بين الرجاء والخوف

  • محاضرة في الأردن
  • 2020-01-20
  • عمان
  • الأردن

بين الرجاء والخوف

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
اليوم موضوعنا يتبع موضوع اللقاء السابق في بناء النفس لكن اليوم القضية أخص، الموضوع أخص من عموميات بناء النفس، الموضوع اليوم الخوف والرجاء، هذه الثنائية كثيراً ما نسمع بها ثنائية الخوف والرجاء، هل المؤمن أقرب إلى الخوف أم أقرب إلى الرجاء، متى يكون الرجاء؟ متى يكون الخوف؟ كيف يكون التلازم بينهما؟ ترى أحياناً إنساناً مبالغاً بالخوف إلى حد اليأس من رحمة الله، وترى في المقابل إنساناً مبالغاً في الرجاء إلى حد الاستهانة بحرمات الله والعياذ بالله، فهذه القضية في بناء النفس لابد من التوازن فيها، أولاً يقول تعالى يصف ملائكته وعباده المقربين ورسله يقول:

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا
(سورة الإسراء: الآية 57)

فوصفهم بأنهم يرجون رحمة الله وبأنهم في الوقت نفسه يخافون عذاب الله، معاً في الوقت نفسه، في آيةٍ ثانية يقول تعالى:

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ
(سورة الحجر: الآية 49-50)


التلازم بين الخوف والرجاء
أيضاً هذا تلازم، يعني لا تنبههم فقط أن الله غفور رحيم فيتساهلوا في الطاعات ويكثروا من المعاصي والآثام ويهملوا التوبة، لا، (وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) فكما أن الله غفورٌ رحيم

لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ
(سورة طه: الآية 82)

فإنه في الوقت نفسه جل جلاله عنده عذابٌ أليم لمن أصرّ على الكفر والعصيان وما إلى ذلك، هذا أيضاً من باب التوازن، إذا نظرنا في أسماء الله الحسنى (وإِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ)

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ }

(رواه البخاري ومسلم)


الإحصاء هو العلم ببواطن الأمور
أولاً: أخواننا : الإحصاء غير العد، والدليل في سورة مريم:

لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا
(سورة مريم: الآية 94)

الإحصاء يختلف عن العد
لوكان الإحصاء هو العد ما كان هناك معنى أحصاهم وعدهم، العد أمر سهل جداً، يعني أنت تقول كم طالب في الصف؟ إثنان وأربعون، هذا عد فقط، أما الإحصاء: كم طالب عنده مشكلة في بيته؟ كم طالب أمه مطلقة؟ كم طالب يحتاج إلى دعم في الدروس؟ كم طالب ضعيف في الرياضيات؟ كم طالب متفوق في المواد الأدبية؟ الآن أنت تحصي، فالإحصاء هو العلم ليس بالعدد فقط وإنما ببواطن الأمور، فلما قال عن الأسماء الحسنى، قال: (مَنْ أَحْصَاهَا)، ما قال: من عدّها، قال:

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ
(سورة الحشر: الآية 23)

هنا لا يكفي العد، الإحصاء يعني أن يعمل بمقتضاها، هذا معنى قوله تعالى:

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا
(سورة الأعراف: الآية 180(

أن تأخذ من هذه الأسماء نصيباً
المعنى المتبادر إلى الذهن وهو صحيح أن تقول: يا غفور اغفر لي، فأنت دعوت الله باسم الغفور أن يغفر لك، يا رحيم ارحمني، هذا دعاء بأسماء الله الحسنى، المعنى الأعمق الذي قاله العلماء: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا) قال: أن تأخذ من هذا الاسم نصيباً لك، فإذا كان الله تعالى ستّيراً فأنت هل تعمل بالستر أم تفضح الناس؟ هل تستر نفسك أم تفضحها؟ إذا رأيت من أخيك زلّةً هل تسترها وكأنك لم ترها أم تشيعها بين الناس؟ فأنت عندما تتخلق بخلق الستر فأنت دعوت الله باسمه الستّير، الله عفو، هل تعفو عن الناس أم تقيم عليهم النكير وتأخذ حقك كاملاً ولا تقبل العفو أبداً؟ فالله عفو وينبغي أن تاخذ أنت شيئاً من العفو جل جلاله، هذا المعنى الثاني، فنحن عندما ننظر في أسماء الله الحسنى نجد هناك أسماء متعلقة بالرجاء وأسماء متعلقة بالخوف، فأنت إذا سمعت الحليم، رجاء، يحلم جل جلاله على عباده، الغفور، الغفار، العفو، التواب، الكريم، هذه أسماء الرجاء، لكن في الوقت نفسه الله قوي، ومتين، وقادر ومقتدر، وجبار، وقهار، وعزيز، وعليم، وخبير، فإذاً هناك توازن حتى في الأسماء الحسنى، بين أسماء تقرأها فتشعر برجاء رحمة الله، وأسماء تقرأها فتشعر بالخوف من الله، لأنه يراقب، الرقيب يراك، أيضاً هذا توازن، إذا نظرنا أيضاً في آيات أخرى قال:

إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً
(سورة الأنبياء: الآية 90)

وقدّم الرغب على الرهب، رغبةً بما عند الله ورهبةً وخوفاً مما عنده من عذاب (رَغَباً وَرَهَباً)، وفي آيةً ثانية:

يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعاً
(سورة السجدة: الآية 16)

هنا قدّم الخوف (خَوْفًا وَطَمَعاً) خوفاً من عذابه، وطمعاً برحمته وبمغفرته وبجنته، هذا مجمل الآيات تتحدث عن التوازن بين الرجاء والخوف.

أجمل ما قيل في الخوف والرجاء
الخوف والرجاء جناحان
من أدق وأجمل ما قيل في الخوف والرجاء عن بعض السلف قالوا: "الإنسان في سيره إلى الله كالطّائر، رأسه الحُب، وجناحاه رجاءٌ وخوف"، فنحن نطير إلى الله بجناحي الرجاء والخوف، الطائر إذا مالَ فيه جناحٌ عن الآخر، فوراً يرجع يستوي، هل يطير الطائر إلى هدفه بجناح واحد؟! لابد من الإثنين معاً، كلاهما مطلبان، الخوف وحده لا يطير الطائر، وبالرجاء وحده لا يطير، لكن الضابط في الرجاء والخوف هو الرأس وهو الحب، فأنت تحبه وأنت تخافه، وأنت تحبه وأنت ترجو ما عنده معاً، هذا رأس الطائر، فطائرٌ بلا رأس ليس له وجود أصلاً نهائياً، لابد من الحب، وطائرٌ يطير بحب من غير رجاء وخوف هذا يعني؛ قالوا تزندق، لأنها تسقط التكاليف، هؤلاء بعض الغلاة، نحن نحب الله، تحب الله؟ أين الرجاء والخوف؟ تحتاج إلى جناحين حتى تطير إليه، والذي يكتفي بجناح واحد يقع أيضاً في: إما الوقوع في المحرمات إذا غلّب جانب الرجاء أو الوقوع في اليأس والتشدد إذا غلّب جانب الخوف، فلابد من الجناحين ولابد من الرأس، هذا من أجمل ما تكلم به السلف عن قضية الرجاء والخوف.
إذاً أخواننا الكرام: نحن نطير إلى الله رجاء ما عنده وخوفاً من عذابه معاً، أحياناً الإنسان بحالة الصحة قوي، الحمد لله صحته جيدة وليس به مرض وكل الامور تمام، يغلب عليه جانب الرجاء من غير أن يشعر، فلابد أن يتذكر الخوف من الله، لأن الله تعالى يقول:

كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ
(سورة العلق: الآية 6-7)


بشرى كبيرة لمن يجمع الرجاء والخوف في داخله
عندما يقوى ويشتد وصحته جيدة، وأمواله جيدة، من غير أن يشعر، بعقله الباطن، قد لا يقولها بلسانه، لكن هو يشعر أنه مستغنٍ عن الله والعياذ بالله، من غير أن يشعر، الأمور جيدة وماشية، فيغلب فيه جانب الرجاء فيقع في المعاصي، فلابد لمن وهبه الله صحةً وقوةً أن يُغلِّب جانب الخوف، يدخله دائماً في حسابه، أما إذا جاء المرض، نسأل الله السلامة، لكن ربنا عز وجل يبتلي عباده، إذا جاء المرض جاء الضعف، جاء الفقر، هنا يُغلَّب جانب الرجاء فيقوى إيمانه ويشتد، فيتوازن، يعود إلى توازنه، من هذا المعنى:

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ دخلَ على شابٍّ وَهوَ في الموتِ، فقالَ كيفَ تجدُكَ؟ قالَ واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أرجو اللَّهَ وإنِّي أخافُ ذنوبي، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ: لا يجتَمِعانِ في قلبِ عبدٍ في مثلِ هذا الموطِنِ إلَّا أعطاهُ اللَّهُ ما يرجو وآمنَهُ ممَّا يخافُ }

(صحيح الترمذي)

إذا اجتمع الرجاء والخوف في قلبك
(وَهوَ في الموت) يعني ينازع يحتضر، النبي صلى الله عليه وسلم انظروا إلى رقته صلى الله عليه وسلم يزور أصحابه في بيوتهم، فزار هذا الشاب، فقالَ كيفَ تجدُكَ؟ يعني كيف حالك؟ كيف تجد نفسك؟ كيف أنت؟ قالَ: واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أرجو اللَّهَ وإنِّي أخافُ ذنوبي، أرجو الله، وأخاف ذنوبي، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ لا يجتَمِعانِ، أي الخوف والرجاء، في قلبِ عبدٍ في مثلِ هذا الموطِنِ إلَّا أعطاهُ اللَّهُ ما يرجو وآمنَهُ ممَّا يخافُ، يعني إذا اجتمع الرجاء والخوف في قلبك فالله تعالى يعطيك ما رجوت ويأمنك مما خفت، وهذا معنى عظيم جداً وبشرى كبيرة لمن يجمع الرجاء والخوف في داخله.
أيضاً معنى مماثل:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: (قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وعِزَّتي وجَلالي، لا أجمَعُ على عَبدي خَوفينِ، ولا أجمَعُ له أمنَينِ؛ إنْ أمِنَني في الدُّنيا أخَفْتُه يومَ القيامةِ، وإنْ خافَني في الدُّنيا أمَّنْتُه يومَ القيامةِ }

(تخريج منهاج القاصدين)


الخوف من الله فيه حب
عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: يقول تعالى في الحديث القدسي: وعزتي يقول الله: وعِزَّتي لا أجمَعُ على عَبدي خَوفينِ، ولا أجمَعُ على عَبدي أمنَينِ، إنه إذا أمِنَني في الدُّنيا أخَفْتُه يومَ القيامةِ، وإذا خافَني في الدُّنيا أمَّنْتُه يومَ القيامةِ، فالمؤمن يخاف من الله فيأمن، لذلك قلت لكم: حتى الخوف من الله فيه حب، الحب لا يسقط لا بالخوف ولا بالرجاء، نحن بحالة الدنيا إذا إنسان خائف من إنسان لا يكون يحبه غالباً، قد يخاف من أبيه ويحبه ممكن، لأن الأب رحيم ودود لله المثل الأعلى، الله ضرب المثل قال:

وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ
(سورة البلد: الآية 3)

رحمة الأب والأم من رحمة الله
رحمة الأب من رحمة الله، رحمة الأم من رحمة الله، فقد تخاف من أبيك وأنت ترجوه وأنت تحبه، لكن في الأعم الغالب من الناس إذا كنت تخاف من إنسان فأنت لا تحبه، مع الله تخافه حباً وترجوه حباً، لذلك إذا أوى المسلم إلى فراشه في دعاء ما قبل النوم في بعض الأدعية النبوية يقول: لا ملجأَ ولا مَنجَى منْكَ إلَّا إليْكَ، لا ملجأَ ولا مَنجَى منْكَ إلَّا إليْكَ.

{ عن البراء ابن عازب أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ قالَ لَهُ: ألا أعلِّمُكَ كلِماتٍ تقولُها إذا أويتَ إلى فراشِكَ فإن مِتَّ من ليلتِكَ متَّ على الفطرةِ وإن أصبحتَ أصبحتَ وقد أصَبتَ خيرًا تقولُ: اللَّهمَّ أسلَمتُ نَفسي إليْكَ ووجَّهتُ وجْهي إليْكَ وفوَّضتُ أمري إليْكَ رغبةً ورَهبةً إليْكَ وألجأتُ ظَهري إليْكَ لا ملجأَ ولا مَنجَى منْكَ إلَّا إليْكَ آمنتُ بِكتابِكَ الَّذي أنزلتَ ونبيِّكَ الَّذي أرسلتَ قالَ البراءُ: فقلتُ: وبرسولِكَ الَّذي أرسلتَ قالَ: فطعنَ بيدِهِ في صَدري ثمَّ قالَ: ونبيِّكَ الَّذي أرسلتَ }

(سنن الترمذي)

حتى الأم تعاقب ابنها حين يعصيها
ذكر ابن قيم رحمه الله قصة لطيفة لكن نحن نراها واقعاً كثيراً، قال: كنت أسير في بعض سكك المدينة، يعني يمشي في الحارات، في الأزقة، قال: فإذا بابٌ قد فتح وخرج منه طفلٌ يبكي وأمه تصرخ عليه، خرج خائف من والدته، فخرج وهو يبكي فأغلقت الباب في وجهه، أغلقت الباب ودخلت، منزعجة منه جداً، قال: نظرتُ إليه فإذا هو قد ذهب بعيداً، يبتعد، ثم وقف فأطرق قليلاً، إلى أين سأذهب يجب أن أعود، قال: فأدار وجهه فرجع وجلس على عتبة الباب، قال: ففتحت أمه الباب فوجدته على العتبة، فأخذته وجعلت تضمه وتقبله وتشمه وتقول: يا بني لا تحملني بمعصيتك لي على مخالفة ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادة الخير لك، قال ابن قيم: فتعلمت من ذلك درساً، لا تحملني بمعصيتك لي على مخالفة ما جبلت عليه من الرحمة بك، فالله تعالى يرحم عباده ويحبهم ويغفر لهم، لكن رحمته قد تقتضي أحياناً أن يسوق للمذنبين بعض العقاب، لمّا خاطب إبراهيم أباه ماذا قال؟

يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا
(سورة مريم: الآية 45)

السياق يقتضي أني (أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ) الجبار، لكن (عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ)؟! نعم، لأن الرحمن تقتضي رحمته أن يعذب أحياناً، وأن يقسو أحياناً، قال الشاعر:
فقسا ليزدجروا، ومَن يكُ حازمًا فليقسُ أحيانًا على من يرحم
{ أبو تمام }
فليَقسو أَحياناً، الأب أحياناً يقسو على ابنه وهو يحبه، ولله المثل الأعلى، فأنا الذي أقوله هذا رأس الطائر هو الحب، فأنت في خوفك تحبه وفي رجائك تحبه، وهذا معنى قوله تعالى:

تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ
(سورة الرحمن: الآية 78)

وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ
(سورة الرحمن:الآية 27)


معنى ذو الجلال والإكرام
معنى ذو الجلال والإكرام
بالمناسبة لماذا (ذِي) و( ذُو)؟ (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي) لأن الوصف لربك فجاء بالجر، هو الرب هو ذِي الجلال والإكرام، وجاءت ذي بالجر وصفاً للرب، (رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ)، ما معنى (ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)؟ سأضرب مثلاً من واقعنا: أحياناً أنت لك جدة، جدتك تحبها حباً جما، وتدخل إلى البيت وأنت ربما تكون قد أخذت دكتوراه في علوم الفلك، مثلاً، تدخل إليها فتنزل على يدها وتقبلها، ما تفكر تقول والله أنا معي شهادة وأقبل يد جدتي بالعكس تشعر بالود والاحترام، وهي أمية لا تقرأ ولا تكتب، لكنك تحبها حباً جماً، بالوقت نفسه عندك دكتور في الجامعة يدرّس مادة مهمة، تقول: والله هذا الدكتور سيء جداً ولئيم الخُلُق ولا أحبه أبداً، لكن يا أخي عالم، فأنت تجله ولا تحبه، وجدتك تحبها لكن تعلم أنها لا تعلم شيئاً من أمور الدنيا، أما ربنا جل جلاله فإنك تحبه بقدر ما تُعظّمه وتُجلّه، وتعظمه بقدر ما تحبه وتجله، فهو ذو الجلال وذو الإكرام، فبالإكرام تحبه وبالجلال تعظمه، وهذا لا يجتمع إلا لله جل جلاله، فهو بقدر عظمته بقدر إكرامه لك، أحياناً العظيم يستنكف أن يكرمك، له مكانته الكبيرة، فقال: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) فهو صاحب جلال جل جلاله تعظمه وصاحب إكرامٍ فتحبه، معاً، هذا أيضاً من باب الخوف والرجاء.
فأخواننا الكرام:
إذاً نعود، الخوف والرجاء، انظروا الآن: الله تعالى في القرآن الكريم في سورة الإنفطار يخاطب الإنسان يقول:

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ
(سورة الانفطار: الآية 6-7)


الإغترار والتساهل في الطاعات
(يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) هو كريم جل جلاله لكن يقول له: (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) يخاطب قلبه، ثم يخاطب عقله فوراً (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) ما الذي غرّك به؟ ما الذي جعلك تغتر بحلمه وعفوه فتتساهل في طاعته؟ لا ينبغي أن تغتر بحلمه فتنسى طاعته، هذا بُعد عن الحق، وهذا غرور، لأنك تظن شيئاً بخلاف ما هو عليه، وسأضرب مثلاً للتوضيح ولله المثل الأعلى: طالب في جامعة له صديق ولكنه غيرُ عاقل، رآه يدرس مادة، والمادة كبيرة كتاب ستمئة صفحة فتحه ويدرس به، قال له: لماذا تدرس؟ هذا دكتور المادة يبيع المادة بيعاً، تعطيه ألف دينار فلا يصحح الورقة، ويعطيك فوراً تسعين بالمئة، لا تدرس، وتجهد نفسك، هذا الدكتور يرتشي يأخذ رشوة، فالطالب اطمئن وترك الكتاب، ولم يدرس شيئاً، فجاء الإمتحان، في يوم الإمتحان وضع في جيبه ألف دينار وذهب إلى بيت دكتور الجامعة وطرق بابه وهو يحمل الظرف في يده وقال: دكتور أنا طالب عندك، قال له: أهلاً وسهلاً، فأعطاه الظرف، فقام الدكتور بصفعه على وجهه وطرده شرّ طِردة، لم يعد بإمكانه أن يدرس للإمتحان، المادة غداً، وتبين أن الدكتور جدي ويعاقب ويحاسب، (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ربنا عز وجل كريم، طبعاً كريم، وعفو وغفور، لكن لا نترك الصلاة ونقول: عفو غفور، لا نظلم الناس ونقول: عفو غفور، ما نتساهل في الطاعات ونأتي المحرمات ونقول: ربنا كريم جل جلاله،

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ۖ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ
(سورة المائدة: الآية 18)

الإغترار أن تظن شيئاً فتتفاجأَ بشيء آخر
والمسلمون إذا قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، أيضاً (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) الله تعالى ليس بينه وبين عباده نسبٌ إلا التقوى، فهذا الإغترار، الإغترار أن تظن شيئاً فتتفاجأَ بشيء آخر، فلا تظن بالله إلا خيراً، لكن دون أن تعصيه، قال: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ»

{ وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ يَقُولُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» }

(رواه أحمد)

نحن نظن أن الله يرحم، ونظن أنه يغفر، ونظن أنه يسامح، ولكن:

وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
(سورة الأعراف: الآية 156)

رحمة الله واسعة
هي واسعة، يعني أنا إذا قلت هذا المكان يتسع لخمسين إنسان لكن تحتاج إلى بطاقة من الخارج تأخذها فتدخل فجاء شخص ولم يشتري البطاقة، فقلنا له لا تستطيع الدخول إلى القاعة، فقال لِمَ تمنعوني؟ ألم تقولوا أن القاعة تتسع؟ تتسع لكن تحتاج إلى بطاقة، أنت لم تأت بالبطاقة،

{ كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبَى؟ قالَ: مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَانِي فقَدْ أَبَى }

(صحيح البخاري)

هو رفض ذلك فهذا هو المعنى في الخوف والرجاء.

أمثلة عن الخوف عند الصحابة
الآن لو جئنا إلى الأمثلة التطبيقية ودائماً المثال يوضح، والقصة حقيقة مع البرهان عليها لأن فيها أشخاص، أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو من هو، وهو المبشر بالجنة، يعني ضمن الجنة ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أبو بكرٍ في الجنة، انتهى، ورغم ذلك كان يمسك بلسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، هذا اللسان هو الذي أوردني الموارد، يعني الهلاك، وهو أبو بكر! كان يبكي كثيراً ويقول: "ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا"، قرأ يوماً سورة الطور حتى إذا بلغ قوله تعالى: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ) بكى واشتد بكاؤه.

إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ
(سورة الطور: الآية 7)

عمر رضي الله عنه وأرضاه قال لابنه وهو على فراش الموت ويحك ضع خدي على الأرض علَّ الله يرحمني، ثم قال: بل ويل أمي إن لم يغفر الله لي، وعمر عملاق الإسلام فتح الله به الفتوحات.
عثمان رضي الله عنه كان إذا وقف على قبرٍ بكى حتى يبل القبر بدموعه، وحتى يبل لحيته بدموعه.
بكى أبو هريرة يوماً، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أَمَا إِنِّي لاَ أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، الدنيا انتهت، وَلَكِنِّي أَبْكِي لِبُعْدِ سَفَرِي وَقِلَّةِ زَادِي، بعد السفر وقلة الزاد، أصبحت فِي صُعُوْدٍ مهبطة، طالع نازل بالعامية، فلا أدري إلى جنة أو نار فلا أدري إلى أيِّهما يُسْلَك بي.
فاطمة بنت عبد الملك زوج عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، قالت: ما رأيت أحداً أشد فَرَقَاً، شدة الخوف، الفَرَق، فرقاً من ربه من عمر، كان إذا صلى العشاء جلس في المسجد ثم يرفع يديه، فلم يزل يبكي حتى تغلبه عيناه، قالت: وبكى يوماً فبكى أهل الدار، ما يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما أصبحت قالت: بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين مما بكيت؟ قال: ذكرت منصرف القوم بين يدي الله تعالى فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير، فلما ذكر وقوفه بين يدي الله بكى، السؤال هنا، نحن اليوم مطمئنون وهم كانوا على كل ما هم فيه من العمل كانوا خائفين من الله، ونحن على كل ما نفعله مطمئنون، فياترى هل نحن المحقون باطمئنانا أم هم المحقون بخوفهم؟ هم المحقون بخوفهم لأن الإنسان كلما عظم مقام الله في عينه خاف منه جل جلاله، أعود وأقول خوفاً مقروناً بالحب لا خوفاً يدفع إلى اليأس وترك العمل، لأن اليأس يقترب من الكفر.

إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ
(سورة يوسف: الآية 87)


ضابط الخوف المحمود أن يحول بين المرء ومعصية الله
ضابط الخوف المحمود
أخوانا الكرام: ضابط الخوف المحمود، كل شيء له ضابط يضبطه، كما قلنا الخوف إذا تمادى بالإنسان يوصله إلى اليأس وهذا لا يجوز، ضابط الخوف المحمود أن يحول بين المرء ومعصية الله، فإذا كنت تخاف من الله خوفاً يمنعك أن تعصيه فيكفيك هذا الخوف، لا تحتاج أكثر منه، لا تقل أنا مقصر بالخوف من الله، ما دام الخوف يمنعك من معصية الله فأنت تخاف من الله حق خوفه، فإذا وجدت تقصيراً فعد وتذكر ما أعدّه الله لمن عصاه حتى تلتزم دائماً بالطريق.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من خافَ أدلَجَ ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ" }

(أخرجه الترمذي)


الخوف يدفعك إلى باب الله
من خاف أدلج، الدلجة هي الظلمة، أدلج أي سار ليلاً، ومن أدلج بلغ المنزل، من بلدان العالم يقول لك والله أنا زرت بلاد الشام الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين، في الغرب زرت كندا، في المغرب زرت الجزائر، يعني أذكر لك عشر دول زرتهم رأيتهم حتى رأيت عواصمهم فقط وليس البلد بأكمله، فإذا قلت لي ماذا سمعت؟ أقول لك والله سمعت عن استراليا لكني لم أزرها، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، فإذا قلت لي: ماذا خطر على بالك؟ أقول لك والله جاءتني خواطر لا يعلمها إلا الله، فهي ثلاث دوائر، الدائرة الأولى هي دائرة المرئيات، الدائرة الأكبر هي دائرة المسموعات، الدائرة الأكبر هي دائرة الخواطر، فالله تعالى يقول: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، أبداً، فانظر إلى رحمة الله،

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ذُخْرًا بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ }

(رواه البخاري)

الخوف يسرع الطريق إلى الله
فعندما يقول لك الله تعالى: أعطيك جنة، (ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ) أرجع؛ من خاف أدلج، كيف من خاف أدلج؟ الآن أنا إذا قلت لإنسان بأخر هذا الطريق يوجد لؤلؤة ثمينة أسرع إليها، يركض، يعني رجاءً بما في نهاية هذا الطريق من جائزة يركض، فالخوف يسرع الطريق إلى الله هذه مهمته، ليست مهمة الخوف أن تقعد، أنا خائف إذاً لا أستطيع أن أتحرك، لا أبداً، أنا خائف فأنهض لتربية أبنائي، أنهض لعمارة الأرض، انهض للسعي في الأرض، أنهض لأحصّل مالاً حتى أنفقه في سبيل الله، يفهم بعض الناس الخوف على أنه خوف مُيِّئس، مقنّط، لا، فالخوف يدفعك إلى باب الله دفعاً أكبر بكثير من الرجاء، وكلاهما يدفعان، لكن الخوف مهم، لذلك (من خافَ أدلَجَ ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ) هذه أحوال الخوف.

الرجاء عند السلف الصالح
بالمقابل في الرجاء يقول بعض السلف: "لقد علمت أن ربي يلي محاسبتي فزال عني حزني، لأن الكريم إذا حاسب تفضّل".
الكريم يتفضل
أنتم بعضكم تجار جالسون جلسات محاسبة، إذا جلست مع إنسان بخيل يحاسبك على الدينار يقول لك: هناك دينار قديم، الكريم تقول له: زاد من حسابك كذا، يقول لك: ليس بيننا، الكريم يتفضل، لا يدقق بالحسابات كثيراً، فإذا حاسب الكريم تفضل، فقال: علمت أن ربي سيحاسبني فزال عني حزني، لأن الأمر عنده جل جلاله، وهو إذا حاسب تفضل، هذا الرجاء في مقابل الخوف.
وقال ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة، يوم عرفة، وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تهملان، قلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً، أسوأ شخص في هذا الجمع في عرفة كلها، فقال: الذي يظن أن الله لا يغفر له، هو أسوأ الجمع حالاً، لأن الله تعالى يقول: (أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ) ومن ظن أن الله يغفر له، غفر له، مع العمل كما قلنا التوازن.
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: كان كلما دخل دار الخلافة، هكذا ورد في كتب السيرة، تلى قوله تعالى:

أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ
(سورة الشعراء: الآية 205-206-207)


متاع الدنيا أمام الآخرة لا قيمة له
الدنيا مقارنة بالآخرة تصبح صفراً
يذكر نفسه، لأن الإنسان عندما يحتل منصباً، الدنيا تطغي، عندما يكون لديه مال بين يديه، الدنيا تطغي، عندما يكون لديه جاه وسلطة، الدنيا تطغي، عندما يكون صحيح الجسم قد ينسى، فكان إذا دخل دار الخلافة دائماً يتلو هذه الآيات يذكر نفسه (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ) متاع لسنوات معدودة، كم سنة؟ ثلاثين، أربعين، خمسين، ستين، سبعين، سنوات، بمقابل الأبد صفر، كيف يعني بمقابل الأبد صفر؟ الأرض تبعد عن الشمس مئة وست وخمسين مليون كيلو متر، إذا وضعنا واحد بالأرض والأصفار للشمس، وكل ميلي صفر، كم هذا الرقم؟ لا يعد، تخيل الرقم، بالرياضيات إذا جئنا هذا الرقم ووضعناه بسط أو صورة لمقام لا نهاية تصبح قيمته صفر لا قيمة له، لأن كل عدد نسب إلى ما لا نهاية أصبح صفر مهما كبر، فالدنيا ماذا فيها؟ إذا وازنتها مع الآخرة تصبح صفراً، لا شيء، فقال: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) ما الذي ينفعهم هذا المتاع أمام الآخرة؟ لن ينفعهم شيء، فعمر كان يقرأ هذه الآيات، فتربى بها على الخوف من الله، وتربى بها على الإيمان باليوم الآخر، فلما حضرته الوفاة ماذا قال؟ قرأ قوله تعالى:

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
(سورة القصص: الآية 83)

عاش على الخوف فختم له بالرجاء، فالإنسان بقدر ما يخاف من الله يَأمَنُهُ الله تعالى ويُؤَمِّنُه، وبقدر ما يتساهل في الخوف من الله، بعض الناس سامحوني يعني تقول له: هذا خطأ، يقول لك: لا تدقق ربك غفور رحيم، هذه التي لا يحبها الله، المعصية كلنا ذو خطأ، من منا لا يعصي؟! وكلنا ذو خطأ، لكن من هو أسوأ حالاً من العاصي؟ هو الذي لا ينتبه إلى معصيته ويظنها قليلة، لذلك ورد:
"لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت"
الموضوع ليس في أنه ذنب صغير، الموضوع في أنك عصيت رباً عظيماً، أنت اجترأت على حرمةٍ من حرمات الله مهما كان الذنب صغيراً، فإذا عظم الذنب في عينك هان عند الله، وإذا هان الذنب في نظرك عَظُمَ عند الله، فاختر بينهما، فالشخص الذي يقول لا تدقق وربك غفور رحيم، وربك لن يحاسبنا، ونحن أمة محمد مرحومة، هذا جهل، أما المؤمن يخاف من ذنبه، لذلك ورد:

{ إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا ، قَالَ أَبُو شِهَابٍ : بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ }

(صحيح البخاري)

لم يحدث شيء، ذبابة وقفت فكشها، المؤمن يعظم الذنب عنده فيصغر الذنب عند الله، بينما المنافق يصغر الذنب عنده فيعظم الذنب عن الله، "لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت".

ضابط الرجاء المحمود أن يكون مع العمل
ضابط الرجاء المحمود أن يكون مع العمل
إذاً قلنا أخوانا: ضابط الخوف المحمود أن يمنعك من المعصية، إذاً ما ضابط الرجاء المحمود؟ الرجاء المحمود أقصد هناك رجاء غير محمود مذموم، الرجاء الذي ليس له حدود كله تمام والامور كلها تمشي وهو يعصي الله، فضابط الرجاء المحمود أن يكون مع العمل، ما دام هناك عمل فالرجاء محمود، بالعكس مطلوب أن ترجو رحمة الله لأنك تعمل وتقدم ما بوسعك، فما دام هناك عمل صدقة، صلاة بوقتها، تربية أولاد، نفقة، صلاة نافلة، صيام، عبادة، طاعة، فالرجاء محمود، فإذا ترك الإنسان العمل واتّجه إلى الرجاء وحده فهذا رجاءٌ مذموم، فضابط الخوف المحمود أن يحول بينك وبين معصية الله، وضابط الرجاء المحمود أن يرافقه العمل، أما ترك العمل مع التمادي في الذنوب فهو جهل مُطبِق، يتمادى في الذنوب ويترك العمل ويقول أنا أرجو رحمة الله فهذا جهلٌ مُطبِق، لأن الله تعالى يقول:

إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
(سورة الأعراف: الآية 56)

رحمة الله قريبة لكن ممن؟ من المحسنين، والإحسان هو مُطلق العطاء، فالإنسان يحسن في ماله، ويحسن في رعاية بيته، ويحسن في عبادته، ويحسن في عمله فيتقنه،

الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
(سورة السجدة: الآية 7)

يعني اتقن العمل جل جلاله، فإذا كان هناك إحسان (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

ملخص المحاضرة
إذاً أخوانا الكرام: ملخص ملخص الموضوع حتى نجمع شتاته ونستفيد منه إن شاء الله، الخوف مطلوب والرجاء مطلوب وهما كجناحي طائرٍ يطير الإنسان إلى الله بجناحي الخوف والرجاء، ورأس الطائر هو الحب فالحب هو الأصل في تعاملنا مع الله (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)

فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
(سورة المائدة: الآية 54)

بنى علاقتنا معه على الحب، ولو أراد أن يبنيها على القسر لبناها لكنه قال:

لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
(سورة البقرة: الآية 256)

يريدنا أن نأتيه حباً فنحن نأتي إلى الله حباً، ولكن نأتي إليه راجين رحمته، نخشى عذابه، نُغَلِّبُ جانب الرجاء إذا شعرنا أننا تهاونا وإذا شعرنا أننا اقتربنا من اليأس ونغلب جانب الخوف إذا شعرنا أننا تمادينا نسأل الله السلامة في المعاصي، فالخوف مطلوب والرجاء مطلوب نضبط الخوف بأن يمنعنا من المعصية، ونضبط الرجاء بأن يكون معه عملٌ بقدر الطاقة والإنسان لن يبلغ العمل كله لكنه يسعى ويبذل جهده في ذلك.
والحمد لله رب العالمين