تأملات في حديث ألا أدلك على أبواب الخير

  • محاضرة في الأردن
  • 2020-02-10
  • عمان
  • الأردن

تأملات في حديث ألا أدلك على أبواب الخير

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.

أخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس قبل غزوة تبوك، فلما أصبح، أي طلع عليه الصباح، صلى بالناس صلاة الصبح، ثم إن الناس ركبوا، وعندما طلعت الشمس نعَس الناس، على أثر الدُلجة، والدلجة هي الظلمة، ولزم معاذ بن جبل رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو أثره، أي يمشي خلفه، والناس تفرقت بهم ركابهم على جواد الطريق، تأكل وتسير، جواد جمع جادة، يعني كل واحد بجادة من جادات الطريق يمشي وحده، فبينما معاذ على أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم وناقته تأكل مرة وتسير أخرى عثرت ناقة معاذ، تعثرت بحجر أو بشيء، فكبحها بالزمام، أمسكها بالزمام، فلما كبحها بالزمام هبّت حتى نفرت منها ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف عنه قناعه، فالتفت فإذا ليس من الجيش رجل أدنى، أي أقرب، إليه من معاذ، الجيش أصبح بعيداً، الناس نعَسوا، والناقة تمشي وحدها وتتعثر، فابتعدوا عنه، فبقي معاذ أقرب الجيش إليه، فناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا معاذ، فقلت: لبيك يا نبي الله، قال رسول الله: ادنُ دونَك، اقترب، فلما لصقت راحلتهما إحداهما بالأخرى، يعني أصبحوا أمام بعضهم، كلٌّ على راحلته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنت أحسب الناس منا كمكانهم من البعد، ما كنت أتوقع أنّ الناس تأخروا جداً عن الركب، فقال معاذ: يا نبي الله، نعَس الناس فتفرقت بهم ركابهم ترتع وتسير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا كنت ناعساً، لما رأى معاذ، الآن معاذٌ ينتهز الفرصة، فلما رأى معاذ بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وخلوته له، فقال: يا رسول الله، إئذن لي أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني، شيء أخذ مني مأخذاً، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: سلني عما شئت، قال: يا نبي الله، حدثني بعملٍ يدخلني الجنة، هذا هو هم معاذ رضي الله عنه، لا أسألك عن شيءٍ غيرها، هو سؤال واحد، هذا كافٍ، يعني هو يعرف ما يسأل، لا أسألك عن شيء غيرها، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: بخٍ بخٍ، هذا اسم فعل باللغة العربية، هناك فعل واسم وهناك اسم فعل، اسم الفعل مثل:

هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ
(سورة المؤمنون: الآية 36)

هَيْهَاتَ: يعني بَعُدَ، بَخٍ بَخٍ اسم فعل يقال لتعظيم الشيء، يعني أنت تسأل عن شيء مهم جداً، وأحياناً يقال بالعكس تماماً للتحقير، بخٍ بخٍ، فهذا من الأضداد يأتي للتعظيم ويأتي للتحقير، فهنا للتعظيم، قال: بخٍ بخٍ، لقد سألت بعظيم، وإنه ليسيرٌ على من أراد الله به الخير، وإنه ليسيرٌ على من أراد الله به الخير، وإنه ليسيرٌ على من أراد الله به الخير، قالها ثلاثاً، قال: فلم يُحَدِّث بشيء إلا قاله ثلاث مرات، حرصاً لكيما يتقنه عنه، النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شيئاً مهماً يكرره، الأولى للسماع والثانية للفهم والثالثة للتثبيت، فتكرار الثلاث موجود كثيراً في السنّة وهو سنّة، عندما تتعامل مع ابن أو مع أحد أعد له الكلمة ثلاث مرات تثبت في ذهنه، فقال: ما قال شيئاً إلا أعاده ثلاثاً حرصاً كي أتقنه، حتى يحفظه تماماً، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله واليوم الآخر، وتقيم الصلاة، وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا حتى تموت وأنت على ذلك، تؤمن بالله واليوم الآخر، تقيم الصلاة، تعبد الله وحده لا تشرك به شيئاً حتى تموت وأنت على ذلك، هذا الثبات، حتى تموت وأنت على ذلك، فقال: يا نبي الله أعِد لي، فأعادها ثلاث مرات، ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت حدثتك يا معاذ برأس هذا الأمر، وقوام هذا الأمر وذروة السنام، سنام الجمل وذروته أعلاه، رأس الأمر وقوامه وذروة السنام منه، فقال معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، حدثني، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: إن رأس هذا الأمر أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وإن قوام هذا الأمر، الذي يقوم به أمر الإسلام، إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإنَّ ذروة السنام منه الجهاد في سبيل الله.

{ عن معاذ بن جبل: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خرج بالنَّاسِ قبل غزوةِ تبوكَ فلمَّا أن أصبحَ صلَّى بالنَّاسِ صلاةَ الصُّبحِ ثمَّ إنَّ النَّاسَ ركِبوا فلمَّا أن طلعت الشَّمسُ نعس النَّاسُ على إثرِ الدُّلجةِ ولزِم معاذٌ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتلو أثرَه والنَّاسُ تفرَّقتْ بهم رِكابُهم على جوادِ الطَّريقِ تأكلُ وتسيرُ فبينا معاذٌ على إثرِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وناقتُه تأكلُ مرَّةً وتسيرُ أخرَى عثرتْ ناقةُ معاذٍ فحنَّكها بالزِّمامِ فهبَّت حتَّى نفرت منها ناقةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمَّ إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كشَف عنه قناعَه فالتفت فإذا ليسَ في الجيشِ أدنَى إليه من معاذٍ فناداه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال يا معاذُ فقال لبَّيْك يا رسولَ اللهِ قال ادنُ دونَك فدنا منه حتَّى لصقت راحلتاهما إحداهما بالأخرَى فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كنتُ أحسبُ النَّاسَ منَّا بمكانِهم من البُعدِ فقال معاذٌ يا نبيَّ اللهِ نعس النَّاسُ فتفرَّقت رِكابُهم ترتعُ وتسيرُ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا كنتُ ناعسًا فلمَّا رأَى معاذُ بِشرَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وخلوتَه له فقال يا رسولَ اللهِ ائذنْ لي أسألُك عن كلمةٍ أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سلْ عمَّا شئتَ قال يا نبيَّ اللهِ حدِّثْني بعملٍ يُدخِلُني الجنَّةَ لا أسألُك عن شيءٍ غيرَه قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخٍ بخٍ بخٍ لقد سألتَ لعظيمٍ لقد سألتَ لعظيمٍ [ لقد سألتَ لعظيمٍ ] ثلاثًا وإنَّه ليسيرٌ على من أراد اللهُ به الخيرَ وإنَّه ليسيرٌ على من أراد اللهُ به الخيرَ وإنَّه ليسيرٌ على من أراد اللهُ به الخيرَ فلم يُحدِّثْه بشيءٍ إلَّا أعاده رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثلاثَ مرَّاتٍ حرصًا لكيما يتقنُه عنه فقال نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ وتقيمُ الصَّلاةَ وتُؤتي الزَّكاةَ وتعبدُ اللهَ وحدَه لا تُشرِكُ به شيئًا حتَّى تموتَ وأنت على ذلك قال يا رسولَ اللهِ أعِدْ لي فأعادها ثلاثَ مرَّاتٍ ثمَّ قال نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إن شئتَ يا معاذُ حدَّثتُك برأسِ هذا الأمرِ وقوامِ هذا الأمرِ وذروةِ السَّنامِ فقال معاذٌ بلى يا رسولَ اللهِ حدِّثْني بأبي وأمِّي فقال نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّ رأسَ هذا الأمرِ أن تشهدَ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه وإنَّ قُوامَ هذا الأمرِ إقامةُ الصَّلاةِ وإيتاءُ الزَّكاةِ وإنَّ ذروةَ السَّنامِ منه الجهادُ في سبيلِ اللهِ }

(مسند أحمد بسند صحيح)

ثم قال: انظروا إلى المعلم صلى الله عليه وسلم، المعلم تسأله عن شيء فيزيدك، وهو سأله سؤال، والآن أصبح النبي صلى الله عليه وسلم يقول له ألا أدلك ألا أعلِّمك، يزيده، قال: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، جُنَّةٌ أي وقاية يقي العبد من الكثير من المهالك ومن النار، والصَّدَقةُ تطفئُ الخطيئةَ، كَما يطفئُ الماءُ النَّارَ، وصلاةُ الرَّجلِ من جوفِ اللَّيلِ، ثمَّ تلا: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ الْمَضَاجِعِ) حتَّى بَلغَ: (يَعمَلونَ)

تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(سورة السجدة:الآية 16-17)

ثمَّ قال: أَلا أُخبِرُكَ بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ يعني ما يجمع كل هذه الأمور، ملاكه الذي تملك به هذا الأمر، الآن الذي تملك به، الملاك، بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ، ‏قُلْتُ بَلَى يَا رسول اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، أمسك لسانه بيده صلى الله عليه وسلم، ثم قَالَ: ‏كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، أي أمسك عليك هذا، فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، هذا دعاء لكنه خرج لا إلى معنى الدعاء ‏وإنما خرج إلى معنى التعجّب عن الغفلة عن مثل هذا الأمر، هذا من البلاغة، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ بالعرف اللغوي يعني أن تتخلّص منك أمك تثكلك تبكي عليك، لكن هنا ليس هذا المعنى، في لغة العرب ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ثكلته أمه ما أشجعه فهنا المعنى بيان كيف تغفل عن مثل هذا الأمر يا معاذ! لبيان عِظَم الأمر، فَقَالَ ‏"‏ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ‏"، كَبَّ الرجل إذا صرعه، يعني شبّه اللسان وكأنه المنجل، عندما تحصد به الزروع، فهذا اللسان هو الذي يحصد الآثام والمعاصي فيكب الناس على مناخرهم في النار.

{ ثمَّ قالَ: ألا أدلُّكَ على أبوابِ الخيرِ: الصَّومُ جُنَّةٌ، والصَّدَقةُ تُطفي الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النَّارَ، وصلاةُ الرَّجلِ من جوفِ اللَّيلِ قالَ: ثمَّ تلا تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، حتَّى بلغَ يَعْمَلُونَ، ثمَّ قالَ: ألا أخبرُكَ بِرَأسِ الأَمرِ كلِّهِ وعمودِهِ، وذِروةِ سَنامِهِ؟ قلتُ: بلى يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُهُ الصَّلاةُ، وذروةُ سَنامِهِ الجِهادُ، ثمَّ قالَ: ألا أخبرُكَ بملاكِ ذلِكَ كلِّهِ؟ قُلتُ: بلَى يا رسولَ اللَّهِ ، قال: فأخذَ بلِسانِهِ قالَ: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ، وإنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكَلَّمُ بِهِ؟ فقالَ: ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم أو على مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم }

(أخرجه الترمذي بسند صحيح)

هذا الحديث، هذا هو حديثا اليوم الذي سنتحدث عنه، والحديث غني، ثري، لكن هناك نقاط أحب أن أركز عليها:

لن تنال شيئاً دون أن تبذل جهداً
النقطة الأولى: معاذ بن جبل رضي الله عنه نال مرتبة رائعة جداً، صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو نال هذه المرتبة العظيمة، بمَ نالها؟ بجهدٍ، ما نال هذه المرتبة صحبة رسول الله إلا بجهدٍ قام به، الناس نعَسوا تفرقت بهم الركاب، هو قال: بقيت أتلو أثره، يعني ملخص هذه العبرة أنك لن تستطيع أن تنال شيئاً دون أن تبذل جهداً، معاذ واحد من الناس لكن هو قاوم النوم، قاوم النعاس وبقي يتلو أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنال هذه المرتبة بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، طبعاً في أماكن أخرى هناك صحابة كثر نالوا هذه المرتبة، نتحدث هنا عن موطن الشاهد بأن الناس نعسوا وبأن معاذاً بقي يتلو أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأى بشرى رسول الله بين يديه وقال له: سل عما شئت.
الأمور لا تؤتى إلا بالجهد وبالبذل
إذاً ملخص العبرة الأولى أن الإنسان إذا أراد أن يحصل شيئاً فعليه أن يبذل جهداً، الأمور لا تؤتى إلا بالجهد وبالبذل، فلذلك قيل: طلب الجنة من غير عمل ذنبٌ من الذنوب، تشبيه: طالب ذهب إلى إدارة الجامعة وهو مازال في السنة الأولى من دراسته، طرق الباب على عميد الكلية، قال له: ادخل، فدخل وقال له: أريد شهادة مستعجلة جداً! أعطني شهادة تخرج لست سنوات في دراسة الطب، هذا ذنب، سيغضب العميد، هذا ذنب أن تطلب شهادة من دون أن تعمل لها، فإذا طلب إنسان الجنة من غير عمل نهائياً فهذا ذنبٌ من الذنوب، الجنة تحتاج إلى عمل، إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ وإِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ، يعني كأنه شيء عالٍ وصعب تحتاج لتصل إليه أن تبذل جهداً.
فإذاً لمّا معاذ بن جبل حاز هذه المكانة حازها بسعي منه، لذلك قال تعالى:

وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا
(سورة الإسراء: الآية 19)

لتحقق هدفك يجب أن تسعى
ما قال: وَسَعَىٰ لَهَا سعياً، بل قال: (وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا) لها سعيٌ خاص، (فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) يعني أنت إذا أردت الطب أو أن تكون طبيباً بنبغي أن تدرس لهُ دراستهُ، وإذا أردت الربح في التجارة ينبغي أن تسعى له سعيه، لا تقل: أنا أسعى أنزل الساعة الحادية عشر أو الثانية عشر عندما استيقظ أجلس للساعة الثانية في المحل وأخرج لا أربح شيئاً، أنت لم تسعَ للتجارة سعيها، لها سعي خاص، يجب أن تسعى من الصباح إلى المساء حتى تحقق الربح والنجاح، فلما تقول: أريد الآخرة تسعى لها سعيها وليس سعياً أي سعي، تحتاج إلى سعي يكافئ هذا الأجر العظيم وهذا السعي، لا بد أن نبذل من أوقاتنا، من جهدنا، لأننا الآن نطلب الآخرة.
هنا ملمح مهم:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يُدْخِلُهُ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، فَقِيلَ: وَلَا أَنْتَ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي رَبِّي بِرَحْمَةٍ }

(صحيح مسلم)

وفي القرآن نقرأ:

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
(سورة النحل: الآية 32)


الجنة فضلٌ من الله
لا يوجد عمل يكافئ دخول الجنة
فكيف نوفق بين الآية والحديث؟ الآية (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) بسبب أعمالكم، لكن أعمالكم ليست ثمناً لدخول الجنة، لأن هذا العطاء العظيم لا يكافئه شيء ولا أي عمل يكافئ الجنة، فأعمالكم سببٌ للدخول وليست ثمناً للدخول، سأضرب مثل لأوضح الحقيقة: أب قال لابنه: إن حققت تسعين بالمئة فما فوق في الامتحان لك عندي دراجة هدية، فهذا الابن ذهب وجاء بأوراق علاماته فإذا هي واحد وتسعين بالمئة، فأمسك بالعلامات وذهب فوراً إلى بائع الدراجات قال له: تفضل أعطني الدراجة، فهذا بائع الدراجات يضحك عليه ويقول له: أعطني المال أنا لا أتعامل بالعلامات، هذه الدراجة محض فضلٍ من أبيه، فهذا الذي تقدمه ليس ثمناً للدراجة أنت جئت بالسبب، الثمن فضل من والدك، فنحن عندما نعمل لا نعمل لندفع ثمن الجنة، إنما نعمل لنقدم السبب أما الجنة فهي محض عطاء وفضل من الله لأنه لا يوجد عمل يكافئ دخول الجنة.
فالآن أخواننا الكرام: إذاً أول شيء فهمناه من الحديث بأن الأمر يحتاج إلى جد وإلى اجتهاد كما فعل معاذ رضي الله عنه.

المؤمن يعتذر عن إخوانه ولا يكبر أخطاءهم
التمس الأعذار لإخوتك
الأمر الثاني فيه ملمح لطيف وهو لمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كنتُ أحسبُ النَّاسَ منَّا بمكانِهم من البُعدِ"، الآن معاذ بمَ أجاب؟ هل ذمّ أخوته؟ هل قال له: تركوا رسول الله ومضوا؟ لا، قال له: يا نبي الله نعس الناس وتفرقت بهم الركاب، بدأ يعتذر لهم، هذا شأن المؤمن، المؤمن يعتذر عن إخوانه ولا يكبر أخطاءهم، أما المنافق أو البعيد عن الله إذا وجد نفسه حقق شيئاً صار كل الناس لا يفهمون وكلهم أخطؤوا، وأنا حققت ذلك بجهدي وتعبي وهم بعيدون! لكن معاذ بن جبل رضي الله عنه هذه المكانة التي نالها ما جعلته يستعلي، بل على العكس تماماً بكل لطف وبتواضع: يارسول الله نعس الناس، بدأ يعتذر لهم، وأذكر هنا موقفاً مشابهاً لصحابي آخر لمّا تخلف بعض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحدهم فقال أحدهم: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ، فقام واحد منهم فقال: بئس ما قلت والله مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْراً يا رسول الله، فسُرَّ رسول الله، انسر لأن هذا الصحابي يدافع عن أخيه، لا يقف موقفاً ضد أخيه، إذاً التمس لهم الأعذار.

همُّ الآخرة وهموم الدنيا
أما قوله: حدثني بعمل يدخلني الجنة، أقول لكم وأقول لنفسي أولاً ما همنا؟ قل لي: ما همك أقل لك من أنت، هناك إنسان همه جمع المال، وهناك إنسان همه الآخرة، هناك إنسان على مستوى الدنيا همه الأسرة، وآخر همه عائلته وليس فقط الأسرة، يتابع أولاد خالته، أولاد عمته والعائلة الكبيرة ويتفقد الذين من حوله، وهناك إنسان همه أكبر، الفقراء والمساكين، وهناك إنسان يحمل همَّ الأمة، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، يأسى لأساهم، يحزن لحزنهم، فكلما كبر همك كبرت عند الله، فهذا معاذ بن جبل في هذه اللحظة يريد أن يسأل عن شيء واحد، فما همُّ معاذ بهذه اللحظة؟ همه الجنة، لذلك ورد في الحديث: من جعل الهموم كلها هماً واحداً هم آخرته ومعاده كفاه الله الهموم كلها، هم واحد، أنت اهتم لأمر واحد الله يكفيك الباقي،

{ قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ جَعَلَ الهُمومَ هَمَّا واحِدًا، هَمَّ المَعادِ، كَفَاهُ اللهُ سائِرَ هُمومِه، ومَن تَشَعَّبَتْ به الهُمومُ من أحوالِ الدنيا لَمْ يُبالِ اللهُ في أيِّ أوْدِيَتِها هَلَكَ }

(سنن ابن ماجة بسند حسن)

أجعل الهموم هماً واحداً
أما الإنسان عندما يهتم لهذا الأمر ولهذا ولهذا، فالآن يتشعب، تصبح همومه كثيرة، فمعاذ بن جبل كان همه الآخرة، تقول لي: ألا نهتم للدنيا؟ الجواب: بلى، الدليل: النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ ولَا تَجْعَلِ الدنيا أكبرَ هَمِّنَا، ولَا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولَا تُسَلِّطْ عَلَيْنا مَنْ لَا يرْحَمُنا }

(سنن الترمذي بسند حسن)


الفرق بين المؤمن وغير المؤمن
إذاً هي هم من الهموم لكنه ليس الأكبر، كل إنسان فينا يهتم أن يؤمِّن مستقبل أولاده، أن يؤمِّن رزقه، لكن هل هو الهم الأكبر عنده؟ لا، بدليل أنه لو حال بينه وبين الوصول إلى تحقيق هذا الهم، أمر بمعصية الله يتركه فوراً لأن همه الأكبر هو الآخرة وليس الدنيا، أما من جعل همه الأكبر هو الدنيا فيعصي الله من أجل الدنيا، وهذا الفرق بين المؤمن والبعيد عن الله، ليس الفرق أبداً أن المؤمن يهتم للآخرة ويترك الدنيا، وغير المؤمن يهتم للدنيا ويترك الآخرة، لا أبداً، الاثنان لهم هم في الدنيا لكن المؤمن يعيش للآخرة فتصبح الدنيا في يده وليست في قلبه فيملكها ولا تملكه، بينما غير المؤمن همه الدنيا فيعيش لها فتملكه ولا يملكها، وتتحكم به ولا يتحكم بها، وتصبح في قلبه وليست في يده، فيبيع دينه من أجلها، هذا هو الفرق.
الزهد حالةٌ في القلب
أما عندما فهم بعض المسلمين فهماً خاطئاً أنّ المؤمن يترك الدنيا، تركَ الدنيا فأخذها غيره، نحنا ما أمرنا أن نترك الدنيا، نحن أمرنا ألا نعمل لها وألا نجعلها أكبر الهم، وألا نعيش من أجلها، لكن دون أن نتركها، لذلك الزهد ليس حالةً ظاهرية، وإنما هو حالةٌ في القلب ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: إن أحدنا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنًا، قال: ليس ذاك، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ.

{ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ قالَ رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يَكونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ونَعْلُهُ حَسَنَةً، قالَ: إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ }

(صحيح مسلم)

الكبر في القلب وليس في الثياب أما عندما نفهم أن الكبر في الثياب وأن الزهد هو في الثياب الممزقة فهذا فهم عقيم في بعض العصور المتخلفة أودى بنا إلى ما وصلنا إليه.

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةً فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها }

(رواه الإمام أحمد في مسنده)

سيدنا عمر بن الخطاب يوم ذهب إلى بعض ولاياته فوجد الناس قد تركوا العمل وقد تملّكها بعض غير المسلمين، فهم الفاروق رضي الله عنه المعادلة، قال لهم: كيف تفعلون ذلك؟ قالوا له: الله سخرهم لنا، كما يحتج بعض المسلمين اليوم هم يعملون عندنا، قال: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم؟ لأن عمر رضي الله عنه فهم أن القوي هو الذي ينتج وأن الضعيف هو الذي يستهلك، فالدنيا ليست للترك ولكن الدنيا من أجل أن نعمل فيها للآخرة، فهي المطية وليست الهدف، وينبغي للإنسان أن يأخذ من دنياه لآخرته.

النبي يجيب بحسب حال السائل
أحوال الناس مختلفة
إذاً معاذ بن جبل رضي الله عنه كان همه الأعظم هو دخول الجنة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الهم، الآن النبي صلى الله عليه وسلم يجيبه: "تؤمن بالله وباليوم الآخر وتقيم الصلاة وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئاً حتى تموت وأنت على ذلك"، بالمناسبة أولاً النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب السائل على السؤال نفسه بتعدد السائلين أجوبةً مختلفة وهذا متكرر في السيرة وفي السنّة، يعني السؤال حدثني بعمل يدخل الجنة، قد تجد في حديث آخر غير هذا الجواب، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي حال المخاطبين فلا يجيب الغني كما يجيب الفقير، ولا يجيب معاذاً كما يجيب أبا عبيدة، ولا يجيب خالداً كما يجيب عمر، لأن كل إنسانٍ ينبغي أن يعبد الله فيما أقامه الله، فأنا إن جاءني تاجر إلى المسجد وقال لي: حدثني عن عمل مهم أفعله، لا أقول له: اذهب وصلِّ الليل، أقول له: تابع المحتاجين، وإذا جاءني إنسان متعلم أقول له: اذهب وعلّم، خذ أربعة أو خمسة طلاب درسهم مجاناً وابنِ الأمة أنت معلم، أفِدهم في مادة الرياضيات، فهذا مما يعلمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن نخاطب الناس على قدر عقولهم أولاً وعلى قدر كل إنسان كيف يعبد الله، فالأم تعبد الله بتربية أولادها وبتبعّل زوجها، والزوجة لها عبادة والأم لها عبادة والطالب له عبادة والمعلم له عبادة والتاجر له عبادة والعالم له عبادة، أن تعبد الله فيما أقامك، فيما أقامك هذه عبادة الظرف أو عبادة الهوية كما يقال، هذا الملمح الأول.

الإيمان بالله واليوم الآخر
الملمح الثاني هنا في هذا الحديث، قال: تؤمن بالله واليوم الآخر، الإيمان بالله يحملك على طاعة الله، والإيمان باليوم الآخر يحملك على ألا تظلم مخلوقاً، لأن هناك وقوفاً بين يدي الله.

وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ
(سورة الصافات: الآية 24)

فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(سورة الحجر: الآية 92-93)

تؤمن بالله واليوم الآخر، وما من ركنين تلازم ذكرهما في القرآن الكريم من أركان الإيمان كركني الإيمان بالله واليوم الآخر، يعني لابد من حساب هو إله تؤمن به وسيحاسب، فإذا أيقنت أن هذا الإله يعلم ويحاسب فإنك تعد للمليون قبل أن تقدم على معصيته أو على الإضرار بخلقه، لأنه يعلم وسيحاسب، قال تعالى:

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا
(سورة الطلاق: الآية 12)


العلم والقدرة
العلم والقدرة توقفانك
قال شيخنا الدكتور راتب النابلسي حفظه الله: إذا كنت تسير في مركبتك وجاءتك إشارة حمراء لماذا تقف وأنت مستعجل؟ دع الأخلاقيات والقيم فهذا شيء آخر، لكن إذا كان إنسان يحب أن يتجاوز الإشارة فلماذا وقف وهو يحب أن يتجاوزها؟ فلسفتها أنه علم أن الذي وضع القانون يصلُ إليه علمه من خلال الشرطي الواقف أو الكاميرا المثبتة، فسوف يعرفون أنك تجاوزت الإشارة، ثم علم أنهم بعد أن يعلموا لهم أن يعاقبوا إما بسحب الشهادة أو بفرض غرامة كبيرة، فلما علم أن العلم يصل إليه وأن القدرة تصل إليه توقف عند الإشارة الحمراء، العلم والقدرة، قال تعالى:

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا
(سورة الطلاق: الآية 12)

قدرة وعلم، لكن متى يخالف؟ الساعة الواحدة بالليل حيث لا يوجد كاميرا، ولا يوجد شرطي، يقول لك: لا أحد يراني، فخالف لأنه أيقن لأن العلم لن يصل إلى واضعي القانون، أو بحالة ثانية: هو أقوى من واضعي القانون، فإن استطاعوا أن يعاقبوا فليعاقبوا! فأنت علاقتك مع الله تعالى لما تقف تذكّر أنه يعلم ويقدر، يعلم ما تصنع ويقدر أن يحاسب ويعاقب، هذه هي المعادلة، فقال: تؤمن بالله واليوم الآخر، فالله يعلم ويحاسب.

حقيقة العبادة
العبادة اسمٌ جامعٌ لكل ما يرتضيه الله
وتقيم الصلاة وهنا اكتفى بالصلاة، مع أنّ أركان الإسلام إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج والشهادة، لكن هنا جاء بإقامة الصلاة فقط، وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئاً، والعبادة: اسمٌ جامعٌ لكل ما يرتضيه الله من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، وما تخلَّف المسلمون إلا عندما فهموا أن العبادة مقصورة على العبادات الشعائرية وهي الصلاة والصيام والحج والزكاة، ما جاء في القرآن أن هذه هي العبادة فقط، العبادة مطلقة، لكن بني الإسلام على خمس فهي أركان الإسلام لكنها ليست الإسلام كله، لا يقوم الإسلام إلا بها لكن قوامه شيء آخر، فالإسلام أركانه خمسة، لكنه بناء متكامل، لمّا يقول له: تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئاً فالعبادة في كل ميادين الحياة أن يتوجه العمل إلى الله، إذا لخصنا العبادة بكلمتين فنقول: (طاعة + حب)، فالذي يطيع الله دون محبة لم يعبده، والذي يحبه ولا يطيعه لم يعبد.
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
{ الشافعي }
فالطاعة مع الحب هي العبادة، طاعةٌ مقرونةٌ بالحب، وجاء بالتوحيد لا تشرك به شيئاً، فقال: يا نبي الله أعد لي، فأعادها،ثم قال: إن شئت حدثتك يا معاذ برأس الأمر وقوام الأمر وذروة السنام.

معنى التوحيد
الدين كله توحيد
الآن هناك ثلاثة أشياء متكاملة: رأس الأمر هو التوحيد، رأس الأمر، رأس الدين، هو أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وقوام الأمر يعني الذي يقوم به أمر الدين هو إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وذروة السنام هي الجهاد، التوحيد: التوحيد رأس الأمر لأن الجسد بلا رأس غير موجود، فالدين كله توحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.

{ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ مَا دَعَوْتنِي وَرَجَوْتنِي غَفَرْتُ لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتنِي غَفَرْتُ لَك، يَا ابْنَ آدَمَ! إنَّك لَوْ أتَيْتنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُك بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً }

(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)

ما معنى التوحيد؟ يعني أن تحسن الوجهة إلى الله، والتوحيد نوعان: المسلمون كلهم ومعهم كثيرٌ من غير المسلمين يعلمون النوع الأول من التوحيد وهو توحيد الربوبية، يعني أنه من الله، كل شيء من الله، فحتى غير المسلم قل له: من ينزل المطر؟ يقول لك: الله.

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
(سورة الزمر: الآية 38)

وهم مشركون، توحيد الربوبية نحن مشتركون به، كل الناس، إذا سألته من خلقك؟ الله، من الذي رزقك هذا الولد؟ الله، من يطعمك؟ الله، من يسقيك؟ الله، من أنبت الشجر؟ الله، من خلق الطير؟ الله، من خلق البحار؟ الله، هذا توحيد الربوبية، بأن كل شيء من الله، لكن نحن مقصرون، وكثير من المسلمين مقصرون في جانب الألوهية، وتوحيد الألوهية يعني الحركة المعاكسة، هو خلق ورزق وأعطى، الآن ما رد فعلك أنت؟ إلى من تتوجه؟ ينبغي أن تتوجه إلى الله، هذا توحيد الألوهية الذي نحن أو كثيرٌ من الناس مقصرون به، أن تتوجه إليه، (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) ما دام هو الذي خلق لماذا تتوجه إلى غيره؟َ!

وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ
(سورة هود: الآية 123)

التوحيد لا يتجزأ
مفارقة حادة جداً، أن تسأل إنساناً من خلقك؟ يقول لك: الله، من رزقك؟ يقول لك: الله، من يطعمك؟ الله، تسأله: الأمر بيد من؟ يقول لك: والله الأمر بيد مديري في العمل، إذا لم يرضَ عني يذهب رزقي، كيف هذا! عندما فهمت أن كل شيء منه فلماذا لا تتوجه إليه؟ لماذا ترى الأمر اليوم ليس بيد الله والعياذ بالله! هو الذي خلق وهو الذي رزق وهو الذي أطعم وهو الذي سقى هل يوجد غيره يتحكم بالكون؟ معاذ الله، فالناس مقصرون في التوجه، أما العنصر الأول من التوحيد موجود، هذا تقسيم مدرسي، التوحيد لا يتجزأ، التوحيد أن تعلم أنه كله من الله ثم تتوجه إلى الله وحده، هذا هو التوحيد، لكن القسم الثاني فيه تقصير عند كثير من المسلمين، لذلك ربنا عز وجل قال:

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ
(سورة النساء: الآية 48)

الطريق إلى الله هو الطريق الصحيح
لماذا؟ أنت تريد أن تسافر من دمشق إلى حلب بالقطار، لك لقاء واجتماع مهم جداً في حلب، فالآن تريد أن تركب القطار، ركبت فإذا بك قد أخطأت خطأ جسيماً حجزت في مقصورة ولكن هناك مقصورة درجة أولى وأنت تستطيع أن تحجز بالأولى لكي ترتاح أكثر، وتمدد قدميك، جلست بمقصورة مختلفة فجاءك من الشبان من يلهون مع بعضهم فأزعجوك ولم تستطع أن تنام طول الطريق، والله خطأ لكن الطريق سالك إلى حلب وستصل إن شاء الله وستتابع اجتماعك، الأمور بخير، أخطأت خطأ ثانياً أنت جائع ثم بعد أن وصلت قيل لك: ألا تعلم أنه يوجد تقديم طعام! فلا حول ولا قوة إلا بالله هذا خطأ ولكنه يغفر لأنك وصلت إلى حلب وستأكل هناك إن شاء الله، هذه أخطاء، لكن القطار متجه إلى حلب، لكن الخطأ الذي لا يغفر أن تركب القطار المتجه إلى درعا جنوباً، فهناك لا يوجد اجتماع وليس هناك أشخاص قد وعدتهم ولن تصل، فالذي يشرك بالله هو عملياً مشى بالطريق الخاطئ، أما المعاصي الأخرى فما دمت في الطريق إلى الله والوجهة صحيحة فمغفورة إن شاء الله، لكن أنت في طريقك إلى الله، لكن إياك أن تسير في الطريق المعاكس، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ)، الاتجاه من هنا، حتى ولو درجة أولى لكن بالنتيجة أنت ذاهب بالطريق المعاكس، إذاً، لذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأس الأمر أن لا إله إلا الله، رأسه، وأن قوام هذا الأمر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

قوام الدين أن تحسن الصلة بالله ثم تحسن الاتصال بالناس
قوام الدين
الآن نحن عندنا حركتان في الحياة حركة نحو الخالق صلة وحركة نحو المخلوق إحسان، لذلك لماذا ربنا يقول كثيراً: (يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)؟ التي هي تعبير عن الحركتين، إقامة الصلاة: هي العلاقة بالله سواءً عن طريق الصلاة التي هي الفرائض الخمسة، أو عن طريق النوافل، أو عن طريق الذكر، أو التفكر، كله صلة بالله، ما دام يحقق الصلة بالله فهو إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة: هو الإحسان إلى الناس يعني حركة عمودية نحو الخالق بالصلة، وحركة أفقية نحو المخلوقين بالإحسان، هذا هو الدين، قوامه، قوام ديننا أن تحسن صلتك بالله وأن تحسن إلى المخلوقين، الآن إذا قال لك إنسان: أنا أحسن للمخلوقين لا يوجد داعي للصلة، هذا عبث بقوام الدين، وإذا كان إنسان يقيم الصلاة ثم يسئ إلى الناس فقد عبث بقوام الدين، لا بد من الأمرين معاً، اليوم هناك دعوتان خاطئتان، الدعوة الأولى يقول لك: أنا إيماني في قلبي وانتهينا، اتركني أنا أحسن للناس ماذا تريد من صلاتي انظر إلى عملي هذا خطأ كبير، والثاني يقول لك: أنا أصلي في الصف الأول ثم يغش الناس ويحتال عليهم، أيضاً عبث بقوام الدين، قوام الدين أن تحسن الصلة بالله ثم تحسن الاتصال بالناس عن طريق الإحسان.

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ
(سورة الكوثر: الآية 2)


المفهوم الواسع للجهاد
مفهوم الجهاد أوسع من القتال
إذاً وإن قوام هذا الأمر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، قال: وإن ذروة السنام منه الجهاد في سبيل الله، الجهاد هو بذل الجهد، الجهاد لغةً هو بذل الجهد، والقتال في سبيل الله هو جزء من الجهاد وليس الجهاد كله، وإياكم أن يتخيل أحدٌ أنني أحاول أن أنزع من الدين الجهاد؟ لا أبداً، الجهاد بمعنى القتال في سبيل الله هو شيء مهم جداً في ديننا وما ضعفنا وما حصل بنا اليوم ما حصل إلا يوم تنازلنا عن هذه الفريضة فتركنا الجهاد في سبيل الله فجاهدوا ضدنا ثم اتهمونا بالإرهاب، أصبحوا يجاهدون ضدنا لكن بطريقتهم الخاصة، أما نحن جهادنا جهاد رفعة وجهاد عزة وجهاد نشر الحق والخير في العالمين، فأنا لا أنكر الجهاد، لكن الجهاد مفهومه أوسع من القتال حتى نكون واقعيين حتى لا نترك شيئاً منه، الجهاد هو بذل الجهد، فإذا بذلت جهدك في تعلم القرآن فهذا جهاد، وإذا بذلت جهدك في الإنفاق على الناس فهذا جهاد، وإذا بذلت جهدك في مجاهدة نفسك وهواك فهذا جهاد، قال تعالى:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
(سورة العنكبوت: الآية 69)

وقال عن القرآن الكريم: (وَجَاهِدْهُم بِهِ) أي بالقرآن (جِهَادًا كَبِيرًا)

وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا
(سورة الفرقان: الآية 52)

فسمى تعلم القرآن وتعليمه والعمل به جهاداً، فالجهاد هو ذروة سنام الإسلام بمعناه العام وليس بمعنى القتال فقط، والقتال في سبيل الله جزءٌ من الجهاد في سبيل الله.
ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّك عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ يزيده، الصَّوْمُ جُنَّةٌ، كما قلنا واضحة، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ من جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلَا: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ)

ضبط اللسان بمنهج الله
العبرة الآخيرة في النص: فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، مَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ، يعني الذي تستطيع أن تملك به هذه الأمور مجتمعةً أن تحافظ على اللسان بألا يتكلم في شيءٍ لا يرضي الله.
الإمام الغزالي في إحيائه عدَّ سبع عشرة معصيةً للسان، غيبة ونميمة وافتراء وكذب وبهتان وسخرية فمعاصي اللسان كثيرة فالإنسان من عدَّ كلامه من عمله فقد نجا، هذا اللسان نحن مؤاخذون عليه، هناك غيبة ونميمة وسخرية وكله حرام وواضح، لكن أيضاً باللسان يمكن أن يتكلم الإنسان بكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ سبعين خريفاً

{ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ سبعين خريفاً }

(رواه الإمام أحمد)

يعني يظهر بالإعلام يقول لك: الدين أفيون الشعوب، والدين غيبيات، أو يقول لك: أخي أنت أخلاقي لذلك أنت ضعيف، وأنت ضعيف لأنك أخلاقي، عندما يصبح الإنسان أخلاقياً يصبح ضعيفاً! أو يقول لك: الظلم من شيم النفوس، الله خلق الناس كلهم يظلمون بعضهم! يزور أخته وقد تزوجت من رجل فقير وبيتها صغير فيقول لها: كيف تعيشين في هذا البيت؟ كيف يكفيكم الدخل؟ فتكون مع زوجها في أسعد حال فيخرج أخوها من عندها فتتذمر من زوجها ومن حياتها! فيقول لك: أنا فقط تكلمت كلمة من أجل أن ينهضوا قليلاً بنفسهم، من أجل أن تحرك زوجها ليعمل، فيخرب بيتها!
جراحات السِّـنانِ لها الْتِئَـامٌ ولا يلْتـَامُ ما جرح اللسانُ
{ يعقوب الحمدوني }
ضبط اللسان بمنهج الله
فلذلك لما قال: ومَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ، هو اللسان، كان سيدنا عمر وهو من هو في الجنة رضي الله عنه وأرضاه مبشر بالجنة كان يمسك بلسان نفسه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد، هذا الذي أوردني الموارد، فالإنسان ينبغي أن يضبط لسانه بمنهج الله وبشرع الله.
معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة أصابه الطاعون فأغمي عليه ثم أفاق فقال: يارب وعزتك إنك لتعلم إني لأحبك، فلما حضرته الوفاة قال: مرحباً بالموت مرحباً، زائرٌ بعد غياب، وحبيبٌ وفد على شوق، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر، اللهم فتقبل نفسي بخير ما تتقبل به نفساً مؤمنة.
والحمد لله رب العالمين