• محاضرة في الأردن
  • 2020-05-18
  • عمان
  • الأردن

اسأل عن الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنا وعنهم يارب العالمين.
وبعد، إخوتي الأكارم أخواتي الكريمات أينما كنتم أسعد الله أوقاتكم بالخير واليمن والبركات والطاعات، بادئ ذي بدء أشكر لإخوتي في إدارة اتحاد خريجي العلوم الشرعية هذه المبادرة الطيبة بتنظيم تلك المحاضرات في شهر رمضان المبارك، وأشكر لكل أخٍ كريمٍ ممن ساهم في هذه اللقاءات قبلي أو سيساهم بعدي، بارك الله بكم ونفع بكم جميعاً.

السياق القرآني لآيات الصيام
السياق القرآني لآيات الصيام
إخوتي الأحباب: عنوان لقائنا اليوم: اسأل عن الله، والعنوان مستمدٌّ من آيةٍ جاءت في السياق القرآني ضمن آيات الصيام، ونحن في شهر الصيام، لو تتبعنا آيات سورة البقرة التي جاءت لفرضية الصيام:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(سورة البقرة: الآية 183)

ثم يقول تعالى:

أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(سورة البقرة: الآية 184)

ثم:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(سورة البقرة: الآية 185)

ثم يقول تعالى:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
(سورة البقرة: الآية 186)

ثم يتابع السياق القرآني الحديث عن الصيام:

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
(سورة البقرة: الآية 187)

السؤال عن الله من مقاصد الصيام
فالقارئ لهذه الآيات يتوهم للوهلة الأولى أن هذه الآية (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) لا علاقة لها بموضوع الصيام، لكنه حين يمعن النظر في النص القرآني يتبيَّن أن هذه الآية قد جاءت في مكانها ضمن آيات الصيام، فلعلَّه من مقاصد الصيام الكبرى أن تدعو الله وأن تسأل عن الله، فإذا انقضى شهر رمضان فكأن الله تعالى يقول: إن عبادي سيسألون عني، كيف لا يسألون عني وقد ذاقوا طعم القرب في نهار رمضان صياماً وطعم الأنس بالله في ليله قياماً، كيف لا يسألون عن الله وقد صاموا من أجله، وقد قاموا الليل من أجله.

{ عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ }

(رواه البخاري ومسلم)

فلا بد أن يسألك عبادي عني، وتعلمون أحبابي أن قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ) أنَّ (إِذَا) في اللغة العربية لتحقق الوقوع، كقوله تعالى:

إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ
(سورة النصر: الآية 1)

فإن نصر الله آتٍ لا محالة، بخلاف قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
(سورة الحجرات: الآية 6)

(إِن) تفيد احتمال الوقوع، لكن (إِذَا) تفيد تحقق الوقوع، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) لا بد أن يسألك عبادي عني إذا انقضى شهر رمضان (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) لا بد أن نسأل عن الله.

حاجة الإنسان للسؤال
السؤال مفتاح العلم
أيها الكرام أيها الأحباب: كل إنسانٍ يسأل، لأن السؤال مفتاح العلم، وقد أثبت الله تعالى في قرآنه حاجة الإنسان إلى السؤال في بضع آياتٍ بدأت بقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ) أو(يَسْأَلُونَكَ)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ
(سورة البقرة: الآية 189)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ
(سورة البقرة : الآية 215)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ
(سورة البقرة الآية 222)

إلى آخر ذلك

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ
(سورة البقرة: الآية 217)

فأثبت الله حاجةً في الإنسان وهي السؤال، أن يسأل الإنسان، أن يستفسر، لأنه لا يتعلم إن لم يسأل، لكن الناس لا يتفاوتون في سؤالهم أو عدم سؤالهم فكلنا يسأل، لكن الناس يتفاوتون في عمَّا يسألون، يتفاوتون في طبيعة السؤال، فكل إنسانٍ يسأل عمَّا يشغل باله، وكل إنسانٍ يسأل عمَّا يدور في خلده، وكلما ارتقت قيمة المسؤول عنه ارتقت قيمة السائل.

درجات وأنواع السؤال عند الإنسان
أيها الكرام: بعض الناس لا يسألون إلا عن الدنيا، فيسألك كل يوم عن أسعار العملات، ويسألك كل يوم عن البورصة، ويسألك كل يوم عن الأخبار السياسية والاقتصادية في العالم، وهذا ليس سؤالاً محرماً ما دام ضمن المباح، لكن أن يبقى الإنسان في هذه الدائرة فهو قد استبدل (الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)

أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ
(سورة البقرة: الآية 61)

لا بد من السؤال عن علوم الأرض
وأمضى حياته في السؤال عن أمورٍ لن يُسأل عنها يوم القيامة، فينبغي أن نسأل عمَّ سنُسأل عنه، لا أن نُسأل عمَّ لن نسأل عنه، أن نشغل معظم وقتنا في السؤال عمَّ سنُسأل عنه إذا وقفنا بين يدي خالقنا يوم القيامة، بعض الناس يتجاوزون هذه الأمور الدنيوية إلى أمور أعظم فيسألون عن العلوم، يسأل عن معادلةٍ في الرياضيات أو عن مسألةٍ في الفيزياء أو في علم الأحياء، يسأل عن العلوم وهذا سؤالٌ أعظم، وهو سؤالٌ مهم لأن الأرض لا تعمر إلا بالسؤال عن العلوم، ونحن المسلمين مأمورون أن نعمر الأرض وأن نستخلف فيها، فلا بد أن نسأل عن علوم الأرض.
السؤال عن أحكام الدين
لكن بعض الناس يتجاوزون ذلك أو يضيفون له أنهم يسألون عن أمر الله تعالى، فيسألون عن الحلال والحرام، كيف أصلي؟ كيف أتطهر؟ كيف أحجُّ بيت الله الحرام؟ كيف أزكي مالي؟ ما النصاب؟ هذه أسئلةٌ مهمةٌ جداً لأنها ترسم لك الطريق الصحيح إلى خالقك ومولاك، فمن كان يسأل عن دينه فهنيئاً له، ولا ينبغي أن نغتر ببعض الناس الذين يهمزون ويلمزون من الأسئلة عن الدين فيقول قائلهم عبر وسائل التواصل مثلاً: إن الناس وصلوا إلى القمر وأنتم ما زلتم تتحدثون عن أحكام الطهارة، نقول لهؤلاء نعم الناس وصلوا إلى القمر ونحن ينبغي أن نصل إلى القمر لكن لا ينبغي أن نترك السؤال عن أحكام الطهارة، ولا عن أحكام الصلاة، ولا عن أحكام دفن الميت، ينبغي أن نسأل عن أحكام ديننا قبل أن نصل إلى القمر، وهذا لا يعفينا من ذاك وذاك لا يعفينا من هذا، نعمر الأرض بعلوم الأرض، ولكن أهم من علوم الأرض أن نعمر ديننا وأن نسأل عن ديننا وعن أحكام ديننا لأنها الطريق إلى الله تعالى، فهذا سؤالٌ عظيم أن يسأل الإنسان عن أحكام دينه.
لكن أعظم من كل تلك الأسئلة، على عظم شأن كثيرٍ منها، أعظم من كل تلك الأسئلة، أعظم من أن تسأل عن الدنيا ومن أن تسأل عن علوم الأرض ومن أن تسأل عن العلوم الشرعية من أمرٍ ونهيٍ، أعظم من كل ذلك أن تسأل عن الله، عن صاحب الأمر، عن الخالق، عن المشرع، عن الذي قال لك: افعل ولا تفعل، مع سؤالك عن افعل ولا تفعل اسأل عن خالقك، فهنا في هذه الآية الله تعالى لم يقل وإذا سألك عبادي عن أحكام دينهم، ولكنه قال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) ونسب العباد إلى ذاته تشريفاً وتكريماً لهم وتذكيراً لهم بأنهم عبادٌ لله فينبغي أن يسألوا عن المعبود جلَّ جلاله، وينبغي أن يسألوا عن الآمر وألا يكتفوا بالسؤال عن الأمر.

نماذج لبيان أثر السؤال عن الله
انظروا أيها الأحباب عندما يسأل الإنسان عن الله وعندما يسأل عن الآمر كيف تكون حياته، هذا موسى عليه السلام يوم خاطب قومه فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً)

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً
(سورة البقرة: الآية 67)

جدال قوم موسى وأسئلتهم
قال لهم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فلما وجههم بدأ بالقول بالآمر فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ) لكنهم اتجهوا إلى الأمر وتركوا الآمر جلَّ جلاله ولم ينتبهوا إلى أن الآمر ينبغي أن ينفذ مضمون أمره فوراً دون سؤالٍ ودون تقصٍّ ودون جدالٍ مذمومٍ، فبدؤوا يسألون عن الأمر، تركوا الآمر وسألوا عن الأمر فقالوا: (مَا هِيَ)

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ
(سورة البقرة : الآية 68)

ثم قالوا: (مَا لَوْنُهَا)

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا
(سورة البقرة: الآية 69)

ثم قالوا: (مَا هِيَ) إلى أن قال تعالى:

فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ
(سورة البقرة: الآية 71)

لأنهم لم يهتموا بالآمر لم يسألوا عن الله وإنما كانوا يسألون عن الأمر فماطلوا في تنفيذه، ثم نفذوه وهم لا يريدون تنفيذه (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ).
وانظروا في الوجه المقابل لما يسأل الإنسان عن الآمر جل جلاله، عندما قال إبراهيم عليه السلام: (إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ
(سورة الصافات: الآية 102)

الآمر هو الله
لم يقل له أريد أن أذبح بقرة، قال له: أريد أن أذبحك أنت أيها الابن النبي الذي بلغت أشدك (إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) ففهم إسماعيل عليه السلام الرسالة (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) فلم يقل له: كيف تذبحني وأنا ابنك؟ ولا قال له: كيف تذبحني وأنا نبي؟ ولا قال له: كيف تريد أن تذبحني وفي أي وقت وفي أي زمان؟ وإنما (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) لأنه فهم أن الآمر هو الله وأن الآمر لا يُرَدُّ أمره، فإسماعيل وإبراهيم كانا يسألان عن الله، بينما كان قوم موسى يعاندون ويسألون عن الأمر دون أن يفقهوا من هو الآمر.

التكامل بين التعريف بالأمر والآمر
التعريف بالأمر والتعريف بالآمر
لذلك أيها الأحباب: ينبغي أن نوجه نحن الدعاة إلى الله وبيننا إخوةٌ ممن أقامهم الله في الدعوة، أن نوجه أنظارنا دائماً في دعوتنا إلى أن نربي الناس على الاهتمام بالآمر وعلى السؤال عن الآمر قبل أن نفهِّمه الأمر، أنا لا أقلل من قيمة الأمر أبداً حاشا لله، فهذا كما قلت هو ديننا، لكنني أقول إنه ينبغي أن يكون هناك تكاملٌ بين تعريف الناس بالآمر وتعريفهم بالأمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما أمضى ثلاث عشرة سنةً في مكة كانت كل الآيات تعرف بالآمر أو معظم الآيات تعرف بالآمر وتبين من هو الله وأسماءه الحسنى وصفاته العلا، فلما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاءت معظم الآيات المدنية في التعريف بالأمر.
وهذا ما تبينه السيدة عائشة رضي الله عنها عندما تقول: إن أول ما نزل من القرآن كما في صحيح البخاري:

{ عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: إنَّما نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ منه سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ، حتَّى إذَا ثَابَ النَّاسُ إلى الإسْلَامِ نَزَلَ الحَلَالُ والحَرَامُ، ولو نَزَلَ أوَّلَ شيءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا، ولو نَزَلَ: لا تَزْنُوا، لَقالوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أبَدًا، لقَدْ نَزَلَ بمَكَّةَ علَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وإنِّي لَجَارِيَةٌ ألْعَبُ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ والسَّاعَةُ أدْهَى وأَمَرُّ} وما نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ والنِّسَاءِ إلَّا وأَنَا عِنْدَهُ }

(صحيح البخاري)

لا تنظر إلى صغر الذنب
لأنهم لمَّا تعرفوا إلى الآمر جلَّ جلاله جاء الأمر سهلاً عليهم تطبيقه فبادروا إليه لأنهم يعرفون من الآمر، من هنا فقد كان بعض السلف يقول: لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت.
فالذي يخالف أمراً من أوامر الله لا ينبغي أن يقول هو ذنبٌ صغير أو هو من الصغائر بل ينبغي أن يقول لعلي اجترأت على الآمر جلَّ جلاله وخالفت أمره، فيعظم الذنب في عينه مهما صغر، فلما يعظم الذنب في عينه على صغره يصغر عند الله، لكنه عندما يتهاون به ويكون ذنبه كأنه ذبابةٌ طارت على أنفه فقال هكذا، فإنه يكون الذنب عظيمٌ عند الله لأن صاحبه لم يلتفت إلى الآمر جلَّ جلاله.

أنواع العلم
إذاً أيها الإخوة الكرام: عندما ندعو إلى السؤال عن الله فنحن ندعو إلى أعظم علم وهو العلم بالله، فأنتم كما تعلمون جميعاً أيها الأحباب؛ العلوم ثلاثة، وهذا تصنيف الإمام الغزالي لكن بتصرفٍ يسير، العلوم ثلاثة: علمٌ بالله، وعلمٌ بأمره، وعلمٌ بخلقه.

العلم بخلق الله
العلم بخلقه فرض كفاية
سأبدأ من النوع الثالث العلم بخلق الله: العلم بخلق الله يعني كل علوم الأرض من غير علوم الشريعة، فالذي يتعلم الفلك يتعلم علماً بخلق الله، والذي يتعلم صناعة الخمور يتعلم علماً بخلق الله، يعني سواءً كان العلم مباحاً أو محرماً هذا ما أقصده، والذي يتعلم الفيزياء يتعلم علماً بخلق الله، وهذه العلوم كما قلنا قد تصبح فرض كفايةٍ على المسلمين، عندما لا نجد عالماً في هذه الفروع في مجتمعاتنا فعندها يجب أن نتعلم هذه العلوم، العلم بخلقه، وهذه العلوم العلم بخلقه منها ما يكون مباحاً ومنها ما يكون محرماً ومنها ما يكون واجباً وهذا تفصيله في الكتب المتخصصة، فالعلم بخلق الله هو نوعٌ من أنواع العلوم.

العلم بأمر الله
حكم العلم بأمر الله
وهناك علمٌ بأمره جلَّ جلاله، وهذا العلم تتكفل به كليات الشريعة وتتكفل به المعاهد الشرعية والمساجد عندما نُعرِّف الناس بأمر الله تعالى، وهو علمٌ فرضٌ على كل مسلم في حدود ما ينبغي أن يتعلمه من علوم الشريعة، فكل مسلم ينبغي أن يتعلم أحكام الصلاة وأحكام الطهارة وأن يتعلم الأحكام المتعلقة بحرفته إن كان تاجراً أو كان صناعياً أن يعلم الحلال والحرام في حدودٍ تمكنه من أن لا يخالف أمر الله، فمن دخل السوق ولم يتفقه أكل الربا شاء أم أبى، وهذه علوم الأمر علوم الشريعة.

العلم بالله
لكن ما نتحدث عنه في هذا اللقاء الطيب بوجودكم وبحضوركم المبارك إنما هو العلم بالله، أن يعرف الإنسان ربه، وهذا العلم لا يحتاج إلى مدارسة بقدر ما يحتاج إلى مجاهدة، قال تعالى:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
(سورة العنكبوت: الآية 69)

العلم بالله أشرف العلوم
فالعلم بالله يحتاج إلى أن يجاهد الإنسان في قيام الليل، في صيام النهار، في التفكر في خلق السموات والأرض، في قراءة القرآن، في الخوف من الله، في الطمع بما عند الله، هذا علمٌ بالله وهو أشرف العلوم أن تعرف خالقك أن تعرف أسماءه الحسنى وصفاته العلا، أن تعلم من هو الآمر، أن تعلم كيف تتقرب إلى الله، كيف تحب الله، هذا علم لكنه للأسف نادر الوجود اليوم في العالم الإسلامي، فالناس اليوم معظمهم إن أرادوا أن يتعلموا عن الدين فإنهم يتعلمون الأحكام لكنهم لا يتعلمون علماً عن صاحب الأحكام جلَّ جلاله، عن الآمر العظيم الذي أمر.

العلم هو الخشية
أيها الإخوة الكرام: العلم بالله فيه آيتان في كتاب الله، آيات لكن أختار منها آيتين اثنتين، الآية الأولى هي قوله تعالى:

إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
(سورة فاطر: الآية 28)

وأنتم أهل لغةٍ وفضلٍ، (إِنَّمَا) أداة قصرٍ وحصرٍ، فالمعنى لا يخشى اللهَ إلا عالم، لا يخشى الله إلا عالم، ولو نظرنا اليوم في عالمنا الإسلامي المترامي الأطراف نجد من علماء الشريعة ممن هم أكثر علماً من كثيرٍ من الناس من المسلمين لكنهم باعوا دينهم بعَرَضٍ من الدنيا قليل، وهذا واقعٌ مشاهد نشاهده جميعاً فنجد قاماتٍ علمية كانت ترفع لها القبعات وينحني الإنسان أمامها إجلالاً لكنها وقفت مع الظالم ضد المظلوم وباعت دينها للحاكم، نحن نجد ذلك اليوم ونستغرب كيف يحوي كل هذا العلم وهو الإمام الفلاني ثم نجد منه هذا الموقف الذي يتناقض مع دينه، هذا موقفٌ موجودٌ.
العلم هو الخشية
إذاً كيف نفهم الآية (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) لماذا لم يخشوا الله؟ لأن العلم المقصود في هذه الآية هو العلم بالله، فقد تجد أحياناً خشيةً من امرأةٍ عجوز لا تكاد تعرف من دينها إلا الأحكام التي تخصها في حياتها من صلاةٍ وصيامٍ وأمورٍ تجد منها خشيةً لله لا تجدها في عالمٍ من العلماء الكبار ممن تعلموا أحكام الشريعة، وأعود وأكرر ما قصدت أبداً التقليل من علوم الشريعة فأنا واحدٌ من هؤلاء الذين ما زالوا يتعلمون أحكام الشريعة وأزداد كل يومٍ شيئاً منها وأرى أنني لم تبتل قدمي ببحر العلم بعد، لكن أريد أن أؤكد أنه لا ينبغي أن تنفرد أحكام الشريعة في التعلم في مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا، بل ينبغي أن نعلم الناس أن يسألوا عن خالقهم مع سؤالهم عن أحكامٍ شرعها خالقهم جلَّ جلاله، إذاً (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) المقصود بالعلماء هنا الذين يخافون الله وهذا قد ورد عن جمعٍ من الصحابة ومن السلف:
هذا ابن مسعود يقول في الآية - ليس العلم عن كثرة الحديث ولكن العلم عن كثرة الخشية - وهذا ابن عباسٍ رضي الله عنه يقول - الذين يعلمون أن الله على كل شيءٍ قديرٍ - وهذا سعيد بن الجبير يقول - الخشية هي التي تحول بين العبد ومعصية الله - ليس معرفة الحكم هو ما يحول بين العبد والمعصية، فكم من إنسانٍ يعلم أن الكذب حرامٌ ويكذب، وكم من إنسانٍ يعلم أن السرقة حرامٌ ويسرق، فقال: الخشية هي التي تحول بين العبد ومعصية الله، وهذا الحسن البصري يقول - العالم من خشيَ الرحمن بالغيب-.
أيها الإخوة الكرام: إذاً (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) العلماء المعنينون في الآية هنا هم علماء بالله أي يعرفون الله، يؤمنون بالله، لا حرج في التسمية، إيمانٌ وثيقٌ بالله، صلةٌ بالله، خشيةٌ من الله، هذه كلها مترادفات.
أيها الكرام: والآية الثانية هي قوله تعالى:

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ
(سورة الزمر: الآية 9)

إذاً أيها الكرام: هذا الرجل القانت القائم بالليل الذي يرجو رحمة الله ويخشى عذابه، سماه القرآن الكريم بنص الآية وهذه واضحة جداً عالماً فقال: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) فمن يقوم آنَاءَ اللَّيْلِ وأطراف النهار يسجد ويقوم (سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ) هذا عالم لأنه يخشى الله.

قصص عن خشية الله
صيام الراعي رغم شدة الحرارة
أيها الأحباب أيها الكرام: حتى يكون هناك فاصل فالكلام النظري متتالٍ قد يتعب النفوس، ابن عمر -رضي الله عنهما- خرج مع بعض أصحابه في جولةٍ حول المدينة، فجلس ليتناول الطعام، فوضعوا سفرة الطعام وأرادوا أن يأكلوا، فإذا براعٍ يمر، يرعى غنمه في الجبال، فناداه ابن عمر قال: هلمَّ يا راع، هلمَّ واقصد من سفرتنا، تعالى كل معنا، فقال هذا الراعي: إني صائم، وهو لا يعرف عبد الله بن عمر، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أتصوم في هذا اليوم شديد الحر؟ فقال له الراعي: أبادر أيامي، أنا أصوم هذا اليوم ليومٍ أشدَّ حراً منه، أنا أصوم هذا اليوم ليومٍ سأقف فيه بين يدي الله، فأكون قد قدمت شيئاً لله، فأراد ابن عمر أن يمتحنه، ولعلَّ ابن عمر - وهذا تصور من عندي- أراد أن ينظر هل هذا الصيام الذي يصومه الراعي ينعكس على سلوكه أم هو مجرد تنفيذٍ للأمر دون انعكاسٍ حقيقيٍّ على السلوك؟ فقال له: أعطنا من هذه الشياه شاةً، أعطنا شاةً نذبحها ونأكل منها ونهدي لك منها، تأكل معنا، فقال الراعي: هذه ليست لي، إنها لسيدي، كيف أعطيك شاةً وهي ليست لي؟ فقال له: لو قلت لصاحبها أكلها الذئب، هذه حجة، قل له أكلها الذئب، فقال: ولى الرجل وهو يرفع إصبعه إلى السماء يقول: فأين الله؟ فأين الله؟ فأين الله؟.
فهذا الراعي أيها الكرام على ضعف ثقافته الدينية وهو يرعى غنمه في الجبال ربما يكون علمه بالله أعظم من علم كثيرٍ ممن يعرف كثيراً من أحكام الشريعة لكنه لا يسأل عن الله ولا يقول فأين الله؟ ولا يراقب الله في تصرفاته وأفعاله.
يوم كنا صغاراً أيها الأحباب كانوا يروون لنا قصة بائعة الحليب في المدارس، هذه القصة تعرفونها جميعاً:
قالــت بنيّـة قومـي فامـزقِ اللبنـــــا الماء سوف يزيد الوزن والثمنــــا قالت لها البـنت: يا أمّــــــاه معـذرةً لقـد نهى عـُمـر أن نخـلط اللّبــنـــا قـالت لها الأم: أنّــــــى يــرى عــمــر صنيعنا إنّـما الفـاروق ليـس هنـا قــالت لهـا البنت: لا تفعــلي أبــــداً الـلّه يـعــلم مـنّـــا السـرَّ والعـلـنــــــــا إن لم يكن عمر الفاروق يبصرنا فـإنّ ربّ أبي حفـص هنـا معـــنــا
{ بائعة اللبن - جدة عمر بن عبد العزيز }
من يسأل عن الله يربي جيلاً مختلفاً
كان عمر بن الخطاب يتفقد رعيته رضي الله عنه فسمع مقولة الفتاة: إن لم يكن عمر يرانا فإن رب عمر يرانا، فذهب في الصباح إلى أولاده وأقسم ليزوجنَّها لأحدهم وقال: والله لو كان لي حركةٌ إلى النساء لتزوجتها، فقال عبد الله لي زوجة، وقال الآخر: لي زوجة، وقال عاصم: زوجني يا أبتي، ليس لي زوجة، فزوجه، فكانت هذه أم عمارة، هذه الفتاة كانت جدة عمر بن عبد العزيز الذي أعاد للخلافة راشيديتها، لأن عمر بن الخطاب يوم سمع الفتاة تقول: إن لم يكن عمر يرانا فإن رب عمر يرانا، علم أن هذه الفتاة تسأل عن الله، ومن يسأل عن الله سيربي جيلاً مختلفاً، ومن يراقب الله سيربي جيلاً مختلفاً، وصدق عمر رضي الله عنه، فقد كانت إمرأةً متميزةً ربت جيلاً مختلفاً لأنها تخشى الله.

ضرورة التعريف بالعلم بالله
إذاً أيها الإخوة الكرام: عندما نتحدث عن العلم بالله نتحدث عن علمٍ أساسي لكنه مفقودٌ كثيراً في عالمنا الإسلامي للأسف الشديد وأنا أدعوكم من هذا المنبر الكريم الطيب المبارك إلى أن نعود في تربية أولادنا وطلابنا إلى أن نعتني بهذا الجانب وهو السؤال عن الله، وأن نعتني بهذا الجانب وهو العلم بالله، وأن نُفْرِدَ له حصصاً ومحاضرات، أن نعلم الناس عن الله، عن أسمائه الحسنى، عن صفاته الفضلى، عن أهمية التقرب إليه والصلة به والخوف منه والرجاء والخشية، وهذا فيه كتب.

السؤال عن الله بعد تذوق طعم القرب منه
هذا ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى ألف كتاباً سماه (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين) وذكر فيه هذه الأحوال التي ينبغي أن يتعلمها المؤمن وأن تكون شريكاً له في سيره إلى الله.
تذوق طعم الرق من الله في رمضان
أيها الإخوة الكرام: أعود إلى الآية القرآنية التي استفتحنا بها (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) قلنا (وَإِذَا سَأَلَكَ) (إِذَا) لتحقق الوقوع، (سَأَلَكَ) أي أن عبادي بعد انتهاء شهر رمضان وفي شهر رمضان سيسألون عني لأنهم ذاقوا طعم القرب وطعم الأنس بالله وطعم الإخلاص له فلا بد أن يسألوا عن الله (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) وقلنا (عِبَادِي) أُضيفَ العباد إلى الله تشريفاً وتكريماً لهم، فهل ندرك ما معنى أن نكون عبيداً لله؟ كم ممن يعبد الدرهم والدينار والخميصة والقطيفة، كم من شعوب الأرض من يعبد خلقاً من خلق الله، ثم شرفنا الله تعالى بأن نسبنا إليه فقال: (عِبَادِي) فنحن عباد الله (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) في الآيات التي فيها سؤال:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
(سورة البقرة: الآية 189)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ
(سورة البقرة: الآية 222)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
(سورة البقرة: الآية 217)

لكن في هذه الآية قال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) لم يقل: فقل يا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: (فَإِنِّي قَرِيبٌ) فما ترك بينك وبينه واسطة، وإنما وجهك فوراً إليه جلَّ جلاله (فَإِنِّي قَرِيبٌ) فهو أقرب إلينا من حبل الوريد (فَإِنِّي قَرِيبٌ).

إيضاحات حول حديث النزول
أيها الإخوة الكرام أيها الأحباب المتابعون:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ }

(متفقٌ عليه)

والحديث متفقٌ عليه واللفظ للبخاري فيما قرأنا.
هذا الحديث أيها الإخوة لمَّا سمعه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أظن والشواهد تؤكد ذلك أنهم بادروا فوراً إلى قيام الليل، بعض المسلمون اليوم، وبعضهم ممن تعلم أحكام الدين، بدلاً من أن ينهض فوراً إذا سمع الحديث إلى أن يسأل عن الله وأن يقف بين يديه في ثلث الليل الآخر وأن يسأله حاجته وأن يستغفره، شغل نفسه بقضيةٍ عقدية، فأصبح الواحد يقول: كيف ينزل إلى السماء الدنيا، وأصبح الثاني يسألنا ويرسل لنا عبر وسائل التواصل: الليل مختلف فقد يكون الصباح في دمشق وليلٌ في كندا فكيف ثلث الليل الآخر؟ وفي كل لحظة هناك ثلث ليل آخِر، وجعل يحاكم القضية إلى عقله ويريد أن، حاشا لله، يريد أن يحاكم الله تعالى إلى خلقٍ من خلق الله وهو الزمان والمكان، فيسأل عن الزمان ويسأل عن المكان، وأنا لا أنكر هنا أن بعض المختصين في العقيدة ينبغي أن يبحثوا في المسألة.
المبادة إلى تنفيذ الأمر
ونحن نقول: ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بعظمته ليس كمثله شيءٌ جلَّ جلاله، نؤمن به ونترك أمره إلى الله تعالى، لكن ما المهم في الحديث؟ هل المهم أن نسأل عن تفاصيل النزول؟ أم المهم أن نؤمن بالنزول لأنه جاءنا عن طريقٍ صحيحٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نبادر إلى تنفيذ الأمر وهو القيام بين يدي الله، لا شك أن المطلوب هو الثاني أن نبادر إلى العمل بالحديث، أن نبادر إلى القيام بين يدي الله تعالى.

الله واجب الوجود وما سواه ممكن الوجود
قدرة البشر محدودة
بربكم أيها الأحباب لو أن ملِكاً من ملوك الأرض واعد الناس ليلةً من الليالي، ليلة كذا، حدد ليلةً، سأكون في الساحة الفلانية، ساحة كبيرة من ساحات البلد وسآتي في وقتٍ متأخرٍ من الليل وأقف هناك وأسمع طلباتكم وأسمع شكواكم وأسمع حاجاتكم وألبيها، بربكم أيها الأحباب كم من الناس سيأتي إلى هذه الساحة في الموعد المحدد؟ إن كان في البلد مليون فلا أبالغ سيكون هناك مليون شخصاً في الساحة، ولن يأتوا في الموعد المحدد لكنهم سيأتون قبل ذلك بساعاتٍ وساعاتٍ، وربما يبيت أحدهم في المكان قبل أيامٍ وأيام ليحجز مكاناً متقدماً في الصفوف ليكون أول السائلين، لله المثل الأعلى، وأنا هنا لا أقارن ولا أشبه وإنما أوضح حقيقةً، والله يضرب الأمثال في كتابه، فهذا الرجل الذي واعد الناس هذا الملك هل سيأتي؟ الله أعلم، ربما يأتي وربما لا يأتي، الآن لو أنه أتى، استطاع أن يأتي، مجيئه محتمل وليس مؤكداً، ليس إلا الله واجب الوجود وما سواه ممكن الوجود، وجميعكم أهل علمٍ وفضل ليس إلا الله واجب الوجود كل شيئاً ممكن الوجود، يمكن أن يأتي ويمكن ألا يأتي؟ قد يصيبه طارئٌ فيمنعه من الحضور، فمجيئه محتمل ومع ذلك جاء الناس إليه ولبُّوا دعوته.
الآن لو أنه وقف وجاء فرضاً هل يستطيع أن يسمع كل من سيسأله حاجته؟ مستحيل، من يستطيع أن يسمع ملايين البشر في وقتٍ واحد؟ لو افترضنا جدلاً أنه هيأ طريقةً لسماع عدد كبير من البشر هل يستطيع أن يلبِّي كل حاجةٍ تطلب منه؟ هذا مستحيل المستحيلات، لكن الناس توافدوا إلى هذا المكان ليسألوا حاجتهم، الذي يسأل عن الله أيها الإخوة ويعلم أن الله تعالى يريد أن يسمع حاجته يبادر ويسارع ليسأل عن الله، ويبادر ويسارع ليقف بين يدي الله وليسأل الله حاجته.
كيف نكون أهلاً لإجابة الدعاء؟
أيها الإخوة الكرام: نتابع الآية (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) هو قريبٌ جلَّ جلاله منا جميعاً، قال: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) فأنت اسأل وهو يعطي جلَّ جلاله، هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من طالب حاجةٍ فأقضيها؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ فأنت تسأل وهو يعطي جلَّ جلاله (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي)، فإذا أردت أن يجيبك فاستجب له، إذا أردت أن ينصرك فانصره، إذا أردت أن يذكرك فاذكره.

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ
(سورة البقرة: الآية 152)

إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
(سورة محمد: الآية 7)

(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) فاستجب لأمره، وطبق أمره، إيماناً به (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) فإن فعلت ذلك فأنت أهلٌ لإجابة الدعاء.

الدعاء هو العبادة
أيها الكرام: نحن تعاملنا مع الدعاء أو تعامل كثيرٍ من المسلمين مع الدعاء ليس على الوجه الذي أراده الله تعالى من الدعاء، الله تعالى عندما أمرنا بالدعاء أمرنا به عبادةً له في المقام الأول، قال تعالى:

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ
(سورة غافر: الآية 60)

قال عبادتي، ولم يقل عن دعائي.

{ عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الدُّعاءُ هوَ العبادةُ، ثمَّ قالَ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) }

(صحيح البخاري)

الدعاء أرقى وجوه العبادة
ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (الدُّعاءُ هوَ العبادةُ)، فالدعاء هو أرقى وجوه العبادة والوقوف بين يدي الله تعالى، لأنه منتهى الذل والخضوع بين يدي الله وهذه فحوى العبادة، ولأن من يدعو الله عز وجل هو يؤمن بوجوده وبوحدانيته وبكماله ويؤمن بأنه يسمعه وبأنه يحبه وبأنه يجيبه وبأنه (عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو لا يدعو إلا من يعرف، فالدعاء هو العبادة، فنحن في المرتبة الأولى ينبغي أن نعلم أن وقوفنا بين يدي الله تعالى هو وقوف العبادة في المقام الأول.
وهذا ما عبر عنه النبي ﷺ في الحديث :

{ وَعَن عائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْها، قَالَتْ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَان يقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تتَفطَرَ قَدمَاهُ، فَقُلْتُ لَهُ، لِمْ تصنعُ هَذَا يَا رسولَ اللَّهِ، وقدْ غفَرَ اللَّه لَكَ مَا تقدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تأخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أكُونَ عبْداً شكُوراً؟ }

(متفقٌ عَلَيْهِ)

فإنه صلى الله عليه وسلم يبين لعائشة رضي الله عنها ويبيِّن لنا من بعدها بأن الوقوف بين يدي الله هو في المقام الأول إنما هو عبوديةٌ حقةٌ لله تعالى بغض النظر عن النتائج، وهل أجيبت الدعوة أم لم تجب، والذي يعبد الله بالدعاء لا ينتظر دائماً النتيجة، هو يعزم في المسألة ويتوقع الإجابة ولكن وقوفه بين يدي الله تعالى يعني العبودية فقط، هذه المرتبة الأولى.

إجابة الله عز وجل للدعاء
الآن الفهم الثاني الذي فيه إشكال عند كثير من المسلمين في موضوع الدعاء هو: هل الإجابة من الله عز وجل تكون بطريقةٍ واحدة؟ نحن نعرف في الدنيا أنني إذا ذهبت إلى إنسان فسألته حاجةً فإما أن يجيبني ويعطيني أو لا يجيبني، لكن الأمر عند الله تعالى ليس كذلك، الأمر عند الله تعالى مختلف والدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ ما مِن رجلٍ يَدعو اللَّهَ بدعاءٍ إلَّا استُجيبَ لَهُ، فإمَّا أن يعجَّلَ له في الدُّنيا، وإمَّا أن يُدَّخرَ لَهُ في الآخرةِ، وإمَّا أن يُكَفَّرَ عنهُ من ذنوبِهِ بقدرِ ما دعا، ما لم يَدعُ بإثمٍ أو قَطيعةِ رحمٍ أو يستعجِلْ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ وَكَيفَ يستَعجلُ؟ قالَ: يقولُ: دعوتُ ربِّي فما استجابَ لي }

(صحيح الترمذي)

كل دعاءٍ مجاب
(ما مِن رجلٍ يَدعو اللَّهَ بدعاءٍ إلَّا استُجيبَ لَهُ)، فكل دعاءٍ مجابٌ عند الله لكن طرق الإجابة عند خالق السماوات والأرض متنوعة، لماذا؟ لأنه العليم الحكيم جلَّ جلاله، فلا يمكن أن يعطيك حاجةً في الدنيا لا تتناسب مع حكمته جلَّ جلاله، أو لا ينبغي أن تعطاها وفق حكمته جلَّ جلاله، فهو يجيبك بإحدى طرقٍ ثلاث: (فإمَّا أن يعجَّلَ له في الدُّنيا) يطلب مالاً فيأتيه المال، يطلب مركباً فيأتيه المركب، عُجل له في الدنيا، وهذا مشاهد وواقع، (فإمَّا أن يعجَّلَ له في الدُّنيا، وإمَّا أن يُدَّخرَ لَهُ في الآخرةِ) لا يعطيه الله إياه في الدنيا، لأن الإنسان قد يدعو بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ.

وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ
(سورة الإسراء: الآية 11)

فهو يطلب حاجةً يظنها خيراً، يريد زوجةً، هذه الزوجة تحديداً وهي ليست له

وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
(سورة البقرة: الآية 216)

فما الذي يفعله معه الله تعالى الكريم جلَّ جلاله؟ يجيب دعوته لكن يدخر له هذا العطاء إلى الآخرة، (وإمَّا أن يُدَّخرَ لَهُ في الآخرةِ، وإمَّا أن يُكَفَّرَ عنهُ من ذنوبِهِ بقدرِ ما دعا) فيكون مقيماً على الذنوب فهل يتوقف عن الدعاء؟ لا، يدعو الله، وفي المقابل تغفر له ذنوبه، فالإجابة محققة لكن طرقها متنوعة، تتمة الحديث قال: (ما لم يَدعُ بإثمٍ أو قَطيعةِ رحمٍ) لأن الله لا يجيب دعوةً بإثمٍ، ولا دعوةً بقطيعة رحم، (أو يستعجِلْ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ وَكَيفَ يستَعجلُ؟ قالَ: يقولُ: دعوتُ ربِّي فما استجابَ لي)

وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا
(سورة الإسراء: الآية 11)

فالإجابة تأتي في الوقت الذي يريده الله، وفي اللحظة التي يريدها الله، وللحكمة التي يريدها الله.

الحكمة من التأخير في استجابة الدعاء
وهنا أنتقل إلى النقطة الثالثة من بعض مشكلاتنا في التعامل مع الدعاء: وهذه النقطة أيها الأحباب أنَّ كثيراً منا ونحن جميعاً دعونا الله عز وجل من أعماقنا بأن يفرج الله عنا وعن بلدنا وعن أمتنا وأن يعلي ديننا وأن وأن إلخ..، وفي ظننا أو في نظرنا القاصر لم نجد إجابةً مباشرةً من الله، وهنا أريد أن أضرب مثالاً وسامحوني، ولله المثل الأعلى.
الله تعالى يؤخر لكنه يجيب
مرةً كنت عند طبيب أسنان فجلست على الكرسي وهذا قبل سنوات وكان يعالج أسناني وأنا أتألم من هذا العلاج، فأثناء العلاج سألني الطبيب سؤالاً قال: لماذا ندعو الله فلا يستجيب لنا؟ لماذا لا يفرج عنا، عن بلدنا، عن أمتنا؟ لماذا تأخرت الإجابة؟ قلت له: يا أخي كيف حالك معي الآن أنت؟ أنت الآن تعالج أسناني لو تألمت وقلت لك كُفَّ عن معالجة أسناني وتوقف، هل تتوقف أم تتابع العلاج حتى تنهيه؟ قال: لا والله أتابع العلاج حتى أنهيه، قلت له: إن حال الله معنا ونحن ندعوه ونريد أن تحقق الإجابة في اللحظة التي نريدها وهو جلَّ جلاله يريد أن يحققها في اللحظة التي تناسب واقعنا والتي يحقق فيها النصرُ الحكمةَ التي كانت منه، فالله تعالى يؤخر لكنه يجيب، يؤخر لكنه جلَّ جلاله لا يهمل دعوةً من دعوات عباده، فنحن مهمتنا أن نبقى في عبوديتنا له ندعوه ونسأله لكنه يختار اللحظة المناسبة لتحقق المصائب التي جرت الحكمة منها، ولنكون أهلاً لذلك، فإذا تحقق ذلك كانت الإجابة، فلا نتوقف عن الدعاء ولا نُسيء الظن بربنا.
أيها الإخوة الكرام: نعود إلى الآية (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) والرشد هو النضج والفهم فمن يستجيب لله تعالى ويسأل الله ويرجو الله ويدعو الله فقد أصبح راشداً، نحن نقول اليوم: فلان راشد، عاقل، الرشد كل الرشد في طاعة الله، الرشد كل الرشد في السؤال عن الله، في دعاء الله، في الطلب من الله، وقال بعض المفسرين: (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ إلى أسباب الإجابة، إلى أسباب إجابة الدعاء، وهي الإقلاع عن المعاصي والآثام والتوجه إلى الله بصدق وبعزم وبيقين وبقلبٍ حاضر (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي لعلهم يبلغون الرشد في الفهم والنضج ولَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ إلى أسباب إجابة الدعاء.

سر السعادة في رمضان
أيها الإخوة الكرام: نحن في رمضان، ونحن قد امتلأت قلوبنا سعادةً في رمضان، رغم أن رمضان في هذا العام جاء مختلفاً عن بقية الأعوام في معظم دول العالم بسبب الوباء الأخير، لكن سبحان الله عوضنا الله خيراً من الأنس والقرب في بيوتنا ومع أهلنا ومع أولادنا وهذا من فضل الله علينا.
سر السعادة في رمضان
سؤالٌ أيها الأحباب يتبع لقضية اسـأل عن الله، لماذا نسعد في رمضان؟ لماذا نحن سعداء في رمضان رغم ما نكابده من الجوع والعطش في نهاره والتعب في السهر في مرضاة الله في الليل، ما سر السعادة؟ سر السعادة أيها الأحباب أننا مع الله، وسر السعادة أيها الكرام؛ أننا مشغولون بالهدف الذي خلقنا من أجله.
وسأضرب مثلاً: طالب عنده امتحان مصيري، بكالوريا أو توجيهي، يعني السنة الأخيرة قبل الجامعة، وعنده مادةٌ مهمة هي الرياضيات مثلاً، وقبل هذه المادة بيوم وقد عزم على أن يراجع الكتاب كاملاً وأن يحل المسائل وأن وأن، جاء إليه بعض أصدقائه وأصروا عليه أن يأخذوه معهم في نزهة، هم ليس عندهم امتحان، فذهب معهم إلى هذه النزهة ومتع ناظريه بالمناظر الجميلة، ومتع أذواقه بالطعام الطيب، ثم انقضى يومه ولم يدرس شيئاً، فعاد إلى بيته مساءً وقد ملأت الكآبة صدره، انقباض شديد، لماذا أنت منقبض يا فلان وأنت كنت في أجمل مكان وقد أكلت أطيب الطعام؟ في الحقيقة هو منقبضٌ لأنه شغل وقته في شيءٍ يتناقض مع هدفه، فهدفه النجاح، والنزهة تتناقض مع هدفه، لكن لو أنه جلس في بيته وحيداً في غرفته وربما ليس فيها كل وسائل الراحة، وأمسك الكتاب وقرأه وراجعه وحل مسائله لكان في داخله من السعادة الكثير، لماذا؟ لأنه مشغولٌ بالهدف الذي خلق من أجله.
الانشغال بالعبادة في رمضان
نحن في رمضان مشغولون بالهدف الذي خلقنا من أجله وهو العبادة في أوسع معانيها من العبادات الشعائرية صيامٌ وقيام إلى العبادات التعاملية من صدقٍ وأمانةٍ وحبٍّ وإحسانٍ وخيرٍ، إلى العبادات الشاملة في مناحي الحياة: كمساعدة الناس وإعمار الأرض والعمل الصالح وغير ذلك، بمفهوم العبادة الشامل نحن في رمضان شغلنا أنفسنا بالهدف الذي خلقنا من أجله، أما خارج رمضان فنحن مشغولون بكل شيء إلا بالهدف الذي خلقنا من أجله، وهذا واقع عند الكثير نسأل الله العافية، نسأل الله ألا يشغلنا إلا بطاعته وبعبادته وبمحبته، لكن كثيرٌ من الناس ينشغلون خارج رمضان بكل شيء من الرزق والمال وهذا لا مانع منه لكنهم لا يتركون وقتاً للإنشغال لما خلقوا من أجله، أو لا يسخرون الأشياء التي شُغِلوا بها في عبادة الله، كالعمل والكسب، فالإنسان أيها الأحباب؛ عندما ينشغل بما خلق من أجله يسعد، ونحن في رمضان سعداء لأننا مشغولون بعبادة الله وبطاعة الله وبمحبة الله وبالإحسان إلى عباد الله.
وقد قالوا: إذا أردت أن تسعد فأسعد الآخرين، وأَسْعَدُ النَّاسِ مَن أَسْعَدَ النَّاسَ، أيضاً في رمضان الصدقة تُسعدنا، والزكاة تُسعدنا، ومعاونة الناس تُسعدنا، إذاً أيها الإخوة الكرام: يجب أن نشغل أوقاتنا فيما خلقنا من أجله، ويجب أن نشغل أوقاتنا في إسعاد الآخرين لنحقق الأنس الذي شعرنا به في رمضان خارج رمضان.

رمضان فرصة لمتابعة الترقي
غداً أيها الأحباب وأنتم كلكم أهل فضل وأنا والله أخجل من الحديث بينكم بهذه الأمور التي تعرفونها أكثر مني وتتقنونها أكثر مني، لكن أقول: إذا انقضى غداً رمضان، وكبرنا الله تعالى على ما هدانا

وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(سورة البقرة: الآية 185)

رمضان فرصةٌ لمتابعة الترقي
سيفطر الفم فقط عن الطعام والشراب وسيبقى الصيام عن كل شيءٍ يغضب الله تعالى، رمضان أيها الأحباب؛ فرصةٌ لمتابعة الترقي لا لمدافعة التدني، ففي كل رمضان نصعد درجة وفي كل رمضان نتابع الصعود إلى الله، فإذا جاء الأجل كنا في مرتبةٍ عاليةٍ في علاقتنا مع الله ومع خلق الله، مع الله صلةً ومع خلقه إحساناً، لكن المؤمن ليس يدافع التدني: بمعنى أنه في كل رمضان يصعد، فإذا انقضى رمضان يعود إلى ما كان عليه وهكذا، هذه مدافعة التدني، لكننا ينبغي أن نكون في متابعة الترقي لا في مدافعة التدني، فنجعل كل رمضان فرصةً إلى قفزةٍ نوعيةٍ وفرصةً لتوبةٍ إلى الله تعالى.
فضل العشر الأخير من رمضان
أيها الإخوة الأحباب: في العشر الأخير يضاعف الإنسان من سرعته إلى الله، أراد الله تعالى وأراد نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُخفي ليلة القدر في الليال العشر من أجل أن تكون كلها ليالي اجتهاد وليالي قرب وليالي حب وليالي طاعة حتى يأتي العيد فنقول: الله أكبر على ما هدانا الله تعالى في رمضان ونداوم على الطاعات ويكون العيد إن شاء الله ذكرى للغافلين لا غفلةً للذاكرين، أرجو الله تعالى أن ينفعني بما قلت، وأن ينفع من سمع بما سمع، وأن يغفر لي زلتي، وأن يتجاوز عني وعنكم، ونلتقيكم دائماً وأنتم في أسعد حالٍ مع الله ومع خلقه، أشكر لكم حسن المتابعة، وأشكر لإدارة اتحاد خريجي العلوم الشرعية هذه المبادرة الطيبة وهذه الثقة بأن منحوني هذه الساعة الطيبة للدعوة إلى الله تعالى وأرجو الله أن يجعلها في صحائف أعمالهم وأعمالكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.