أفطر في رمضان، ونام الليل في رمضان، حقّق لذّة، يعني استلذّ بالنوم، واستلذّ بالطعام، والناس مُمتنعون عن الطعام، انقضى رمضان على الطائع وعلى العاصي، انقضى على الطرفين، لكن مشقّة الطاعة ذهبت وبقي الثواب، ولذّة المعصية انقضت لكن بقي العقاب، والعياذ بالله.
الصلاة فيها مشقّة، كُلفة، صلاة الفجر مثلاً على وجه الخصوص، استيقاظ من الفراش الوثير لا سيما في ليالي الشتاء الباردة، التوجه للوضوء، إذا الصلاة في المسجد في مشقّة أكبر، والثواب أعظم، نذهب إلى المسجد، انقضى النهار، الناس جميعاً ناموا مساءً وانتهى، تعب النهار انقضى، لكن بقي ثواب الطاعة، وبقي عقاب المعصية.
فالإنسان العاقل يُركِّز على ما يبقى، لا على ما يفنى، الحاج يذهب إلى الحج، الحج فيه تعب ونَصَب وسهر وطواف وسعي وازدحام، وبعد انتهاء موسم الحج، انقضى الموسم، بما فيه من مشقّة، بقي الثواب.

{ سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ. }

(صحيح البخاري)

{ العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِما بيْنَهُمَا، والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

فإذاً كل شيء يمضي، اليوم إخواننا في غزَّة نسأل الله أن يُفرّج عنهم، هناك مَن يعيش مشقّة الطاعة، بما فيها من فَقد الأحباب، تدمير المنازل، صعوبة الحياة، بعض الجوع.

وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155)
(سورة البقرة)

ذاقوا كل ذلك، ما الذي بقي؟(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، فالذي صَبر بقيَ له البشرى، والذي ضعف وخان الأمانة، انقضى عليه أيضاً هذا الجوع، أو هذا الشِبَع إن أطعموه، لكن ما الذي بقيَ له؟ عقاب الخيانة، كل الدنيا هكذا، الدنيا كلها تمضي، فإمَّا أن يبقى الثواب، أو أن يبقى العقاب.

{ ما أنعمَ اللهُ على عبدٍ نعمةً، فحمِدَ اللهَ عليها، إلَّا كانَ ذلك أفضلُ من تلكَ النِّعمةِ و إن عظُمَت }

(الألباني السلسة الضعيفة)

يعني أنا شربت كأس ماء، وقلت الحمد لله، كأس الماء انقضى، شربته وارتويت به، دخل ثم خرج انتهى، لكن الحمد عندما انتهيت من الماء وقلت الحمد لله، ثواب الحمد إلى يوم القيامة، فالماء أفضل أم الحمد؟ الحمد (ما أنعمَ اللهُ على عبدٍ نعمةً، فحمِدَ اللهَ عليها، إلَّا كانَ ذلك أفضلُ من تلكَ النِّعمةِ)، لأنَّ الحمد على النعمة يبقى، أمَّا النعمة فتفنى، الحمد على النعمة هو بقاءٌ مع المُنعِم، أمَّا الانشغال بالنعمة، فالنعمة فانية، فانشَغِل مع مَن يبقى لا مع ما يفنى.

الطاعة تذهب وتبقى سعادتها والمعصية تذهب ويبقى عقابها:
كل شيء في الدنيا يمضي، هذا حال الدنيا، يوم أمس مضى علينا جميعاً، مَن أطاع الله فيه فذاك اليوم سيشهد له يوم القيامة، والعياذ بالله مَن عصا الله فيه، فهذا أيضاً يومه انقضى بلذّته لكن سيبقى العقاب.
فعودٌ على بدء، نحن نطلب السلامة والسعادة، والسعادة لا تكون إلا في رضا الله، والسلامة لا تكون إلا في اتباع منهج الله، كلاهما لا يكون إلا في ما يُرضي الله تعالى، أمّا الآخرون، الفلاسفة بحثوا عن السعادة في طروحاتهم، والمادّيون في مادّيتهم، والاشتراكيون في اشتراكيتهم، وكل واحد بحث، وبالمناسبة اليوم كل الناس والدنيا كلها منشغِلة بإصلاح أشياء الإنسان، يعني اليوم شركات ضخمة جداً من أجل أن تخترع لك هاتفاً، أول شيء كان أزرار تضغط الزر، بعد ذلك أصبح اللمس، ثم أصبح ببصمة العين، وفي المستقبل يمكن أن تُفكِّر بالرقم فيتصل الهاتف به، يقدّمون لك الراحة، بعد ذلك هناك حمّام (تواليت عربي) وبعد ذلك أصبح إفرنجي، ثم أصبح له أزرار، شيء للصوت وشيء لحرارة الماء، فالدنيا كلها مُنشغِلة بأن تُصلِح لك أشياءك اليوم، أن توفِّر لنا أكثر مقدار من الرفاهية والراحة، فالسيارة رفاهية، كانت نوافذها تعمل يدوياً بالمَنويل، ثم أصبحت بكبسة زر، فوجدوها صعبة فأصبحت إلكترونية، فكل شيء يقوموا بتحديثه من أجل إصلاح الأشياء، وهذه الأشياء كلها فانية، يعني هناك مبالغة اليوم بإصلاح الأشياء، ولا مانع من أنَّ الإنسان يتنعَّم، أحياناً أيضاً كل شيءٍ زادَ عن حَدّه انقلب إلى ضده، أصبح هناك مساوئ على صحة الإنسان، وعلى حركته بسبب هذه الرفاهية، لكن مَن ذا الذي يهتم بإصلاح الإنسان لا بإصلاح أشياءه، قلّة قليلة، مَن هو الذي يُفكِّر أنّه أنا بذاتي وأُصلِح أشيائي، وأُصلِح نفسي لتكون صالحةً للعرض على الله يوم القيامة، هؤلاء قِلّة، أسأل الله أن نكون منهم، يعني نحن أن نكون مِمَن يُصلِح نفسه ويهتم بإصلاح الآخرين، بإصلاح أبنائه، بإصلاح أُسرته، بإصلاح موظفيه، إصلاح البَشَر أصعب من إصلاح الأشياء بكثير، لذلك الناس تركوه واهتموا بإصلاح الأشياء، لأنه صعب.
فيا أيُّها الإخوة الأحباب: مفاد هذا اللقاء ونحن قريبوا عهد بشهر رمضان، والآن نصوم بفضل الله عزَّ وجل، سِتّاً من شوال

{ من صام رمضانَ وأتبعَهُ بستٍّ من شوالَ فكأنما صام الدهرَ }

(أخرجه الطبراني ومسلم)

ووَرَد في حديث أبي داوود بسندٍ صحيح، تفسير ذلك بأن صيام الشهر بعشر ة أشهُر، ثلاثون بعشرة ثلاثمائة، وصيام الستة بعشرة، ستين، أي ثلاثمائة وستون يوم، فإذا كرّر ذلك كل عام، كان كمَن صام الدهر كله، وكأنه ما أفطر، ربُّنا خلقنا لنربح عليه، لا ليربح علينا، فقال لك صُم ستة وثلاثون يوم، أُعطيك ثلاثمائة وستون يوم، يعني عرض، اليوم نحن إذا شاهدنا بالمجلة عرض، واحد مع واحد بنفس السعر، نقول اذهبوا واشتروا، يعطون على القطعة قطعة، لم يُعطِ أحدٌ على القطعة عشرة أبداً، إلا ربُّنا على اليوم عشرة، فنحن في طاعات ولله الحمد، فمناسبة اللقاء بعد رمضان، هو هذه المناسبة، أنَّ ما يبقى من الطاعة هو سعادتها، وما يبقى من المعصية هو عقابها، أمَّا العاصي يجد لذائذ، أكيد، ولو كان لا يجِد اللذائِذ، لما كان للتكليف معنى، أي لو أنَّ المعصية لم يكن بها لذّة، لتركها الناس جميعاً، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ الدُّنيا سجنُ المؤمنِ وجنَّةُ الْكافرِ }

(أخرجه مسلم)

لا نقول لا يوجد لذائذ بالمعصية، طبعاً هناك لذائذ، لكن أنا دقيق بكلمتي، أقول لذائذ لا أقول سعادة، نُريد أن نُبقي السعادة للطاعة، مفهوم شرعي.

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
(سورة هود)


الفرق بين اللّذة والسعادة:
أولئك شقوا، فالسعادة يقابلها الشقاء، الشقاء أن يستحق الإنسان النار، والسعادة أن يستحق الجنَّة، أمَّا اللذّة، هي شيءٌ طارق، ما الفرق بين اللذّة والسعادة؟
اللذّة شيء يأتي من الخارج، السعادة شيء ينبُع من الداخل، أي أنَّ اللذّة إذا واحد جلس بغرفة مغلقة وما معه شيء أبداً، مستحيل أن يشعُر باللذّة، يقول لك ضعوا لنا طعام حلو، طرفٌ آخر، امرأة، منصب ومكتب وهاتف، وإئمُر تُعطى، يحتاج إلى شيء، هذه لذّة، تحتاج إلى أشياء خارجية تُدعِّمُها، من الداخل لا يوجد لذّة إذا جالس وحده، السعادة تنبُع من الداخل، يعني ممكن إنسان يجلس في السجن ويكون سعيداً، كحال يوسُف عليه السلام، وممكن أن يكون بالغار ويكون سعيداً

{ قلتُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونحن في الغارِ لو أنَّ أحدَهم ينظرُ إلى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنا تحتَ قَدَمَيْهِ فقال يا أبا بكرٍ ما ظَنُّكَ باثنينِ اللهُ ثالثُهُما }

(أخرجه بخاري ومسلم والترمذي وأحمد)

ويمكن أن يكون في بطن الحوت:

وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
(سورة الأنبياء)

وفي النار إبراهيم وجد السكينة

قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69)
(سورة الأنبياء)

فالسعادة من الداخل، لذلك كان يقول ابن تيمية رحمه الله، وهو في سجنه وقد ذاق السجن، يعني لا يقولها كلاماً بكلام، وإنّما يقولها من واقعٍ عاشه، كان يقول: " ماذا يفعل أعدائي بي، بُستاني في صدري إن أبعدوني فبُعدي سياحة – سياحة ليست سياحة هي سياحةٌ مع الله وفي خلق الله- وإن سجنوني فسجني خَلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة"، فماذا يصنع أعدائي بي؟
إبراهيم ابن الأدهم كان مَلِك من جبلة من الساحل السوري، ومدفون هناك فيما أعتقِد، ذاق المُلك ثم ترك المُلك، انتهت ولايته، واتجه إلى العبادة والطاعة، وأصبح من العلماء العاملين، فقال بعد أن ذاق الاثنين، المُلك والطاعة والعبادة، قال: " لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف"، من سكينة، من رضا بقضاء الله " لقاتلونا عليها بالسيوف" بعد أن ذاق المُلك.
فاللَّذة تحتاج إلى عوامل خارجية، السعادة تنبُع من الداخل.
الأمر الثاني أنَّ اللّذة مُتناقِصة، يعني طارئة و مُتناقِصة، تأتي وفوراً تنزل، السعادة مُتنامية، كيف؟ يعني أنا ليس لدي سيارة، اشتريت سيارة وركنتُها أمام المنزل، كل ربع ساعة أخرُج إلى الشُرفة وأتفقّدُها، بعد ذلك كل ساعة، ثم كل يوم أتفقّدُها بأنَّ كل شيء بخير، بعد ذلك أول ضربة تكون صعبة جداً، نذهب إلى أول مُصلِح للسيارات ثم الثاني، الضربة الثانية أخف، الضربة الثالثة، ثم تُصبِح السيارة من كل مكان فيها ضربة أوعطل، انتهت، فاللّذة مُتناقِصة، أضخم سيارة وأغلى سيارة بعد حين تُصبِح عادية مُتناقِصة، بينما السعادة مُتنامية تبدأ صغيرة، وكلمّا كبرت بمعرفة الله عزَّ وجل بالسرور به، حتى تنتهي بجنَّةٍ يدوم نعيمها، فالسعادة مُتنامية واللّذة مُتناقِصة، فهذا هو الفرق بين سعادة طابعها معنوي، ولذّة طابعها حسّي، يعني تحتاج إلى أشياء.
وشاء الله تعالى أن تحتاج اللَّذة من الإنسان إلى وقتٍ وصحةٍ ومال، عناصرها الأساسية وقت وصحة ومال، يحتاج إلى وقت يقضيه حتى يُحقِّق اللّذَة له، ويحتاج إلى صحة تُعينه على ذلك، ويحتاج مال، وشاء الله تعالى أن لا تجتمع هذه الثلاث إلا في النادر، ففي مُقتبَل حياة الإنسان يجد الصحة والوقت لكنه لا يجد المال، وفي شبابه وعنفوانه كتلة عمل وحركة، يَجِد المال ويَجِد صحّة لكن لا وقت، وقته مشغول يقول لك أُريد أن أبني نفسي، كان عندنا في الشام تُجّار معروفين، يعني في هذه المرحلة يقول لك أحد التُجّار الذي عنده محلات تجارية، يقول لم أُغادر المحل أربعون سنة، ولا مرة، قال لي أحدهم مرة، ما غادرت المحل إلا مرةً واحدة أردت أن أُرخِّص سيارة والترخيص في اللاذقية، فذهبت إلى اللاذقية يومٌ واحد، فإذا أخطأت خطأ واحد ذهبت الزبائن، فما هذه الدنيا إذا كنت تقضي الوقت كله بالعمل؟! هكذا هي طبائع بعض الناس وهذا خطأ طبعاً، وعندما يتقدّم الإنسان في خريف عُمره، ويُسلِّم العمل لأولاده، فيجلس في بيته، فيملِك من المال ما جمعه، ويملِك من الوقت ما يُعينُه، لكنه لا يملِك الصحة، فكلما أراد أن يأكل شيئاً يقولوا له كُلْ هذا ولا تأُكل هذا، وفي المساء لديه كمية كبيرة من الأدوية يجب أن يأخذها وإلى آخره.
فشاء الله تعالى أن لا يجمع للإنسان كل مُتطلبات اللَّذة، فيجدها من جانب ويفقِدُها من جانب، يجد المال أحياناً وزوجته لا تُنجِب، وعنده عشرة أولاد لكن ليس لديه مال ليقوم على رعايتهم، هذا حال الدنيا ليشتاق للقاء الله، أمّا السعادة فلا تحتاج إلى كل ذلك، لا وقت ولا صحة ولا مال، تحتاج إلى أنَّ الإنسان يكون موصول بالله عزَّ وجل، واثِق مِمّا عند الله تعالى، ونرى هذه النماذج العظيمة من أهلنا في غزَّة، ترى رِضا، وترى تسليم، ترى أحياناً أُناس فقدت كل شيء لكن تقول يا ربّ لك الحمد، يعني هذا نوع من أنواع الرِضا، والذي هو مَكسَب عظيم، وقوة عُظمى لا يعرفها إلا من ذاقها.
فيا أحبابنا الكرام، هذا اللقاء هو من باب افتتاحية طيبة من بعد غياب، نُذكِّر أنفسنا بالمداومة على طاعة الله بعد رمضان إن شاء الله، والمداومة على منهج الله تعالى، لأنَّ سلامتنا، ولأنَّ سعادتنا في اتباع منهج الله تعالى، ولا غِنى عنه، ولن نصِل إلى ما خُلِقنا من أجله وهي تلك الجنَّة التي أعدها الله للمتقين، ولن نَسلَم، ولن نسعَد إلا باتباع منهج ربِّنا، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم.
اللهم انصر إخواننا في غزَّة، اللهم فرِّج عنهم، اللهم عليك بعدوهم، اللهم كُن لهم عوناً ومعيناً، وناصراً، وحافظاً، ومُؤيداً، وأميناً.
اللهم تولى أمرهم، وأكرِمهم، وارفع درجتهم، اللهم أنزِل عليهم من الصبر والتمكين أضعاف ما نزل بهم من البلاء.
اللهم إنَّ أعدائك يقولوا: من أشدُّ منّا قوة وقد غاب عنهم أنَّك أشدُّ منهم قوة، فأرِنا عجائب قوتك وقدَرِك وتدبيرك فيهم يا أرحم الراحمين.
اللهم بارك أهل هذا البيت، و احفظ لهم إيمانهم، وأهلهم، وأولادهم، وصحتهم وأموالهم.
اللهم أطعِم من أطعمنا، واسقِ مَن سقانا، وأكرِم مَن أكرمنا، وصلِ إلهي وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.