سورة الكهف - الرحلة العجيبة

  • محاضرة في الأردن
  • 2020-03-30
  • عمان
  • الأردن

سورة الكهف - الرحلة العجيبة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.

أيها الإخوة الأكارم: إخوتي في لقاء الاثنين، وقد حجبنا فيروس كورونا عنكم وعن اللقاء المباشر، فنسأل الله أن يكون في هذا اللقاء عبر البث المباشر فائدةً إن شاء الله عز وجل، وإن كانت لا تغني عن اللقاء المباشر، إخوتي في كل مكان أسعد الله أوقاتكم بكل خيرٍ وبركة.
فضل سورة الكهف
إخواننا الكرام: حديثنا اليوم يناسب واقعنا في كثيرٍ من مفرداته، أتحدث اليوم عن سورةٍ نقرأها كل جمعة، ومن منا لا يقرأ سورة الكهف كل جمعة؟
في كتاب الله مئةٌ وأربع عشرة سورة، اختار النبي صلى الله عليه وسلم منها هذه السورة، وهي سورة الكهف، ليجعلها منهجاً لنا نقرأها في كل جمعةٍ مرةً.
لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة من بين سور القرآن كله؟ سورة الكهف وردت فيها مجموعة أحاديث صحيحة سأذكر بعضها مما يفيدنا في تحديد المحور العام لهذه السورة.

محور سورة الكهف
إخواننا الكرام: قبل أن أتابع، كل سورةٍ في القرآن ينتظمها محورٌ تدور آياتها وقصصها وأمثالها حول هذا المحور، فهناك سورةٌ محورها العام التوحيد، وهناك سورةٌ محورها العام الترغيب في الجنة والنار، وهناك سورٌ محورها العام الآيات الكونية.
لكل سورة في القرآن موضوع محدد
سورة الكهف يجب أن نحدد محورها، كيف سنحدد محور هذه السورة؟ موضوعها الرئيسي، وهذا ما يسمى اليوم التفسير الموضوعي، بحيث لكل سورةٍ موضوع يتجلى فيه جانبٌ من جوانب إعجاز القرآن الكريم، فلا يظن قارئ القرآن أن هذه الآيات في السورة إنما رُتِّبَت هكذا، وإنما هي متكاملة، السورة وحدةٌ موضوعية.
ما موضوع سورة الكهف؟ حتى نتعرف على موضوع سورة الكهف سأتابع معكم من خلال الأحاديث الشريفة ومن خلال اسم السورة.

الأحاديث الشريفة التي جاءت في فضل سورة الكهف:
قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

{ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كَمَا أُنْزِلَتْ، كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَقَامِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا، ثُمَّ خَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ }

(صحيح الترغيب)

إذاً هي سورةٌ تنير الطريق، وهناك رواية من أولها .
حديثٌ ثانٍ : عن سيدنا علي رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:

{ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهُوَ مَعْصُومٌ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ تكون، فَإِن خرج الدَّجَّال عصم مِنْهُ }

(رواه الألباني)

لا يقع في الفتن، يمرض، يفتقر، يصيبه شيءٌ، لكن لا يقع في الفتن، فسورة الكهف هي سورة العصمة من الفتن، لأن المعصوم من الفتن طريقه فيه نور.
الأحاديث تتحدث عن شيئين:
* سورة الكهف نور
* سورة الكهف عصمةٌ من الفتن
والأمران يتكاملان فيما بينهما، فمن كان طريقه منيراً فهو معصومٌ من الفتن، ومن كان معصوماً من الفتن فطريقه نور يرى الحق حقاً والباطل باطلاً.

معنى الكهف والمقصود منه في السورة
الآن إذا جئنا إلى اسم السورة: اسم السورة هو الكهف، والكهف هو المكان الذي لجأ إليه أصحاب الكهف، هؤلاء الفتية الذين آمَنُوا بِرَبِّهِمْ

إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ
(سورة الكهف : الآية 13)

هؤلاء لجأوا إلى الكهف فعُصموا من فتنة الدين، لم يُفتنوا في دينهم، رأوا أنهم لا يستطيعون أن يقيموا دين الله عز وجل وهم بين قومهم فاعتزلوهم ،

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ
(سورة الكهف : الآية 16)

الكهف آخر الزمان
فالكهف هو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ليُعصم من الفتن، في آخر الزمن قد يكون الكهف بيتك، وقد يكون الكهف مسجدك، وقد يكون الكهف إخوتك في الله تلتقي معهم فتتحاورون وتؤمنون بربكم ساعة، وقد يكون الكهف درس علمٍ تحضره، إذاً لابد من أن نعصم أنفسنا من الفتن .
أيها الأخوة الكرام : الآن إذاً عنوان أو محور السورة : العصمة من الفتن، اتضح ذلك من خلال الأحاديث الشريفة، ثم من خلال اسم السورة.

هيكل السورة والقصص التي تحتويها
الدين هو سعادة الأبد أو شقوة الأبد
نتابع الآن: هذه السورة فيها مقدمة عشر آيات، وخاتمة عشر آيات أظن تقريباً، وبينهما أربع قصص، السورة فيها أربع قصص، وكل قصةٍ من هذه القَصص ترسم طريقاً لعصمةٍ من فتنةٍ من الفتن، في مقدمة السورة وخاتمتها جاءت الآيات تتحدث بشكل نظري عن العصمة من الفتن، أما القصص فعبرت بشكل عملي قَصَصِي من خلال أشخاص، والقصة أبلغ ما يكون في التعبير عن الواقع، فجاءت القصة لتعبر، فهذه القصص الأربعة هي عصمةٌ من رؤوس فتن في حياتنا.
ما هي الفتن الأساسية في الحياة؟ دينه، هذه أعظم فتنة، وهي فتنة الدين، اللهم أصلح لي ديني، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، كل المصائب تهون إلا مصيبة الدين، نسأل الله السلامة، لأن الدين هو سعادة الأبد أو شقوة الأبد، إذاً القصة الأولى هي للعصمة من فتنة الدين، أن يُفتن الإنسان في دينه، ويمثلها أصحاب الكهف.
القصة الثانية هي قصة العصمة من فتنة المال: أن يأتي للإنسان مالٌ فيفتتن به ويمسكَه ويتعالى به على عباد الله ويتكبر به على خلق الله فهنا قد فتنه المال، فصاحب الجنتين فتن في ماله فأدبه الله تعالى وأهلك له الحرث والنسل فعاد إلى ربه، هذه فتنة المال، العصمة من فتنة المال هي القصة الثانية.
القصة الثالثة من قصص سورة الكهف: وهي التي سأتناولها بالتفصيل وكل الحديث من أجلها هي فتنة العلم، فتنة العلم: وهي أن يفتن الإنسان بما علمه الله

وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
(سورة يوسف : الآية 76)

ويمثلها موسى عليه السلام مع العبد الصالح الذي هو في كثير من الروايات الخَضِر وهو نبي من الأنبياء في الأرجح، وسأرجع إليها فلن أفصل فيها.
الفتنة الرابعة هي فتنة السلطة: أن يكون الإنسانٌ له سلطةٌ على قوم، أن يكون له أسباب، بيده أسباب معينة من أجل فعل شيء أو الإحجام عن شيء، يُمَكِّنُهُ الله من الأسباب فكيف يتصرف؟ وهذه قصة ذي القرنين الذي آتاه الله السلطة

وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا
(سورة الكهف : الآية 84-85)

واستخدم سلطته في الحق وفي نصرة المظلومين، ولم يستخدم سلطته في الباطل أو في الطغيان على المستضعفين، فنجح في الاختبار ذو القرنين.
في سورة الكهف أربعة قصص
أيها الإخوة الكرام : إذاً هذه أربع قصص كلٌّ منها تمثل عصمةً من فتنة:
1. فتنة الدين يمثلها أصحاب الكهف.
2. فتنة المال يمثلها صاحب الجنتين الذي افتتن في ماله.
3. فتنة العلم والتي سأتحدث عنها بالتفصيل ويمثلها موسى عليه السلام في قصته مع نبي الله الخَضِر.
4. والقصة الرابعة قصة ذي القرنين وهي فتنة السلطة.

قصة موسى مع الخَضِر
أيها الإخوة الكرام : أَرجِع إلى القصة الثالثة التي أريد أن أتناولها بالتفصيل، ولعلنا في لقاءات أخرى نتناول أبعاداً أخرى في سورة الكهف، فكلام الله عز وجل بحرٌ لا يستطيع إنسانٌ أن يبلغ منه مهما تكلم إلا كما يبلغ المِخْيَطُ إذا غُمِسَ في مياه البحر .
إخواننا الكرام : قصة موسى مع الخضر تهمنا في هذه الأيام لذلك اخترتها، لماذا تهمنا قصة موسى مع الخضر في هذه الأيام؟

أهمية قصة موسى مع الخضر
أسئلة إجاباتها في قصة موسى مع الخضر
اليوم يسأل إنسان لماذا يُقتل الأطفال؟ أليس الله موجوداً لماذا لا يَمنع أن يُقتل طفلٌ بريءٌ لا ذنب له؟ اليوم يسأل إنسان لماذا هذا المرض والفيروس الذي أغلق على الناس أبواب بيوتهم لماذا لا يوقفه الله تعالى؟ هذا سؤال، اليوم يسأل سائل هؤلاء الطغاة الذين يقتلون البشر ويعيثون في الأرض فساداً وينشرون الخراب ويحتلون الأرض ويدمرون الحجر ويقتلون البشر ويخلعون الشجر لماذا لا ينتقم الله منهم؟ لماذا يتركهم يفعلون ما يفعلون؟ لماذا يتركهم يؤذون المؤمنين والمؤمنات؟ سؤال، هذه أسئلة، أجوبتها جميعاً في قصة موسى عليه السلام مع الخضر، وسيتضح لكم ذلك الآن بالتفصيل إن شاء الله، كيف؟
إخواننا الكرام : ما الذي حصل؟ موسى عليه السلام كان يَخْطُبُ على المنبر، ويقال يَخْطُبُ ولا يقال يخطِبُ، لأن يَخْطِبْ هي لمن جاء يريد امرأةً ليتزوجها، فيأتي مكسوراً فتأتي يخطِب بالكسر، فهو بين قبول أهلها أو رفضهم فيخطِبُ ، أما من يرتفع إلى المنبر فهو بالرفع يَخْطُبُ، ومثلها قُبْلَةٌ وقِبْلَة، فالقِبلَةُ تقف بين يدي الله مكسوراً فقِبلتك هي إلى الكعبة المشرفة، والقُبْلَةُ ضمٌّ تضم بها من تحبُّه وتُقَبِّلُهُ، لكن لا تُقَبِّلوا أحدً في هذه الأيام ولا تصافحوه عملاً بالأسباب واتخاذاً للقواعد الصحية التي علمنا إياها الأطباء وأولوا الأمر ممن يعلمون أحكام المرض.

فتنة العلم
أيها الإخوة الكرام : هذا فاصلٌ منشط، نعود، فموسى عليه السلام كان يخطب على المنبر فسأله سائلٌ من الناس من أعلم أهل الأرض؟ موسى عليه السلام أجاب إجابةً ربما متسرعة، ربما يريد أن يُعَلِّمَ هذا الإنسان أن يَعْلَمَ أنه نبيٌّ من أولي العزم حتى يأخذ منه العِلْم، فقال موسى عليه السلام: أنا، لأنه نبيٌّ من أولي العزم من الرسل، يعني موسى عليه السلام ليس رسولاً عادياً، موسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، هو وقف في وجه فرعون الطاغية الذي قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ)

فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ
(سورة النازعات : الآية 24)

فموسى قال: أنا، فهو في أهل الأرض هو أعلم أهل الأرض، لكن يبدو أنه تسرع لأنه ما نسب العلم إلى الله فقال: قد علمني الله، فقال: أنا، فهذه كلمة أنا لم تكن في موضعها والله أعلم، فلما قال أنا أراد الله عز وجل أن يُعَلِّمَهُ أنك مهما بلغت في العلم من رتبةٍ فهناك من هو أعلم منك (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) فأرسله إلى عبدٍ من عباده آتاه رحمةً من عنده وعلمه من لدنه علماً،

فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا
(سورة الكهف : الآية 65)


لقاء موسى مع الخَضِر
علّمه عِلم مختلف عن عِلم موسى عليه السلام، فقال له: اصحبه، وواعده على شاطئ البحر عندما يفقد موسى عليه السلام حوته وطعامه فيعود فيجده، يعني وضع له المنهج ليصل إلى العبد الصالح، وفعلاً موسى عليه السلام قام لأداء المهمة التي وُكِّلَ بها ليتعلم، وبدأ يتعلم من الخضر عليه السلام، لكن الآن بتواضع عظيم جداً قال :

قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا
(سورة الكهف : الآية 66)

تواضع طالب العلم
(هَلْ أَتَّبِعُكَ)؟ بتواضع طالب العلم، لأن موسى عليه السلام الآن أرسل إلى هذا، فهذا أعلم منه، رغم أن موسى عليه السلام من أولي العزم، وربما يكون أفضل من الخضر كما يقول كثير من أهل العلم، موسى عليه السلام ربما بالفضل عند الله أفضل لأنه قام بمهمات كبيرة جداً في الحياة، في نضال مستميت ضد فرعون وطغيانه من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل، فموسى عليه السلام له مكانته الكبيرة وليس لأنه تعلم من الخضر فهو أقل، ليس هذا هو المعنى، ولكن الآن هو أرسل إلى الخضر ليتعلم شيئاً جديداً لا يعلمه، وليُعَلِّمَهُ للأمة إلى قيام الساعة، حتى أصبح قرآناً يتلى، نتلوه إلى اليوم في كل جمعة وفي كل يوم نقرأ قصة موسى مع الخضر عليهما السلام.

الإرادة القدرية والإرادة الشرعية
كل شيء يقع بإرادة الله
ما الذي حصل في هذه الرحلة العجيبة؟ هذه رحلةٌ عجيبة لا مثيل لها في التاريخ، هذه الرحلة التي حدث فيها أمور كثيرة يجمعها، قبل أن أتحدث عن الأمور، يجمعها أن موسى عليه السلام كان عنده علم الشرع، بينما الخضر كان عنده القدر الذي يقع بأمر الله عز وجل، نحن بين إرادة الله الشرعية وإرادة الله القدرية، الخضر عليه السلام كان يعلم القدر موسى عليه السلام كان يعلم الشريعة، كيف؟ الآن عندما يقتل إنسان في الأرض ظلماً وعدواناً، هذا يقع بإرادة الله أم بغير إرادة الله؟ حاشاه جل جلاله أن يقع في ملكه ما لا يريده، يقع بإرادة الله، لكنه لا يقع بأمر الله ولا يقع برضا الله، ولا يقع بتشريع الله، ولا يجوز القتل وسيحاسب القاتل في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما، لكن الذي وقع وقع بإرادة الله، هذه الإرادة القدرية التي يعلمها الخضر عليه السلام.
الآن عندما يطيع الإنسان ربه ويصلي، هذه الصلاة تقع بإرادة الله؟ طبعاً بإرادة الله، هل بإرادة الله القدرية أم الشرعية؟ الشرعية، لأن الله تعالى قال :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
(سورة البقرة : الآية 153)

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ
(سورة البقرة : الآية 43)

فنحن عندما نقيم الصلاة فنحن ننفذ شرع الله، والقاتل عندما يقتل لا ينفذ شرع الله، حاشاه جل جلاله أن يأمر بالمنكر، ولكنه ينفذ إرادة الله لحكمةٍ يعلمها الله، ولا يُعفيه ذلك من المسؤولية أمام الله، أرجو أن يكون الموضوع واضحاً، لأنه في العقيدة له تعقيدات كثيرة أردت أن أبسطه حتى نفهم كيف أن موسى عليه السلام يعلم الشرع، ينفذ الشرع موسى، أما الخضر فيعلم القدر، ما يقع في الكون من قدر الله يعلم حكمه، هل يعلم من نفسه لا، قال: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)، أبداً

وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي
(سورة القصص : الآية 82)

موسى يعلم الأمر والخضر يعلم الحكمة
فعله من علمٍ علمه إياه الله وأمره به، ولا يجوز لإنسان اليوم أن يتصرف كما تصرف الخضر، أبداً، في خرق السفينة أو في قتل الغلام، من ناحية أخرى موسى عليه السلام يعلم الأمر، لكن الخضر يعلم الحكمة، موسى يعلم الأمر والخضر يعلم الحكمة، من زاوية ثالثة موسى يعلم الشهادة والخضر علمه الله شيئاً من الغيب الذي لا نراه بأعيننا.
أُعِيد:
* موسى يعلم الشرع، الخضر يعلم القدر.
* موسى يعلم الأمر، والخضر يعلم حكمة الأمر ومقصد الأمر.
* موسى يتصرف وفق عالم الشهادة، والخضر يتصرف وفق عالم الغيب .

مجريات الرحلة العجيبة
فتعلم موسى بذلك دروساً ودروساً من الخضر، ما الذي حصل في هذه الرحلة العجيبة؟

خرق السفينة
الأمر الأول: (خرق السفينة): عندما صعدوا إلى السفينة الخضر خرق السفينة، هذا إتلافٌ للممتلكات، يعني اليوم لو سأل سائل لماذا دُمِّر البيت؟ لماذا حصل هذا الزلزال؟ لماذا جاءت طائرة فقصفت هذا البيت فدمرته؟ تدمير ممتلكات، لماذا جاء إنسان سيء في الليل وعطل لي سيارتي وسرق منها شيئاً؟ لماذا؟ إتلاف ممتلكات، هذا الذي حصل مع الخضر، الخضر خرق السفينة هذا لا يجوز، موسى عليه السلام احتج فوراً لماذا تخرق السفينة؟ ما الذي يدفعك إلى خرق السفينة؟ لأن هذا لا يجوز في عالم الشهادة، ولا في أوامر الشرع لا يجوز أن تفعل ذلك، فلم يحتمل موسى رغم أنه عاهده ألا يسأله حتّى يُحْدِثَ لَه مِنْهُ ذِكْرًا.

قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا
(سورة الكهف : الآية 70)

ولكنه لم يستطع أن يتحمل فاعترض فوراً، لماذا تخرق السفينة؟

قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا
(سورة الكهف : الآية 71)

الأمر يقول لا تخرق السفينة
هذا الأمر يؤدي إلى شيء سيء غداً يركبون بها فيغرقون لأن السفينة خُرِقَت، موسى لا يعلم هذا الطرف من الغيب الذي عَلَّمَهُ الله للخضر، موسى لا يعلم أن هناك قدراً يجريه الله في الكون هو يعلم أن الأمر يقول: لا تخرق السفينة فقط، هذا الذي يحصل بالضبط.
الآن: كأن الله تعالى الآن يُذَكِّرُ موسى بأشياء كثيرة في حياته السابقة في معاناته مع فرعون، ألم يوضع موسى يوم كان رضيعاً في اليم، في البحر؟ هل وُضِع ليغرق؟ كل إنسان يرى أم موسى تضعه في تابوت وتلقي التابوت في اليم أين يذهب به؟ غرق مُحَتَّم، هل وضع موسى ليغرق في اليم؟ لا، وضع لينجو، وهذه السفينة الآن خُرقت من أجل أن ينجوا أصحابها لا من أجل أن يغرقوا، لأن (وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) قال: (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا)

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا
(سورة الكهف : الآية 79)

نتيجة وضع سيدنا موسى في اليم
ونسب العيب إلى نفسه قال: (فَأَرَدتُّ) ما قال: أراد ربك مع أنها إرادة الله ينفذها، لكن ما نسب العيب إلى الله أدباً منه، هذا أدب الأنبياء، أدب الخضر عليه االسلام، قال: (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا) فعاب السفية وخرقها، فخرق السفينة هو في حقيقته إتلافٌ للممتلكات، ولكن نتيجته نجاةٌ لمن سيركب في السفينة، هذه واحدة، تماماً كما حصل مع موسى يوم كان وضعه في اليم هو في ظاهره ليغرق لكن النتيجة كانت أنه سلم ووصل إلى قصر فرعون ورباه فرعون الذي كان يقتل الأولاد رباه في قصره وعلى عينه ليقضي بعد ذلك على ملكه، لأنه إذا أراد ربك إنفاذ أمرٍ أخذ من كل ذي لُبٍّ لُبَّهُ، فليس هناك لبٌّ وعقلٌ مع الله، فأنت بين يدي الله عز وجل يسيرك كيف يشاء (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) جل جلاله

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
(سورة يونس : الآية 22)

هذه القصة الأولى .

قتل الغلام
القصة الثانية: (قتل الغلام): هذه أشد من الأولى على موسى، هناك إتلاف ممتلكات، هنا غلام زكي، نفس زكيّة طاهرة لم تتأثم بعد، لم تتلبس بالآثام والمعاصي، طفل يُقتل! اليوم كم يقول لنا أناس عبر الهاتف وعبر الواتساب وفي الفيسبوك لماذا يُقتل الأطفال؟ يقولها البعض ضعفاً بالإيمان، ويقولها البعض إستفساراً لمعرفة الحكمة، ويقولها بعض المغرضين لإخراج الناس من دين الله كما يتوهمون، ولن يستطيعوا ودين الله غالبٌ،

وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ
(سورة يوسف : الآية 21)

بغض النظر لماذا يقولونها لكن ألا نسمع هذا السؤال: لماذا يقتل الأطفال؟ والأطفال تحديداً، نُسأل عن الأطفال تحديداً، لأن الكبير يقول: يعني ربما مذنب، ربما كذا، أما الطفل لماذا يقتل؟ فهنا في هذه القصة الخضر يقتل طفلاً، الله أكبر، موسى عليه السلام لم يحتمل

قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ
(سورة الكهف : الآية 74)

ماذا تفعل تقتل طفلاً؟! موسى لا يدرك هذا الطرف من الغيب، لا يدرك القدر، هو يتعامل بالشهادة، يتعامل بالشريعة، قتل الغلام حرام لا يجوز أن يقتل.
الآن كأنّ الله عز وجل هنا أيضاً يذكّر موسى عليه السلام، كل الأحداث التي تجري الآن جرت مع موسى سابقاً، جرت معه سابقاً في عالم الشهادة وهو لم يعرف حكمتها إلا بعد حين، ألم يكن فرعون يُذَبِّحُ أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم؟ يذبح الأبناء، ليس طفلاً واحداً، كان يذبح أطفال كثر فرعون، لكن الله عز وجل كانت له حكمةٌ فيما يجري أنت تجهلها ولن تفهمها حتى يكون لك علمٌ كعلم الله، وهذا مستحيل، أيملك أحدنا علم الله حتى يفهم حكمة الله؟!
كل شيءٍ موظفٌ لخيرٍ عند الله تعالى
تماماً كما أقول لك اليوم: هذه نشرة طبية من أعلى طبيب في الأرض تقول لي: لم أفهمها، أقول لك: تستطيع أن تفهمها لكن إذهب وتعلم عشر سنوات كما تعلم الطبيب الذي كتبها حتى تفهمها، فأنت عندما يكون لك علم الطبيب تفهم حكمة الطبيب، ولله المثل الأعلى، لكنك لن تستطيع أن تبلغ علم الله، وبالتالي لن تستطيع أن تفهم حكم الله في كل ما يجري، قد تفهم حكم الله في كثيرٍ مما يجري، لكن ليس في كل ما يجري، ما تراه شراً في نظرك هو موظفٌ لخيرٍ عند الله تعالى، فاطمئن وهَدِّئ من روعك، ولا تأخذك الحمية، لماذا هذا الفيروس اليوم؟ اطمئن، انتظر هناك حكم لا تعلمها أنت، الله عز وجل له حكمٌ خفيت عنك.
إذاً لمّا قتل الخضر الغلام أيضاً فرعون كان يذبح أبناء بني إسرائيل، والله أعلم بالحكمة من ذلك، ثم أليس موسى عليه السلام قد قتل قبطياً؟ لكنه قتله خطأً، موسى عليه السلام لم يقتله عمداً، والدليل:

فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ
(سورة القصص : الآية 15)

مسيرة حياة موسى كلها نصرةٍ للمظلومين
أراد أن ينتصر لمظلوم، يعني هو موسى عليه السلام صاحب حِدَّة في الطبع واضحة في مسيرة حياته، فأراد أن ينتصر لمظلوم، ومسيرة حياة موسى عليه السلام كلها مسيرة نصرةٍ للمظلومين ، فأراد أن ينتصر لمظلوم فوكز القبطي فقضى عليه، فاغتمّ موسى لذلك الأمر كثيراً، لكن هناك حكمةً الله أعلم بها، فأيضاً هنا يذكره بهذا الأمر، فقتل الغلام يذكر بفرعون الذي كان يقتل الأبناء، ويذكر موسى عليه السلام بفعلته بقتل القبطي، ولكل وَاقعٍ حكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها، لكن هذا لا يعفي المُوقِع من أن ينال حسابه في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما.

بناء الجدار
الأمر الثالث الذي فعله الخضر عليه السلام وهو أهون الأمور: يعني هذا ليس فيه شيء مخالف للنفس بحيث تثور منه، لكنه شيء غير مألوف، لأنهما لما وصلا إلى هذه القرية (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا)

فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا
(سورة الكهف : الآية 77)

منتهى اللؤم أن تصل متعباً فتطلب طعاماً لتأكل لا تطلب شيء، أضيفونا عندكم نحن متعبان (فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا) أهل القرية رفضوا أن يضيفهما عندهم فهذا منتهى اللؤم، فالمنطق يقول أن نغادر دون أن نعطيهم أي معروف، لكن الخضر (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ) يعني ليس معروفاً عادياً، الخضر الآن شمر عن ساعديه وبدأ يبني الجدار، موسى عليه السلام الآن استغرب لم يضيفوك ثم تقيم لهم الجدار! (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) يعني نحن بحاجة مال وبحاجة ضيافة وهم أبَوا، أقم الجدار ولكن خذ أجرك على هذا الجدار الذي أقمته، ما الذي حصل يشابه ذلك في مسيرة موسى عليه السلام؟ موسى عليه السلام في حياته وهو ينفذ شرع الله عز وجل، هنا قدر، موسى وهو ينفذ شرع الله عز وجل ألم يسقي للفتاتين دون أن يأخذ أجراً،

فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ
(سورة القصص: الآية 24)

سيدنا موسى لم ينتظر كلمة شكر
(فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ) لم يقف لينتظر حتى كلمة شكر، لم ينتظر كلمة شكر، ولا ذهب معهما ليسمع كلمة شكر (ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ما ابتغى الأجر إلا من الله، فموسى فعل ذلك شرعاً، فالآن يفعله الخضر قدراً، فلماذا تعترض يا موسى إذاً؟ لماذا الاعتراض وأنت قد صنعت مثل هذا؟ هنا :

قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا
(سورة الكهف: الآية 78)


شرح أفعال الخَضِر
ونبأه بالحكم، فقتل الغلام كان من أجل أن يبدل الله عز وجل والديه بخيرٍ منه، لأن هذا الغلام سيرهقهما (طُغْيَانًا وَكُفْرًا)

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا
(سورة الكهف: الآية 80)

وخرق السفينة لأنها كانت (لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ)، (وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا)

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا
(سورة الكهف: الآية 79)

وإقامة الجدار من أجل غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، من أجل أن يحافظ على الكنز المدفون تحت الجدار حتى إذا كبرا استخرجا كنزهما وانتفعا به

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا
(سورة الكهف: الآية 82)

كل حدثٍ وراءه حكمةٌ إلهية
فكل أفعال الخضر التي فعلها بأمر الله وحده وليست من لدنه، ولا يجوز لإنسان أن يفعلها إلا وفق منهج الله، لا قتل الغلام ولا خرق السفينة، أما إقامة الجدار فهذه أرادةٌ كونيةٌ قدرية وافقت إرادةً شرعية، فلا حرج أن تقيم جداراً ولا تبتغي أجراً، أما الأمران الأوليان فلا يجوز بحال طبعاً أن يفعلهما إنسان، فليس هناك إنسانٌ آتاه الله اليوم مِن لَّدُنَّه عِلْماً، فقد انتهى عصر النبوات والرسالات، لكن أراد الله أن يعلمنا هذا الدرس إلى يوم القيامة: بأن ما تراه بعينك من أحداث لا تعلم حكماً لها إعلم أن وراءها حكمةً ولكنك تنظر بعين الشهادة ولا تعلم شيئاً من الغيب، فتأدب مع ربك وإياك أن تقول: لماذا يحصل ذلك، ولماذا لا يتدخل الله هنا، ولماذا ما زال الطغاة يقصفون ويضربون ويدمرون، ولماذا ما يزال الأطفال يموتون، ولماذا المجاعات، ولماذا الحروب، ولماذا الفيروسات، ولماذا الأمراض، تأدب مع الله، فهذا ملك الله وهذا كون الله وهو جل جلاله يتصرف به كيفما شاء

لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ
(سورة الأنبياء: الآية 23)

بذل الجهد في تطبيق شرع الله
فهو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأعدل العادلين، يصرف الأمور بأمره وكل أمرٍ سيوظفه جل جلاله إلى خيرٍ لدينه ولعباده ولأمة المسلمين، عرف من عرف وجهل من جهل، فلا تجهد نفسك في البحث عن الأسرار، ولكن أجهد نفسك في تطبيق شرع الله عز وجل وبما أمر الله، اترك إرادته الكونية القدرية له فهو جل جلاله صاحب العلم المطلق والحكمة المطلقة، ونفِّذ إرادته الشرعية فهي التي سيسألك عنها يوم القيامة إذا وقفت بين يديه، لن يسألك لماذا دُمِّرَ هذا البيت؟ ولكنه سيسألك لماذا غششت هذا الإنسان؟ سيسألك عما أمرك، لا عما قدره جل جلاله في بعض بقاع الأرض، وكنت غير قادر على تغيير شيءٍ فيه، هذا لن تسأل عنه، ستسأل عما كنت تملكه من أوامر الله الشرعية هل نفذتها أم لم تنفذها؟ هذه قصة فتنة العلم، هذه فتنة العلم، أن يعلم الإنسان فيظن أنه قد أوتي من كل شيءٍ علماً، فيبدأ ويتكبر على عباد الله بعلمه، والأعجب من ذلك والأعظم من ذلك والأشد فرية من ذلك أن يبدأ في علم الله عز وجل هذا من أكبر الكبائر

وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
(سورة البقرة: الآية 169)

فيبدأ ويتدخل في علم الله، ويسأل عن علم الله، ويماري في حكمة الله فيما يجري، دعك من ذلك، هذا شأنه جل جلاله فهو أعلم بما يُصلح عباده وهو الحكيم وهو العليم جل جلاله.

العبرة من قصة موسى والخَضِر
أيها الإخوة الكرام: إن علا في داخلك صوت موسى عليه السلام فابحث عن حِكَمِ الخضر عليه السلام، كيف؟ يعني إذا وجدت في داخلك موسى يسأل دائماً يقول لك: لماذا؟ وما السبب؟ وما الحكمة؟ ولماذا نفعل ذلك؟ وهل حقاً هناك يعني لماذا ملك اليمين في الإسلام؟ وهل الإسلام ظلم المرأة؟ وهل في الإسلام إرهاب؟ وهل؟ وهل؟ وهل؟..
إذا جاءت إليك هذه الخواطر لماذا يطغى الطغاة؟ لماذا يظلم الظالمون؟ لماذا لا يتدخل الله الآن لصالح المسلمين؟ لماذا لا يقضي الله على هذا الفيروس؟ إذا اشتدت في داخلك وعلا في داخلك صوت موسى فالجأ إلى حِكَمِ الخضر وسلم الأمر لله عز وجل
وسلم إلينا الأمر في كل ما يكن فما القرب والإبعاد إلا بأمرنا
{ أبي المواهب الشاذلي }
سلم الأمر لله عز وجل
تكلم الله فليصغ الوجود له الله مـــن عرشه الأعلى ينادينا
{ أحمد الغنام }
بين تسليم الخضر وصوت موسى
سلم الأمر لله عز وجل، لكن إن سيطر عليك تسليم الخضر وقلت كل شيء يجري بقدر ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً وجلست في بيتك ولم تحرك ساكناً لنصرة ضعيف ولم تحرك ساكناً لإطعام مسكين وقلت كل شيء بقدر الله وسيطر عليك هذا الشعور شعور التسليم فعندها أيقظ في داخلك صوت موسى من أجل أن تعمل، لأن القدر لا ينافي العمل ولأن القدر والاستسلام لله عز وجل لا يعني أن تترك تنفيذ أوامر الله وتترك تنفيذ شرع الله أبداً، هذا قدر ووقع بقدر، ونسلم الأمر لله عز وجل ولكن واجبي أن أعمل ولا أكون كالذين قالوا:

أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ
(سورة يس: الآية 47)

هذا كلام جهل، هذا كلام المقصرين، هذا كلام المتكلين وليس المتوكلين على الله، هذا كلام العاجزين والعجز واليأس والإحباط والقنوط ليس في قاموس المؤمن، المؤمن يعمل.

{ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا }

(أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ)

(إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ) الساعة قامت لماذا الفسيلة؟ من سيأكل منها؟ قال: فليغرسها، ليعلمنا أن ديننا دين عمل لا دين كسل، إياك أن تترك العمل.
عمر رضي الله عنه مر بقريةٍ قال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: كذبتم أنتم المتكلون، المتوكل من ألقى بذرةً في الأرض ثم توكل على الله.

الملخص
التسليم لأمر الله سبيل النجاة
إذاً أكرر العبارة التي هي ملخص ملخص الملخص، إن علا في داخلك صوت موسى بتساؤلاتٍ وتساؤلاتٍ وتساؤلاتٍ عن حكمٍ وحكم فابحث عن تسليم الخضر، وقُل كله بأمر الله، واستسلم لله، وإن سيطر عليك يوماً تسليم الخضر سيطرةً مذمومةً بحيث أقعدك عن العمل وقال لك كلمة حقٍّ أريد بها باطل لا تعمل فالأمور تجري بالمقادير، فأيقظ في داخلك تساؤلات موسى الشرعية، وقل ينبغي أن أعمل وأن أنصف المظلوم وأن أرعى الممتلكات وأن أمنع الظلم والقتل، فأنا مكلف وقدر الله عز وجل لا يتعارض مع ما كلفني به الله تعالى من القيام بما أمر به الله تعالى، هذه قصة موسى عليه السلام مع الخضر إنها قصة فتنة العلم، والنجاة منها تكون بالتسليم لأمر الله عز وجل وبأن تعلم دائماً أن :

فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
(سورة يوسف: الآية 76)

وأنك مهما بلغت في العلم فهناك من هو أعلم منك، وفوق الجميع علم الله تعالى :

وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
(سورة البقرة: الآية 216)

وتلك سورة الكهف التي أُمِرْنَا أن نقرأها كل جمعة فهي سورة العصمة من الفتن، تعصمنا من الفتن وتنير لنا طريقنا ما بين الجمعتين، بل تنير طريقنا كما في حديثٍ آخر؛ من مقامنا إلى مكة المكرمة لأنها تعصمنا من الفتن.
اللهم اكشف عنا الوباء، واكشف عنا الغلاء يا أرحم الراحمين، لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم، اللهم أجرنا من سيء الأسقام واكشف الوباء عن العباد والبلاد وعن جميع البشر يارب العالمين، اللهم اجعلنا بعد هذه المحنة في منحةٍ عظيمةٍ منك، واجعل هذه المحنة خيراً عميماً يا أكرم الأكرمين فأنت ولي ذلك والقادر عليه.
إلى الملتقى استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.