تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع من حوله

  • محاضرة في الأردن
  • 2020-07-06
  • عمان
  • الأردن

تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع من حوله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
وبعد؛ فيا أيها الإخوة الكرام: أخرج الإمام مسلم في صحيحه:

{ عَنِ الْمِقْدَادِ رضي الله عنه قَالَ: أَقْبَلْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لِي، وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مِنَ الجَهْدِ، فَجَعَلْنَا نَعْرِضُ أَنْفُسَنَا علَى أَصْحَابِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فليسَ أَحَدٌ منهمْ يَقْبَلُنَا، فأتَيْنَا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ بنَا إلى أَهْلِهِ، فَإِذَا ثَلَاثَةُ أَعْنُزٍ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: احْتَلِبُوا هذا اللَّبَنَ بيْنَنَا، قالَ: فَكُنَّا نَحْتَلِبُ فَيَشْرَبُ كُلُّ إنْسَانٍ مِنَّا نَصِيبَهُ، وَنَرْفَعُ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ نَصِيبَهُ، قالَ: فَيَجِيءُ مِنَ اللَّيْلِ فيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لا يُوقِظُ نَائِمًا، وَيُسْمِعُ اليَقْظَانَ، قالَ: ثُمَّ يَأْتي المَسْجِدَ فيُصَلِّي، ثُمَّ يَأْتي شَرَابَهُ فَيَشْرَبُ، فأتَانِي الشَّيْطَانُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ شَرِبْتُ نَصِيبِي، فَقالَ: مُحَمَّدٌ يَأْتي الأنْصَارَ فيُتْحِفُونَهُ، وَيُصِيبُ عِنْدَهُمْ ما به حَاجَةٌ إلى هذِه الجُرْعَةِ، فأتَيْتُهَا فَشَرِبْتُهَا، فَلَمَّا أَنْ وَغَلَتْ في بَطْنِي، وَعَلِمْتُ أنَّهُ ليسَ إلَيْهَا سَبِيلٌ، قالَ: نَدَّمَنِي الشَّيْطَانُ، فَقالَ: وَيْحَكَ، ما صَنَعْتَ أَشَرِبْتَ شَرَابَ مُحَمَّدٍ، فَيَجِيءُ فلا يَجِدُهُ فَيَدْعُو عَلَيْكَ فَتَهْلِكُ فَتَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ، وَعَلَيَّ شَمْلَةٌ إِذَا وَضَعْتُهَا علَى قَدَمَيَّ خَرَجَ رَأْسِي، وإذَا وَضَعْتُهَا علَى رَأْسِي خَرَجَ قَدَمَايَ، وَجَعَلَ لا يَجِيئُنِي النَّوْمُ، وَأَمَّا صَاحِبَايَ فَنَاما وَلَمْ يَصْنَعَا ما صَنَعْتُ، قالَ: فَجَاءَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ كما كانَ يُسَلِّمُ، ثُمَّ أَتَى المَسْجِدَ فَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى شَرَابَهُ فَكَشَفَ عنْه، فَلَمْ يَجِدْ فيه شيئًا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلى السَّمَاءِ، فَقُلتُ: الآنَ يَدْعُو عَلَيَّ فأهْلِكُ، فَقالَ: اللَّهُمَّ، أَطْعِمْ مَن أَطْعَمَنِي، وَأَسْقِ مَن أَسْقَانِي، قالَ: فَعَمَدْتُ إلى الشَّمْلَةِ فَشَدَدْتُهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ الشَّفْرَةَ فَانْطَلَقْتُ إلى الأعْنُزِ أَيُّهَا أَسْمَنُ، فأذْبَحُهَا لِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَإِذَا هي حَافِلَةٌ، وإذَا هُنَّ حُفَّلٌ كُلُّهُنَّ، فَعَمَدْتُ إلى إنَاءٍ لِآلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ما كَانُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يَحْتَلِبُوا فِيهِ، قالَ: فَحَلَبْتُ فيه حتَّى عَلَتْهُ رَغْوَةٌ، فَجِئْتُ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: أَشَرِبْتُمْ شَرَابَكُمُ اللَّيْلَةَ، قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، اشْرَبْ، فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، اشْرَبْ، فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي، فَلَمَّا عَرَفْتُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قدْ رَوِيَ وَأَصَبْتُ دَعْوَتَهُ، ضَحِكْتُ حتَّى أُلْقِيتُ إلى الأرْضِ، قالَ: فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إحْدَى سَوْآتِكَ يا مِقْدَادُ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، كانَ مِن أَمْرِي كَذَا وَكَذَا وَفَعَلْتُ كَذَا، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ما هذِه إلَّا رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ، أَفلا كُنْتَ آذَنْتَنِي فَنُوقِظَ صَاحِبيْنَا فيُصِيبَانِ منها، قالَ: فَقُلتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ، ما أُبَالِي إذَا أَصَبْتَهَا وَأَصَبْتُهَا معكَ مَن أَصَابَهَا مِنَ النَّاسِ }

(صحيح مسلم)


شرح الحديث
التعب والجوع في بداية الدعوة
(وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مِنَ الجَهْدِ) وهذا كناية عن شدة ما كانوا يجدونه من تعبٍ وجوعٍ في بداية الدعوة، (فليسَ أَحَدٌ منهمْ يَقْبَلُنَا) قال شراح الحديث: هذا محمولٌ على أنهم عرضوا أنفسهم على مُقلِّين، يعني عرضوا أنفسهم على أشخاص لا يجدون لأنفسهم ما يأكلون فكيف يأوون غيرهم وهم لا يجدون ما يأكلونه، (احْتَلِبُوا هذا اللَّبَنَ بيْنَنَا) نتقاسمه بيننا، (وَنَرْفَعُ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ نَصِيبَهُ) يقسمون الحليب لثلاثة فيشربون نصيبهم ويرفعون للنبي نصيبه لأنه كان يتأخر في العودة، (فيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لا يُوقِظُ نَائِمًا، وَيُسْمِعُ اليَقْظَانَ) الحد المعتدل، لا يُوقِظُ نَائِمًا، ولكنه يُسْمِعُ اليَقْظَانَ، قالَ: (مُحَمَّدٌ يَأْتي الأنْصَارَ فيُتْحِفُونَهُ) يعني ليس بحاجةٍ إلى هذا الحليب القليل فهو يأتي الأنصار رضوان الله عليهم (فيُتْحِفُونَهُ) أي فيعطونه مما معهم من طعامٍ وشرابٍ، من التحفة، (فأتَيْتُهَا فَشَرِبْتُهَا) شرب شراب رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، قال: (فَلَمَّا أَنْ وَغَلَتْ في بَطْنِي) دخلت وانتهت، (وَعَلِمْتُ أنَّهُ ليسَ إلَيْهَا سَبِيلٌ) يعني انتهى الأمر وَغَلَتْ في بَطْنِي، (نَدَّمَنِي الشَّيْطَانُ، فَقالَ: وَيْحَكَ، ما صَنَعْتَ أَشَرِبْتَ شَرَابَ مُحَمَّدٍ؟ فَيَجِيءُ فلا يَجِدُهُ فَيَدْعُو عَلَيْكَ فَتَهْلِكُ) الآن الشيطان دخل له من هذا الباب، (فَيَدْعُو عَلَيْكَ فَتَهْلِكُ فَتَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ) انظروا الشيطان ماذا يفعل بالإنسان يجري منه مجرى الدم، تَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ، يقول المقداد: (وَعَلَيَّ شَمْلَةٌ إِذَا وَضَعْتُهَا علَى قَدَمَيَّ خَرَجَ رَأْسِي، وإذَا وَضَعْتُهَا علَى رَأْسِي خَرَجَ قَدَمَايَ) ليس معه ما يتدفأ به من شدة الفقر، (وَأَمَّا صَاحِبَايَ فَنَاما وَلَمْ يَصْنَعَا ما صَنَعْتُ) هو لم ينم من شدة تأنيب الضمير كما يقال، (الآنَ يَدْعُو عَلَيَّ فأهْلِكُ) الآن صار وقتها، بأبي هو وأمي صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حاشاه أن يدعو على من شرب شرابه، (فَعَمَدْتُ إلى الشَّمْلَةِ) أي الغطاء التي يتغطى بها، (فَشَدَدْتُهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ الشَّفْرَةَ) يريد أن يذبح للنبي صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ.
معجزة النبي الكبرى هي القرآن الكريم
(فَإِذَا هي حَافِلَةٌ) ممتلئة باللبن والحليب، وهذه معجزة من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ الحسية، معجزة النبي صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ الكبرى هي القرآن الكريم معجزة عقلية علمية إلى قيام الساعة، لكن له معجزاتٌ حسيةٌ أيضاً، كنبع الماء من بين يديه، وإطعام الكثير بالطعام القليل، وهذه من معجزاته من بركاته صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، قال: (فَإِذَا هي حَافِلَةٌ، وإذَا هُنَّ حُفَّلٌ كُلُّهُنَّ) الأعنز الثلاثة مُمْتَلِئَةٌ بعد أن حُلِبَت بقليل، (فَعَمَدْتُ إلى إنَاءٍ لِآلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- ما كَانُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يَحْتَلِبُوا فِيهِ) يعني إناء كبير لا يطمعون أن يُملأ فلا يستخدمونه، (قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، اشْرَبْ) لا يريد أن يجيب، (قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، اشْرَبْ، فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي) يعني يريد أن يُشربه، (فَلَمَّا عَرَفْتُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قدْ رَوِيَ) شرب حتى روي، (وَأَصَبْتُ دَعْوَتَهُ) "اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَن أَطْعَمَنِي وَأَسْقِ مَن أَسْقَانِي" أصاب دعوته، (ضَحِكْتُ حتَّى أُلْقِيتُ إلى الأرْضِ) من شدة الضحك ألقي المقداد إلى الأرض، (إحْدَى سَوْآتِكَ يا مِقْدَادُ) قال شراح الحديث: المعنى الأرجح أنه قال: (إحْدَى سَوْآتِكَ) يعني هذا الذي أضحكك هو سوءةٌ فعلتها، يعني لو ما أنك فعلت شيئاً لما ضحكت هذا الضحك، هناك شيء، وقيل لعله عندما ألقي إلى الأرض كشفت سوءته، كشف شيءٌ من فخذه فقال: (إحْدَى سَوْآتِكَ) انتبه، وكلاهما صحيح لكن الأول أرحج في أقوال شراح الحديث، (كانَ مِن أَمْرِي كَذَا وَكَذَا وَفَعَلْتُ كَذَا) شرح له ما حصل معه تماماً، (فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ما هذِه إلَّا رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ) أن هذه الأعنز أصبحت حُفَّلاً كلها في هذا الوقت القصير، (أَفلا كُنْتَ آذَنْتَنِي) أعلمتني، (فَنُوقِظَ صَاحِبيْنَا فيُصِيبَانِ منها، فَقُلتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ، ما أُبَالِي إذَا أَصَبْتَهَا وَأَصَبْتُهَا معكَ مَن أَصَابَهَا مِنَ النَّاسِ) يعني المهم أنني أصبت دعوتك يا رسول الله فما عدت أفكر من سيصيب معنا، يتكلم ما بداخله بصراحة، ما دمت أصبت دعوتك المباركة فما عدت أبالي ولم أعد أذكر أن أوقظ أحداً، هذه الصراحة.

إكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ومقاسمته لهم طعامه
إخواننا الأحباب: هذا الحديث في صحيح مسلم وأنا أريد أن أعقب عليه بتعقيبات، وكلها فوائد ودروس وعبر لكن أريد أن أنتقي بعض الفوائد، انتقيت منها أولاً: إكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ومقاسمته لهم طعامه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:

وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
(سورة الحشر: الآية 9)

الإسلام هو الخلق
قال بعض كُتاب السيرة في مقدمة كتابه: يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، يا من زكيت سيادة العقل، ونهنهت غريزة القطيع، ثم قال: يا من هيأك تفوقك لتعيش واحداً فوق الجميع فعشت واحداً بين الجميع. فالنبي صلى الله عليه وسلم عاش مع أصحابه واحداً منهم يقاسمهم همومهم، كان إذا دخل الرجل إلى مجلسه يقول: أيُّكم محمد؟ لم يكن له مجلسٌ خاصٌّ، ولم يكن له خدمٌ وحشمٌ، كان يعيش بين أصحابه فبهذا الخلق العظيم فتح النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الدنيا ووصلت راياتهم مشارق الأرض ومغاربها، فالإسلام هو الخلق، والله تعالى لما خاطب نبيه قال:

وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ
(سورة القلم: الآية 4)

وفي محمدٍ صلى الله عليه وسلم من جمال الصورة والقيادة والحنكة والخبرة والوحي الذي يوحى إليه، وفيه من كل الخصال التي وهبها الله تعالى لبشر فيه من كلٍّ منها نصيبٌ وأعظم وأوفر نصيب، لكنه تعالى لما أراد أن يمتدحه امتدحه بخلقه العظيم، ولم يقل له: إنك ذو خلقٍ عظيم، بل قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} فهو متمكنٌ صلى الله عليه وسلم من الخلق، قد يكون إنسانٌ ذا خلق لكن نفسه تنازعه أحياناً إلى أن يستأثر بشيءٍ لنفسه فهو ذو خلق، لكن النبي كان على خلق فقد كان متمكناً من الأخلاق، لا تنازعه نفسه إلى شيءٍ من نصيب الدنيا، وإنما كان يؤثر أصحابه على نفسه، فلما جاؤوا إليه أخذهم إلى أهله فوراً، واقتسم معهم هذا الحليب على قلته فقال: نقتسمه بيننا.
فأيها الكرام: هناك مقولة: "الدين المعاملة" هي ليست حديثاً لكنها جرت على ألسنة الناس وهي صحيحة، الدين المعاملة، فالناس لا يتعلمون بآذانهم ولكنهم يتعلمون بعيونهم، بالقدوة، بالأسوة

لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
(سورة الأحزاب: الآية 21)

الدين في التعامل مع الناس
فالدين المعاملة صحيح، المسجد أيها الأحباب؛ هو مكانٌ تأتي إليه من أجل أن تأخذ التعليمات وتعود إليه من أجل أن تأخذ الجائزة والمكافأة من الله لكن الدين في متجرك، لكن الدين في معاملتك مع الناس، بين أهلك وأولادك، (خَيْرُكُمْ خَيْرَكُمْ لأهلِهِ).

{ خَيْرُكُمْ خَيْرَكُمْ لأهلِهِ وأنا خَيْرُكُمْ لأهلِي وإذا ماتَ صاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ }

(رواه الترمذي)

فالنبي صلى الله عليه وسلم ملك القلوب بأخلاقه، أعطى ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم، عاش للناس ولم يعش الناس له، هذا الأمر الأول.

التمكين لا يكون إلا بعد الابتلاء
الأمر الثاني أيها الأحباب: لما قال المقداد: (وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مِنَ الجَهْدِ) فهذا يوحي إلى أن النصر والتمكين لا يمكن أن يكون إلا بعد الابتلاء والامتحان والاختبار، يستحيل، هي سنَّة الله في الأرض.
لن تمكن قبل أن تبتلى
الإمام الشافعي رضي الله عنه لما سئل: ندعو الله بالتمكين أم بالابتلاء؟ لم يقل بالتمكين ولم يقل بالابتلاء، كان جوابه عظيماً، قال الشافعي: "لن تمكن قبل أن تبتلى" ادعو بما شئت، أنت حر، بل إن الأفضل أن يدعو الإنسان الله بالعافية دائماً، سلوا الله العافية، لكن لن تمكن قبل أن تبتلى، يعني مثل طالب قال لك: أدعو الجامعة أن تنجحني أم أن أدخل الامتحان؟ تقول له: لن تنجح قبل أن تمتحن، أنت أطلب من الجامعة ما شئت لكن الجامعة لا يمكن أن تعطيك الشهادة قبل أن تمتحنك، والله عز وجل لا يمكن أن يعطينا جنةً عرضها السماوات والأرض قبل أن يمتحننا، هذه سنَّة الله في الأرض، فلنوطِّن أنفسنا أننا ممتحنون، مبتلون، لا بد من الابتلاء.

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
(سورة الملك: الآية 2)

هذه علة وجودنا في الحياة، خيارنا مع الابتلاء ليس خيار قبول أو رفض، لكنه إلزامي لا بد من الابتلاء، فلنوطن أنفسنا على أن ننجح في الاختبار، في كل يوم نختبر ونبتلى ونمتحن.

{ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ }

(رواه البخاري)

يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، قد يتخيل واحدٌ منا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: بلى، ووقف فوراً وهو بجوار كعبة الله، وقال: يا رب انصرنا، يا رب مكن لنا، لكن محمداً صلى الله عليه وسلم لعله لمح في نبرة كلام خباب أن اليأس قد بدأ يتسلل إلى النفوس، فجاء مترعاً بآلامه يقول: (أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو لَنَا؟) بدأ شيءٌ من اليأس يتسلل إلى النفوس، فالنبي صلى الله عليه وسلم احمر وجهه وغضب، انظر إلى قوله تعالى:

خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ
(سورة الأنبياء: الآية 37)

العجلة من طبع الإنسان
هو من طبعه يحب الشيء العاجل فهو لما يترك العاجل ويختار الآجل وهو الجنة يرقى عند الله، ولما يُقبل على العاجل وينسى الآجل يهبط عند الله، {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} تتمة الآية: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} إذاً التكليف ألا نستعجل أنا أتكلم هذا الكلام اليوم بسبب الشدائد التي تحيط بالمسلمين وبسبب أن أمم الأرض قد تكالبت علينا، وبسبب أن هناك حرباً عالميةً ثالثةً معلنةً ضد الإسلام والمسلمين، نسأل الله السلامة، قد تسلل بعض اليأس إلى بعض النفوس فأصبح اليوم لسان الناس متى نصر الله؟ أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو لَنَا؟ لا يخفى أننا قصرنا كثيراً وأننا ندفع سبب تقصيرنا اليوم، هذا لا يخفى على عاقل، نحن قصرنا فندفع اليوم ثمن التقصير، لكن في الوقت نفسه هذه سنَّة الله في الأرض.

وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
(سورة آل عمران: الآية 140)

فأنت قبل أن، ليس أنت، لكن هذا المتكلم، قبل أن يسيء الظن بربه، اقرأ قوانين الله عز وجل، اقرأ سننه، هو قال لك: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} هو قال لك: أن هناك سنَّةً في مدافعة الحق بالباطل، لا بد منها في كل عصر وفي كل وقت (وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}.
فإذاً أيها الأحباب: الصبر ثم التمكين، والإمامة في الدين موروثةٌ عن الصبر يأتي بعده الإمامة والتمكين

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
(سورة السجدة: الآية 24)

فلا بد من الصبر حتى يأتي التمكين.

الصبر مع الطاعة والصبر مع المعصية
أيها الإخوة الكرام: لكن ليس الصبر مع المعصية، الصبر مع المعصية ليس بعده إلا القبر، لكن الصبر مع الطاعة بعده النصر وبعده إن شاء الله الفرج العظيم من الله، الصبر مع الطاعة

وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا
(سورة آل عمران: الآية 120)

الصبر مع الطاعة طريق النصر
أما إنسان مقيم على المعاصي ويقول لك: أنا صابر، هذا ليس صبراً، هذا خنوع، الصبر مع الطاعة، ننفذ أمر الله ونأتي ما أمر ونبذل جهدنا في تحقيق مراد الله تعالى منا ونصبر على ما يصيبنا، فالصبر مع الطاعة نصرٌ، والصبر مع المعصية قهرٌ، نريد صبراً مع الطاعة لا صبراً مع المعصية.

الذوق النبوي الرفيع
ربط التدين بالابتعاد عن الأذواق
أيها الإخوة الأحباب: الأمر الثالث في هذا الحديث الشريف: هو الذوق النبوي الرفيع، من ما يزعج المرء أن بعض الناس يربطون التدين مع البعد عن الأذواق، وهذا ساهم فيه الإعلام بشكل أو بآخر، فبعض المسلسلات يعني إذا أرادت أن تصور الشيخ صورته على أنه بعيدٌ عن الأذواق العامة في بيته وخارج بيته ومع أولاده وفي تعامله، فإذا جاؤوا إلى إنسان متفلت وزوجته غير محجبة وغير منضبطة يصورونه على أنه شخص له مكانة في المجتمع وكذا، هذا ساهم فيه الإعلام بشكل واضح ومعروف، لكن لماذا هذا الربط؟ الدين كله أذواق، بل أنه لو بحثت في سنّة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت من أذواقه في تعامله ولوجدت من أذواقه في تعاطيه مع الناس ما لا تجده في أكثر البروتوكولات اليوم بما يسمى الإتيكيت، كله ذوق صلى الله عليه وسلم، يعني لما كان يصل صلى الله عليه وسلم ما كان هناك خليوي، اليوم يتصل بزوجته يقول: أنا قادم غداً إن شاء الله من السفر ، لم يكن هناك إتصالات نهائياً، فكان على أعتاب المدينة يخيم صلى الله عليه وسلم ويبعث الرسل يخبرون النساء بأن الجيش قد وصل، ثاني يوم يدخل، أليس هذا ذوقاً عظيماً؟

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
(سورة الحجرات: الآية 4)

هل من الذوق أن يقف الإنسان اليوم بسيارته ويطلق زمور السيارة حتى ينزل أهله من الطابق الثاني أو الثالث يعلمهم من خلال الزمور ويفسد على الناس؟!

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
(سورة المجادلة: الآية 11)

من ذوق النبي الكريم في أكل التمر
أليس هذا قمةٌ في الذوق؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم لن تجد في أذواقه، كان إذا أكل التمر صلى الله عليه وسلم، كما ورد، يأكل التمرة الآن يريد أن يخرج منها النواة فلا يضعها في يده كان يضعها على ظاهر كفه حتى إذا أراد أخذ التمرة الثانية ووجدها غير مستوية يحتاج وحدة أخرى فلا يمسك واحدة ويبقى عليها أثر لعابه، كان يضع النوى على ظهر يده، هذه أذواق النبي صلى الله عليه وسلم، ولو رحت أعدد لكم من أذواقه في تعامله مع الناس والله لما وسع مجلس ولا مجالس، فهنا لما كان يدخل كان يسلم سلاماً لا يوقظ النائم لكنه يسمع اليقظان، هذا من أذواقه صلى الله عليه وسلم، دخل والناس نيام، أصحابه نيام، فسلامه يكون بصوتٍ منخفض بحيث يسمع ويؤدي السنَّة ويسمع الموجودين لكن في الوقت نفسه لا يوقظ إنساناً قد نام ويزعجه، لا يقول أنا النبي وله أن يقول السلام عليكم بأعلى صوته، لا، لا يفعلها صلى الله عليه وسلم، فهذا من الأذواق.

أساليب الشيطان
أيضاً من الأمور المهمة أيها الإخوة في هذا الحديث: هو أساليب الشيطان، الشيطان من أساليبه أنه يسول للإنسان المعصية ثم يندمه عليها، طبعاً لسنا الآن بصدد أن المقداد عصى، المقداد عطشان لكن الشيطان أوهمه وكبرها في عينيه، لكن بشكل عام قالَ: ثم نَدَّمَنِي الشَّيْطَانُ، فهم الرسالة المقداد، فهو الشيطان هكذا يفعل، هو يستجر الإنسان إلى المعصية فلما يقع فيها يتبرأ منه يقول: أنا ليس لي علاقة.

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ
(سورة إبراهيم: الآية 22)

هذا أسلوب

إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
(سورة الحشر: الآية 16)

ايقاع الشيطان للإنسان في المعصية
هذا أسلوب الشيطان، يوقع الإنسان في المعصية ثم يتبرأ منه، من أجمل الأمثلة التي تفسر هذه الآية التي سمعتها من شيخنا الدكتور راتب جزاه الله خيراً، مثال مضحك، قال: رجل جاء إلى المخفر، وقال لرئيس المخفر: أنا نزلت في حفرة فيها مياه آسنة وكل ثيابي اتسخت، قال له رئيس المخفر: على من تشتكي؟ قال: على فلان، قال: هو ألقى بك في الحفرة؟ قال: لا والله، للأمانة هو لم يلقِ بي بالحفرة، قال: إذاً ماذا فعل؟ هل شهرَ مسدساً في رأسك وهددك أن تنزل؟ قال: لا والله، قال: هل صدمك بسيارته فوقعت؟ قال: لا والله، قال: إذاً لماذا تشتكي عليه؟ قال: والله كنت أمر فقال لي: انزل فنزلت، فيضحك عليه رئيس المخفر، لأنك كنت غير ملزم بالنزول، هو ليس له سلطانٌ عليك، فالشيطان يتكلم كلاماً منطقياً، قال: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) أنا ليس لي إلا أن وسوست فأنت فعلت أنا ليس لي علاقة، يعني والله الكلام يوجد فيه منطق، فنسأل الله السلامة، فمن أساليب الشيطان أنه يوقع الإنسان في المعصية ثم يندِّمه عليها.

خطوات الشيطان
ومن أساليبه أنه يخطو بالإنسان إلى المعصية خطوةً خطوةً، لذلك لم يقل الله تعالى: لا تتبعوا الشيطان، قال:

لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
(سورة النور: الآية 21)

تدرج الشيطان في دفع الإنسان للمعصية
لأن الشيطان يعلم أن هذا المؤمن لو قلت له: اسرق لن يقبل، فيبدأ معه بمعصيةٍ صغيرةٍ، ثم يثبته عليها وينقله إلى الأكبر فالأكبر حتى يوقعه، يعني لو قال له: زنا، مَعَاذَ اللَّهِ، كبيرة لا أفعلها، يقول له: صداقة بين الجنسين هذه حضارة ورقي وتقدم واليوم العالم كله انتهى من هذه الأمور فالصداقة لا يوجد فيها شيء وبعد الصداقة موعد وابتسامة ولقاء ثم لقاء مع خلوة، ثم يقول لك: ما كان يخطر في بالي للحظة أن أقع في الفاحشة، ولكنها خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، فالشيطان يسير بالإنسان خطوةً خطوة، هذا من أساليبه أيضاً، ومن أساليبه الخسيسة أنه يزين العمل، العمل السيئ لا تقبله الفطرة السليمة، أي إنسان اليوم قل له:غش، يقول لك: مَعَاذَ اللَّهِ، الفطرة تنزعج من الغش، هو لا يحب أن يغشه الناس، قل له: كلام في أعراض الناس، يقول لك: مَعَاذَ اللَّهِ، هو يخاف على عرضه أصلاً، فما الذي يفعله الشيطان؟ يزين المعصية

وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ
(سورة النمل: الآية 24)

يعني يلبسها لبوساً جميلاً فيقول له: هذا ليس خمراً هذه مشروبات روحية، وهذا ليس تفلتاً من منهج الله هذا تحضر، وهذا الربا ليست ربا كما تفهمه فوائد وهذا ليس مثل ما كان يفعله اليهود، لا هذه بنوك حضارية، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ ليشرَبنَّ ناسٌ من أمَّتي الخمرَ يُسمُّونَها بغيرِ اسمِها، يُعزَفُ علَى رءوسِهِم بالمعازفِ، والمغنِّياتِ، يخسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأرضَ، ويجعَلُ منهمُ القِرَدةَ والخَنازيرَ }

(صحيح ابن ماجه)


تسمية الأشياء بغير مسمياتها
الشيطان يزيِّن للإنسان عمله
يعني تنبأ صلى الله عليه وسلم بقدوم مثل هؤلاء الذين يسمون الأمور بغير مسمياتها، لا يا أخي، وإذا كان نفاق يقول له: هذه لباقة اسمها، وإذا ظهر ذو وجهين لبق ما شاء الله يستطيع تدبير نفسه، وإذا كان مرتشي؛ هذا يعرف كيف يتدبر أمره، يعرف كيف يعيش في هذا الزمن، فيسمي الأشياء بغير مسمياتها، هذا معنى التزيين، أن يزين للإنسان عمله، تماماً كأن تأتي بقمامة وتضعها في علبة هدية وتلفها بشريطة حمراء، وهي ما زالت قمامة، لكن المظهر فقط تغير، كان يوم يأكل الناس الربا منظر المرابي تقشعر منه الأبدان، شخص قميء أسلوبه بالتعامل سيء جداً، تدفع أم تربي، يعني أنت تشمئز منه عندما تراه للمرابي، ويكرهه الناس ولكن أحياناً يضطرون للتعامل معه، يعني للحاجة والفقر، ثم يأخذ أموالهم وهم يدعون عليه ليل نهار، فأصبح اليوم يتعامل بالربا مع التكييف، وأهلا وسهلاً أستاذ، وباب جرار، ولباس رسمي، وكل شخص اسمه على صدره من أجل أن تتكلم معه بلباقة، ويأكل الربا ويؤكلك الربا وتخرج وأنت مرتاح تماماً، إذاً المشكلة أن تسمى الأشياء بغير مسمياتها، الإنسان قد يعصي الله لكن أرجوكم أن تعلموا الناس أن لا نسمي الأشياء بغير مسمياتها، الربا ربا، والخمر خمر، والاختلاط الغير المنضبط بمنهج الله هو شيء سيء جداً أدى إلى مفاسد اجتماعية عظيمة، وكل شيء حرمه الله إنما حرمه لمصلحة، وكل شيء أحله الله إنما أحله لمصلحة فلا نسمي الأشياء بغير مسمياتها.

التعامل بلين ولطف مع المؤمنين
المؤمن ليِّنٌ وسهلٌ مع أخيه المؤمن
أيها الإخوة الأحباب: هذه أساليب الشيطان، أيضاً من الأمور التي في الحديث: النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك ينبغي أن يكون المؤمن فهو أسوةٌ لنا صلى الله عليه وسلم كان يغض الطرف عن بعض حقوقه، فلما جاء ولم يجد الشراب لم يقل أين نصيبي؟ أين ذهبتم بشرابي؟ وإنما قال: (أَشَرِبْتُمْ شَرَابَكُمُ اللَّيْلَةَ؟) فهو يسأل عن أصحابه صلى الله عليه وسلم، يغض طرفاً عن بعض حقوقه، (أَشَرِبْتُمْ شَرَابَكُمُ اللَّيْلَةَ؟) يطمئن عليهم، وهو قد فاته الشراب ولم يجده، والمؤمن لا أقول يتنازل عن حقوقه بل المؤمن عزيز النفس يطالب بالحق لكن عندما يكون مع إخوانه المؤمنين يكون هيناً ليناً سهلاً، فيغض طرفاً عن حقوقه

أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
(سورة المائدة: الآية 54)

أما للأسف الشديد اليوم على وسائل التواصل وكذا قلبنا الآية فتجده مع أعدائه، سامحوني بهذه الكلمة، يسمونه اليوم: مسلم لطيف، يعني بسيط جداً وسهل، وكله كما تريدون ويتنازل عن الحقوق وعن المبادئ وعن القيم من أجل التعايش وإرضاءً للآخرين وإلخ..، ثم إذا وجدته مع أخيه المؤمن فبمجرد أن يسمع شيء خطأ يعني لا يبقي ولا يذر في وسائل التواصل وهو يُشَهِّر به: انظروا ماذا قال فلان، يا أخي هذا أخوك، الأعداء سلموا منك ألا يسلم منك أخوك المؤمن؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم يتنازل عن بعض حقوقه بين إخوانه لكن عندما يكون في أخلاق المعركة وأخلاق الحرب شيء آخر، نحن مشكلتنا أننا دمجنا بين أخلاق السلم وأخلاق المعركة، أخلاق السلم:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
(سورة النحل: الآية 125)

الجدال بالتي هي أحسن
كائناً من كان هذا الإنسان (جَادِلْهُم) لم يقل بالحسنى قال: (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني إذا كان هناك كلمتان كلاهما خير، لكن هناك واحدةٌ أحسن من الأخرى فقل الثانية ولا تقل الأولى، لأن المجادل أحياناً يرتبط في ذهنه أن فكرته متعلقةٌ بشخصه، فإذا تنازل عن فكرته يظن أنه قد تنازل عن كرامته، فأنت قل له: التي هي أحسن (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) لكن هذه أخلاق السلم، أخلاق الحرب:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
(سورة التوبة: الآية 73)

هذه في الحرب لا نخلط أخلاق السلم مع أخلاق الحرب، الحرب لها أخلاق والسلم لها أخلاق، فنحن في السلم الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لكن دون التنازل عن الثوابت والمبادئ والقيم

وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا
(سورة الإسراء: الآية 73)

فالأعداء همهم أن تتنازل حتى يضموك إليهم ويقولون أصبح معنا، لا، لا نتنازل لكن نعاملهم (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

الدعاء لمن أسدى إليك معروفاً
ومن الأمور التي في الحديث: الدعاء لمن أسدى إليك معروفاً، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا له قبل أن يشرب صلى الله عليه وسلم قالَ: (اللَّهُمَّ، أَطْعِمْ مَن أَطْعَمَنِي، وَأَسْقِ مَن أَسْقَانِي).
يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

{ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ }

(صحيح أبي داود)

الهدية تدخل السرور إلى القلب
يعني معك شيء تكافئه كافئه بشيء مادي، ولو بهدية بسيطة تدخل السرور إلى قلبه، لم تجد شيئاً ادعو له حتى ترى أنك قد كافأته، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو لمن يعني يعطيه أي شيء فقال: (اللَّهُمَّ، أَطْعِمْ مَن أَطْعَمَنِي، وَأَسْقِ مَن أَسْقَانِي).

نصيبنا من دعوات رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أيضاً من الأمور المهمة المقداد سعى ليصيب دعوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما نصيبنا نحن من دعوات رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟، يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:‏ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا فَيُسْتَجَابُ لَهُ فَيُؤْتَاهَا وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ }

(صحيح مسلم)

الصلاة على رسول الله واتباع منهجه
فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعواته لم تنتهِ يا أحباب؛ هو حاضرٌ بيننا بهديه وبسنته صلى الله عليه وسلم، هناك دعوات عند رسول الله دعا بها لأمته، فنحن إن أردنا أن تصيبنا دعواته نكثر من الصلاة والسلام عليه ونتبع منهجه، لأنه يوم القيامة سيشرب المؤمنون ويكون فَرَطُهُمْ علَى الحَوْضِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا من يقال: انظروا ماذا أحدثوا بعدك؟ فيقول: سحقاً، سحقاً، نسأل الله أن نكون ممن يأتون إلى حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع منهجه وبالصلاة والسلام عليه، فأيضاً ينبغي أن يكون لنا دعوةٌ أو نصيبٌ من دعوات رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

{ عَن أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَتَى المَقبُرَةَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيكُم دَارَ قَومٍ مُؤمِنِينَ وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ بِكُم لَاحِقُونَ وَدِدتُ أَنَّا قَد رَأَينَا إِخوَانَنَا، قَالُوا: أَوَلَسنَا إِخوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنتُم أَصحَابِي، وَإِخوَانُنَا الَّذِينَ لَم يَأتُوا بَعدُ، فَقَالُوا: كَيفَ تَعرِفُ مَن لَم يَأتِ بَعدُ مِن أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَرَأَيتَ لَو أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَينَ ظَهرَي خَيلٍ دُهمٍ بُهمٍ أَلَا يَعرِفُ خَيلَهُ، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنَّهُم يَأتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن الوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُم عَلَى الحَوضِ، أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَن حَوضِي كَمَا يُذَادُ البَعِيرُ الضَّالُّ ؛ أُنَادِيهِم: أَلَا هَلُمَّ. فَيُقَالُ: إِنَّهُم قَد بَدَّلُوا بَعدَكَ، فَأَقُولُ: سُحقًا سُحقًا }

(رواه مسلم)


نسبة النعمة إلى المنعم
المؤمن ينسب النعمة إلى المنعم
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (ما هذِه إلَّا رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ) فقد نسب صلى الله عليه وسلم النعمة إلى المنعم، فلما حصلت لم يقل: هذه وهي كذلك، لم يقل: هذه من دعائي، ولا قال: هذه من كراماتي، ولا من معجزاتي، ولا من فضلي، وهي من فضله صلى الله عليه وسلم، لكنه يقول: هذِه رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ، هو سبب صلى الله عليه وسلم لكنه نسب النعمة إلى المنعم، والمؤمن ينسب النعمة إلى المنعم، فإذا أكرمه الله بشيء لا يقول: هذه بسبب عملي، أو بسبب ما فعلت، وإنما يقول: هذه محض فضلٍ من الله

ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ
(سورة الجمعة: الآية 4)

فينسب النعمة إلى المنعم، غير المؤمنين يعيشون مع النعمة فيزولون بزوالها، والمؤمن يعيش مع المنعم فيبقى ببقاء المنعم جل جلاله

وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ
(سورة الرحمن: الآية 27)

فالمؤمن مع المنعم، والمنعم حيٌّ باق، وغير المؤمن مع النعمة، والنعمة فانية فلا تنشغل بالنعمة، لا تنشغل بالنعمة، كُل من أرض الله، واطعم من خير الله، وتبوأ منصباً، وأعلِ كلمة الله في الأرض، وتاجر وحقق أرباحاً وتصدق وأطعم أهلك ووسع على نفسك وعلى عيالك، لكنك لا تعيش مع النعمة، وإنما قلبك معلقٌ بالمنعم، والنعمة وسيلةٌ تتخذها من أجل أن ترضي المنعم جل جلاله، أما من ينشغل في أرض الله بالنعمة عن المنعم فإنه سيفاجأ يوم القيامة بأن هذه النعمة قد زالت وبأنه سيرى الآن آثارها السلبية إن استغلها في معصية الله، والعياذ بالله.

{ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ }

(رواه البخاري ومسلم)


المؤمن يحب لأي إنسانٍ من الخير ما يحبه لنفسه
عامل الناس كما تحب أن يعاملوك
وآخر ما يقال في هذا الحديث الشريف: هو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) وهذه قاعدةٌ عظيمة، "عامل الناس كما تحب أن يعاملوك" وهذا ليس حديثاً أيضاً لكنه له دلالة في حديث رسول الله أن يحب أن يأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه أو كما قال صلى الله عليه وسلم، هناك حديث بمعنى عامل الناس، لكنها قاعدة مهمة، (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) فالنبي صلى الله عليه وسلم، أول ما قال: (أَفلا كُنْتَ آذَنْتَنِي فَنُوقِظَ صَاحِبيْنَا) وهو شربة حليب، وهم شربوا وناموا لكن لما أصابت هذه الرحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقداد أراد أن يصيبهم ما أصاب، وهذا شأن المؤمن فهو يتمنى لإخوته من الخير ما يتمنى لنفسه، وقالوا: (حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ) قالوا: قد تشمل أخاه في الإنسانية لأن المطلق على إطلاقه، فالمؤمن يحب أيضاً لأي إنسانٍ من الخير ما يحبه لنفسه حتى لو لم يكن مسلماً فيحب له الهداية ويحب له أن يكون خيِّراً وأن يكون معطاءاً، فما يجده من خير يحبه للآخرين وهذا شأن المؤمن.
أكتفي بهذه الدروس والعبر وأسأل الله عز وجل أن نقتدي بها وأن نستفيد منها وأن نتعلم منها، وبارك الله بكم جميعاً وشكر الله لكم حسن استماعكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.