الترابط الوثيق بين القرآن الكريم والسنة النبوية

  • محاضرة لمنصة غياث الدعوية
  • 2024-09-16
  • الأردن
  • عمان

الترابط الوثيق بين القرآن الكريم والسنة النبوية

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الإخوة والأخوات الكرام الأفاضل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله وبيَّاكم في المحاضرة الثانية من الموسم الذي أطلقته منصة غياث الدعوية، والتي جاءت هذه المحاضرة الثانية في هذا الموسم التي تحمل عنوان الترابط الوثيق بين القرآن الكريم والسُنَّة النبوية، يلقيها فضيلة الدكتور بلال نور الدين فليتفضل مشكوراً.
الدكتور بلال نور الدين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
أيُّها الإخوة الكرام: فإنني أشكر لمنصة غياث العلمية والدعوية هذه الدعوة الكريمة التي إن دلَّت على شيء فعلى حُسن ظنِّهم بي، وأسأل الله أن أكون عند حُسن ظنِّهم.

العبَثَ أو النَيل من سُنَّة رسول الله هو عبثٌ بدين الله تعالى وكتابه:
أيُّها الإخوة الكرام: اختار القائمون على هذا الموسم عنواناً مهماً جداً، لا سيما في هذا الزمن وهو الترابط الوثيق بين القرآن الكريم والسُنَّة النبوية، وقلت إنه اختيارٌ موفق لما نجده اليوم من دعواتٍ تنطلق من هنا وهناك، تهدف إلى فصل القرآن الكريم عن السُنَّة النبوية، فتجد اليوم من يقول نؤمن بالقرآن الكريم ونتَّبِع ما فيه، لكننا غير ملزمين باتباع ما جاء في السُنَّة النبوية، لأنها كما يقولون ظنيّة الثبوت، بينما القرآن قطعي الثبوت، وهؤلاء كثيرٌ منهم وصلوا أو سيصلون إلى المرحلة التالية، وهي التشكيك بالقرآن الكريم ونبذ بعض آياته والعياذ بالله، لذلك كان لا بُدَّ أن نعيَ دائماً هذا الترابط الوثيق بين القرآن الكريم والسُنَّة النبوية، وأنَّ العبَثَ أو النَيل من سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو في حقيقته عبثٌ بدين الله تعالى، وطريقٌ للوصول إلى العبث بكتاب الله تعالى، ضابط هذا العنوان الكريم قوله صلى الله عليه وسلم:

{ وحدثني عن مالك، أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسُنَّة نبيِّه }

(أخرجه مالك في الموطأ)

وحديثٌ آخر:

{ عن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما: إنَّ الشيطانَ قد يَئِسَ أن يُعبَدَ بأرضِكم، و لكن رضِيَ أن يُطاعَ فيما سِوى ذلك مما تُحاقِرون من أعمالِكم، فاحْذَروا، إني قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تَضِلُّوا أبدًا، كتابَ اللهِ، و سُنَّةَ نبيِّه }

(الألباني صحيح الترغيب)

وانظروا إلى مطلَع هذا الحديث، بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ الشيطان رضيَ فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم) فالتحذير في مطلَع هذا الحديث من أنَّ الشيطان يريد الأعمال التي نحتقرها ونظنها يسيرة ثم جاء بعدها (إني قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تَضِلُّوا أبدًا، كتابَ اللهِ، و سُنَّةَ نبيِّه).

أيّةُ دعوةٍ إلى نبذ السُنَّة أو فصلها عن القرآن الكريم هي دعوة شيطانية:
فأيّةُ دعوةٍ إلى نبذ السُنَّة، أو فصلها عن القرآن الكريم، أو جعل حُجيِّتها في مكانٍ آخر، وكأنها ليس لها الحُجة كما هو كتاب الله تعالى، فإنها دعوةٌ شيطانية، مما نظنه هيِّناً وهو عند الله عظيم.
أيُّها الإخوة الكرام: النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليُبيِّن لنا ما نُزِّل إلينا من ربنا، قال تعالى:

بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(44)
(سورة النحل)

فأيّةُ دعوةٍ لترك السُنَّة، فهي تركٌ لبيان القرآن الكريم في الحقيقة، والله تعالى حفظ القرآن الكريم قال تعالى:

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)
(سورة الحجر)

وحفظ السُنَّة النبوية بحفظ القرآن، إذ هيأ لها رجالاً قاموا على تنقيحها وتمييز الصحيح منها، من الضعيف، من الموضوع، إلى غير ذلك بعِلم مُصطلح الحديث الذي نُباهي الدنيا به، لا أعتقد أنَّ في الأرض كلها عِلماً في معرفة الرجال، وعِلماً في معرفة الأسانيد، وعِلماً في ضبط كل راوٍ في عدالته وضبطه، وفي اتصاله السندي، وخلوِّه من الشذوذ والعِلة كما هو في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهم العلاقة بين القرآن والسُنَّة من خلال عدة بنود:
أيُّها الإخوة الكرام، أيتها الأخوات الكريمات: أولاً يجب أن نفهم العلاقة بين القرآن والسُنَّة، وهي على عدة بنود نختصرها بما يلي:
أولاً تأتي السُنَّة مقرِرةً ومؤكدةً لما في كتاب الله.
الحالة الأولى: هي أن يأتي الأمر في القرآن ويأتي في السُنَّة، فيكون في قول النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤكد ما جاء في القرآن الكريم، فالله تعالى أمر بالصلاة فقال:

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ(43)
(سورة البقرة)

وجاءت السُنَّة فأمرت بالصلاة بشكلٍ عام، فجاء ما في السُنَّة من أوامر بإقامة الصلاة، مؤكداً لما جاء في القرآن ومقرِراً له، والله تعالى قال في القرآن الكريم:

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)
(سورة النور)

والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بغض البصر في سُنَّته في عدة أحاديث، فجاءت السُنَّة مؤكدةً ومقرِرةً لما في القرآن، وهذا أمرٌ واضحٌ لا خلاف فيه.
الحالة الثانية: أن تأتي السُنَّة مفصِّلةً لما أُجمِل في كتاب الله تعالى، لمّا أمر الله تعالى بالصلاة فقال: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) لكنه ما بيَّن طريقة الصلاة التفصيلية، نعم ورَد (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)

فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ۩(62)
(سورة النجم)

لكن طريقة الصلاة التفصيلية، القيام، قراءة الفاتحة ،ما تيسَّر من القرآن، بعدها الركوع، الاستواء، السجود، القعود بقدر التشهُّد، التشهُّد والصلوات الإبراهيمية، عدد صلوات الظهر، عدد صلوات العصر، المغرب، العشاء، الأوقات

{ روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أمني جبريل مرتين عند البيت، فصلى بي الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس، والعصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي في اليوم الثاني الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، والعصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وقال: ما بين هذين الوقتين وقت لك ولأمتك }

(أنس بن مالك وابن مسعود)

كل هذا جاء في السُنَّة، فهُنا نقول السُنَّة جاءت مفصِّلةً لما أُجمِل في كتاب الله، الحكم في القرآن مُجمَل والسُنَّة جاءت مفصِّلةً لهذا الإجمال، حتى مناسك الحج أيضاً جاء بعضها في القرآن الكريم بشكلٍ عام، لكن النبي صلى الله عليه وسلم حجَّ، وبيَّن طريقة الحج وأوقات كل ركنٍ من أركانه، وواجباته وسُننه، يوم التروية، موعد عرفات من وقت كذا إلى وقت كذا، المبيت بمِنى، رمي الجِمار، كل ذلك جاء في السُنَّة، فإذاً عندما تأتي السُنَّة مفصِّلة لما أُجمِل في كتاب الله، فإن من يترك العمل بالسُنَّة هو عملياً يترك العمل بالقرآن الكريم، لأنه لم يستطيع أداء ما أمره القرآن به، أيضاً الزكاة جاءت (وَآتُوا الزَّكَاةَ) في القرآن الكريم

وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(141)
(سورة الأنعام)

لكن نصف العشر أو ربع العشر في الزروع هذا جاء في السُنَّة، ما جاء أيضاً في أنصبة الزكاة، زكاة المال، زكاة البهائم، كله وضَّحته السُنَّة المُطَّهرة، هذه أركان الإسلام، لو ذهبنا أبعد من ذلك أيضاً كل حكم، كثيرٌ من الأحكام جاءت مُجملةً في كتاب الله تعالى، وجاءت مفصَّلةً في السُنَّة النبوية، معظم الأحكام الشرعية تفصيلها في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحالة الثالثة: أن تأتي السُنَّة لتخصيص ما جاء عامّاً في كتاب الله تعالى، الحالة الثانية مُجمَل وفصَّلته السُنَّة، الحالة الثالثة عام خصَّصته السُنَّة، وهذا مثاله، طبعاً ربنا جلَّ جلاله في القرآن الكريم من الأحكام التفصيلية التي تلفِت النظر، أحكام المواريث، فربنا جلَّ جلاله في المواريث تحديداً أنزل آياتٍ تُتلى إلى يوم القيامة، لبيان عِظم أمرها، ولبيان أهمية ذلك، فقال تعالى:

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(11)
(سورة النساء)

إلى آخر آيات سورة النساء، وما في سورة النساء أيضاً:

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ۚ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ۚ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ۚ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۗ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(176)
(سورة النساء)

جاء القرآن هنا مفصِّلاً، بالأعم الأغلب مُجمَل والسُنَّة تُفصِّل، لكن هنا فصَّل القرآن هذا، لكن رغم ذلك جاء في السُنَّة ما يُخصِّص ما جاء عامّاً في الكتاب، ومن ذلك مثلاً قوله صلى الله عليه وسلم كما في الترمذي بسندٍ صحيح

{ عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْقَاتِلُ لا يَرِثُ }

(رواه الترمذي)

بالعموم الآيات تدل على أنَّ كل شخصٍ يرِث، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الْقَاتِلُ لا يَرِثُ) فإذا قتل إنسانٌ إنساناً آخر فأنه لا يرثه، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه كما يقول الأصوليون،
الأمر الرابع في علاقة القرآن الكريم بالسُنَّة المطهَّرة، هو أنَّ السُنَّة تُقيِّد ما جاء مطلقاً في كتاب الله تعالى،
إذاً الحالة الأولى مقرِرة ومؤكدة، الحالة الثانية مفصِّلة لما أُجمِل، الثالثة مخصِّصة لما عُمِّم، الرابعة مُقيِّدة لما أُطلِق، ومن ذلك أنَّ الله تعالى يقول:

الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ(82)
(سورة الأنعام)


من أعظم نِعم الله على المؤمن الأمن و أن يشعر بالسكينة:
وهذه الآية الحقيقة مخيفة، أي أنَّ الله تعالى يربط الأمن بالإيمان الذي لا يخالطه ظلم، وجاءت ظلم نكِرة، فتعُّم، و جاء قوله تعالى: (أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) قدَّم فيه شبه الجملة لهم على الأمن، فأصبح فيها قصرٌ وحصر، كأن الله تعالى يقول: هؤلاء وحدهم لهم الأمن فقط، أمّا أي إنسانٍ يلبس إيمانه بظلم، كأن ينظر نظرةً لا ترضي الله تعالى، أو مثلاً يتكلم بكلمةٍ لا ترضي الله تعالى، أو يُقصِّر في شيءٍ من حقوق الله تعالى عليه، أي ظلمٍ ولو كان بسيطاً فقد خالط إيمانه الظلم، فهو خائف، لن يأمن، ومن أعظم نِعم الله على المؤمن الأمن، أن يشعر بالسكينة

{ من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا }

(رواه البخاري)

فهذا شقَّ كما في الحديث الصحيح، شقَّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدوه صعباً

{ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بن مسعود، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

لأنهم يعتقدون أن كل معصيةٍ هي ظلمٌ للنفس، وهذا فعلاً صحيح، ونحن يجب أن نعتقد ذلك، أننا نظلم أنفسنا بكلمةٍ لا ترضي الله، نظلم أنفسنا بموقف، بابتسامةٍ لا ترضي الله، بغضبٍ لا يرضي الله، فهمكُم ليس صحيحاً، أنتم فهمتم الأمر مطلقاً، وهو أنَّ أي ظلمٍ تشمله الآية: (يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فقال لهم المقصود هنا بالظلم ليس على إطلاقه، وإنما مُقيَّد بحالة الشرك، أن يخالط إيمانك شركٌ بالله، قال تعالى:

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ(106)
(سورة يوسف)


أعظم ما يجعل المؤمن آمناً أن يكون مخلصاً موحداً لله:
أمّا إذا آمنت الإيمان الصحيح الذي يحملك على طاعة الله، وتوجهت إلى الله تعالى وحده دون خلقه، فأنت آمنٌ إن شاء الله تعالى، لأن التوحيد أمنٌ يا كرام، أعظم أمن يملكه المؤمن أن يكون مؤمناً موحداً.

{ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ: كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا: لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ }

(المستدرك على الصحيحين)

فأعظم ما يجعل المؤمن آمناً، أن يكون مخلصاً لله، لا يبتغي إلا وجه الله، أمّا المُشرك، فإنه يريد أن يرضي فلاناً وفلاناً وفلاناً، وقد يرضى فلان فيسخط عليه فلان، وقد يسخط فلان ويرضى فلان، فيَتيه في أودية الدنيا (ولا يبالِ الله بأي أوديتها هلَك) إذاً الرابع هو تقييد ما أُطلِق في كتاب الله.
والخامس: وهو المهم جداً، والذي ينبغي أن يكون واضحاً في أذهاننا جميعاً، وهو أنَّ السُنَّة أحياناً تُشرِّع أحكاماً جديدة، ليست في كتاب الله، وهذا أكبر نقطة اختلاف مع مَن يُسمّون أنفسهم اليوم القرآنيون، ينسبون أنفسهم للقرآنيين، والحقيقة أنَّ هذه الفرية قديمة، لكنها كل حين تظهر بلبوسٍ جديد، من أيام الخوارج بدأ من يقول: ما وجدنا في كتاب الله اكتفينا به، فبيننا وبينكم كتاب الله، ثم تنام هذه الفرية لأنها لا تقوم لها قائمة، ثم يعودون إليها، والحقيقة اليوم أنها تظهر مظهر أكبر من السابق، بسبب ما أُسمّيه اليوم نتاج المدارس العقلانية، وهذا ما سآتي إليه بعد قليل، لكن حتى تبقى الأفكار مترابطة، فالسُنَّة في بعض المواضع تُشرِّع أحكاماً جديدة ليست في كتاب الله تعالى، أين نجد في كتاب الله تعالى تحريم الذهب والحرير على الذكور من أمة محمد؟ ما جاء، لكنه جاء في السُنَّة

{ عَن عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيرًا بِشِمَالِهِ، وَذَهَبًا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ رَفَعَ بِهِمَا يَدَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ }

(رواه أبو داوود والنسائي وابن ماجه)

زكاة الفطر ليست في كتاب الله تعالى، لكنها في سُنَّة النبي ثابتة وهي فرضٌ بالإجماع، مع أنها لم تأتِ في القرآن الكريم، القرآن الكريم ذكر المحرمات في النسب والمصاهرة، وذكر منها:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا(23)
(سورة النساء)

فلا يجوز للإنسان أن يتزوج أخت زوجته مادامت زوجته عنده، لا يجوز أن يجمع بينهما، لكن السُنَّة الكريمة ذكرت أنه لا يجوز أيضاً أن يجمع الرجُل بين المرأة وعمَّتها، أو المرأة وخالتها، وهذا أيضاً من مسائل الإجماع، فلا يُعقَد لرجُلٍ عنده امرأة أن يُعقَد له على عمَّتها أو على خالتها، ففي هذه الأنواع الخمسة، هي تقريباً بالعموم، هي العلاقة بين القرآن أو الترابط الوثيق بين القرآن الكريم والسُنَّة النبوية، بحيث نفهم دائماً أنَّ السُنَّة تأتي مقرِرةً ومؤكدة، تأتي مُخصِّصةً لما عُمِّم، تأتي مُقيدةً لما أُطلِق، تأتي مُشرِّعةً لأحكامٍ جديدة، وتأتي مفصِّلةً لما أُجمِل، هذه الخمسة أرجو أن نحفظها و نعلمها لأبنائنا ولمن يلوذ بنا.

القرآن وحيٌ متلو والسُنَّة وحيٌ غير متلو:
أحياناً يتوهَّم البعض أنَّ هناك تعارضاً بين القرآن الكريم والسُنَّة، والحقيقة أنَّ هذا لا يكون، والسبب أنَّ كليهما وحيٌ من الله تعالى، فالقرآن وحيٌ متلو، والسُنَّة وحيٌ غير متلو، والله تعالى قال:

وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ(4)
(سورة النجم)

فالسُنَّة وحيٌ لكنه غير متلو، لم ينزل به جبريل قرآناً يُتلى، لكنها وحيٌ من الله قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينطق عن الهوى، حاشاه صلى الله عليه وسلم، ما معنى لا ينطق عن الهوى؟ أحياناً الإنسان ينطق عن الهوى، أحياناً تاجر يريد أن يبيع بضاعته، فيذكُر لك فيها من الصفات التي ليست موجودةً فيها، لكنه يزينها لك من أجل أن يبيع بضاعته، هذا نطق عن الهوى، هواه أن يبيع بضاعته، النبي صلى الله عليه وسلم حاشاه أن ينطق عن هوى نفس، وإنما ينطق بوحيٍ من الله تعالى، فبعض من يُسمّون أنفسهم القرآنيون، يدَّعون أحياناً التناقُض بين القرآن الكريم والسُنَّة المطَّهرة، وهذا جهل، إمّا جهلٌ بأحكام أصول الفقه، وإمّا جهلٌ باللغة العربية، وإمّا جهلٌ بعلوم القرآن الكريم، كالناسخ والمنسوخ.

الأسباب التي تدفع البعض إلى أن يُشكِك في التوافق بين القرآن الكريم والسُنَّة:
أهل العِلم ما تركوا شيئاً من ذلك، أو جهلٌ بالمصطلح الحديث، أحياناً يكون الحديث موضوعاً أو لا يثبت بهذا اللفظ فيتوهمون تناقضاً مع القرآن الكريم، أحياناً يكون الجهل بأصول الفقه، وهو عِلم استنباط كيف تستنبط الحكم من النَص، فيظن أنه استنبط حكماً من النَص، لكن ليست هذه طريقة الاستنباط، وأحياناً ما عنده فهم بالناسخ والمنسوخ، فيكون هناك نسخٌ لحكمٍ من الأحكام، ويظنه مازال قائماً، وأحياناً فهمٌ مغلوط للغة العربية، فيفهم الكلمة على غير المُراد منها، بالعموم هذه الأسباب التي تدفع البعض إلى أن يُشكِك في التوافق بين القرآن الكريم والسُنَّة، مع أنَّ مبادئ العقل تقول: إنَّ الشيئين مادام من مصدرٍ واحد فإنهما لا يتناقضان، من الأمثلة على ذلك حتى لا يبقَ الكلام في العموميات التي يذكرها المُشكِكون، يذكرون أنَّ هناك تناقضاً بين حدّ الرِدَّة الذي ثبت بالسُنَّة وبين قوله تعالى:

نماذج من بعض ما يقوله من يُسمّون أنفسهم القرآنيون من تناقض بين كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256)
(سورة البقرة)

وبين قوله صلى الله عليه وسلم:

{ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

وهذا في صحيح البخاري، فيقولون كيف نفهم قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)؟ ثم نفهم قوله صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا)؟ وكيف أفهم حدّ الرِدّة، و (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)؟ فكيف تجمعون بين ذلك؟ وهذا مثالٌ من الأمثلة، وجوابه طبعاً بسيط جداً، وهو أنَّ حدّ الرِدّة هو حدٌّ فرضه الإسلام لمن يدخل في دين الله تعالى ثم يخرج منه، وليس لمن يختار عدم الدخول أصلاً، فما قال أحد إن من يرفض الدخول في دين الله يُقام عليه الحدّ، وهذا ليس موجوداً لا في القرآن، ولا في السُنَّة، ولا في الفقه أبداً، فالناس أحرار في اختيار الدخول في الدين أو لا، والإسلام محالٌ أن يُدخِل أحداً إكراهاً فيه (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) لكن هذا الحدّ منوط بشيءٍ آخر، وهو أن إنساناً دخل في الدين ثم خرج منه وأعلن خروجه منه، فأصبح خطراً على المسلمين فيُستتاب، وفي بعض الأحكام يُستتاب لسنة، وفي بعضها ليس هناك حدٌّ للاستتابة، فإن أصرَّ على ذلك، وعلى المُجاهرة برِدّته، فقد أصبح خطراً على ضِعاف الإيمان، فكل دولةٍ اليوم أو كل قانون يضع له سياجاً يحميه، اليوم لا يحق لشخص حتى في الدول التي تدَّعي الديمقراطية مثلاً أن يُهين العلم الذي في بلده، أن يضعه ويقف فوقه مُهيناً له، ولا يحقّ له في بلادٍ أُخرى أن يتكلم على ملِك البلاد بكلمةٍ واحدة، ولا يحقّ له أن يتكلم على الدستور مثلاً، هناك مُحرَّمات في كل دولة، والإسلام وضع سياجاً، سياجه هو الحدود وأحد هذه الحدود أنه لا يقبل للإنسان أن يخرج من الدين ثم يُجاهر بذلك ويبدأ بالعبَث في دين الناس.
لأنَّ الإسلام يريد أن يحفظ دين الناس فهو أهم من حياتهم، لأنه سعادة الأبد أو شقاوة الأبد، هذا المرتد لو أنه أراد أن ينجو من ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وينجو من الحدّ، وليُضمِر في داخله ما يُضمِر فإنَّ الإسلام لن يدخل إلى سرائره، فنحن نحكُم في الظاهر والله يتولى السرائر، فحدُّ الرِدَّة إذاً هو حدٌّ وحصنٌ لإحاطة الدين بسياجٍ يُبيِّن أهميته فهو رادعٌ أكثر منه واقع، هو للردع أكثر منه للوقوع، لأنَّ أي إنسانٍ يستطيع أن ينجو منه فلا يُظهِر رِدته، أو إذا أظهرها يُستتاب فيُعلِن عودته وهو يعلم أنه سيُقتَل، فالعملية عملية صيانة لحدود الشريعة، فليس هناك تعارض بين أنه يُباح له أن يدخل أو أن لا يدخل، وبين أنه يُقام عليه الحدّ إذا خرج من دين الله بعد دخوله، لكن يتوهم البعض ذلك عن حُسن نية أو عن سوء نية.
أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناسَ) يقولون كيف يتناسب مع (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)؟ أيضاً هذا جوابه بسيط وهو جهل اللغة، كما قلت هناك أنواعٌ للجهل، فأولاً الناس ليس المقصود بها الناس بمعنى كل الناس، فالله تعالى يُطلِق لفظ الناس على مجموعةٍ من الناس

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173)
(سورة آل عمران)

الناس الذين قالوا لهم أربعة فقط (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) الأحزاب فقط، فليس كل لفظ ناس معناه كل الناس، وإنما معنى (أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناسَ) أي المقاتلين.

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(190)
(سورة البقرة)

وهذه آية مُحكمة لا تُنسخ لأنها أمرٌ وخبر (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) والأخبار لا تُنسخ، فالآية نصٌّ واضح والحديث يُبيِّن أنه أُمِر أن يُقاتل المقاتلين حتى يشهدوا، ليس المقصود أيضاً هذا فهمٌ باللغة العربية، ليس المقصود حتى يشهدوا، أي نبقى نقاتلهم من أجل أن يشهدوا، لا ليس من أجل أن يشهدوا، يعني لو خرجنا قليلاً لكن فيها فائدة إن شاء الله، أنا عندما أقول درست حتى أنجح، فأقول دراستي من أجل النجاح، هذه حتى، درست حتى المساء، أنا لم أدرس من أجل المساء، أنا انتهت غايتي في الدراسة عند المساء، يعني بقيت أدرس حتى المساء، فهنا (أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا) ليس كما يفهم البعض، أُقاتلهم من أجل أن يشهدوا، لا، لكن يمتنع أن أُقاتلهم إذا شهدوا، لانتهاء الغاية، فمتى قال أحدهم لا إله إلا الله لا يحقُّ لي أن أقاتله.

{ عن أسامة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقال لا إله إلا الله وقتلته؟!". قال: قلت: يا رسول الله! إنما قالها خوفا من السلاح، قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟". فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

فأنا لا يحقّ لي أن أُقاتل إنساناً يشهد أن لا إله إلا الله، بهذا المعنى، وليس المعنى أنني أقاتلهم من أجل أن يشهدوا، لا، والدليل على ذلك أنَّ الإسلام فتح بلاداً كثيرة وترك من رفض الدخول في دين الله على دينه، ولهم أحكامٌ خاصة في كتاب الله تعالى وفي سُنَّة رسوله، أحكام الجزية وغيرها من أهل الكتاب لأننا لا نُكرِههم، لو كنّا نُكرِههم لما كان لهم أحكام في كتاب الله تعالى، وفي سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا نموذج من بعض ما يقوله من يُسمّون أنفسهم القرآنيون، من تناقضٍ بين كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله.
أيضاً من النماذج الحالية الشائعة جداً، ونسمَعُها على وسائل التواصل، يقولون هناك تعارض بين حدّ الرجم الذي ثبت في السُنَّة الصحيحة للزاني المُحصَن، الزاني المُحصَن هو المتزوج الذي أحصن أي تزوج، أو الزانية المتزوجة فهذا له حكم وهو الرجم، هذا لم يرِد في كتاب الله إلا في آيةٍ منسوخة، لكن ورَد في سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقولون كيف تقولون بالرجم والله تعالى يقول:

وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ ۚ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(25)
(سورة النساء)

يقول الموطن الشاهد: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) فيقولن لك: الرجم لا يُنصَّف، كيف نرجمه نصف رجمة؟! يعني نميته نصف موتة؟! الموت لا يتفاوت، فإذاً أنتم تناقضون كتاب الله تعالى، قد جهلوا أيضاً في اللغة، فالآية الكريمة تُبيِّن أنَّ عقوبة الأَمَة هي نصف عقوبة الحُرَّة، الأَمَة نصف الحُرَّة، الحُرَّة مئة جلدة إن زنت، الأَمَة خمسين جلدة، وهذا لا خلاف فيه، كيف نُنصِّف الرجم والموت لا يُنصَّف؟ الأَمَة لا تُرجم أصلاً وإنما عقوبتها هي الجلد خمسين جلدة، سواءً كانت بِكراً أم متزوجة، وهذا واضحٌ في الآية، فالمحصنات في قوله تعالى: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ) يعني الحرائر وليس المتزوجات، بدليل مطلع الآية (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) المحصنة ليست المتزوجة، لو كانت متزوجة كيف ينكحها؟! هل يحلّ لإنسانٍ أن يتزوج متزوجة؟! ولكن المقصود (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَات) أي الحرائر، فقال: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ) أي الحرائر وليس المتزوجات، الحرائر عليهنَّ مئة جلدة والأَمَة دائماً خمسين جلدة، وليس عليها رجمٌ أصلاً حتى نُنصِّفه.
أيضاً قال تعالى: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) والعذاب غير القتل، لأنَّ العذاب يكون للحيّ، كما في قوله تعالى حكايةً عن نبيِّه سليمان عندما غاب الهُدهُد عن مجلسه، قال:

لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ(21)
(سورة النمل)

فالقتل شيء والعذاب على الجسد شيءٌ آخر، فالله هنا يتحدث في الآية عن حدّ الجلد وليس عن الرجم لأنَّ الأَمَة لا تُرجم أصلاً، فليس هناك تعارض بين حدّ الرجم وهذه الآية.
يعني هذا مثالان سريعان أحببت أن أُبيِّن من خلالهما هذه الشُبهة، التي يتكلم بها بعض العقلانيين أو من يُسمّون أنفسهم القرآنيون.

مُعظم من يفصلون بين القرآن والسُنَّة المطهَّرة متأثرون بما يُسمّى المدرسة العقلانية:
في الدقائق المتبقية أريد أن أُعرِّج على موضوعٍ مهمٍ جداً أيضاً، متعلق بالترابط بين القرآن الكريم والسُنَّة، وهو أن اليوم مُعظم من يفصلون بين القرآن والسُنَّة المطهَّرة متأثرون بطريقةٍ أو بأُخرى بما يُسمّى المدرسة العقلانية، وهي توجُّهٌ فكري ظهر أول ما ظهر متأثراً بالفلسفة اليونانية بفكر المُعتزلة والمتكلمين، طبعاً معروفة المعتزلة يقولون: العقل حكَم على النقل والحسَن ما حسَّنه العقل، ثم غاب زمناً وعاد ليظهر اليوم لكن تحت مُسمّيات جديدة، اليوم لا يُسمّوا العقلانيين، يُسمّوا المدرسة التنويرية، التجديدية، يعني بمعنى موائمة بين نصوص الشرع والفكر الغربي، عن طريق تطوير عِلم النصوص وتأويلها بما يتوافق مع الفكر الغربي اليوم، سواءً كانت نصوص العقيدة مثل القضاء والقدر، أو نصوص الأحكام مثل إنكار الحجاب أحياناً، كما يحلو للبعض اليوم، أو حتى بالأخبار كإنكار المعجزات.

أبرز معالم المدرسة العقلانية هو ردّ السُنَّة كليِّاً أو جزئياً:
أبرز معالم هذه المدرسة أو هذا التوجُّه، هو أولاً وهذا موضوعنا ردّ السُنَّة كليِّاً أو جزئياً، كليِّاً نتج عنه القرآنيون، وجزئياً إنكار أحاديث الآحاد، يقول لك نأخذ فقط بالمتواتر، الآحاد لا نأخذ به، أو جزئياً يقول لك: ما يتوافق مع القرآن نأخذه وما لا يتوافق لا نأخذه، وهذا أيضاً زعمٌ غير صحيح، لأنه لا يوجد شيءٌ لا يتوافق مع القرآن أصلاً، كما بيَّنا في الجوانب الخمسة في بداية الحديث، المَعلم الثاني من معالم المدرسة العقلانية، يتوسعوا في فهم النصوص القرآنية من غير ضوابط، لغوية أو أصولية، أو من فهم النبي صلى الله عليه وسلم أو السلف الصالح، يقول لك نحن نفهم القرآن لوحدنا، ويكون هو أحياناً ليس له علاقة ولا يُحسِن قراءة الآية، يعني يُخطئ إذا قرأ الآية، ثم يريد أن يفسرها هو كما يقول تفسيرات معاصرة كما يدَّعي، العقل أيُّها الكرام مهمته في الدين هو أن يفهم النقل، أن يحكُم على صحة النقل ثم يفهمه، فهو عملية إجرائية، نحن عندنا في العلوم الحديثة يقولوا هناك input مدخلات، و output مخرجات، بينهما يتكلمون عن الـ process، أي العمليات، العقل هو العمليات، والعقل ليس input يعني العقل لا يعطيني معلومة كما يدَّعي العقلانيون، يعني أنا عقلي ماذا يقول لي، عقلك لا يقول لك شيئاً، لأنَّ عقلك لا يملك معلومة، عقلك يعالج معلومة، فينتج منتجات صحيحة، أو يعالجها خطأً فينتج منتجات خاطئة، النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجُل:

{ قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أترك ناقتي وأتوكل أو أعقلها وأتوكل؟ قال: بل اعقلها وتوكل. }

(أخرجه الترمذي)


العقل ليس واحداً، العقل فهم وربط:
العقل ربط، العقل من الربط، العقل فهم وربط، يحجز صاحبه، يعقله، يمنعه، فالعقل ليس واحداً، أنا لي عقل وأنت لك عقل، فلو حكَّمنا العقل ورديِّنا السُنَّة بالعقل، فعملياً عقلي سيرد جزءاً من السُنَّة، وعقلك سيرد جزءاً آخر، وعقل الثالث سيرد جزءاً آخر، وإذا كان يوجد مليار ونصف مسلم، فهناك مليار ونصف مليار عقل، كل واحد له عقله، فالعقل ليس حُجةً، العقل هو عمليات، هي عمليات يعالج الإنسان من خلالها المدخلات، فإن كانت المعالجة صحيحة والمدخلات مؤكدة الصحة خرج بمخرجات صحيحة، هذا ما فعله علماؤنا، أعملوا عقولهم في فهم النصوص الشرعية والربط بينها، وبيان الناسخ والمنسوخ، وبيان المُطلق والمُقيَّد، والعام والخاص، والمُجمَل والمفصَّل، عالجوا القضية وخرجوا لنا بالأحكام، هذه مهمة العقل، ابن تيمية رحمه الله تعالى له كلام لطيف جداً، قال في قوله تعالى:

قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ(43)
(سورة هود)

ابن نوح عليه السلام فكَّر بعقله قال: (قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) أليس هناك طوفان، فسأصعد على الجبل، بالعقل جيدة الماء لن يصل إلى الجبل، متى كانت الماء تصل إلى الجبل؟! فسآوي إلى من يعصمني من الماء (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) هذا الخبر هذا النقل (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ).
فيقول ابن تيمية: "من عوَّد نفسه أن يعارض بعقله نصوص الشرع، فإنه سيغرَق لا محالة في ظلمات بحور الأهواء والبِدع"، لأنه أدخل عقله في مقابل النقل، العقل لا يقف في مقابل النقل، العقل يتأكد من صحة النقل ويفهم النقل، كما قلت لكم أيُّها الكرام، جماعة ما يُسمَّون القرآنيين قديمة منذ عصر الخوارج، ومن دلائل نبوُّته صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد بسندٍ صحيح أنه قال:

{ يوشِكُ الرَّجلُ متَّكئًا علَى أريكتِهِ يحدَّثُ بحديثٍ من حديثي فيقولُ بينَنا وبينَكُم كتابُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ ما وجَدنا فيهِ من حلالٍ استحلَلناهُ وما وجدنا فيهِ من حرامٍ حرَّمناهُ ألَّا وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مثلُ ما حرَّمَ اللَّهُ }

(صحيح ابن ماجه)


بالقدسية القرآن أولاً والسُنَّة ثانياً، بالحُجيِّة التشريعية القرآن والسُنَّة حُجة معاً:
بالقدسية القرآن أولاً والسُنَّة ثانياً، بالحُجيِّة التشريعية القرآن والسُنَّة حُجة معاً (ألَّا وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مثلُ ما حرَّمَ اللَّهُ) فاليوم إذا شخص تزوج بنت وعمَّتها يقول لك لا يوجد في القرآن، يعني يوجد إثم عليّ ولكن أخف بقليل! لا، إثمك والعياذ بالله كمن تزوج بنتاً وأختها، لأنَّ حُجيِّة السُنَّة قال تعالى:

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(12)
(سورة التغابن)

وقال تعالى:

مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا(80)
(سورة النساء)

وقال تعالى:

مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(7)
(سورة الحشر)

وقال تعالى:

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا(36)
(سورة الأحزاب)

وقال تعالى:

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(65)
(سورة النساء)

إذاً من ادّعى أنه مُتبِعٌ للقرآن الكريم فيجب أن يكون حتماً مُتبِعاً لسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن القرآن الكريم يأمره باتباع سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.