سُنًَةُ الَتمحِيص
سُنًَةُ الَتمحِيص
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا عِلماً وعملاً مُتقبّلاً يا ربَّ العالمين. |
وبعد أيُّها الإخوة الأحباب، فقد تحدثنا في لقاءاتٍ سابقة عن بعض سُنَّن الله تعالى في خلقه، والسُنَّة من سُنَّن الله تعالى، تعبيرها الحديث حتى نفهمها هي القانون، القانون هو علاقة مقدمة بنتيجة، بمعنى أنَّ المقدمة تؤدي إلى هذه النتيجة. |
فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا(2)(سورة الطلاق)
هذه سُنَّة من سُنَّن الله تعالى، من يلتزم تقوى الله تعالى، يجعل الله له مخرجاً من الضيق الذي هو فيه، يجعل له مخرجاً من عقوق أولاده، يجعل له مخرجاً من إتلاف ماله، يجعل له مخرجاً من عذاب ربِّه، فالتقوى مخرج، فيها خروج من حالةٍ يعيشها الإنسان، (وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا) هذه سُنّة، فالله تعالى له سُنن، وسُننه كثيرة وموجودة في كتاب الله تعالى. |
ديننا دين سُنَن والسُنَن مُريحة في التعامل:
والحقيقة أنَّ التعامل بالسُنَن مُريح، كيف يعني مُريح؟ يعني أنت أكثر إنسان يُتعِبُك في التعامل معه هو الإنسان العشوائي غير المُنضبِط، الذي لا تعرف له طريقةً بالتعامل، فالشيء نفسه يُغضبه تارةً ويُرضيه تارةً أُخرى، فتقول له: احترت كيف أتعامل معك؟ هَبّ أنَّك موظف في شركة، ومديرك عشوائي في التعامل، ومزاجي في التعامل، ففي يوم من الأيام مثلاً تروي له نكتة لطيفة فيضحك كثيراً، وفي يوم ثانٍ يعتبرها قلة احترام له فيغضب وهكذا، فهذا مُتعِب، تقول له شخصٌ مُتعِب، لأنه مزاجي لا يوجد سُنّة تضبِط التعامل معه، والأصعب من ذلك أن يكون مزاجياً بمعنى أنَّه يُقرِّب من ليس حقَّه التقريب، ويُبعِد من ليس حقَّه الإبعاد، فيُقرِّب من أوصته به أمّه وإن كان ذا خبرةٍ قليلة، ويُبعِد من ليس له واسطة وإن كان ذا خبرةٍ عظيمة، فهذا تعامل مزاجي ليس له سُنَّة، أمّا الشخص المُريح تتعامل معه وفق سُنَن، فأنت تعرف هذا الشخص التعامل معه مُنضبط، منضبط تماماً، فهذا الشيء يُزعجه، وهذا يُرضيه، وهذا وهذا، فتلتزم معه سُنَّةً في التعامل، فالسُنن مُريحة، والله تعالى لم يعامل عباده بطريقةٍ انتقائية أو عشوائية، حاشاه جلَّ جلاله، قال: |
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)( سورة الحجرات)
وقال صلى الله عليه وسلم: |
{ يا بني هاشِمٍ لا يأتيَنِّيَ النَّاسُ بأعمالِهم وتأتوني بأنسابِكُم }
(ابن حجر العسقلاني)
{ من بطَّأ به عملُه لم يُسرِعْ به نسَبُه }
(أخرجه مسلم مطولاً)
وقال مُخاطباً فاطمة: |
{ قال: لمَّا نزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] قامَ نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: يا بَني كَعبِ بنِ لُؤَيٍّ، يا بَني هاشمٍ، أنقِذوا أنفُسَكم مِنَ النَّارِ، يا بَني عَبدِ مَنافٍ، أنقِذوا أنفُسَكم مِنَ النَّارِ، يا فاطمةُ بنتَ محمدٍ، أنقِذي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ؛ فإنِّي لا أملِكُ لكم مِن اللهِ شَيئًا، غَيرَ أنَّ لكم رَحِمًا سأبُلُّها ببَلالِها. }
(أخرجه البخاري ومسلم)
{ أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا. }
(صحيح البخاري)
هذه النصوص كلها تدل على أن ديننا دين سُنَن. |
فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(85)(سورة غافر)
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا(43)(سورة فاطر)
فهي لا تتبدل ثابتة، ولا تتحول من شخص إلى آخر، فمن يستحق العذاب يُعذَّب بنفسه. |
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ(79)(سورة يوسف)
هذه سُنّة، يعنى لا يجوز أن تأخذ إنساناً بدل إنسان، تقول هذا يفدي هذا، حتى ربنا يوم القيامة |
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ(11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ (15)(سورة المعارج)
يودّ، لكن لا يتحقق، لا يوجد فداء، لا أحد يفدي أحد أصلاً، وقد ورَد في تفسير القرطبي أنَّ الفضيل بن عياض قال: << يا بُني جعلت لك حضني وعاءً وبطني وعاءً وصدري سقاءً فهل من حسنةٍ تجود بها علي، فيقول: يا أمي إني أشكو مما تشكين>>. |
فلا يوجد مَن يفدي بالحسنات يوم القيامة، ولكن لو حصل فإن هذا لا يُقبَل في سُنَن الله تعالى، على كلٍّ فالسُنَن مُريحة بالتعامل، بمعنى أنَّ الإنسان إذا فهم سُنَن الله تعالى في خلقه، معاذ الله أن أقول أنه يعلم الغيب، لكن يستشرف الغيب، يستشرف المستقبل، فيرى إنساناً قد انهمك في المعاصي والآثام والبُعد عن الخيرات والطاعات فيقول لك: هذا الإنسان سيُعاني من ضيق، وسيُعاني من أسى، لا تستقيم الحياة مع معصية الله تعالى، ويرى طُغياناً في الأرض، ويرى من يُدّمرون ويقتلون، فيقول لك: إنَّ وعد الله حقّ وإنَّ الله سينتقم منهم، فهو يستشرف المستقبل بناءً على السُنن التي بين يديه، هذه السُنَن أو تلك القوانين كثيرة، وأحد هذه السُنَن هي سُنَّة الله تعالى في التمحيص. |
من سُنَن الله تعالى في عباده التمحيص:
من سُنَن الله تعالى في خلقه التمحيص يعني الفرز، يُمحِّص يعني يُعرِّض، كيف تُعرِّض الذهب للنار فتفتِنه، فتُميِّز رديئه من جيده تفتِنه، فالتمحيص هو عملية فرز، بمعنى أنه في مجتمعٍ ما، الناس جميعاً يظهرون في وقت الرخاء على أحسن حال، يعني هبّ أنَّ الناس جميعاً قد تحقَّقت رغباتهم في الحياة وما عندهم شيء ينقصهم، فيظهر منهم كل سلوكٍ حسن، لا داعي لأي إنسان أن يستشرف ما عند الآخر من مال، لأنه عنده ما يكفيه ويزيد عليه، فرضاً يعني جدلاً، يُعرِّضهم الله تعالى لمِحنة، نقص من الأموال، من الأنفُس، من الثمرات، فيظهر الخبيث من الطيِّب، هذه سُنَّة، سُنَّة التمحيص، والذي يفهم أنَّ الحياة فيها تمحيص لا يُفاجأ، مثل طالب دخل للجامعة، ولكنه لا يعلم أنَّ الجامعة فيها امتحان، فلمّا حضر الامتحان ووزعوا البرنامج، قال ما هذا؟ قالوا: برنامج الامتحان، قال: أنا لا أعلم أن الجامعة فيها امتحان! لم أدرس لا أعلم، سيتفاجأ، لكن الطالب الذي يعرف أنَّ الجامعة فيها امتحان لا يتفاجأ، التمحيص مطلوب، لا يمكن أن تدع إدارة الجامعة الطلاب حتى نهاية العام دون أن تمتحنهم، ليتبيّن مَن الذي درس ومن الذي لم يدرس، وهذه سُنَّة الحياة، قال تعالى: |
مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179)(سورة آل عمران)
هذه سُنَّة الله، ودققوا معي في قوله تعالى: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ)، ما قال إنَّ الله لا يذرُ أو لم يذر، هذا نفي، لكن أشدُّ أنواع النفي أن تقول: ما كان. |
سأضرب مثالاً: لو أنَّ إنساناً من عوام الناس أخلاقه ليست كما ينبغي، وفُقِد شيءٌ من الأشياء، فسُئل هل سرقته؟ فيقول: لا، هو لم يسرقه فعلاً، لكن سيرته تسمح أن يُتَّهم بالسرقة، فقيل له: هل سرقته؟ فيقول: لا، لكن لو أنَّ طبيباً لامعاً له شخصية في المجتمع، وله مكانة، وفُقِد شيء من الأشياء في مجلس فجاءه سفيه وقال له: هل أنت السارق؟! فالجواب الدقيق لغةً يقول له: ما كان لي أن أسرق، لا يقول له لا لم أسرق، هذا نفي بسيط، يقول: ما كان لي أن أسرق، السرقة ليست من شأني، أنا لا أُسأل هذا السؤال، أنا لا أُقر هذا الفعل، ولا أتبناه، ولا أُشجِع عليه، ولا أدعمه، ولا أتمناه، ولا أشدُّ على يد من يفعله، كل هذه المجموعة تُنفى بقولنا ما كان، في القرآن يتكرر هذا الأسلوب: |
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)(سورة الأنفال)
(مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، سيدنا عيسى قال: |
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)(سورة المائدة)
يعني ليس من شأني أن أقول للناس اتخِذوني وأُمي إلهين، هذا يَصدُر عن نبي؟ لا يَصدُر عن نبي، (مَّا كَانَ) هذا من أشدّ أنواع النفي، فالله تعالى يُبيِّن أنها سُنَّة من خلال ما كان، يعني ليس من شأن الإله متصرِّفٌ في هذا الكون أن يذر المؤمنين على ما أنتم عليه، يعني رخاء واستقرار، لا يوجد حروب، ولا يوجد شيء، والناس بسلامٍ وأمان قال:( حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، لا بُدّ أن تأتي مِحنَّة، لا بُدّ أن تقوم حربٌ في غَزَّة، لا بُدّ أن يتعرَّض المسلمون لاضطهادٍ شديد، ثم يظهر الخبيث من الطيِّب، يظهر الخبيث الذي خبأ خُبثه في الداخل، فجاءت الفتنة فأخرجته عن طوره، أو شَعَر بأنَّ المسلمين الآن في مرحلة ضعف فنال منهم، أو شَعَر بأنه يستطيع الآن أن يتكلم ما كان يعجز عن كلامه في وقتٍ مُعيَّن، فبدأ يتكلم، هذا الخبيث، وبالمقابل ظهر الطيِّب الذي وقف مع أهله، دعم قضيتهم، دافع عنهم، وقف في صفِّهم، تبنَّاهم، أمدَّهم بما يحتاجون، بقدر ما يستطيع، ظهر الطيِّب، فليس من شأن الإله أن يذر المؤمنين على حالهم، لا بُدّ من التمحيص، قال تعالى: |
إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)(سورة آل عمران)
إذا كنتم تتكلموا عن الجراح، فالجراح في الطرفين، (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)، هذه سُنَّة أيضاً، سُنَّة المداولة، انظر من فجر الإسلام إلى اليوم، ألف وأربعمائة سنة ويزيد، ادرس التاريخ مداولة بالأيام، التاريخ كله تداول، لم يكن هناك مرحلة فيها استقرار كامل للحقّ وأهل الحقّ، ولا مرحلة فيها استقرار كامل للباطل وأهل الباطل، هناك مدافعة و مداولة، المدافعة تؤدي مرَّةً لانتصار أهل الحقّ عند تَمَسُّكهم بحقِّهم طبعاً، و تَمَسُّكهم بدينهم، ثم يتخلون قليلاً عن دينهم وعن حقِّهم، فيأتي أهل الباطل فيُزاحمونهم، فيُقلِّلون المساحة لكن لا يلغونها، يُقلِّلوا المساحة، يوسِّعوا دوائر الباطل ويضيِّقوا دوائر الحقّ، ينتبه أهل الحقّ لحقِّهم، ينتبهون لدينهم، يعودون إلى ربِّهم، تبدأ مساحة الحقّ بالاتساع على حساب أهل الباطل، مداولة ناتجة عن مدافعة، (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ). |
الله تعالى يعامل الإنسان على أفعاله وليس على علمه جلَّ جلاله:
أحبابنا الكرام، أينما قرأت (وليعلم الله) لا تتوهّم للحظة أنَّ الله لم يكن يعلم، يعني هو علم علماً حصولياً، يعني عِلمه طارئ هذا شأن البشر، أنا أعلم بالأشياء بعد وقوعها، لكن خالق البشر يعلم بها منذ الأزل (علم ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون)، فالله تعالى يعلم كل شيء، فإذا قال الله تعالى في كتابه (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) فهذا معناه العِلم الحصولي، الشهودي لأنَّ الله تعالى لا يُحاسِب على عِلمه الكاشف ، يُحاسبك على فعلك، عندما ينتقل عِلمه من العِلم الكشفي إلى العِلم الحصوليّ الشهودي. |
يعني مثلاً: أنت قبل أن تصدر النتائج بيومين، أنت مُتيقِّن مائة بالمائة أنَّ ابنك غير ناجح بالتوجيهي، هذا الطالب غير ناجح، وأمضى السَنة كلها بدون دراسة، فهو غير ناجح على الأكيد، فأنت إذا عاقبته قبل يومين من صدور النتائج، فلن يقبلها منك، يقول لك لِمَ تُعاقبني، انتظر لربما حصَلَت مُعجزة يا أبي! أمّا يوم النتائج فتفعل ما تريد معه لأن النتائج قد ظهرت، لذلك ربنا جلَّ جلاله لا يُحاسِب الناس على عِلمه الغيبيّ الكاشف بل يُحاسبهم على عِلمه الشهودي الحصولي، فعندما يقول (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) يعني حتى يظهر لك أيُّها الإنسان عِلم الله، ليس أن يظهر له ما خفيَّ عنه حاشاه جلَّ جلاله، لكن أنت يظهر لك عِلمه فقال: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ)، الذين يقضوا في هذه المعركة، الله عزَّ وجل يتخذهم شهداء وليس نحن، تخيَّل كرامتهم عند ربّنا عزَّ وجل، (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ)، ربنا يريد شهداء يتخذهم له (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). |
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)(سورة آل عمران)
الله تعالى يُمحِّص المؤمنين ولكن لا يمحقهم:
(وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) نحن لا نُمحق، المحق للكفرة، أُمتنا ما كيد لها على مدار المائة سنة الأخيرة من مؤامرات، والله لو تعجبت ألف مرة من حجم المؤامرات، فتعجب مليون مرَّة من بقاءنا بعد كل هذه المؤامرات! الآن كل الناس يقولوا ما هذه المؤامرة؟! |
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)(سورة إبراهيم)
ما هذا المكر العظيم؟! بقدر تعجُّبك اضربه بألف، وتعجَّب من بقاءنا بالرغم من هذه المؤامرات! لأن الله لا يمحق أُمَّة الإسلام، ما أذِن بمحقها، وانتهاءها، رغم كل ما يُكاد لها على المستوى الفكري، وآخرها هذا المركز الذي يُسمُّونه تكوين، وهو مركز تهديم، وعلى مستوى الشهوات بالإعلام الذي يبُث ليل نهار للإفساد، إفساد شبابنا ونساءنا وبناتنا، وعلى المستوى الصحّي بما يجربونه علينا أحياناً من أغذية وأدوية في بعض البلاد الفقيرة، وعلى المستوى الاقتصادي بما يُحاربوننا به في لقمة عيشنا، وبقمحنا، وعلى مستوى الإفساد، وعلى مستوى الإبادة، يعني إبادة حقيقية، قصف ودمار وقتل في كل بلاد المسلمين، فأنت تعجب من أننا فعلاً أُمّة حيّة بإرادة الله عزَّ وجل، موجودون حتى اليوم، فالله تعالى لا يمحق هذه الأُمّة، ولكن قال(وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) نحن نتعرَّض للتمحيص، نحن نُفرَز، لكن المحق لأعدائنا، (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) في آيةٍ أُخرى: |
وحتى يتبيَّن المعنى الذي قلته قبل قليل قال: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، هو يعلم ما في صدرك، لكن يريد أن يبتليك، أن يمتحنك، أن يُخرِج ما فيك. |
هناك كلمة كان يقولها شيخنا الدكتور راتب حفظه الله، وأنا رأيتها في الحياة، يعني نظرت فيها في الحياة على نماذج من البشر أعرفهم، وظهر لي مصداقها سبحان الله، كان يقول دائماً لن يقبضك الله إليه، والكلمة مُخيفة ومُطمئِنة، مُطمئِنة على أعدائك، تطمئن بأنَّ الله سيكشفهم، ومُخيفة على نفسه الإنسان أن يكون بداخله شيء من السوء لم يظهر نسأل الله السلامة، فكان يقول: "ربنا عزَّ وجل لن يقبضَك حتى تأخذ كل أبعادك" يعني إذا عندك شيء مكنون بنفسك، ولم تُظهره، ربنا عزَّ وجل يُعرِّضك لموقف مُعيَّن تُظهِر ما في داخلك، تأخذ أبعادك، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ، فربنا عزَّ وجل يضع الإنسان بموقف، هو دائماً يقول أنا إذا أصبح لدي مالاً سأبني مسجداً، فيضعه بموقف، يصبح لديه مال، ولا نريد بناء مسجد، نريد فقط هذا الشخص الذي يحتاج لمائتي دينار من أجل عمل جراحي هل ستعطيه؟ لا يُعطيه!، ظَهَر، فربنا عزَّ وجل يمتحِن، يبتلي، فالإنسان يجب أن يكون موطِّن نفسه على أنه إذا وقع في هذا الابتلاء أن يكون على قدر الابتلاء، فهذه السُنَّة يُسمّونها كثير من العلماء سُنَّة التمحيص، بمعنى أنَّ المجتمع مُختلط، فيه البَر وفيه الفاجر وفيه الخبيث وفيه الطيِّب، فيه المُحسِن، وفيه المُسيء، فيه المُعطي وفيه البخيل، فيه الصابر وفيه الخنوع، الجذع، مُختلِط، لا تظهر معادن الرجال، ولا يظهَر مخبوء نفسهم إلا عند الفتنة. |
معركة أُحُد والتي كان الحديث عنها في سورة آل عمران كانت فتنة، تمحيص، يعني معركة بدر انتصر المسلمون، نصر مُبين، بعدها ممكن أن يُصبح حالة استرخاء عند المسلمين ونفاق عند المنافقين، لأنه استقر الأمر قليلاً، جاءت غزوة أُحُد، طبعاً يوجد أسباب نتكلم عنها دائماً، وهي مخالفة أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنَّ الله له سُنَن، فعند هذه المخالفة القوية ربنا عزَّ وجل لا يُحابي أحداً، حاشاه جلَّ جلاله، ولا رسوله؟ ولا رسوله، ولا أصحاب نبيّه؟ ولا أصحاب نبيّه، تُريدون أن تتركوا الجبل للرماة، ربنا عزَّ وجل قادر أن يجعل سيدنا خالد لا ينتبه لهذا الموضوع كله، كان مشرِكاً وقتها، وقادر أن يجعلهم وهو يلتَّف أن يرجعوا ويروه، بل سارت الأمور كما تسير بشكلها الطبيعي، لأنَّ ربنا عزَّ وجل أراد أن يبتلي ويمتحِن، فمن زاوية مخالفة أمر الرسول نتحدث عنها دائماً، لكن من زاوية ثانية، هذه الهزيمة المؤقتة كانت مطلوبة لذاتها. |
يعني نحن إذا واحد مُجِدّ، نقول أنّه يضرب عشرة عصافير بحجرٍ واحد، لله المثل الأعلى، ربنا عزَّ وجل يُحقّق ألف غاية بفعلٍ واحد، مليون غاية، لا تعرف ربنا عزَّ وجل، يعني هذا الفعل أحداث غزَّة اليوم، فيه أسى وفيه ألم، فيه منافقون، و فيه مُخذّلون، فيه متعاونون فيه مُطبِّعون، فيه محسنون، وفيه معطاءون، يعني إذا كان هناك خمسة مليارات في الأرض يُمتحنون، فهو يمتحِن أيضاً سكّان أمريكا، يعني غير المسلمون يُمتحنون بالحدث نفسه، فالحدث نفسه يُفرِز، يوسِّع دائرة التمحيص. |
من سُنَن الله تعالى أحياناً أن يتأخر النصر:
كان صاحب الظلال رحمه الله، له مقالة من أحد كتبه لماذا يتأخر النصر؟ من سُنَن الله تعالى أحياناً أن يتأخر النصر، إذا الحرب استمرت عشرين يوماً، تمتحِن عشرون بالمائة من المسلمين، ولمّا تستمر شهرين يصبح الممتحنين أربعون بالمائة، لأنه يوجد أُناس لم يُظهِروا الخبايا بعد، كلما طال الأمد يظهر الإحسان أكثر والإساءة أكثر، تجد أحدهم وقف أول شهر مع القضية، وفي الشهر الثاني قال لك: أخرجنا منها نريد أن نعود لحياتنا، وواحد آخر أول شهر صمت قال: دعنا ننتظر لربما سينتصروا، ونتكلم عليهم، وبعد شهرين أو ثلاثة يقول لقد قلت لكم، فالناس يُطيلوا لا يظهروا من أول الوقت، فربنا عزّ وجل يؤخِّر النتيجة حتى تتسِع دائرة المُمتحنين، فمعركة أُحُد كان فيها هزيمة مؤقتة، وجاء بعدها انتصارات كثيرة، لكن هذه الهزيمة كانت مطلوبة لذاتها، وهنا قال ربُّنا: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) في معركة أُحُد، هناك شخص قال إذا الإسلام فيه هزائم لا أُريده، في غزوة الخندق النبي صلى الله عليه وسلم يضرِب الفأس ويقول فُتحت الشام، فُتحت بلاد كسرى، أحدهم قال: أيعِدُنا صاحبكم أن تُفتح علينا بلاد كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمَن أن يقضي حاجته، وهناك أُناسٌ واثقين، في صُلح الحُديبية ربنا عزَّ وجل سمّاه فتح |
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1)(سورة الفتح)
الإنسان سيُبتلى و يُمتحَن:
صلح ظاهره مُهين، سنرجع ولن نعتمر، سيدنا عمر وما أدراكم ما عمر بقوة إيمانه قال: "علام نعطي الدنيَّة في ديننا"، هذه قوة في الحق، لكن سيدنا عمر في لحظة مُعيّنة لم ينتبه أن هناك أمر من النبي صلى الله عليه وسلم، قال لماذا نُعطي الدنيَّة في ديننا؟ يذهب إلى سيدنا أبو بكر، سيدنا أبو بكر يقول له: " إلزَم غِرزه فإنه رسول الله"، يعني اتَبِع، أحد الصحابة الكرام قال: "بقيت أصوم وأتصدَّق عشرون سنةً رجاء أن يغفر الله لي سوء ظني برسول الله". |
النبي عليه الصلاة والسلام قال: لا تقتلوا عمي العباس في بدر، ليس لديه إمكانية إلا أن يقول: لا تقتلوا عمّي العباس، إذا أكمل فيكشفه، إذا قال: لا تقتلوا عمّي العباس فهو مسلم يكون قد كشفه، وهو عينٌ له، وإن سكت ممكن أن يُقتَل الرجُل وهو مسلم، فقال: لا تقتلوا عمّي العباس، امتحان، رسول الله أمر وانتهى، أحدهم قال: ينهانا عن قتل عمّه وأحدنا يقتُل أباه وأخاه؟!نحن نُضّحي بكل شيء وهو يقول لا تقتلوا عمّي! فلمّا كُشف الأمر قال: "والله بقيت أصوم وأتصدَّق عشرون سنة رجاء أن يغفر الله لي سوء ظني برسول الله"، فقط من أجل هذه الكلمة التي قلتها، فالإنسان سيُبتلى، يُمتحَن، كل موقف يظهر يُمتحَن به الإنسان. |
لمّا عبد الله بن أُبَي سيدنا عمر قال: دعوني أضرِب عنقه، النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لا، ويتحدث الناس أنَّ محمداً يقتل أصحابه؟ الناس لا يعرفون أنه منافقاً، معظم الناس يظنوه صحابياً، فلا تقتلوه، جاء ابنه لهذا المنافق وهو زعيم المنافقين، قال: لا أتحمل أن أرى قاتل أبي، فإن أردت قتلته أنا لكن لا تدع أحد يقتله، أنا رجُلٌ عربي ودمّي حامي، إذا رأيت قاتل أبي يمشي فلن أستطيع، قال له: بل نُحسِن إليه، لن نقتله اتركه، فبعد حين كُشف أمره، وافتضح ابن سلول أنه منافق، فصار قومه يقولوا لرسول الله: إنه يستحق القتل، فنادى لسيدنا عمر وقال له: كيف بك يا عمر لو قتلته يوم قلت لي اقتله؟ كانت ثارت له أنوف، كانت قامت له ثورة شعبية من قومه لأنهم لا يعرفوه، فقال سيدنا عمر: "والله يا رسول الله لقد علمت أنَّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركةً من أمري"، سيدنا عمر قوي بدينه وعقيدته، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي من الله تعالى، فقال: لقد علمت أنَّ أمر رسول الله أعظم بركةً من أمري. |
إذاً التمحيص سُنَّة، ونحن الآن في مرحلة تمحيص قوية جداً جداً نسأل الله أن يُثبّتنا، وأن نعلم أن الثوابت لا تُلغيها المتغيرات، فنحن مع الله في النصر وفي الهزيمة، وفي الانكسار، وفي القوة، وفي الضعف، وفي الشدَّة، في كل المواطن نحن مع الله، ومستشرفون ومتأملون نصر الله تعالى، ونعلم أنَّ وعده حقّ وننتظر موعوده، بصبرٍ وثباتٍ ويقين إن شاء الله، والحمد لله ربِّ العالمين. |