الأمة بين الواقع والمأمول

  • محاضرة في الأردن - عمان
  • 2024-10-21

الأمة بين الواقع والمأمول

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيُّها الإخوة الأكارم: قبل أيامٍ عُقد في الإسكندرية في مصر، حفلٌ غنائي لأحد الفنانين- بين قوسين- وقد حضر هذا الحفل أكثر من مئة ألف شخص، واضُطرَّ القائمون عليه إلى إلغائه، بسبب حالات الإغماء التي حصلت عند بداية الحفل من شدّة الزحام، وكتب إيدي كوهين على صفحته الرسمية، وهو صحفي من صحفيّي الاحتلال، كتب على صفحته الرسمية على تويتر، أو منصة إكس حالياً، مستهزئاً كتب يقول: هذا هو الجيل الذي سيحاربنا بحسب ما قال عمر المختار، ثم وضع عدة ضحكات على هذه الصورة التي انتشرت على وسائل الإعلام، وكان ثمن التذكرة في هذا الحفل ما يقرُب من سبعمئة جنيه للتذكرة الواحدة، وفي الوقت نفسه عُقد حفلٌ آخر لمن يُسمَّون الفنانين في ألمانيا، للعرب في ألمانيا، وأيضاً حضره الألوف ودفعوا عليه آلاف اليوروهات، وتسابقت النساء لالتقاط الصور التذكارية مع هذا المطرب، ونَيل شرف مصافحته، وكانت سعيدة الحظ من تستطيع التقاط صورةٍ معه، أو أخذ قُبلةٍ من وجنته.
هذا واقع لا نستطيع إنكاره، وهذا يؤكد قوله صلى الله عليه وسلم، لمّا تحدَّث عن الأمة في آخر الزمان، واستغرب الصحابة الكرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

{ يُوشِكُ الأممُ أن تَداعَى عليكم، كما تَداعَى الأكَلةُ إلى قصْعتِها، فقال قائلٌ: ومن قِلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءُ السَّيلِ، ولينزِعَنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ، فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ وما الوهْنُ؟ قال حبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ }

(الألباني السلسلة الصحيحة )


أعظم ما يخذُل به الإنسان أهله أن يعصي الله تعالى:
هذا مصداقٌ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، الحقيقة هو واقعٌ مؤسف ويندى له الجبين، لا سيما أنه في وقت تبعد الإسكندرية عن غزَّة مئات الكيلو مترات، يقطعها الإنسان بالسيارة في ساعاتٍ قليلة، فعلى مرمى النظر، أهلنا في غزَّة يُهجَّرون، ويُبادون، ويُقصَفون، وهؤلاء سادرون في غيِّهم، ثم يسألك بعض هؤلاء كيف ننصُر غزَّة؟ والحقيقة أنكم قد خذلتموها، وأعظم ما يخذُل به الإنسان أهله أن يعصي الله تعالى، لأننا إنما يكتب الله تعالى لنا الغلبة على أعدائنا، بطاعتنا لله وبمعصية أعدائنا لله، فإذا استوينا معهم في المعصية كانت الغلبة لهم بالقوة، كما قال عمر رضي الله عنه، فهذا أمرٌ مؤسفٌ جداً، وطرحه ليس من باب اليأس أو القنوط، فنحن دائماً متفائلون بالله تعالى، ومتفائلون بالفئة التي هي على منهج الله تعالى، لا يضرُّهم مَن خذلهم إن شاء الله، ولكن في الوقت نفسه، كما أننا نأسى لحال هؤلاء وندعو لهم بالهداية والصلاح ونأسى لحالهم، فإننا نُحذِّر الأجيال القادمة من الاستمرار على هذا النهج، لأنَّ هذا النهج لن يؤدي إلى نصر.
آلان دونو فيلسوفٌ كَنَدي درس في جامعة باريس الفلسفة، ويُدرِّس حالياً في علم الاجتماع في جامعة كيبيك في مونتريال، ويقيم هناك، وألَّف كتاباً بالفرنسية سمَّاه نظام التفاهة، ونُقل إلى العربية عرَّبته مشعل الهاجري، نظام التفاهة كتابٌ يتحدث عن العصر الذي نعيشه، وهو أنَّ هذا العصر يقتل التميُّز والإبداع، والتألق والعلوم، ويُحل محلّها التافهين، الذين يقومون على إيهام الناس بمنجزاتٍ غير واقعية وغير موجودة أصلاً، أو لا تُسمّى منجزات، ويعلقونهم بهذه التفاهة، والحقيقة أنه فعلاً نظام التفاهة، يعني يأسى الإنسان لحال هذه الأمة في عصر التفاهة، بمعنى أنك اليوم قد تقوم ببثٍ مباشر لتفسير آيةٍ في كتاب الله تعالى، أو شرح حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو توعية الأُمة بالأخطار المُحدقة بها، فتجد عليه مئات المشاهدات، أو آلاف المشاهدات في أحسن الأحوال، بينما يخرج تافهٌ أو تافهة على الإعلام، ويحصُد ملايين المشاهدات لأغنيةٍ لا يعلم هو ما يقول فيها، ولا يعلم المستمعون ماذا يقول فيها، فيحصُد عشرين وثلاثين وأربعين ومئة مليون مشاهدة في ساعات!
ففعلاً هو نظام التفاهة بامتياز للأسف الشديد، فيجب تحذير الناس من الشيء التافه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، و أَشرافَها، و يَكرَهُ سَفْسافَها }

(الألباني صحيح الجامع)

فمجالس العِلم من معالي الأمور، وشرح كتاب الله تعالى من معالي الأمور، والحديث عن هموم الأمة من معالي الأمور، والتشاور فيما ينبغي أن نفعله لأهلنا الذين يعانون، ويُهجَّرون، ويُقصَفون، هذا من معالي الأمور، بينما عندما تكون الهموم في سفساف الأمور ودنيئها، فهذا المطرب أين سيُغنّي؟ وماذا سيُغنّي؟ وماذا قال في أغنيته؟ وكم مرة كرر اللفظة الآتية في أغنيته؟ وماذا تحدَّث عن كذا وعن كذا؟ وأحياناً يفاجئك بعض من يُسمَّون الإعلاميين أيضاً، الذين ينشرون التفاهة باستضافة بعض الوجوه الإعلامية التي يُسوَّق لها، أو تجري عليها ملايين المشاهدات، فيُسألون عن رأيهم في بعض الأمور الدنيوية، ثم يُسألون عن رأيهم في الأمور الدينية، فيُسأل الفنان الفلاني، أو الدرامي الفلاني، أو المسرحي الفلاني، هل هناك بعد الموت جنَّةً أو نار؟ فيُبدي رأيه في المسألة، تارةً يقول أعتقد أنه جنَّة فقط لا يوجد نار، والثاني يقول أعتقد أنه فناءٌ مُطلق وليس هناك شيءٌ بعدها، ثم يُسألون عن رأيهم بالإله، ماذا يعني لك الله؟ يقول لك الله بالنسبة لي الخير والسلام، والثاني يقول له أنا لا يعنيني هذا الأمر، والثالث والرابع، ثم يُسأل عن حالات الزِنا التي مارسها، فيُقال له كم مرة؟ كم صديقة؟ فيضحك ويبتسم ويقول كثير، فتمازحه مقدمة البرامج أو مقدِّم البرامج!.
شيءٌ ما كنّا نتصوَّر أن نصل إليه، يعني أن يخرج الزاني الذي يقوم بالدعارة والعياذ بالله، على الشاشة يُنظِّر ويُبيِّن ويأخذ ويعطي ويُفاخر بمعصيته وإثمه، فشيءٌ مؤسفٌ جداً، فعلاً هو نظام التفاهة كما وصفه آلان دونو، الكاتب كما قلنا كَنَدي وألَّف الكتاب بالفرنسية، لكن فعلاً يصف حال وصل إليه العالم بالكل، وهو أن يُرفَع من شأن التافهين، وأن يُقلَل من شأن المتميزين والمبدعين والعلماء، في شتَّى المجالات، لا أقول المجالات الدينية فقط، كل تافهٍ يُرفَع الآن، وفي بعض البلاد يُمنح ميزات مُعيَّنة، ويمنح أمور مُعيَّنة من الميزات التي لا يُمنحها غيره، لأنه بزعمهم يقدِّم منتج أو يقدِّم شيءٌ معين، فإلى الله المشتكى.

نحن بإيماننا بالله وتفاؤلنا وثقتنا به لا ينبغي أن ننسى أهلنا في غزَّة:
على كلٍّ أيُّها الكرام: نحن ما زلنا في قضيتنا المركزية كما يقال، وهي ما يعانيه أهلنا اليوم في غزَّة بعد عامٍ كامل أو يزيد، من الحصار والتضيَّيق والتشريد والقتل والإبادة، فلا بُدَّ أن نكون على مستوى هذا الحدث الكبير، ولا بُدَّ أن نبقى متيقظين، وأن نبقى كما كنّا قبل سنة من تعاطفنا ومحاولاتنا في كل اتجاه، لنصرة أهلنا وعونهم والوقوف معهم، لأنَّ الإنسان بطبيعته مع الأيام ينسى أو يغفل، أو يتناسى، ونحن إن شاء الله بإيماننا بالله، وتفاؤلنا وثقتنا بالله، لا ينبغي أن ننسى أهلنا، ولا ينبغي أن ننسى حالهم وما وصل إليه الأمر، الآن هناك أُناسٌ ربما يموتون من الجوع، وكانت جدّاتُنا رحمهم الله يقولون لا أحد يموت من الجوع، عشنا ورأينا من يموت من الجوع، ومن يموت من عدم وجود العلاج، والعالم صامت يتفرَّج على هذه المأساة، لا تعنيه، وقد آنَ أن نعلم هؤلاء جميعاً الصامتون والفاعلون، هم جميعاً شركاء في الجريمة، لنفهَم قوله تعالى:

هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(119)
(سورة آل عمران)

وقوله تعالى:

وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ(120)
(سورة البقرة)

فإنَّ هؤلاء المجرمين الذين يكيدون لأهلنا وينكِّلون بهم، مِلَّتهم واحدة، مِلّة الكفر واحدة، يتبادلون الأدوار، تارةً يقول أحدهم سنوقف الحرب، وتارةً يقول الآخَر يجب أن نعقد هدنة، يتبادلون الأدوار ليعطوا الوقت الكامل لإتمام مخططهم في تهجير أهلنا وإبادتهم، والبعض يُضحك عليه بذلك، فيظن أنَّ هذا صديقٌ له وهذا عدو، والحقيقة كلهم أعداء، لكنهم يتبادلون الأدوار لحين إتمام المهمة التي بدأوا بها.

حتى يطمئننا المولى جلَّ جلاله في بعض الأوامر الشرعية التي فيها كلفة يأتي بها بصيغة (كَتَبَ):
أيُّها الإخوة الأحباب: إنَّ الله تعالى كتب في كتابه كتاباً، والله تعالى عندما يكتب فإنه لا رادَّ لكتابته، قال تعالى:

كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(21)
(سورة المجادلة)

والكتابة شأن البشر، إذا يكتبون ليوثِّقوا، والله تعالى أمر بالكتابة فقال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(282)
(سورة البقرة)

لأنَّ الكتابة توثِّق الأمر، توثِّق الديَن، توثِّق البيع، توثِّق الشراء، فندب الشرع أو أوجب في بعض الحالات الكتابة للتوثيق، لكن الله تعالى غنيٌ عن الكتابة، لكنه يستخدم هذا اللفظ للدلالة على أهمية الأمر، تماشياً مع طبيعة الإنسان، الإنسان اليوم إذا قلت له هذه ألف، يقول لك اكتب لي، يطمئن للكتابة، فحتى يطمئننا المولى جلَّ جلاله فإنه يقول (كَتَبَ) وفي بعض الأوامر الشرعية التي فيها كلفة على النفس، يأتي بها الله تعالى بصيغة (كَتَبَ) فالصيام مثلاً جاء بلفظ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)
(سورة البقرة)

والقتال جاء بلفظ كُتب لأنه تكليف فيه مشقَّة:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(216)
(سورة البقرة)

وما يتعلق بالمال:

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ(180)
(سورة البقرة)


جاءت التكليفات بلفظ الكتابة للدلالة على مشقَّتها وأهميتها:
فجاءت هذه التكليفات بلفظ الكتابة للدلالة على مشقَّتها وأهميتها، ومشقَّتها على النفس، وما فيها من كلفة، وفي الوقت ذاته يقول الله تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ) هذا مؤكِد عظيم، ثم يقول المولى: (لَأَغْلِبَنَّ) هذه اللام أيضاً للتوكيد (لَأَغْلِبَنَّ) والنون للتوكيد، نون التوكيد الثقيلة (لَأَغْلِبَنَّ) ثم قال: (أَنَا وَرُسُلِي) وأنا للتوكيد، هذا ضمير فصل، ما قال لأغلِبنَّ ورسلي، قال: (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) هذا للتوكيد (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أيضاً مؤكدات، إنَّ حرف مشبه بالفعل للتوكيد، والجملة الاسمية (اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) للتوكيد، فانظروا إلى كمية المؤكِدات في الجملة (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)).
فهذا الأمر مقضي ومنتهي، والله تعالى الغلبة له ولرسله، والمقصود هنا بالرسُل ليس فقط الرسُل الذين أُرسلوا بالرسالات كسيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإنما رسُل الله هم الذين يحملون منهجه، وهم الذين يسيرون على منهج الله تعالى، ويعتصمون به، بهذا المعنى العام كلمة الرسُل تعمّ كل من كان رسولاً لله، بمعنى أنه يحمل رسالته ويجاهد بها (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)) وما كتبه الله لا يمحوه أحد، وما فرضه الله تعالى لا يمكن أن ينقضه أحد (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)) والله تعالى قال:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39)
(سورة الحج)

وما أذِن به الله تعالى فإنَّ الله محققٌ وعده، وناصرٌ جنده، وعبده، ونبيِّهُ، وأولياءه.

أعظم ما يفعله أعداؤك بك أن يحققوا مُرادك بالشهادة:
فنحن إذ نرى ما نرى من نشوة طغاة، وهم يحققون بعض أهدافهم، ويظنون أنهم بقتل هذا القائد أو اغتيال ذاك يفعلون شيئاً، هم في الحقيقة يحققون رغبته يقتلونه، لأنه كان يتمنى الشهادة فقرَّبوها إليه، طبعاً هو توفي في أجله، لم ينقص من أجله يوم، ولكن كأنهم قرَّبوا له هدفه، ظنّوا أنفسهم أنهم قد اغتالوه في الوقت الذي يريدون، إن ظننتم ذلك فأنتم قد قرَّبتموه إلى ما كان يتمناه ويريده، فهو يُجاهد من أجل أن يُقتل في سبيل الله، فأعظم ما يفعله أعداؤك بك أن يحققوا مُرادك فقط، هذا ما يستطيعونه، فإن ظنّوا ذلك فهُم في الحقيقة لم يفعلوا شيئاً إلا أنهم قد حققوا ما يريده هذا البطل أو ذاك، في الشهادة في سبيل الله تعالى، لكن أمام الناس، وأمام عوام المؤمنين، بلحظة نشوة الباطل وانتشائه وتفاخره بأفعاله، لعلَّ هذه اللحظات تصيب أهل الإيمان ببعض التلكؤ، أو ببعض الخوف، أو ببعض القلق، أو ببعض الخوَر، وهذا امتحان عظيم حقيقةً.
ومن أعظم الامتحانات التي يمتحن الله تعالى بها عباده، أن يؤخر النصر، من أعظم الامتحانات أن تطول مدة الابتلاء، في الشهر الأول هناك ممتحنون، ومعظم الناس واقفون مع الحق، منتصرون للحق، امتنعوا عن المعصية من أجل الحق، بذلوا أموالهم من أجل الحق وأهل الحق، في الشهر الثاني السبعين بالمئة أصبحوا ستين بالمئة، بالثالث أصبحوا خمسين، في الرابع أربعين، فمن أعظم الامتحانات والابتلاءات التي تصيب أهل الإيمان أن يتأخر النصر، وأن يُمدَّ في الابتلاء، الآن سنة كاملة والابتلاء عظيم، والناجحون ارتفعت مراتبهم وأسهمهم إلى أعلى ما يكون، والمثبِّطون والمخزِّنون نزلت أسهمهم وباءوا بأعظم خيبةٍ إلى أدنى ما يكون، هذه سُنّة الله تعالى في الابتلاء، حتى قال بعض أهل العلم: إن الله يقوُّي أعداءه ويقوُّيهم ويقوُّيهم حتى يصلوا إلى مرحلةٍ من القوة، يُبتلى أهل الإيمان فيقول واحدهم أين الله؟ ومتى نصر الله؟ ثم إنَّ الله ليُظهِر آياته في النصرة للمظلومين، حتى يقول الملحدون لا إله إلا الله، فهذا شأن الابتلاء العظيم، قال تعالى:

هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11)
(سورة الأحزاب)


البطولة أن تنجح لحظة الامتحان من الله عزَّ وجل:
الله تعالى سمّاه (زِلْزَالًا شَدِيدًا) وقال: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) متى؟ عندما أصبح المؤمنون في وضعٍ حرج، العدو يحيط بهم من كل اتجاهٍ في غزوة الخندق، والوضع مؤلم إلى أعلى حد، حتى أصبح أحد المسلمين يقول: أيعدُنا صاحبكم- ولم يقل أيعدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- أيعدُنا صاحبكم أن تُفتح علينا بلاد كِسرى وفارس أو قيصر، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته، أي أصبحنا في مرحلةٍ أحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته فيأمن من عدوه، ثم النبي صلى الله عليه وسلم يضرب ضربةً فيقول: فُتحت بلاد كسرى، والضربة الثانية فُتحت بلاد قيصر، وكأنه شيءٌ من الخيال، وثبَت من ثبَت، وأحسن الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم مَن أحسن، ومَن أساؤوا الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم قال قائلهم: بقيت أتصدق عشرين سنة، أُصلّي وأتصدَّق - النفل وليس الفرائض- رجاء أن يغفر الله لي سوء ظني برسول الله صلى الله عليه وسلم، من شدّة ما وجد في نفسه من الألم، عندما وجد أنه في لحظة الامتحان رسب، أو تلكأ أو تباطأ.
فنحن في لحظاتٍ صعبة، وفي آلامٍ شديدة، ولا نُنكِر ذلك، لكننا في الوقت نفسه متطلعون إلى آمالٍ أكبر، فالمُدة الطويلة التي نمنا بها ونحن في ضوء الشمس، تحتاج إلى مُدةٍ لنستيقظ، نحن كما قالوا: الحق هو ضوء الشمس، والباطل هو الظلام، لكن الذي يعمل في الظلام ينتصر على النائم في ضوء الشمس، الحق هو ضوء الشمس، والباطل هو الظلام، لكن من يعمل في الظلام، يعمل وهو على باطل، قد يُقيمه الله تعالى وينصره على من ينام في ضوء الشمس ويترك حقه، فنحن لسنواتٍ مرَّت، نحن بضوء الشمس بالحق، نحن مسلمون ولله الحمد، لكن التخاذل الذي حصل في نصرتنا لديننا، وفي تعاوننا على ذلك، يحتاج إلى وقتٍ آخر لتعديل ما حصل.
أنت عندما تُهمل الحسابات لشهرٍ كاملٍ لا تُصحَّح معك في يوم، تحتاج إلى شهرٍ للتصحيح، وعندما يقعد أهل الحق عن حقهم عشرات السنوات، لا يتحقق لهم ما أرادوا في سنة، هذه طبيعة الحياة، طبيعة المعركة، أنَّ الذي ينام عن حقه طويلاً ثم يستيقظ، يحتاج وقتاً فكيف إذا كان الاستيقاظ جزئياً.
كما قلنا هؤلاء مسلمون الذين بالإسكندرية، مئة ألف هؤلاء مسلمون من بني جلدتنا، نسأل الله لهم الهداية والصلاح، تجمَّعوا من أجل حضور حفل، وبذلوا من أجل حضور حفل، ولو جمعوا الأموال التي سيبذلونها لحضور هذا الحفل، وأهدوها لأهلهم في غزَّة، أو لو تركوا هذا التجمع ابتغاء وجه الله، وقالوا يا رب نحن لن نعصي الله تعالى حتى لا نكون سبباً في زيادة معاناة أهلنا، أو لو قالوا في أنفسهم بدل أن نجتمع هذا الاجتماع، سنجتمع لنقوم الليل وندعو لأهلنا، ففرَّحوا أهلهم في غزَّة عندما ينظرون إليهم، لكنهم الآن أدخلوا إلى قلوبهم الحزن.
لمّا اليوم أحدهم في شمال غزَّة جالس بلا طعام وبلا مأوى، وينظر إلى هذه الصورة وقد انتشرت، صورة لمئة ألف قد تجمَّعوا في مكانٍ واحد ليُحيوا حفلاً غنائياً لساقطٍ أو لتافه، فكيف يكون حاله؟ أهلنا يخذلوننا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

لا بُدَّ أن نُعيد حساباتنا في ترتيب بيتنا الداخلي ويبدأ كل واحد منا بإصلاح نفسه أولاً:
فإخواننا الكرام بعد مرور عامٍ على هذه الأحداث المؤلمة والمؤمِّلة، نسأل الله أن يكون الأمل فيها قريباً، وأن تتحقق فيها الآمال، لا بُدَّ أن نُعيد حساباتنا في ترتيب بيتنا الداخلي، بأن يعكف كل واحدٍ منّا على نفسه أولاً بالإصلاح فيُصحِّح، وأنا أوَّلكم، أن أُصحِّح في نفسي لعلّيّ مُقصِّرٌ في إتقان صلاتي، لعلّيّ مُقصِّرٌ في قيام ليلٍ، لعلّيّ مُقصِّرٌ في صدقةٍ أتصدق بها أستطيعها ولا أفعلها، لعلّيِ مُقصِّرٌ في تربية أولادي على الإيمان والإسلام، فأعكف أولاً على نفسي، ثم على بيتي، على أُسرتي الصغيرة، فهل أُقيم أمر الله فيهم أم لا أُقيم أمر الله فيهم.
وبعد ذلك أنتقل إلى عملي، فهل عملي وفق منهج الله، أم أنه مخالفٌ لمنهج الله، هل أنصح به أم أغش، هل أُقدِّم البضاعة الجيدة أم البضاعة السيئة بالسعر الأعلى، هل أنا محامٍ أُدافع عن المظلومين أم عن الظالمين، هل أنا طبيبٌ أُعطي المريض حقه وعلاجه ودواءه، أم أتعاقد مع المختبرات من أجل أن آخذ نسبةً، وأُعطي المريض من التحاليل ما لا يحتاجها، هل أنا مُدرِّسٌ أُدرِّس الطلاب المنهاج كاملاً، أُراجع واجباتهم، أم أقول أُقدِّم على قدر الراتب فقط، والباقي أُلجئهم إلى الدروس الخاصة وأهلهم غير قادرين عليها، العمل، فيجب أن نتفقَّد هذه الدوائر الثلاث أولاً، لأنها كالتعليم الأساسي الذي لا يمكن الانتقال إلى ما بعده إلا بعد إتقانه.
الدائرة الأولى: هي نفسي

قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9)
(سورة الشمس)

هل حملتها على طاعة الله، أم تركتها تفعل ما يحلو لها، ثم بيتي

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6)
ٌ(سورة التحريم)

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ(132)
(سورة طه)

ثم عملي هل أقمته وفق منهج الله أم بخلاف منهج الله، ثم بعد ذلك، بعد تفقُّد هذه الدوائر التي أنا مسؤولٌ عنها، والقرار فيها لي، ومسؤوليِّة جزائية أمام الله عَليّ، أنتقل للدائرة الأوسع، هل كان دوري إيجابياً أم سلبياً في نصرة إخواني، في معونتهم، في فعل شيءٍ لهم، في تقديم شيءٍ لهم من المال، من النصح، من الكلمة، من العِلم، من الخبرة، كلٌّ في موضعه، فالمهم أن أتفقَّد موضعي في طريق النصر وطريق الحق، كلٌّ منّا يتفقَّد موضعه هو، يتلمَّس موضع أقدامه، فإن كنّا قائمين على شرع الله عزَّ وجل فالله الحمد والمِنَّة، وإن كان هناك تقصيرٌ فينبغي تداركه، وأن نحتسب ذلك رضاً لله ونصرةً لأهلنا.
أنا عندما أمتنع عن حضور مكانٍ فيه إساءةٍ لديني، أو فيه معصيةٍ لله تعالى، أقول هذا ابتغاء وجه الله ونُصرةً إن شاء الله لأهلنا في غزَّة، أنصرهم بذلك، امتناعي عن المعصية فيه نصرٌ لهم، لأن الله إنما ينصر هذه الأمة بطاعتها لربها، ويخذُل الأعداء بمعصيتهم، لكن لمّا نستوي معهم في المعصية تكون الغلبة للأقوى.

الأيام تمضي بسرعة والمهم أن نتفقَّد موضعنا أين نحن من أهلنا ومن نصرة ديننا:
أحبابنا الكرام: بعد هذا العام والأيام تمضي، سبحان الله العام مضى على الجميع، مضى على الصابرين ومضى على الجزِعين، ومضى على الخونة ومضى على الأُمناء، ومضى على المجرمين ومضى على المحسنين، هذا العام مضى على الجميع، أحسن فيه مَن أحسن، وأساء فيه من أساء، الأيام تجري جرياً، بالأمس كنّا نقول طوفان وندعو لأهلنا، واليوم نقول مضى عامٌ على هذا الحدث، عامٌ كامل وأكثر، مضت الأيام بسرعةٍ لم نكن نتخيلها، وجميعنا إلى الموت صائرون، هذا حال الدنيا، فالمهم أن نتفقَّد موضعنا ومكاننا، وأين نحن من أهلنا، وأين نحن من نصرة ديننا، أمّا متى يأتي نصر الله فهذه عند الله، هو أعلم بالوقت المناسب والمكان المناسب والظرف المناسب، لكن نحن ينبغي أن نتفقَّد موضعنا هل نحن على الطريق أم على غيره، لا تقلق على هذا الدين إنه دين الله، ولكن ليقلق كلٌ منّا على نفسه فيما إذا سمح الله تعالى له أو لم يسمح، أن يكون جندياً له

وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ(173)
(سورة الصافات)

والله تعالى أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته