النجاة في زمن الفتن

  • محاضرة في الأردن
  • 2020-06-08
  • عمان
  • الأردن

النجاة في زمن الفتن

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنا وعنهم يارب العالمين.
إخواننا الكرام: أولاً كل عام وأنتم بخير جميعاً، نسأل الله أن يجمعنا دائماً على طاعته وعلى محبته وعلى رضاه وأن تكون هذه الغمة إن شاء الله قد زالت إلى غير رجعة.

مقدمة : بشارة من النبي الكريم
أيها الأحباب:

{ عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ كَانَ يُوَطِّنُ الْمَسَاجِدَ فَشَغَلَهُ أَمْرٌ أَوْ عِلَّةٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا كَانَ إِلَّا تَبَشْبَشَ اللَّهُ إِلَيْهِ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِم }

(صحيح ابن خزيمة)

التبشبش يعني الفرح
أبدأ ببشارة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج ابن خزيمة في صحيحه بسندٍ حسن قال: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ رَجُلٍ كَانَ يُوَطِّنُ الْمَسَاجِدَ) يُوَطِّنُ الْمَسَاجِدَ: أي يلتزم حضور الصلوات في المسجد، يعني يجعل المسجد وطناً له فيغادره من صلاة إلى صلاة، (مَا مِنْ رَجُلٍ كَانَ يُوَطِّنُ الْمَسَاجِدَ فَشَغَلَهُ أَمْرٌ أَوْ عِلَّةٌ) أَمْرٌ: أمر من تجارة، من مرض ولد نسأل الله العافية، أو عِلَّةٌ: مثل علة هذا الفيروس الوباء، (فَشَغَلَهُ أَمْرٌ أَوْ عِلَّةٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا كَانَ) زال الوباء زالت العلة فرجع إلى المسجد، (ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا كَانَ إِلَّا تَبَشْبَشَ اللَّهُ إِلَيْهِ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِم) تَبَشْبَشَ: أي فرح به وأظهر له البشر والسرور وقربه وتحبب إليه وتودد إليه، هذا التبشبش، فإذا كان شخص قديم سافر، أخٌ لك سافر وعاد بعد سنة أو بعد فراق طويل ورأيته، كيف تتبشبش له وتظهر له السرور والفرح وتقربه؟ هذه الصورة يظهرها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: الله يَتَبَشْبَشُ عندما يعود عبده إلى بيته، وهذا من لطيف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوتي جوامع الكلم، الله تعالى ليس كمثله شيء جلَّ جلاله لكن أراد النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبين لنا هذه الحالة التي بين العبد وربه فمثَّلها بحالةٍ بين العبد والعبد (كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِم).
جنة الدنيا هي جنة القرب
أيها الإخوة الكرام: هذه مقدمة، يصح إذاً أن نقول: نسأل الله أن يتبشبش لنا، وأن يفرح بنا، والله عزَّ وجلَّ يفرح بتوبة عبده ويفرح برجعة عبده، وهذا المؤمن يعيش هذه الحال مع الله سبحان الله وكأنه في جنة القرب من الله، كان بعض العلماء يقول: في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، قالوا: ما جنة الدنيا؟ قال: جنة القرب، جنة الدنيا هي جنة القرب، ومن هنا فسر بعضهم قوله تعالى:

وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
(سورة محمد: الآية 6)

هناك معنى متبادر إلى الذهن: عرفها من العرف وهو الطِيْب يعني طيَّبها لهم، وقالوا: (عَرَّفَهَا لَهُمْ) يعرفونها، وقالوا: (عَرَّفَهَا لَهُمْ) عرفها لهم في الدنيا عندما ذاقوا الأنس به والقرب منه؛ في رمضان في الحج في العمرة في صلاةٍ في الليل ذقت طعم الجنة ولمّا تدخلها، فلما تأتي يوم القيامة يهديك الله إلى مقعدك من الجنة قد عرفها لك في الدنيا.

النجاة من الفتن في حديث رسول الله
وأما موضوع اللقاء فهو حديثٌ شريفٌ أيضاً أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ في سننه بسندٍ حسن:

{ عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: قُلْتُ: يَارَسُولَ اللهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ }

(أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ)

(مَا النَّجَاةُ؟) يعني ما سبب النجاة؟ كيف أنجو عند الفتن؟ كيف أنجو من المعاصي؟ كيف أنجو من الخطوب؟ كيف أنجو من الأمراض؟ ما النَّجاة عموماً أريد النجاة، (امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) اِمْلِكْ وفي رواية أمْلِكْ، والمعنيان مستويان، إذاً لخَّص النبي صلى الله عليه وسلم النجاة من الفتن، من الخطوب، من المآسي، من المصاعب، من الأمراض، لخصها في ثلاث كلمات بأبي هو وأمي وقد أوتي جوامع الكلم، فقال: (امْلِكْ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ).

1. امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ
عظمة خلق الله في اللسان
لو بدأنا بالعنصر الأول (امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ): إخواننا الكرام: هذا اللسان الذي خلقه الله تعالى لنا يقول العلماء: كل حرف تريد أن تنطقه بلسانك تحتاج إلى أن تحرك سبع عشرة عضلة، يعني من بداية الكلام إلى الآن أنا حركت آلاف مؤلفة من العضلات حتى تكلمت هذا الكلام، فتخيل عظمة خلق الله في اللسان، لكن الله عز وجل عندما وهبك هذا اللسان أمرك أن تكفه، أن تمسكه، أن تملكه لا أن يملكك، (امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ) لأن اللسان قد يملك الإنسان، كيف يملكه لسانه؟ عندما يتكلم بغير حساب، فالكلمة إذا كانت لم تنطق بعد فأنت في نجاة، فإذا نطقتها فهي لك أو عليك، الصمت سلام، الساكت في سلام، فإذا نطق فله أو عليه، فلذلك عندما يمسك الإنسان لسانه مبدئياً فهو في سلام، الآن إذا استخدمه في الحق بدأ اللسان يرقى به درجات، وإن استخدمه نسأل الله السلامة في الباطل بدأ اللسان يهوي به دركات.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم :

{ إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ }

(صحيح البخاري)

بعض آفات اللسان
إخواننا الكرام: (امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ) يعني آفات اللسان كثيرة: الغيبة: آفةٌ من آفات اللسان، ذكرك أخاك بما يكره في غيابه، النميمة: آفةٌ من آفات اللسان، الإيقاع بين الناس، الكذب: آفةٌ من آفات اللسان، نقل الكلام والإشاعات لاسيما في الدين دون تثبت آفةٌ من آفات اللسان.

وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ
(سورة النساء: الآية 83)

يعني يذيع فوراً ما يأتيه دون أن يتيقن منه فيقع في عِرض أخيه، أو يُوقع بين اثنين، أو يُفسد في المجتمع بكلمةٍ قالها دون أن يشعر أو عن شعور فيقع في شر لسانه وفي شر عمله، فمن عدَّ كلامه من عمله فقد نجا.

خط الدفاع الأول هو اللسان

{ كنتُ معَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ في سفَرٍ، فأصبَحتُ يومًا قريبًا منهُ ونحنُ نَسيرُ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ أخبرني بعمَلٍ يُدخِلُني الجنَّةَ ويباعِدُني من النَّارِ، قالَ: لقد سألتَني عَن عظيمٍ، وإنَّهُ ليسيرٌ على من يسَّرَهُ اللَّهُ علَيهِ، تعبدُ اللَّهَ ولا تشرِكْ بِهِ شيئًا، وتُقيمُ الصَّلاةَ، وتُؤتي الزَّكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيتَ، ثمَّ قالَ: ألا أدلُّكَ على أبوابِ الخيرِ: الصَّومُ جُنَّةٌ، والصَّدَقةُ تُطفي الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النَّارَ، وصلاةُ الرَّجلِ من جوفِ اللَّيلِ، قالَ: ثمَّ تلا تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، حتَّى بلغَ يَعْمَلُونَ، ثمَّ قالَ: ألا أخبرُكَ بِرَأسِ الأَمرِ كلِّهِ وعمودِهِ، وذِروةِ سَنامِهِ؟ قلتُ: بلى يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُهُ الصَّلاةُ، وذروةُ سَنامِهِ الجِهادُ، ثمَّ قالَ: ألا أخبرُكَ بملاكِ ذلِكَ كلِّهِ؟ قُلتُ: بلَى يا رسولَ اللَّهِ، قال: فأخذَ بلِسانِهِ قالَ: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ، وإنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكَلَّمُ بِهِ؟ فقالَ: ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم أو على مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم }

(صحيح الترمذي)

شدة الحر في أيام غزوة تبوك
سيدنا معاذ بن جبل قال له: أونحن مؤاخذون بما نقول يا رسول الله؟ فقالَ: (ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا معاذُ) يعني النبي صلى الله عليه وسلم حتى يلفت نظره، هذه كلمة عند العرب ثَكِلَتكَ أمُّكَ انتبه، قال: وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم أو قال: على مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم، هذا هو باب جهنم تقول أونحن مؤاخذون بما نقول! هو باب جهنم من اللسان نسأل الله السلامة، فانظر النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا النَّجَاة؟ قال: امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ) في الفتن وقع اللسان كوقع السيف، أكثر نسبة، لذلك عندما سأله مَا النَّجَاة؟ غالباً النجاة تكون عند وقوع فتنة، نحن في عصور فتن، نحن الآن في عصر فتن لا ينكر ذلك عاقل، عصرنا عصر فتن، فيه من فتن الشهوات والشبهات، شهوة وشبهة، شهوة: حب النساء، حب المال، حب العلو في الأرض بغير الحق، هذه الشهوات، على رأسها ثلاث شهوات: يشتهي الإنسان إمرأةً لا تحل له، أو يشتهي مالاً من مصدرٍ حرام، أو يشتهي أن يعلو في الأرض ولو بغير الحق، فهذه ثلاث شهوات، والشبهات ما أكثرها في عصر الفتن فكل يوم يخرج له في الإعلام من يعبث بدينه، بمبادئه، بثوابته، بقيمه، بسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، بتأويلٍ باطلٍ بكتاب الله تعالى، باتهاماتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، فهذه شهوات وشبهات، تعصف بالإنسان، فعندما يمسك الإنسان لسانه في الفتن مبدئياً يكون قد عصم نفسه مبدئياً من الشهوات والشبهات، خط الدفاع الأول هو اللسان.

2. وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ
إخواننا الكرام: الخطوة الثانية في النَّجَاة قال: (وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ) هنا يوجد معنيين.
المعنى الأول: تبادر إلى ذهنكم، والثاني أظن أن معظمكم لم يتبادر إلى ذهنه وأنا كنت مثلكم لكن لمَّا درست الحديث وراجعته في الكتب جاء المعنى الثاني.
في بيت المؤمن إيجابيات كثيرة
سأبدأ بغير المتبادر، غير المتبادر الإنسان بيته جنته فأحياناً لا يسعه بيته بمعنى أنه لا يرضى عن بيته، لا يسعه بيته، لا يرضى عن بيته، لا يرضى عن دخله، لا يرضى عن زوجته، لا يرضى عن أولاده، فهو متطلعٌ إلى خارج بيته فهذا لم يسعه بيته، المؤمن في بيته زوجة رزقه الله إياها هناك بعض المتاعب لكن يوجد إيجابيات كثيرة، يا رب لك الحمد، يوجد شباب بلا زوجات، الحمد لله زوجتني ورزقتني أولاداً، طيب البيت ليس مئتا متر مئة وخمسون، الحمد لله، هناك أناس بلا مأوى، البيت أجرة ليس ملكاً الحمد لله هناك سقف يؤويني، فهو يسعه بيته، بمعنى أنه في الدنيا ينظر إلى من هو دونه ولا ينظر إلى من هو فوقه، فإن من نظر في الدنيا إلى من هو دونه فهذا أَجْدَرُ أَن لا يزدري نعمةَ اللَّه عليه

{ وعن أبي هريرة قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ }

(متفقٌ عَلَيْهِ)


النظر في الدين والنظر في الدنيا
أنت في الدنيا لك نظران نظر لمن هو في الدين ونظر لمن هو في الدنيا، ففي الدين انظر إلى من هو فوقك، فلا تقل أنا أصلِّي وغيري لا يصلِّي، قل أنا أصلي الفرائض ولكن غيري يأتي بالنوافل، فلعلي أسعى لأن آتي بالنوافل مثله، لا تقل: أنا أتصدق بمئة، قل: غيري يتصدق بألف، إن كنت تملك طبعاً فانظر إلى من هو فوقك في قضايا الدين حتى تتنافس معه

وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ
(سورة المطففين: الآية 26)

أهمية التحبب إلى الزوجة
أما في الدنيا فلينظر كلٌّ منا إلى من هو دونه فكم من نعم الله علينا التي لا نراها، بهذه الأزمة أرانا الله إياها، بهذه المحنة في هذين الشهرين والثلاثة أرانا الله نعماً كنا غافلين عنها، حتى نعمة وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وجدناها، يعني وجدنا أن البيت أمر مهم جداً كنا عنه غافلين، وأن رعاية الأولاد أمر مهم، وأن التحبب إلى الزوجة أمر مهم، كان أحدهم يمزح على الفيسبوك يقول: اعتني بزوجتك قد تحتاج إلى ذهبها يوماً، هذه مزحة وليس لمصلحة ولكن يجب أن نكون قريبين من الزوجات، قريبين من الأولاد، وسعنا بيتنا، شعرنا بأهمية البيت، شعرنا بأهمية المسجد، بأهمية الصلاة في المسجد، ألِفنا النعم فأراد الله عزَّ وجلَّ أن يعرفنا نعمه، نحن نقول دائماً: اللهم أرنا نعمك بدوامها لا بزوالها، لكن أحياناً سبحان الله الإنسان من إلف النعمة لا يستطيع أن يراها صارخةً إلا عند الفقد، فنسأل الله السلامة، فهنا قال: (وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ) فالمعنى الغير المتبادر ربما أن البيت يسعك عندما تجد أن الله أنعم عليك فيه بنعمٍ كثيرة قد لا تراها لكنها موجودة، فيسعك بيتك فتقول: الحمد لله على نعمة المأوى ونعمة الزوجة ونعمة الولد ونعمة الكسوة ونعمة الماء ونعمة الهواء ونعمة ونعمة إلخ..، فيسعك بيتك بذلك.

البيت مأوى الإنسان في زمن الفتن
في البيت عصمةٌ من الفتن
والمعنى المتبادر إلى الذهن في قوله: (وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ) هو لزوم البيت، يعني أنت لا تخرج من بيتك، لكن هذا المعنى ليس على العموم يعني ليس المعنى لا تخرج من بيتك، طبعاً لا تخرج من بيتك في الحظر وهذا شيء آخر، لكن في الشرع لا تخرج من بيتك ليس على العموم ولكن عندما تكون الفتن مستعرةً فلا تخرج من بيتك إلى مكانٍ تنتهك فيه حرمات الله، فهذا يسعه بيته، مثلاً تأتي ليلة رأس السنة الناس يرتكبون الموبقات في الشوارع، تقول: وليسعني بيتي مع زوجتي وأولادي أجلس أتعبد الله خيرٌ من أن أخرج وأنظر إلى المحرمات وأنظر إلى الناس في السيارات يفعلون ويفعلون، والناس في الأسواق، وشر البلاد أسواقها، فيسعه بيته، فعندما تكون هناك فتنة وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، أما عندما تخرج إلى المسجد هذا أمر محمود بل هو مطلوب ومرغوب، وأن تخرج إلى مجلس علم هذا من أعظم المطلوبات وعندما تخرج للإصلاح بين الناس فهذا من أعظم المطلوبات، لكن المقصود وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ عندما يكون الذهاب إلى الفتن، فعندها :

فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا
(سورة الكهف: الآية 16)

وهذا الكهف قد يكون بيتك في الفتن والمحن نسأل الله السلامة.
إخواننا الكرام: في موضوع لزوم البيت بهذا المعنى وعدم الخروج إلى مواطن الفتن طبعاً وهذا يؤيده قوله تعالى:

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى
(سورة الأحزاب: الآية 33)

المعنى الدقيق للقرار في البيوت
إذا أخذنا الكلام على العموم وليس لنساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصراً فكل امرأةٍ لها نصيب من ذلك أن تقر في بيتها، لكن هل القرار في البيت للمرأة مطلوب على العموم؟ لا، والدليل أن تتم الآية (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ) فالقرار في البيوت المقصود منه عدم التَبَرُّجَ:

{ عن ابن عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: (لا تَمْنَعوا إماءَ اللهِ مساجدَ اللهِ }

(رواه البخاري ومسلم)

فسمح لهن بالخروج إلى بيته، وقد تخرج المرأة للعلاج وقد تخرج لحاجاتها، وقد، وقد إلخ..، لكن أن تتبرج في خروجها فهذا هو المنهي عنه.

مسؤولية المؤمن عن أهل بيته
في المعنى نفسه أخرج الترمذي بسند حسن:

{ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ قَوْلُهُ:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)‏ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْىٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ ‏"‏ ‏.‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ قَالَ ‏"‏ لاَ بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ‏"‏ }

(أخرجه الترمذي)

مسؤولية الرجل عن أهل بيته
الآية معناها الظاهري مُشكل، يعني إذا فهمها الإنسان على ظاهرها الزموا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ، أي الزموا أنفسكم، يعني تعهد نفسك بالرعاية، إلى هنا المعنى واضح، كل إنسان يلزم نفسه، ونفسك ليست فقط نفسك بل وأهل بيتك من أنت مسؤولٌ عنهم:

{ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ }

(متفقٌ عليه)

- لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ - يعني إذا فهم الإنسان أنه فليضل من يضل وليهتدي من يهتدي المهم أن أنجو أنا، بهذا المعنى توقفت فريضةٌ ثابتة في القرآن والسنّة والإجماع وهي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلذلك يسأل أبو أمية أبو ثعلبة الخشني عن هذه الآية، - فيقول له أبو ثعلبة: لقد سألتَ بها خبيراً والله - يعني جئت لعند الخبير، لِمَ؟ قال: - سألت عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندي خبر من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالآية، - فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ- يعني لا تفهم من الآية أن تكف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، - بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ - يعني الحالة التي في الآية خاصة بحالة سأوضحها لك - حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْىٍ بِرَأْيِهِ، ‏ورأيتَ أمرًا لا يدانِ لكَ بهِ - لا يد لك به لا تستطيع فعل شيء، هم خمسة أمور، سنحلل الخسمة أمور لأنهم مهمين جداً:

- (شُحّاً مُطَاعاً)
الشح أشد من البخل
الشح هو البخل وقالوا: هو أشد البخل، وقال بعضهم: البخل يكون بالمال فقط، أما الشح يكون في المال وفي المعروف، يعني البخيل تسأله مالاً يقول لك: لا تقترب على الجيب ، تريد مساعدة مني أنا جاهز ولكن إلى الجيب لا، هذا بخيل، أما الشحيح تقول له: تعال ساعدني، يقول لك: لا بيدي ولا بمالي، فالشح أشد من البخل، قال: - فإِذَا رَأَيْتَ شُحّاً مُطَاعاً - يعني الناس تنقاض وراء أهواء نفسها في الحرص والبخل والامتناع، يطيع شحه ولا يطيع ربه، (شُحًّا مُطَاعاً).

- (وَهَوىً مُتَّبَعاً)
هذه والعياذ بالله الإباحية التي نراها اليوم، الناس تتبع أهواءها، - هَوىً مُتَّبَعاً - يعني يتبع الإنسان هواه على غير منهجٍ من الله

وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ
(سورة القصص: الآية 50)


- (وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً)
الناس تؤثر الدنيا على الآخرة.

- (وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْىٍ بِرَأْيِهِ)
وهنا الرأي مذموم لأنه غير مبنيٍّ على كتاب الله تعالى أو على سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، كل واحد يقول لك: الحق معنا نحن، نحن الصح والباقي كله غلط، - وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْىٍ بِرَأْيِهِ - فهذا مهما نصحت له لا يستجيب، معجب برأيه وبنفسه.
الرواية الثانية كما قلنا فيها إضافة وهي: ‏

- (ورأيتَ أمرًا لا يدانِ لكَ بهِ)
يعني أنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً، هناك أماكن تدخل تقول: والله أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً نهائياً، الموضوع هذا فوق طاقتي، - أمرًا لا يدانِ لكَ بهِ -.

خاصة النفس : الأهل والأولاد والعمل
عملك من نفسك
عندما يكون ذلك قال: - فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ - خاصة النفس كما قلنا إنسان وأهله وأولاده وعمله، يعني دائرة الأسرة ودائرة العمل هذه خاصة النفس، يعني هناك إنسان يقول: والله أنا بالعمل ليس لي علاقة، لا، هذا من نفسك، عملك من نفسك، أما السوء ليس من نفس الإنسان، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: - فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ - سيأتي أيام اسمها أيام الصبر، قال: - الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ- أيام صعبة، الصَّبْرُ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، قال: - لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ - يعني الأجر ضرب خمسين، الأجر مضاعف، الجهد مضاعف والأجر مضاعف، ففي رواية قال: - سألت يا رسول الله منا أو منهم؟ قال: بل منكم - يعني تخيل أنت أنك في أيام الصبر على الفتن على المعاصي على الآثام وعلى الشهوات وعلى الشبهات وعلى كل إنسان معجب برأيه وعلى المادية المقيتة الناس تتبع شحها وعلى الهوى المتبع أنك تؤجَر بأجر خمسين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المشقة في الإسلام ليست مطلوبةً لذاتها
الجزاء على قدر المشقة
أمس أرسل لي أحدهم سؤال قال: أنا لم اختر زمان ولادتي، أنا ولدت هكذا في 2020 في هذا الزمن الصعب، يعني لو خُيِّرت لاخترت عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمازحته فقلت له: لعل بعصر سيدنا محمد كنت عبد الله بن أبي بن سلول، في عصر سيدنا محمد يوجد منافقين كانوا كثر، فالإنسان بالمحصلة مسؤول عن نفسه، قلت له: ثم أنت تريد أن تضيع على نفسك أجر الخمسين؟ قال: ما هو أجر الخمسين؟ قلت له: خمسين من صحابة رسول الله، هناك أجر واحد، هنا ستأخذ أجر بخمسين ضعف، فالربح معك، أنت صحيح في زمن صعب لكن مع صعوبة الزمن وفتن الزمن، مع العروض المغرية في الأسواق، مع الربا المنتشر، مع النساء الكاسيات العاريات تقبض كالقابض على الجمر وتأخذ أجراً بخمسين، فالجزاء من جنس العمل، والجزاء على قدر المشقة، المشقة في الإسلام ليست مطلوبةً لذاتها هذه قاعدة، لا نحب المشقة نسأل الله العافية، لكن قد تفرض المشقة عليك فرضاً، سأضرب مثلاً: لو قمتَ فجراً وعندك صنبور الماء وأنت في بيتك يوجد ماء ساخن والحرارة صفر أو ثلاثة أو تحت الصفر، برد شديد، وأمامك صنبور الماء يمكن أن تديره على اليسار فتأخذ ماءً ساخناً أو معتدلاً وتتوضأ بماء معتدل وممكن أن تديره لأقصى اليمين فتأخذ ماء من الخزان بارد جداً، فقلت: والله أريد أن أضاعف أجري فأدرته إلى البارد، لا ليس صحيحاً لأن هذه مشقة غير مطلوبة لذاتها، أما لو استيقظت وأنت معطل عندك السخان ولا يوجد ماء ساخن فتوضأت بالماء البارد هنا تثاب، فالمشقة لا تطلب لذاتها لكن إذا فُرضت عليك فأنت مستعدٌ لها، فنحن في هذا العصر نقول: نسأل الله السلامة من المشاق، لكن نوطن أنفسنا لو جاءت مشاق أكثر فنحن إن شاء الله متمسكون كمن يقبض على الجمر وننتظر أجر الخمسين، فقال: - لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ:‏ لاَ بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ -.
أيضاً في الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ) إتماماً للفائدة:

{ قال أبو بكرٍ بعد أن حمِد اللهَ وأثنَى عليه: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّكم تقرءون هذه الآيةَ، وتضعونها على غيرِ موضعِها عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وإنَّا سمِعنا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ : إنَّ النَّاسَ إذا رأَوُا الظَّالمَ فلم يأخُذوا على يدَيْه أوشك أن يعُمَّهم اللهُ بعقابٍ، وإنِّي سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي، ثمَّ يقدِرون على أن يُغيِّروا، ثمَّ لا يُغيِّروا إلَّا يوشِكُ أن يعُمَّهم اللهُ منه بعقابٍ }

(صحيح أبي داود)

فالآية لا تعني ترك إيقاف الظالم عند حده ولا تعني منع الظالم عن ظلمه، ولا تعني ترك إنكار المنكر والأمر بالمعروف ولكنها تعني أن الإنسان قد يوجد في ظرفٍ يجد أنه لا يدَ له في الأمر فيعكف على خاصة نفسه ويقبض على دينه حتى يلقى ربه وهو عنه راضٍ، هذا معنى الآية.

3. وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ
الثالث من أركان النجاة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث قال: (وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) الركن الأول: (امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ) (كف عليك هذا) (أمسك لسانك)، (كان سيدنا أبو بكر الصديق يمسك لسانه ويقول: هذا الذي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ)، هذا أبو بكر الصديق (هذا الذي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ) ومن هو أبو بكر؟ المبشر بالجنة، فالإنسان يعني لا يورد لسانه في موارد التهلكة، ليحافظ على لسانه، والثانية: (وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ) والمعنيين اللذين ذكرناهما، والثالثة: (وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) البكاء على الخطيئة ندم، والنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

{ النَّدَمُ تَوْبَةٌ }

(أخرجه الطبراني)

التوبة ليست ندماً فقط
طيب يا إخوان التوبة ليست ندماً فقط، التوبة إقلاع عن الذنب، التوبة عزمٌ على عدم العودة، التوبة إصلاح، إذا كان هناك حقوق للعباد نردها، إذا كان هناك ترك لفريضة نأتيها، فليس الندم التوبة فقط، ما المعنى؟ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

{ الحجُّ عرفةُ }

(أخرجه الترمذي)

طيب والسعي بين الصفا والمروة والطواف حول الكعبة؟ لا (الحجُّ عرفةُ) أهم أركان الحج عرفة، فإن فاتتك عرفة فلا حج لك، أما إذا فاتتك أمور أخرى في يومٍ آخر تفعلها، أما موعد عرفة لا يوجد مجال، أما الأمور الأخرى لها حلول، فالحج عرفة يعني ركنه الأساسي هو عرفة، فلما قال: (النَّدَمُ تَوْبَةٌ) أي أن أهم ما في التوبة الندم، فإذا تحقق الندم (وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) تحققت التوبة، الباقي تحصيل حاصل سيحصل حتماً.

التوبة وسلوك الإنسان
ديكارت يقول: إن الإنسان بعلاقته بالعالم الخارجي يحكمه قانون من ثلاث كلمات: (إدراك، انفعال، سلوك) بكل علاقتنا بالعالم الخارجي، يعني سواءً خوف أو فرح، مثال: إذا رأيت بالأرض شيء يلمع أمعنت النظر أدركت بأنها ألماس انفعلت فرحاً سلكت واتجهت فأخذتها ووضعتها في جيبتك، بالشق الثاني: رأيت ثعباناً مخيفاً أدركت أنه ثعبان انفعلت خوفاً اتجهت هرباً أو قتلاً له، وغالباً هرباً.
التوبة إدراكٌ وندمٌ وإصلاح
(إدراك، انفعال، سلوك) هذا يحكم علاقتنا بالعالم الخارجي، تدرك فتنفعل فتتحرك بناءً على انفعالك، فلا انفعال بغير إدراك ولا سلوك بغير انفعال، إذا حكَّمنا قانون ديكارت بالتوبة: تدرك أنك مقيم على ذنب لا يرضي الله فتندم وتبكي على خطيئتك فتندفع إلى الإصلاح، السلوك، إذاً إذا أردنا أن نقول: ما أهم ركن بالثلاثة؟ الانفعال الندم، لأنه إذا قلنا: (النَّدَمُ تَوْبَةٌ) كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معناه أدرك أنه مذنب وإلا لماذا ندم؟ وإذا ندم فهل يعقل أن يندم وأن يبقى جالساً أم سيتحرك للإصلاح؟ المنطق يقول: بأنه سيتحرك للإصلاح، فلذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (النَّدَمُ تَوْبَةٌ) يعني أنت إذا ندمت فقد علمت وإذا ندمت فسوف تتحرك، هذا معنى الحديث.

البكاء على الخطيئة هو إعلان للتوبة
(ابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) هذا لبيان أهمية التوبة، النجاة في أن يبكي الإنسان على خطيئته، أما إذا مذنب مقيم على ذنوبه ولا كأنه يفعل شيء فهذا مصيبته كبيرة.
(من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظةً فمصيبته في نفسه أكبر)
يعني إذا إنسان جاءت المصيبة ولم يتأثر أبداً فهذا يعني أنه هو المصيبة، هو مصاب بنفسه لأنه لم يتأثر، فالبكاء على الخطيئة هو إعلان للتوبة.

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ }

(صحيح مسلم)

كيف؟ يعني ربنا عز وجل يحب الناس المذنبين؟ لا طبعاً، الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، لكن ربنا عز وجل يعلم أن هذا الإنسان لا بد أن يذنب، لكن إما أن يشعر بذنبه فيتوب، وإما أن لا يشعر بذنبه فيداوم على المعاصي، فأحبهما إليه هو الذي يذنب فيشعر بذنبه فيتوب، فلذلك قال: (لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ) يعني يعلم أنه مذنب فيتوب فيتوب الله عليه، يعني علاقته مع الله مستمرة.

قصة الصحابي كعب بن مالك
آخر شيء إخواننا الكرام: توضيح ل (وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) تعلمون هذا الصحابي كعب بن مالك، كعب بن مالك مع العامري والواقفي، هؤلاء الثلاثة الذين خُلفوا، فلما تاب الله عليهم في القرآن قال:

لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
(سورة التوبة: الآية 117-118)

(خُلِّفُوا) هنا ليس معناها تخلَّفوا عن رسول الله، وإنما أُرجئ أمرهم (خُلِّفُوا) أي أُرجئ أمرهم إلى الله لخمسين ليلة، فهؤلاء الثلاثة الذين خُلِّفوا ومنهم كعب بن مالك.
شدة الحر في أيام غزوة تبوك
غزوة تبوك كانت في وقت فيه شدة حر، والنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا خرج بغزوةٍ ورَّى بغيرها من سياسة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحرب أنه إذا خرج إلى غزوة لا يقول: أنا ذاهب إلى الغزوة، يورِّي بغيرها، وفي الطريق يفهمهم، لكن لما كانت غزوة تبوك قال: الحر شديد والمسافة طويلة، فالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضح المقصود تماماً حتى الناس تأخذ أهبتها وتستعد، فكعب بن مالك قتلته سوف، قال: كل يوم أقول: سوف أتجهز غداً، سوف أتجهز، سوف أتجهز، قال: - فمضى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ما زلت أقول: غداً ألحق بهم، قال: وليتني فعلت- لكنه لم يفعل، فالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وصل تبوك قال: - أين كعب؟ - فالصحابة سكتوا كعب بن مالك شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين حديثاً، له مكانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، يعني بعض الموجودين قال: - يا رسول الله حَبَسَهُ بُرْدَاهُ ونَظَرُهُ في عِطْفِهِ - يعني مشغول بأناقته، فقام صحابي ودافع عنه قال: - بئْسَ ما قُلْتَ، واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ ما عَلِمْنَا عليه إلَّا خَيْرًا - هذا موقف إيماني أن تدافع عن أخيك في غيبته، فالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرَّ بما حصل، فلما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك جلس في المسجد فجاءه بضعٌ وثمانون رجلاً، كعب ماذا كان يقول؟ موطن الشاهد، قال: - لما خرج النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنت أجول في أسواق المدينة فيحزنني - يبكي على خطيئته، قال: - أحزن لأنني لا أجد إلا رجلاً مغموصاً عليه بالنفاق- متهم بالنفاق، - أو رجلاً مما عذر الله من الضعفاء - شخص لا يستطيع الحركة أو لا يستطيع الرؤية، أو أو، يعني معذور، له عذر عند الله، فقال: - لا أجد إلا مغموصاً عليه بالنفاق أو رجلاً عذره الله، فلما رجع رسول الله قال: حضرني همي - يعني رجعت على هذه الخطيئة، انظروا حَزِنَ، أما الباقون ماذا قال الله عزَّ وجلَّ عنهم في كتابه؟

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ
(سورة التوبة: الآية 81)

موقف القرآن الكريم من الْمُخَلَّفُين
فالمخلَّفون الذين فرحوا عاب عليهم القرآن، لكن كعب تاب عليه الله لأنه حزن، بكى على خطيئته، قال: - فلما حضر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: جلست بين يديه، فقلت يا رسول الله لقد علمت والله لأن جلست إلى غيرك من أهل الدنيا لأخرجن من ذلك بعذر - يعني عندي عذر، أتكلم كم كلمة وأخرج نفسي منها، قال: - ولقد أتيت جدلاً - يعني أنا شخص لساني أعرف أديره جيداً وأعرف كيف أخرج من الموضوع بسلاسة وأقنعك بأنه لدي عذر، قال: - والله لقد علمت أنني إن قلت لك حديثاً اليوم أكذبك فيه - يعني أتكلم كلام كذب - لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ - علاقتي مع الله وليست معك، هذا هو التوحيد - ولَئِنْ حَدَّثْتُكَ بحَدِيثٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ في نفسك فإنِّي لَأَرْجُو فيه عَفْوَ اللَّهِ - أنا سأحدثك الصدق وأرجو عفو الله - وأنت ستجد في نفسك عليّ - يعني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سينزعج منه - واللَّهِ ما كانَ لي مِن عُذْرٍ أبداً، والله ما ابتعت راحلتين إلا يومها - ليس راحلة واحدة عندي بل اثنتين - وما كنت أيسر منها يوم تخلفت - المال موجود والرواحل موجودة وتركت من غير عذر.
اترك الأمور لله
فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: - أما هذا فقد صدق - يعني هؤلاء الثمانين الذين قبله كذبوا، لكن يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، فكان يقبل منهم وهو يعلم أنهم كاذبون، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى يعلم درس لأمته إلى يوم القيامة أنك إذا رأيت إنسان واعتذر إليك فاقبل عذره ولو كنت تعلم أنه كاذب، فالله يتولى السرائر، لا تشق على قلب أحد، اترك الأمور لله، قال: - أمَّا هذا فقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ - فماذا كان قضاء الله فيه؟ أن يمتنع الصحابة عن كلامهم حتى يأتي أمر الله، فقال: (تنكرت لي الأرض) يعني أنا أمشي في المدينة لا أعرف الناس،
حب النبي الكريم لأصحابه
- أجلس أمام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم عليه فأقول: هل حرك شفتيه بردِّ السلام أم لا؟ - وكأنه قال لي: وعليكم السلام، أم لم يقل؟ يعني لا يعرف، قال: - فلما أتمت أربعين ليلةً إذا برجلٍ من الأنباط من أهل الشام ينادي من يدل على كعب بن مالك؟ فقالوا: هذا كعب بن مالك، قال: فجاءني ومعه كتاب، فقرأته فإذا هو من ملك غسان - ملك الغساسنة تحت حكم الروم، قال: - قد بلغنا أن صَاحِبَكَ قدْ جَفَاكَ - محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالحَقْ بنَا نُوَاسِكَ، ولَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بدَارِ هَوَانٍ، ولَا مَضْيَعَةٍ - يعني هم يحاولون اختراق الخط المسلم من خلال كعب، حتى يحققوا سبق إعلامي، أي أحضرنا شخص من أهم شعراء الرسول وصحابي وكذا وشهد العقبة، هو لم يشهد بدراً لأنه كان مشغول بشيء وليس تخلف، لكنه شهد العقبة، فقال: يعني نحضر شخص ونضمه لنا ونبدأ بالكلام، فقال: - وهذه من عمل الشيطان - فتنة كبيرة، قال: - فَتَيَمَّمْتُ بهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بهَا - ألقاها في النار فوراً حتى لا يعود إلى أداة المعصية، تركها فوراً، هو حزين كعب على معصيته، فلما أتم الأربعون قال: - أمرنا النبي أن نعتزل نسائنا - فلما كانت ليلة خمسين تماماً قال: كنت على سطح بيتي بعد صلاة الفجر والنبي صلى الله عليه وسلم بشر الصحابة بنزول الآيات قال: - فارتفع أحدهم، وجاء الثاني بالفرس - أحدهم يريد أن يدركه بفرسه، والثاني قال: بالصوت ألحقه، قال: - فسبق الصوت الفرس - بالبرية يمد الصوت لأنه لا يوجد أبنية ولا يوجد شيء، - فوقف وصرخ وقال: يا كعب أبشر، قال: فعلمت أنه قد نزلت التوبة، فَخَرَرْتُ لله سَاجِدًا، فَلَمَّا جَاءَنِي الذي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي، نَزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فَكَسَوْتُهُ إيَّاهُمَا، وقلت له: والله ما عندي غيره، فأعطيته إياهّ - هذه سنة من يبشرك بشيء أن تعطيه، حتى أهل الشام يقولون: هات البشارة، أعطني البشارة قبل أن يتكلموا، هذه بشارة مشروطة، لكن هذا بشَّره ثم جاءت الهدية، قال: - لما جئت إلى المسجد بدأ الناس يتراكضون يقولونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ يا كعب، قال: وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وجْهُهُ، حتَّى كَأنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل القمر، انظروا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يحب أصحابه، يعني بهذه الخمسين ليلة ربما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتقطع عليهم، لكن حكم الله، حتى تتربى الأمة على أن الأمر شديد أن تترك المعركة، فقال: - إذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وجْهُهُ، فقال: أبْشِرْ بخَيْرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ ولَدَتْكَ أُمُّكَ، قَالَ: قُلتُ: أمِنْ عِندِكَ يا رَسولَ اللَّهِ، أمْ مِن عِندِ اللَّهِ؟ - يعني التوبة جاءت منك أم من الله؟ قَالَ: - لَا، بَلْ مِن عِندِ اللَّهِ، ثم تلا قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} يقول كعب: فوالله لقد بلغنا هذه الحال التي ذكرها القرآن - هو يذكر الذي حصل معنا تماماً، قال: - والله ضاقت عليّ الأرض بما رحبت، فما الأرض هي الأرض التي أعرفها - أبداً، لم نعد نعرفها - ضاقت عليّ الأرض بما رحبت وضاقت عليّ نفسي، إذ جاء الفرج من الله عز وجل والتوبة من الله -.
فالإنسان أيها الأحباب؛ عندما تسوؤه معصيته وخطيئته؛ تصغر عند الله، وعندما يستصغرها؛ تعظم عند الله.
(فإنّ الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه؛ صغر عند الله، وكلما استصغره؛ كبر عند الله)

{ المنافق ذنبه كأنه ذبابٌ طار على أنفه فقال هكذا، والمؤمن ذنبه كالجبل جاثمٌ على صدره }

(ورد في الأثر)

{ مَا النَّجَاةُ يَارَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ }

(أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ)

والحمد لله رب العالمين