اليقين أوجهه و درجاته

  • محاضرة في الأردن
  • 2020-02-24
  • عمان
  • الأردن

اليقين أوجهه و درجاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارض عنا وعنهم يارب العالمين اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.


مقدمة :
نحن في زمن الفتن
وبعد أيها الأخوة الكرام: حديثنا اليوم عن موضوع تشتد الحاجة إليه في هذا الزمن، لأن هذا الزمن زمن الفتن التي يصبح فيها الحليم حيران والتي يمسي فيها الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا قليل، فهذا الزمن أيها الأخوة تشتد فيه الحاجة إلى التمسك بالثوابت وهذا ما يُعبَّر عنه في القرآن الكريم وفي السنة الشريفة باليقين، فاليوم ما لم يُبْنَ الإيمان بناءً يقينياً لا ظنياً فإنه يمكن لشهوةٍ أو لشبهةٍ أن تنتزع الإنسان من دينه، أقصد بالشهوة ما نراه في وسائل الإعلام وفي الطرقات سواءً شهوة المال أو شهوة النساء، وهما أكبر شهوتين، وإذا أضفنا لهما شهوةً ثالثة أصبحوا كلاً متكاملاً وهي شهوة العلو في الأرض، معظم شهوات الناس إما من طرف المرأة تذل قدمه بعلاقةٍ محرمة، أو بمبلغٍ ماليٍّ فيه حرمة فيلتقطه من حرام، أو يريد أن يتبوأ منصباً فيبيع دينه من أجل الوصول إلى المنصب، معظم شهوات الناس تندرج ضمن هذه الأمور الثلاثة.
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، يعني اللسان، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ "، فالإنسان يؤتى من الشهوات من لسانه أو من شهوته.

{ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ }

(صحيح البخاري)

الشبهات ما يعصف بالأذهان اليوم
وأقصد بالشبهات ما يعصف بالأذهان اليوم على مواقع التواصل والإعلام من أمورٍ يحاربون الدين من خلالها وهو ما يعبر عنه اليوم بتفجير الإسلام من الداخل، فلما يئس أعداء الدين من أن يواجهوه بشكلٍ مباشر عمدوا إلى تشويهه من الداخل بفتاوى لا أصل لها أو بمعلومات ليست صحيحة أو بالعبث بالثوابت، تارةً بالسنّة وتارةً بالقرآن وتارةً بالتراث بشكل عام، وإن كنا لسنا عبيداً للتراث، ولكننا أيضاً لسنا ممن ينكر التراث ولا يبني عليه ويجعله في مكانٍ محترم، لسنا عبيداً للأئمة، ولكنهم رجالٌ قدموا للأمة ما قدموا فينبغي أن نبني على منجزاتهم وعطاءاتهم.

تعريف اليقين
اليقين زوال الشك
فاليوم أيها الأخوة الكرام: ما دام هناك شهوات وشبهات فنحن بحاجة إلى اليقين، اليقين تعريفه هو العلم مع زوال الشك، اليقين ليس علماً، أنت قد تعلم معلومةً، لكن اليقين أن يزول شكُّك فيها، مستويات المعرفة في العقل البشري أو في المنطق خمسة؛ وهم، إنسان يقول: توهمت كذا، نسبة التوهم تصل إلى ثلاثين في المئة، فيقول: توهمت أنّ الأمر كذا، فإذا وصل إلى الخمسين بالمئة فتساوى الطرفان فهذا اسمه شكٌّ، فيقول: أنا أشك، يعني عندي جانب العلم مساوٍ لجانب عدم العلم فأنا في الوسط تماماً، هذا اسمه شك، فإذا ارتقى إلى السبعين بالمئة فهذا اسمه ظن، فإذا ارتقى إلى التسعين بالمئة فهذا اسمه غلبة الظن، وهناك أحكام في الشريعة تبنى على غلبة الظن، لو أن امرأة قالت: لا أدري كم يوماً أفطرت في رمضان؟ نقول لها: ابنِي على غلبة الظن، ما الذي غلب على ظنك؟ تقول: الغالب على ظني أنه بقي لي أربعة أيام لم أقضها، نقول: اقضِي أربعة أيام، فغلبة الظن قد تصل إلى تسعين بالمئة، لكن اليقين هو المئة بالمئة، العلم اليقيني هو مئة بالمئة.

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
(سورة إبراهيم: الآية 10)

لا يوجد شك، فهذا يقين، فاليقين ليس كما قال الشاعر:
زَعَمَ المُنجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلاَهُمـــــــا لاَ تُحْشَرُ الأجْسَادُ قُلْتُ إليكُمَـــــــا إنْ صَحَّ قَوْلكُمَا فلَسْتُ بِـخَاسِــرٍ أوْ صَحَّ قوْلي فالخَسَارُ عليكُـمَــــــا
{ أبو العلاء المعري }
اليقين يكون قطعياً 100 %
هذا بيت شعر للمتعة الأدبية، لكنه في الإيمان لا قيمة له مطلقاً، لا يوجد في الإيمان: إن كان هناك آخرة نكون قد نجونا، وإن كان لا يوجد فلم نخسر شيئاً! هذا لا يصح، هناك آخرة يقيناً، لا يتطرق إلى ذلك شكٌ ولا احتمالٌ ولا ظنٌ ولا غلبة ظنٍ ولا وهمٌ، الموضوع قطعي مئة بالمئة، فعندما يكون العلم قطعياً مئة بالمئة يكون اليقين، والله تعالى في القرآن يتحدث عن اليقين. يقول ابن القيّم رحمه الله تعالى:
مَنْزِلَةُ الْيَقِينِ مِنَ الْإِيمَانِ بمَنْزِلَةُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ
{ ابن القيم }
جسد من غير روح يصبح جثةً هامدة، هذا الكبد يقوم بآلاف الوظائف وحده، الكبد وحده، فإذا انقطع إمداد الروح عنه، والروح من أمر الله، أصبح كتلةً لا قيمة لها، كبدة الدجاج والخروف تصبح قطعة لحم للأكل، أما بالروح فيقوم الكبد بآلاف الوظائف، فالروح هو المحرك للجسد وهو الأساس، الروح تماماً مثل جهاز مهم جداً ولكن لا يوجد فيه كهرباء، ما فائدة الجهاز؟! مثل البنزين في السيارة، يعني المحرك الرئيسي الروح، فيقول ابن القيم رحمه الله: الْيَقِينِ مِنَ الْإِيمَانِ بمَنْزِلَةُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، اليقين روح والإيمان هو الجسد، يقول تعالى:

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
(سورة السجدة: الآية 24)


الصبر واليقين
فقالوا: إذا اجتمع الصبر مع اليقين ولَّد الإمامة في الدين، فمتى يكون الإنسان إماماً يهدي بأمر الله؟ عندما يصبر ويُوقن، يقينٌ وصبر يؤدي إلى الإمامة في الدين، قال تعالى: (فَاصْبِرْ) أيضاً ربط بين الصبر واليقين

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ
(سورة الروم: الآية 60)

يقينٌ وصبر يؤدي إلى الإمامة في الدين
بمعنى أنك لن تصبر إذا كان هناك حولك أناسٌ ليس عندهم يقين، يستخفونك، يعبثون بك، يجعلونك خفيفاً، كيف يستخفّه؟ يقول له: ما هذا الدين؟ أنت تقوم بالصلاة والصيام والعبادة وكذا، ما هذا! الزمن تغير، الناس وصلوا إلى الفضاء، وأنت مازلت تقول طهارة ونجاسة! وما علاقة الطهارة والنجاسة بالفضاء؟ نصل إلى الفضاء ونبقى نطهر ثيابنا ونصلي لربنا فالأمران لا يتناقضان، أنا اتفاجأ لما تربط هذه الأمور ببعضها أن الناس وصلت وأنتم ما زلتم تقولون: هذا طاهر وهذا نجس، هذا لا ينفي هذا أنت ينبغي أن تقوم بهذا وينبغي أن تقوم بهذا.
فأيها الأخوة الكرام إذاً :

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ
(سورة الروم: الآية 60)

أيضاً:

وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ
(سورة الذاريات: الآية 20)

رؤية آيات الله تحتاج إلى يقين
فغير الموقن لا يرى الآيات، قد تسألني سؤالاً فتقول لي: يا أخي أحياناً انظر إلى منظر العصفور يطير فأقول سبحان الله، سبحان الخالق جل جلاله، وهؤلاء الذين في وكالات الفضاء العالمية يرون بأمّ أعينهم هذه المجرات الهائلة، لماذا لم يؤمنوا؟ لأنهم لم يطلبوا الإيمان، لأنهم في الأصل لم يطلبوا الإيمان، فالله تعالى قال: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ) الذي عنده يقينٌ بالله هو الذي يرى الآيات أما البعيد لا يرى الآيات أصلاً، يعني تماماً مثل المصورة ( الكاميرا) القديمة التي كانوا يضعون فيها فلماً فهذه الكاميرا إذا لم يكن فيها الفلم والتقطت صوراً بل أجمل صور وبعد ذلك أين ستجدهم؟ فهذا الذي يرى الآيات ولا تنطبع عنده لأنه ليس عنده في الأصل رغبة في الإيمان أو بحث عن الحقيقة، أيضاً قال تعالى:

وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
(سورة البقرة: الآية 4)

لما تحدث عن المؤمنين في مفتتح سورة البقرة قال: (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) عندهم يقينٌ بيوم الحساب وليس مجرد علم، عندهم يقين بيوم الحساب.

القوانين الإلهية هي قوانين يقينية قطعية
البطولة أن تؤمن في الوقت المناسب
إخواننا الكرام: نحن عندنا في العلم الأرضي اليوم قوانين، القانون قد يرقى إلى مستوى اليقين هذا في عالم البشر، إذا قلت لك: المعادن تتمدد بالحرارة فهذا قانون، اليوم الإنسان سواءً عبأ بهذا القانون أم لم يعبأ بهذا القانون، القانون موجود يقيني مئة بالمئة فإذا قال إنسان: هذا القانون لست مقتنعاً به فسأبني بناءً وسأضع الحديد فيه ولن أجعل هناك فواصل تمدد في البناء، فالبناء سوف يتصدع، أنت سواءً اقتنعت بالقانون أم لم تقتنع هذه مشكلتك، القانون مطبق وواقع، فالقوانين الإلهية هي قوانين يقينية قطعية سواءً عبأ الإنسان بها أو لم يعبأ فهي واقعةٌ به ومطبقةٌ عليه، فبطولته أن يؤمن بها في الوقت المناسب لأن وقوعها حتمي.
قال تعالى:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا
(سورة الحجرات: الآية 15)

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) و(إِنَّمَا): أداة حصرٍ وقصر، (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) الارتياب هو الشك وهو يعاكس اليقين (لَمْ يَرْتَابُوا).
النبي ﷺ يقول لأبي هريرة كما في الصحيح:

{ يا أبا هريرة من لقيته يَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا فَبَشِّرْهُ بالجنَّةِ }

(أخرجه مسلم)

(مُسْتَيْقِنًا بِهَا) نحن نسمع أحاديث:

{ مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ }

(رَوَاهُ أَبُو دَاوُد)

التوحيد أن لا ترى مع الله أحداً
هنا تفسير للحديث قال: (مُسْتَيْقِنًا بِهَا) أي خرجت من يقين بأنه لا إله في الوجود إلا الله وأن النبي ﷺ هو رسول الله فيقينه بها يدفعه إلى العمل بمقتضاها فلا تصبح قولاً يقال وإنما فعلاً، فلا يرى في الوجود إلا الله وهذا هو التوحيد الذي تحدثنا عنه في اللقاء الماضي.
أيها الأخوة الآن:

وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ
(سورة الجاثية: الآية 32)


أوجه اليقين
أحبابنا الكرام: الآن بعد أن فهمنا مفهوم اليقين في الآيات القرآنية والحديث الشريف، عندنا أوجه اليقين وهذا قد تحدثنا عنه سابقاً بطريقة أخرى لكن لا مانع أن نعيد هنا الحديث عنه، أوجه اليقين، اليقين هو يقين دلالة، ويقين مشاهدة، ويقين خبر، هذا الذي عبرنا عنه في لقاءات ماضية بالنظر والأثر والخبر، إن كنتم تذكرون، نظر، أثر، خبر.

يقين الدلالة
إذا كان إنسان جالس معنا الآن ولا يرى هذه الغرفة وما فيها يقول: أنا لا أوقن بالموجودات، هذا يتهم في عقله، هذا يقين المشاهدة، وهناك يقين الدلالة:

قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ
(سورة يونس: الآية 101)

فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ
(سورة عبس: الآية 24)

هذا نظر من أجل الدِلالة على شيء غير منظور لكنه موجود.
وفِي كلِّ شيءٍ لَهُ آية ٌ تَدُلّ على أنّهُ واحِــــــــدُ
{ أبو العتاهية }
تستدل على وحدانية الله استدلالاً يقينياً
فتستدل على وحدانية الله وعلى وجوده وعلى كماله استدلالاً يقينياً، والإعجاز في خلق السموات والأرض هذا يقين الدلالة.

يقين الخبر
يقين الخبر هو ما في القرآن والسنة
ويقين الخبر: هو ما في القرآن والسنة من أخبار أخبرنا بها الله تعالى لا نراها بأعيننا ولا نرى آثارها فنستدل من خلالها، لكننا نوقن بها لأنها خبرٌ من الله تعالى

وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا
(سورة النساء: الآية 122)

هذا يقين الخبر.
وذكرت لكم أن أحد السلف قال: لقد رأيت الجنة والنار عياناً، قالوا: انظر فيما تقول، قال: لقد رأيتهما عياناً لأني رأيتهما بعيني رسول اللهﷺ ورؤيتي لهما بعيني رسول الله أصدق عندي من رؤيتي لهما بعيني لأن بصري قد يزيغ وقد يطغى، أما بصره فما زاغ وما طغى.

يقين المشاهدة
البصر قد يزيغ
الإنسان أحياناً يقول لك: والله رأيته بعيني، فتقول له: قد تكون غير منتبه، يزيغ البصر، يتوهم شيئاً غير موجود، وقد يطغى فيتجاوز الحدود فيرى شيئاً تقول له: لم تنتبه أنت هذا بعيد عنك لا تستطيع أن تراه، فالبصر قد يزيغ وقد يطغى، لكن بصره صلى الله عليه وسلم ما زاغ وما طغى، فلما رأى نقل إلينا الخبر فكأننا نراه، من هنا يعبر القرآن بالرؤية عن أشياء من يقين المشاهدة فيقول:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
(سورة الفجر: الآية 6)

أين عاد؟ عاد قبل النبي ﷺ بأحقاب لكن لأنه خبرٌ من الله فينبغي أن تتلقاه وكأنك تراه، ومن هنا كان يقول بعض السلف الصالح: "والله لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً"، اليقين حاصل من الخبر فلو رأيت بعيني يبقى اليقين هو نفسه، نحن كلنا بإيماننا يغلب علينا أنه لو كشف الغطاء نزداد يقيناً، الرؤية بالعين تزيد الإنسان يقيناً حتى سيدنا إبراهيم قال:

قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
(سورة البقرة: الآية 260)

إبراهيم ما الذي أراده؟ بعض الناس يفهمون خطأ أن إبراهيم لم يكن عنده إيمان، لا، لكن إبراهيم عليه السلام في بداية إيمانه أراد أن ينتقل من يقين الخبر إلى يقين المشاهدة، وموسى عليه السلام يقول:

قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي
(سورة الأعراف: الآية 143)

(قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ) هل لم يكن موسى عليه السلام موقناً بوجود الله؟ لا والله، هو نبي من الأنبياء، لكنه كان موقناً يقين خبر بأن الله موجود فأراد أن يرى بعينه محبةً بالله تعالى (قَالَ لَن تَرَانِي) هذا بالدنيا غير موجود، في الآخرة ترون ربكم لا تضامون في رؤيته.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : أتُضامونَ في رؤيةِ القمرِ ليلةَ البدرِ، وتُضامونَ في رؤيةِ الشَّمسِ؟ قالوا: لا، قالَ: فإنَّكم ستَرونَ ربَّكم كما ترونَ القمرَ ليلةَ البدرِ لا تُضامونَ في رؤيتِهِ }

(أخرجه الترمذي بسند صحيح)

نسأل الله أن يرزقنا رؤيته.
فإذاً إخواننا الكرام: عندنا يقين خبر، ويقين دلالة، ويقين مشاهدة، هذه اسمها أوجه اليقين.

درجات اليقين
الآن إخواننا الكرام: عندنا درجات اليقين، اليقين له أوجه وله درجات، الأوجه قلنا مشاهدة يقينية، دلالة يقينية، خبر يقيني.
يعبرُ عنها علماء العقيدة:
* شيءٌ ظهرت عينه وآثاره، يقين مشاهدة.
* شيءٌ غابت عينه وظهرت آثاره، دلالة.
* شيءٌ غابت عينه وآثاره، خبر، يقين خبر.
تصديق الخبر يكون بالنظر لناقله
وكلها مسالك لليقين، كلها مسالك عقدية لليقين، كلها توصل إلى اليقين، لكن في حياة البشر، لا، في حياة البشر أنت تقول لي: مثلاً أنا الذي رأيته بعيني أصدقه أكيد، بالدلالة أصدق أنه هناك كهرباء بوجود كذا، الخبر أريد أن أنظر للقائل، قد يكون القائل صادقاً أو كاذباً،

إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا
(سورة الحجرات: الآية 6)

يعني على حسب القائل إن كان فاسقاً نتبين وإن كان صادقاً نأخذ خبره يقيناً، أما مع الله ورسوله فيقين الخبر هو كيقين المشاهدة، لأنه من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:

وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ
(سورة النجم: الآية 3-4)

لليقين درجات
إخواننا الكرام: هذه أوجه اليقين فما درجاته؟ درجاته في القرآن الكريم عندنا ثلاث مصطلحات، علم اليقين، عين اليقين، حق اليقين، هذا الذي ورد في القرآن، علم اليقين، ثم عين اليقين، ثم حق اليقين، علم اليقين هو الخبر الذي أتاك من الله ورسوله، الآن نحن قرأنا أن هناك جنة ونار، فنحن في علم اليقين يعني العلم الذي لا يساوره شك، هذا علم اليقين، لكن لما يصل الإنسان يوم القيامة ويقف بين يدي الله ويرى الجنة ويرى النار هذا عين اليقين، ولما يدخل الجنة ويتنعم بنعيمها فهذا حق اليقين، فنحن الآن في علم اليقين الذي آمن بالله تعالى وبرسوله وبجنته وبناره كل هذا الإيمان علم يقيني، لكن عين اليقين عندما ترى وحق اليقين عندما تعيش ذاك الذي رأيته، حتى أهل النار والعياذ بالله عندما يدخلون جهنم فهذا حق اليقين، وعندما يرون النار فهذا عين اليقين.

درجات اليقين في القرآن الكريم
فإخواننا الكرام: القرآن الكريم ماذا يقول عن هذه الأنواع الثلاثة؟

كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ
(سورة التكاثر: الآية 5-6-7-8)

المال المحرم يورد النار
انظر إلى التعبير القرآني، لو كنت تعلم علم اليقين لرأيت الجحيم وأنت في الدنيا، فإذا جاءك مبلغٌ من حرام ترى الجحيم في هذا المبلغ، لأنك تعلم علم اليقين أن هذا المال المحرم سيورد النار، فترى الجحيم فيه فتعرض عنه ولمّا ترى الجحيم بعينك، ثم قال تعالى: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) بعد ذلك سوف ترى النار عين اليقين للمؤمن والكافر، الاثنان سيريانها لكن الكافر يدخلها والمؤمن يجوز الصراط (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ).
الآيات الثانية ربنا عز وجل لما قال في سورة الواقعة:

فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ
(سورة الواقعة: الآية 83-84-85)

فلولا إذا بلغت الروح الحلقوم، (وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ) لهذا الذي ينازع أمامكم (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ) ثم يقول تعالى:

فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ
(سورة الواقعة: الآية 88-89)

الصنف الثاني:

وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ
(سورة الواقعة: الآية 90-91-92-93-94-95)

(إِنَّ هَٰذَا) كل ما سبق (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) كل هذا الذي سبق بعد الدخول صار حق اليقين، المقربون أصبحوا في روح وريحان، وأصحاب اليمين يسلم عليهم أصحاب اليمين (فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) والمكذبون الضالون دخلوا إلى جهنم قال: (إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) فبطولتك أيها المؤمن أن تعلم علم اليقين وأنت في الدنيا حتى تكون من حق اليقين من أهل الجنان.
لا دخان بلا نار
إذاً أيها الأحباب: هذا هو علم اليقين، عين اليقين، حق اليقين، إذا كان الإنسان جالساً وهناك جدار ومن خلفه يخرج دخان، لا دخان بلا نار، يقيناً هناك نار، هذا علم اليقين، فلما تجاوز الجدار ونظر رأى النار بعينه هذا عين اليقين، عين اليقين، عين، رآها، فلما اقترب وضع يده فاحترقت هذا حق اليقين.

الوصول بالعقل والإيمان قبل الوصول بالجسد
أيها الكرام: هناك عبارة رائعة جداً يقولون: الذكاء أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه، يعني أن تصل إليه بعقلك وبإيمانك قبل أن تصل إليه بجسدك.
الكافرون يوم القيامة:

لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ
(سورة الشورى: الآية 44)

الوصول للشيء بالعقل والإيمان
وصلوا وانتهى الأمر، فهو وصل إلى الشيء بجسده هذا ليس من شأن العقلاء، العاقل خرج من دمشق يريد حمص، والجو في دمشق مشمسٌ، فلما أصبح في بداية الطريق وضعوا لافتة كبيرة وكتبوا عليها الطريق مغلق إلى حمص بسبب تراكم الثلوج في النبك، وفي دمشق الشمس مشرقة والأرض مريحة جداً، لا بد أن يدور ويرجع إلى بيته، لأنه وصل إلى الشيء قبل أن يصل إليه، لكن لو خرجت دابةٌ من الدواب فإنها لا تتوقف إلا عندما تجد الثلج في طريقها، فبطولة المؤمن أنه يصل إلى الجنة والنار بعقله وبإيمانه قبل أن يصل إليهما بجسده فيتفاجأ، إذاً ينبغي أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه، أن تصل إليه بعقلك وبإيمانك قبل أن تصل إليه بجسدك، فالوصول بالجسد لم يعد له قيمة لم يعد هناك وقت، تجاوزت مكان اتخاذ القرار، فاتك الأمر، فرعون وهو أعتى الطغاة وأكفر كفار الأرض لما أدركه الغرق قال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، انتهى الوقت

حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ
(سورة يونس: الآية 90)

ينبغي أن تصل في الوقت المناسب
طالب على طاولة الامتحان يكتب والسؤال لم يعرف جوابه والسؤال عليه ثلاثون علامة فأيقن بالرسوب، فلما جاء المراقب وسحب الورقة وانتهى الامتحان خرج وفتح الكتاب فوجد أنه يعرف الجواب، هنا عرفه! طبعاً ستعرفه ولكن انتهى الوقت، وهذه المشكلة انتهى الوقت، ستصل لكن ينبغي أن تصل في الوقت المناسب هذا ملخص اليقين، فنحن من يقيننا قد وصلنا في الوقت المناسب إن شاء الله إلى أن هناك جنةً وناراً فاتقينا النار وعملنا للجنة.

نماذج تجسَّد فيها اليقين
1. نماذج اليقين عند الأنبياء
إخواننا الكرام: هذه بعض النماذج، نوح عليه السلام، نوح قال له الله تعالى:

وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا
(سورة هود: الآية 37)

أمره بصنع الفلك، الآن لا يوجد بحر، رمال كلها، وهو يصنع فلكاً!

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ
(سورة هود: الآية 38)

اليقين عند سيدنا نوح
ما هذا اليقين الذي كان عند نوح، الأرض ليس فيها بحر قريب ولا تحتاج إلى فلك وصناعة الفلك تدعو الناس إلى الاستهزاء بك (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) قال: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) هذا اليقين.
إبراهيم عليه السلام: لما ألقي في النار وجاء جبريل، أرسل الله أمين الوحي قال: ألك حاجة؟ المتردد على الألسنة قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي، وهذا لم يرد في الصحيح، الذي ورد في الصحيح: قال:" حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ "، يقين وهو في النار، انظروا يقين الأنبياء، أيضاً موسى عليه السلام:

فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
(سورة الشعراء: الآية 61-62)

مرة كنت طالباً في الجامعة فسافرت إلى العمرة من دمشق فأخذني أخ كريم قال لي: أريدك أن تزور شيخاً من شيوخ الشام، لكنه موجود في المدينة، توفي الآن رحمه الله تعالى، لم يكن ينزل إلى دمشق كان موجوداً بالمدينة، فقال لي: نريد أن نذهب إليه وتزوره، قلت له: والله نذهب وأنا لا أعرف الشيخ لكنني أسمع عنه، فذهبت إليه وجلست بجواره فلما عرّفه علي وأنني من دمشق، فالشيخ أكرمني وأنا كنت صغير السن وضعني بجانبه ورحب بي، فكان يلقي درساً على الناس الموجودين في مكان قريب جداً من الحرم، فالشيخ جاء بهذه القصة، قصة موسى، فقال: (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) فقال: ماذا قال موسى؟ شيخ بلال؛ فأنا فوراً استذكرت قلت له: (قَالَ كَلَّا ۖ) فقال: لا، فأنا استغربت وأنا أحفظ الآية: (قَالَ كَلَّا)، فأعدت كلامي قلت له: (قَالَ كَلَّا) فقال لي: لا لم يقل: كلا، قلت له: إذاً ماذا قال؟! أنا هكذا أعرف الآية، فقال لي: ما قَالَ: (كَلَّا)، قال: كلااااااااا، صرخ بأعلى صوته وأنا ارتعبت، أراد أن يعبر لي عن يقينه، قال لي: لم يقل لهم: كلا، قال: كلاااااااا (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، نعم، فيقين موسى عليه السلام عجيب؛ البحر من أمامكم والعدو من خلفكم فاحتمال النجاة أصبح صفراً بالمئة، فرعون يتبعه (قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) لأن (كَلَّا): أداة ردع وزجر، يعني هذا الكلام الذي تقولونه غير وارد نهائياً بقاموسي (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) من أين مدركون، لن يدركونا، وكان ما كان.
أيضاً سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، سيدنا محمد سيد المتيقنين صلى الله عليه وسلم، فلما كانا في الغار، قال يا رسول الله: لقد رأونا، في رواية، وفي رواية أخرى لو نظر أحدهم إلى موطئ قدميه لرآنا، فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟". (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا). هذا يقين، قمة اليقين.

لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا
(سورة التوبة: الآية 40)

{ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ، قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤوسِنَا، وَنَحْنُ فِي الْغَارِ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ، أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا }

(أخرجه مسلم)

الاستعجال ليس من اليقين
لما جاءه خباب بن الأرت وكان النبي صلى الله عليه وسلم متوسداً بُردةً له في ظلال الكعبة، قال يا نبي الله: أَلا تَدْعُو لَنَا، أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا؟، فلعله صلى الله عليه وسلم قد لمح في كلامه أنه قد بدأ اليأس يدب إلى قلبه وبدأ اليقين يتزعزع، أنتم قد تقولون: أَلا تَدْعُو لَنَا؟ ندعو لك، والمكان جميل قريب من الكعبة موطن إجابة يارب انصرنا، فاحمر وجهه صلى الله عليه وسلم وقال: إنه كان في من كان قبلكم ليجاء بالرجل فيحفر له الحفرة فيوضع فيها فيشق نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر، انظر إلى اليقين، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يخرج الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون، هذا الاستعجال ليس من اليقين.

{ وعنْ أبي عبدِاللَّهِ خَبَّابِ بْن الأَرتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ }

(رواه البخاري)

خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ
(سورة الأنبياء: الآية 37)

(خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) صحيح قال: (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) أنت اعمل على الطريق وكن على الطريق ولا تستعجل لأنه قادم.

أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ
(سورة النحل: الآية 1)

التأني وانتظار موعود الله
(أَتَىٰ) هو لم يأتِ بعد! لأنه: (فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) ما دام من الله فقد أتى وانتهى الأمر، أتى أمر الله فنحن مأمورون ألا نستعجل، أن نخالف طباعنا في العجلة وأن نتأنى وأن نكون على الطريق وأن ننتظر موعود الله تعالى بشرط أن نكون جنوداً لخدمة الدين والحق.

2. نماذج اليقين عند غير الأنبياء
إخواننا الكرام: قد تقولون: هذا في الأنبياء، الأنبياء أصحاب يقين مختلف، بالتأكيد، لكن هذا موجود أيضاً في السلف وفي علماء الأمة وفي أناس ليسوا بأنبياء وفي القرآن، أم موسى، أم موسى ليست بنبية، أم موسى امرأة مثل باقي النساء، لكن أم موسى، قال لها تعالى:

فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ
(سورة القصص: الآية 7)

احتمال النجاة في اليم معدوم
إخواننا الكرام: هي تخاف عليه وهو بين يديها فإذا ألقته في هذا اليم المتلاطم الأمواج فالخوف أشد، بين يديها احتمال النجاة عشرة بالمئة أن ينجو من فرعون وملئه، هناك احتمال ألا يروه، أن يعفو عنه، أما في اليم فانتقلنا من العشرة بالمئة وأصبح الهلاك مئة بالمئة ، هذه الآية من أعظم الآيات؛ قال العلماء: فيها أمران ونهيان، وبشارتان، وخبران.

وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
(سورة القصص: الآية 7)

(وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ) أمر،(فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) الأمر الثاني، (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي) نهيان، (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) بشارة، (وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) بشارة ثانية، ورده الله إليها وجعله من المرسلين، فأم موسى كانت في يقين، لما وضعته:

إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا
(سورة القصص: الآية 10)

إذا أراد الله إنفاذ أمرٍ
كادت تقول: ماذا فعلت بنفسي؟ كيف ألقيته في اليم؟ فإذا بالذي أمر بقتله يربيه في قصره وأصبحت أمه ترضعه وتأخذ أجرها على إرضاعه، كانت ترضعه مجاناً لكن الآن بقصر فرعون فصار هناك أجر على الإرضاع وهي ترضع ابنها، وفي قصر فرعون ورباه في قصره على عينه، لأن الله تعالى إذا أراد إنفاذ أمرٍ أخذ من كل ذي لبٍّ لبّه، مع الله لا يوجد عقل، أنا عاقل جداً أدبر أموري، ولكنه لا يمكنك مع الله، تدبر أمورك بالعقل مع البشر، مع ربنا عز وجل إذا كان هناك مخالفة مع الله لا يوجد لب، فالذي سيقضي عليه ربّاه في قصره، هذه أم موسى.
أيضاً إخواننا الكرام: سحرة فرعون أيضاً آمنوا بلحظة، بلحظة معينة انقلبوا إلى مؤمنين قالوا:

قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
(سورة طه: الآية 72)

أنت كل مجال عملك هو إلى الموت بعد الموت لا تملك شيئاً من أمرنا (إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)

إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ
(سورة طه: الآية 73)

(فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ) انتهى الأمر.
هاجر أستاذة اليقين، أنا أسميها أستاذة اليقين لأنه لما أسكنها إبراهيم وذريتها بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِ الله الْمُحَرَّمِ.

رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
(سورة إبراهيم: الآية 37)

الله لا يضيع أهله
أيضاً احتمال النجاة صفر، لكنها لما وجدت نفسها في هذا المكان جعلت تقول: يا إبراهيم لمن تتركنا؟ إلى من تتركنا في هذا المكان الذي لا نبت فيه ولا ماء؟ وإبراهيم لا يلتفت، لأنه أب لا يريد أن يرى منظر الرضيع ولا منظر زوجته، يحب زوجته ويحب ابنه، فلما يئست منه أن يعود قالت له: يا إبراهيم آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا، فلما جاءها الملك وهي تسعى بين الصفا والمروة في رواية حسنها أهل العلم، قال لها الملك: إن الله كافيكم، وإن الله لا يضيع أهله، إن الله لا يضيع أهله، وسيكفيكم.

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
(سورة الزمر: الآية 36)

فهذه أيضاً إخواننا الكرام: أستاذة اليقين هاجر عليها السلام.
اليقين بأن رسول الله لن يضيعنا
أيضاً من النماذج المشرقة في اليقين ولعلّي رويت لكم ذلك لكن الآن أضعها في مكانها وأجتزئ من القصة، هذه الفتاة التي خطبها النبي صلى الله عليه وسلم لصحابيٍّ جليلٍ فقيرٍ دميم اسمه جليبيب، فلما خطبها وجاء هذا الرجل يستأمر أمها، يستشيرها في شأن زواجها، قال: إن رسول الله يخطب إليكِ ابنتكِ، قالت: نعم لرسول الله، زوج رسول الله، قال لكن ليس لنفسه يريدها، قالت: فلمن إذاً؟ قال: لجليبيب، قالت: لجليبيب؟ لا والله لا لعمر الله لا أزوجها لجليبيب، وقد منعناها فلاناً، وفلاناً، جاءنا من هو خيرٌ من جليبيب فمنعناها، فسمعت هذه البنت ما يقول أبوها وأمها، قالت: يا أبي ويا أمي من خطبني إليكما؟ قالا: رسول الله، قالت: أوتردان على رسول الله أمره؟ أدفعا بي إليه فإنه لن يضيعني، هذا يقين، تربية يقين، ادفعا بي إليه فإنه لن يضيعني، قال: فكأنما جلّت عنهما، يعني بموافقتها فرجت همهما، لأنه كان هناك هم أن يعود إلى رسول الله ويقول له: لا نريد، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزوجها قسراً، مستحيل لأن هذا زواج، فلما عاد قال: شأنك بها يا رسول الله، فقال: اللهم صب عليهم الخير صباً ولا تجعل عيشهما كداً كداً، وزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجليبيب، وفيما بعد استُشهد جليبيب في أرض المعركة في أحد والنبي صلى الله عليه وسلم انحنى عليه وقبله وقال: أنت مني وأنا منك يا جليبيب، أنت مني وأنا منك، يقول أنس راوي الحديث: فوالله لقد حفرنا قبر جليبيب وما له فراشٌ غير ذراعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بقي أحدٌ من الحاضرين إلا تمنى أن يكون مكان جليبيب، وأما زوجته فما إن انقضت عدتها ما رأينا في العرب أيّماً أنفق منها، يعني أسرع زواجاً منها، فقد خطبها رجلٌ من الأنصار، فربح جليبيب وربحت زوجته وببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونال جليبيب هذه المكانة بالشهادة ونالت زوجته هذه المكانة بيقينها بأن رسول الله لا يضيعها، فإذا أمرها بأمر، وفي رواية قرأت عليهما قول الله تعالى:

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
(سورة الأحزاب: الآية 36)

{ أبو بَرْزَةَ الأَسْلَمِىِّ ـ رضي الله عنه ـ يقول : ( كانت الأنصار إذا كان لأحدهم أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ هل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها حاجة أم لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار: زوجني ابنتك، فقال: نِعِمَّ وَكَرَامَةٌ يَا رسول الله، وَنُعْمَ عَيْنِى، فقال: إِنّى لسْتُ أُريدها لنفسي، قال: فَلِمَنْ يا رسول اللَّه؟ قال: لِجُلَيْبِيبٍ، قال: فقال: يا رسول الله أشاور أمها، فأتى أمها فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك، فقالت: نعم، ونعمة عيني، فقال: إنه ليس يخطبها لنفسه، إنما يخطبها لجليبيب، فقالت: أَجُلَيْبِيبٌ ابْنَهْ؟، أَجُلَيْبِيبٌ ابْنَهْ؟! لاَ لَعَمْرُ اللَّهِ لاَ تُزَوَّجُهُ، فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بما قالت أمها، قالت الجارية: من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها، فقالت: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، ادفعوني فإنه لم يضيعني، فانطلق أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال: شأنك بها، فزوجها جليبيبا، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة له، قال: فلما أفاء الله عليه، قال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلانا، ونفقد فلانا، قال: انظروا هل تفقدون من أحد؟، قالوا: لا، قال: لكني أفقد جليبيبا، قال: فاطلبوه في القتلى، قال: فطلبوه، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فقالوا: يا رسول الله، ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقام عليه، فقال: قتل سبعة وقتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، مرتين، أو ثلاثا، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه، وحفر له، ما له سرير إلا ساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضعه في قبره، ولم يذكر أنه غسله ) }

(رواه أحمد)


الحرية المطلقة والحرية المقّيدة
لا يوجد حرية بلا مسؤولية
إخواننا الكرام: نحن كلنا أحرارٌ بطاعة الله، لكن حرية بلا مسؤولية في الأرض كلها لا يوجد، ومن يوهمك بأن هناك حريةً في الأرض بمعنى الحرية المطلقة فهو يوهمنا بشيء غير موجود، كل الأرض فيها جزء من حرية لكنها مقيدة، فإذا كنت عبداً فعبد الله حرٌ وعبد الله يرفع رأسه دائماً ولا يذل إلا لله، أما من لا يريد أن يعبد الله فسيعبد ألف جهٍة وجهةٍ من دون الله، فليختر الإنسان لنفسه إما أن يكون عبداً لمالك السموات والأرض ويقف بين يديه ويقف عند أمره ونهيه ضمن هذه الحرية العظيمة المسؤولة، أو أنه سيكون في مكان آخر يوهمونه بأنه حر لكنهم يفرضون عليه ألف شرطٍ وشرط، هذا هو اليقين إخواننا.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا اليقين، وأن يجعلنا من المتحققين باليقين، فإنه إذا اجتمع الصبر مع اليقين تولدت الإمامة في الدين.
والحمد لله رب العالمين.