• محاضرة في الأردن
  • 2020-08-04
  • عمان
  • الأردن

الصدق وأنواعه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
أحبابنا الكرام: حديثنا اليوم عن موضوعٍ قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أنه مقتصر على شيء محدد إلا أننا سنتناوله بعمومه وهو موضوع من أهم الموضوعات الأخلاقية وهو موضوع الصدق.
أحبابنا الكرام: الصدق إذا أُطلق تبادر إلى أذهان معظم الناس أنَّ له علاقة بالأقوال فإن حدثك فهو صادق، فيقال: هذا صادق لأنه لا يتكلم كذباً فإذا أخبر عن شيء أخبر صدقاً.

{ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإِيَّاكُمْ والْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا }

(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

النبي محمد كان الصادق الأمين
فيتبادر إلى معظم الأذهان أن الصدق له علاقة بالأقوال، فإن حدثك فهو صادق، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمى الصادق الأمين، وعندما أراد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أن يصف للنجاشي ملك الحبشة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ فينا رجلاً نعرف صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ وَنَسَبَهُ"، فجمع فضائل الأخلاق في ثلاث: أولها الصدق، يعني إن حدثك فهو صادق، والأمانة في التعامل، والعفة عند الشهوة، فإن حدثك فهو صادق، وإن عاملك بالدرهم والدينار فهو أمين، وإن استُثيرت شهوته فهو عفيفٌ عن المحرمات، "نعرف أَمَانَتَهُ وَصِدْقَهُ وَعَفَافَهُ وَنَسَبَهُ"، ويأتي النسب تاجاً على رأس هذه المكارم الثلاثة.

الصدق في النية
أحبابنا الكرام: الصدق له أنواع، أول نوع من أنواع الصدق هو الصدق في النية، هناك نيةٌ صادقةٌ وهناك نيةٌ بخلاف الصدق، صدق النوايا مهم جداً لأنه كما قيل: "نية المؤمن خيرٌ من عمله، ونية الكافر شرٌّ من عمله".
نية المؤمن أعظم من عمله
ما معنى ذلك؟ المؤمن نيته أعظم من أعماله فهو ينوي أن يطعم المساكين مثلاً ثم يمكنه الله من إطعام مسكينٍ واحدٍ وهو قد نوى أن يطعم عشرةً لكن إمكانيته أتاحت له أن يطعم واحداً لكن نيته أعظم من عمله، نيته أن يُهدى الخلق جميعاً إلى الله فيمكنه الله من أن يهدي على يديه رجلاً أو رجلين هذا العمل وتلك النية فنيته أكبر من عمله، بينما نية الكافر شرٌّ من عمله فهو ينوي أن يقتل مئةً فيقتل واحداً، ينوي أن يكذب على الخلق كلهم فلا يُمكِّنه الله إلا أن يكذب على شخصٍ واحدٍ مثلاً، فنية المؤمن خيرٌ من عمله ونية الكافر شرٌّ من عمله، أعجز إنسان هو الإنسان الذي لا ينوي، الذي لا يملك نيةً صادقةً هذا أعجز إنسان، لأنه في ديننا الأجر يؤخذ على النية، يبدأ أجرك يسري مع نيتك، فمتى نويت أُجِرت، فالعاجز هو الذي لا ينوي، يعني لو أن إنساناً نوى أن يقوم الليل لكنه لم يستطع لظرفٍ أو لآخر، مرض أو تعب جداً فنام فلم يقم، أخذ أجر القيام.
إذاً العاجز هو الذي لا ينوي الخير، أما المؤمن دائماً ينوي الخير، لا أقول ينوي الخير ويتقاعس عنه، ينوي ثم يبذل جهده إما أن يدرك أو لا يدرك لكنه أخذ الأجر بمجرد نيته، يعني من العجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذهب في غزوة تبوك، كانت المسافة بعيدة عن المدينة وحر شديد وعدو غاشم يعني تجمعت لها كل أسباب التعب والإرهاق فبعد أن قطع مسافةً وكاد يصل إلى تبوك يقول لأصحابه:

{ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فَقَالَ: "إِنَّ أَقْوَامَاً خلْفَنَا بالمدِينةِ مَا سَلَكْنَا شِعْباً وَلاَ وَادِياً إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ" }

(رواه البخاري ومسلم)

هم نووا الخروج لكنهم لم يستطيعوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: كانُوا مَعكُم، لذلك النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقول:

{ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ" }

(رواه البخاري ومسلم)

إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ
يعني إنما أداة قصرٍ وحصرٍ، العمل بالنية فقط، سأضرب مثلاً كيف العمل بالنية؛ (إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)، لو أنك جئت بكاميرا (مصورة) وأخفيتها في شجرة، كاميرا خفية يعني، ووضعت في الأرض خمسين ديناراً وجاء شخصٌ رأى هذه الخمسين فأخذها ووضعها في جيبه، جميل، وضعت خمسين أخرى، جاء رجل آخر وجد الخمسين في الأرض حملها ووضعها في جيبه، لو عرضنا الفلم على كل الناس العملان متشابهان أم لا ؟ متشابهان مئة بالمئة، شخص ينحني ويلتقط مبلغاً مالياً ويضعه في جيبه، هل تعلم أن الأول كان في نيته أن يأخذه لنفسه وأن الثاني كان في نيته أن يسأل عنه من صاحبه؟! إذاً الأعمال متشابهة، إذاً (إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) فمن أين اكتسب العمل قيمته هل من ظاهره أم من نيته؟ من نيته، لذلك أهم نوع من أنواع الصدق، صدق النوايا، فالإنسان عندما ينوي نيةً صادقةً أن يقوم لصلاة الفجر هذه نيةٌ يؤجر عليها ولو لظرفٍ أو لآخر لم يستطع أو استيقظ متاخراً، أو، أو، إلخ، هذا صدق النوايا أن تنوي نيةً صادقة أن تفعل الشيء ثم إن عجزت عنه لظرفٍ أو لآخر أو لعذرٍ أو لآخر فقد أخذت أجرك وكأنك فعلته، تجارة رائجة ورابحة جداً مع الله في النوايا الصادقة، هذا صدق النوايا.

الإيمان حركة
إخواننا الكرام:

{ عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ؟‏ فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم،‏ فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا هَذَا قَالَ: ‏"‏ قَسَمْتُهُ لَكَ ‏"‏ قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَا هُنَا وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ،‏‏ فَلَبِثُوا قَلِيلاً ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:‏ أَهُوَ هُوَ،‏‏ قَالُوا: نَعَمْ،‏ قَالَ:‏ صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ‏،‏ ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلاَتِهِ ‏"‏ اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ ‏"‏ }

(أخرجه النسائي)

(أُهَاجِرُ مَعَكَ؟)‏ يعني أنا جاهز للهجرة إن شئت، فوراً للحركة، قال تعالى:

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا
(سورة الأنفال: الآية 72)

الإيمان يلزمه حركة
يعني بالمعنى العام الذي يؤمن ولا يتحرك مبدئياً (مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍٰ) حتى يتحركوا لأن الإيمان حركة، أما الإيمان إذا كان مجرد اعتقاد بالفكر دون عمل بالأركان فيبقى ناقصاً، إيمان ناقص، فقال: (فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ أَصْحَابِهِ) يعني قال لهم: هذا الرجل انتبهوا له مسلم جديد يحتاج إلى رعاية، (فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ) إحدى الغزوات، (فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ) من غنائم المعركة أعطى لكل شخص حصته وجعل له حصة ولم ينسه صلى الله عليه وسلم مسلم جديد أراد أن يتألف قلبه بشيء فقسم له شيئاً من الغنائم، (فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ) يعني وكَّلهم بإيصاله؛ خذوا هذا لفلان، فَلَمَّا جَاءَ الرجل كان في غنمه يسعى رجع (قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) حصتك، (مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ) أنا لما اتَّبعتك على الإيمان لم أتَّبعك من أجل حصة من الغنيمة تصلني، (وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَا هُنَا وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ) أنا اتبعتك على الجهاد في سبيل الله، اتبعتك على التضحية، أنا لست منتفعاً أنا أتيت لأقدم لأعطي لا لآخذ.

أثر النية الصادقة
إخواننا الكرام: ربنا عز وجل عندما قسم الفئات بالمؤمنين قال:

إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ
(سورة الليل: الآية 4)

يعني أنت في اليوم إذا عندك في الأرض ست مليارات عندك ست مليارات سعي، كل يوم صباحاً عندما يخرج الناس كل إنسان له سعي، يسعى إليه (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ) ثم ربنا عزَّ وجلَّ أراد أن يُقِّسم هذا السعي إلى زمرتين فقال:

فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ
(سورة الليل: الآية 5-6-7-8-9-10)

المؤمن يخرج للعطاء
فالسعي هذا على جميع أنواعه ينقسم إلى رجلين لا ثالث لهما، رجلٌ انطلق للعطاء، ورجلٌ انطلق للأخذ، أبداً، ولا أقول أن المؤمن لا يأخذ، كلنا بحاجة أن نأخذ، ولا يعطي الإنسان إلا إذا أخذ، لكن ما همك الأول عندما تخرج للحياة أن تعطي أم أن تأخذ؟ المؤمن يخرج للحياة ليعطي وكل ما يأخذه يستعين به على العطاء، وغير المؤمن يخرج للحياة ليأخذ ولا يعنيه أبداً أن ينطلق في العطاء، فقال: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ)، الحسنى: هي الجنة ،(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ)،(وَأَمَّا مَن بَخِلَ) لم يعطِ (وَاسْتَغْنَىٰ) عن طاعة الله لم يتقي الله، (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ) بالجنة ( فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ) أموره معسرة، فهذا الرجل أخذ الجانب الأول الرجل الأول وهو الرجل المعطاء فقال: (مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ) أنا استراتيجيتي ليست استراتيجية الأخذ، استراتيجيتي هي استراتيجية العطاء فأنا جئت لأعطي، وأعظم أنواع الجود الجودُ بالنفس، فقال: (عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَا هُنَا وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ). الآن تعقيب النبي صلى الله عليه وسلم وهو من أروع الأقوال، فقال صلى الله عليه وسلم:‏ (إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ) إذا كنت صادقاً في هذه النية فالله يكون صادقاً معك

وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ
(سورة النساء: الآية 122)

(إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)، قال: (فَلَبِثُوا قَلِيلاً) وقت قصير يعني، (ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:‏ أَهُوَ هُوَ؟ قَالُوا: نَعَمْ،‏ قَالَ:‏ صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ)‏.
أثر النية الصادقة
إخواننا الكرام: النية الصادقة تفعل الأفاعيل، والله قصص ليست من التاريخ قصص من الحاضر يقول لك: والله أنا نويت نية صادقة أن أبني لله مسجداً وربنا عزَّ وجلَّ وفقني وبنيت، أنا نويت نية صادقة أن أكفل عشرة أسر أو أسرتين أو ثلاث وربنا عزَّ وجلَّ وفقني ورزقني وكفلتهم، أنا نويت نية صادقة أن أقوم في هداية الناس وفي هداية الخلق وربنا عزَّ وجلَّ فَتَحَ عليَّ ويسَّرَ على لساني الخير وما كنت أعهد من نفسي لا طلاقةً في اللسان ولا علماً لكن الله عزَّ وجلَّ أخذ بيدي.

أمثلة عن أثر النية الصادقة
كان شيخنا الدكتور راتب النابلسي يقول لي: عندي نيتين صادقتين، أنا هذه أذكرها لأنها حدثت معي، يقول لي: عندي نيتين أتمناهما من قلبي، هذه القصص قديمة من عشرات السنين.
نشر دروس جامع النابلسي
النية الأولى: أن ينشر الله هذه الدروس، كنا في المسجد النابلسي يسجل الشيخ الدروس على الكاسيت القديم(الشريط)، وتخزن في صناديق في غرفة بالمسجد، أنا رأيتها بعيني، تخزَّن، يقول لي: أنا توجد عندي نية لكن كيف والله لا أعرف، الأوضاع العامة لا يوجد إعلام إسلامي ضمن نطاق الموجودين فيه، ثم في ليلةٍ وضحاها عن طريق إذاعة ليس لها علاقة في الأصل بالبث الإسلامي بدأت تبث الدروس صباحاً وظهراً ومساءً وليلاً وتعيدها وصرت إذا مشيت في شوارع دمشق وحلب والأردن وفلسطين تسمع هذه الإذاعة يصدح صوتها ليل نهار بهذه الدروس، قال لي: فقط أنا كنت أنوي، والدروس فقط نسجلها ونضعها في المسجد، وليس عندي أي سبيل أو أي خطة كيف أفعل.
والنية الثانية: كان يقول لي: أتمنى أن يعلَّم هؤلاء الأطفال الدين، أيضاً في ليلةٍ وضحاها، والله يعني لو أروي لكم التفاصيل، في ليلةٍ وضحاها إذ بمعهد للقرآن وثانوية شرعية وموافقات لم تخطر على بال وأصبح المسجد يرتاده الألوف من الأطفال ومن الكبار لتعلم العلوم الشرعية، يقول: عندي هاتين النيتين، وربنا عزَّ وجلَّ أعطاه ما نوى.
فأحبابنا الكرام: الإنسان لا ينبغي أن يعجز أن ينوي، أعجز العاجزين من يعجز عن النية، لأن الله يأجرك عندما تنوي.
" انوِ الخير ، فإنك لا تزال بخيرٍ ما نويت الخير "
{ الإمام أحمد ابن حنبل }

قصة ضِمامَ بنَ ثعلبةَ
أحبابنا الكرام قصة ثانية:

{ بعثَتْ بنو سعدِ بنِ بَكْرٍ ضِمامَ بنَ ثعلبةَ وافدًا إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقدِمَ عليهِ وأَناخَ بعيرَهُ على بابِ المسجدِ ثمَّ عقلَهُ ثمَّ دخلَ المسجدَ ورسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ جالسٌ في أصحابِهِ وَكانَ ضِمامٌ رجلًا جلدًا أشعرَ ذا غديرتَينِ فأقبلَ حتَّى وقفَ على رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في أصحابِهِ فقالَ: أيُّكمُ ابنُ عبدِ المطَّلبِ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: أَنا ابنُ عبدِ المُطَّلبِ، قالَ: محمَّدٌ؟ قالَ: نعم، فقالَ: ابنَ عبدِ المطَّلبِ إنِّي سائلُكَ ومُغلِّظٌ في المسألةِ فلا تجدنَّ في نفسِكَ، قالَ: لا أجدُ في نفسي فسَلْ عمَّا بدا لَكَ، قالَ: أنشدُكَ اللَّهَ إلَهَكَ وإلَهَ من كانَ قبلَكَ وإلَهَ من هوَ كائنٌ بعدَكَ آللَّهُ بعثَكَ إلينا رسولًا؟ فقالَ: اللَّهمَّ نعم، قالَ: فأنشدُكَ اللَّهَ إلَهَكَ وإلَهَ من كانَ قبلَكَ وإلَهَ من هوَ كائنٌ بعدَكَ آللَّهُ أمرَكَ أن تأمرَنا أن نعبدَهُ وحدَهُ لا نشرِكُ بِهِ شيئًا وأن نخلعَ هذِهِ الأندادَ الَّتي كانت آباؤُنا يعبدونَ معَهُ؟ قالَ: اللَّهمَّ نعم، قالَ: فأنشدُكَ اللَّهَ إلَهَكَ وإلَهَ من كانَ قبلَكَ وإلَهَ من هوَ كائنٌ بعدَكَ آللَّهُ أمرَكَ أن نصلِّيَ هذِهِ الصَّلواتِ الخمسَ؟ قالَ: اللَّهمَّ نعم، قالَ: ثمَّ جعلَ يذكرُ فرائضَ الإسلامِ فريضةً فريضةً الزَّكاةَ والصِّيامَ والحجَّ وشرائعَ الإسلامِ كلَّها يُناشِدُهُ عندَ كلِّ فريضةٍ كما يُناشِدُهُ في الَّتي قبلَها، حتَّى إذا فرغَ قالَ: فإنِّي أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ وسأؤدِّي هذِهِ الفرائضَ وأجتنِبُ ما نَهَيتَني عنهُ ثمَّ لا أزيدُ ولا أنقصُ، قالَ: ثمَّ انصرفَ راجعًا إلى بعيرِهِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: حينَ ولَّى إن يصدُقْ ذو العَقيصتَينِ يدخلِ الجنَّةَ، قالَ: فأتَى إلى بعيرِهِ فأطلقَ عقالَهُ ثمَّ خرجَ حتَّى قدِمَ على قَومِهِ فاجتمَعوا إليهِ فَكانَ أوَّلَ ما تَكَلَّمَ بِهِ أن قالَ: بئستِ اللَّاتُ والعُزَّى، قالوا: مَهْ يا ضِمامُ اتَّقِ البَرصَ والجُذامَ اتَّقِ الجنونَ، قالَ: ويلَكُم إنَّهُما واللَّهِ لا يضرَّانِ ولا ينفعانِ إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد بعثَ رسولًا وأنزلَ عليهِ كتابًا استنقذَكُم بِهِ ممَّا كنتُمْ فيهِ وإنِّي أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ وأنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ إنِّي قد جئتُكُم من عندِهِ بما أمرَكُم بِهِ ونَهاكم عنهُ، قالَ: فواللَّهِ ما أمسَى من ذلِكَ اليومِ وفي حاضرِهِ رجلٌ ولا امرأةٌ إلَّا مسلمًا، قالَ: يقولُ: ابنُ عبَّاسٍ فما سمِعنا بوافدِ قَومٍ كانَ أفضلَ من ضِمامِ بنِ ثعلبةَ }

(رواه الإمام أحمد)

(وأَناخَ بعيرَهُ على بابِ المسجدِ ثمَّ عقلَهُ) ربطه، عقل البعير أي ربطه، (وَكانَ ضِمامٌ رجلًا جلدًا) قوي البنية، (وكان أشعرَ ذا غديرتَينِ) يعني ضفيرتين في الشعر.
تواضع النبي عليه الصلاة والسلام
(فقالَ: أيُّكمُ ابنُ عبدِ المطَّلبِ؟) نسبةً إلى جده، هذا يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يعيش واحداً مع أصحابه فلما دخل الرجل لم يجد له هيئةً خاصةً ولا مجلساً خاصاً ولا متكأً خاصاً فهو واحدٌ بين أصحابه، وهذا شأن الأنبياء وليس شأن الحكام والملوك، (قالَ: محمَّدٌ؟) يريد أن يتأكد، (إنِّي سائلُكَ ومُغلِّظٌ في المسألةِ) سأسألك بغلاظة ليس بليونة، هكذا، أعرابي، (فلا تجدنَّ في نفسِكَ) لا تنزعج المسألة هكذا، (فسَلْ عمَّا بدا لَكَ) بكل بساطة (ثمَّ جعلَ يذكرُ فرائضَ الإسلامِ فريضةً فريضةً الزَّكاةَ والصِّيامَ والحجَّ وشرائعَ الإسلامِ كلَّها يُناشِدُهُ عندَ كلِّ فريضةٍ كما يُناشِدُهُ في الَّتي قبلَها، حتَّى إذا فرغَ) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: اللَّهمَّ نعم، (حتَّى إذا فرغَ قالَ: أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ) رجل منطقي عنده تساؤلات سألها واجه إجابات بسيطة مفهومة بلغته كأعرابي وواجه معها نوراً من وجه محمدٍ صلى الله عليه وسلم وقوة الحق وبراعة الموقف وهو قد أوتيَ الحكمة صلى الله عليه وسلم وأوتيَ فصل الخِطاب فاستجاب، يبدو أنه لا مصالح لأن المصالح هي التي تُعمي، لكن يبدو أن الرجل متجرد للحق، استجاب، (ثمَّ انصرفَ إلى بعيرِهِ) يريد أن يعود، أسلم ويريد أن يعود، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، هنا موطن الشاهد، قال: (إن يصدُقْ ذو العَقيصتَينِ) الضفيرتين، (إن يصدُقْ ذو العَقيصتَينِ يدخلِ الجنَّةَ) هو الآن تكلم الرجل لكن هل هذا الكلام فيه صدق في النية أم مجرد كلمات تقال؟! هنا الموضوع، فقال: (إن يصدُقْ ذو العَقيصتَينِ يدخلِ الجنَّةَ)، (ثم قدِمَ على قَومِهِ) ضمام، (بئستِ اللَّاتُ والعُزَّى) ضمام صاحب فقه، والفقه يقول: ينبغي أن تهدم قبل أن تبني، الهدم غير محبذ إلا للأفكار الفاسدة والعقائد البالية، نحن نبني دائماً إن شاء الله، لكن هل الهدم مطلوب؟ نعم، عندما تكون النفوس متعلقة بالسوء لا بد من صدمة تحدث مشكلة عند الإنسان يختل توازنه فتبني له البناء الصحيح، أما هؤلاء القوم متعلقون باللَّات والعُزَّى ويعبدونهم من دون الله فلو بدأ وقال: اعبدوا الله وقلوبهم معلقة باللَّات والعُزَّى لم يستفد شيئاً، قال تعالى:

فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ
(سورة البقرة: الآية 256)

الطاغوت كل ما عُبد من دون الله
فلا بد من الكفر بِالطَّاغُوت قبل الإيمان بالله، والطاغوت هو كل ما عُبد من دون الله من طواغيت الأرض، (فقال: بئستِ اللَّاتُ والعُزَّى) انظروا إلى تعلقهم (قالوا: مَهْ) يعني اكفُف، مَهْ: اسم فعل أمر بمعنى اكفُف، (اتَّقِ البَرصَ والجُذامَ اتَّقِ الجنونَ) يعني هذه الأصنام إن أنت سببت الآلهة؛ هم يعتبرونها آلهة، سوف يصيبك أمراض البَرصَ والجُذامَ والجنونَ، (ويلَكُم إنَّهُما واللَّهِ لا يضرَّانِ ولا ينفعانِ) إنَّهُما: اللَّاتُ والعُزَّى، لا يضرَّانِ ولا ينفعانِ، الآن مازال في الهدم، هدم الأفكار البالية، ثم بدء بالبناء، قال: (فواللَّهِ ما أمسَى من ذلِكَ اليومِ وفي حاضرِهِ رجلٌ ولا امرأةٌ إلَّا مسلمًا) أسلم قومه جميعاً من الرجال والنساء بليلة واحدة لأنه كان صادقاً، لأنه صدق، لما تكلم تكلم بصدق ولما عاد عاد بصدق.
الصدق إخواننا الكرام؛ يبني والصدق يعطي عطاء كبير جداً، النوايا الصادقة، الأقوال الصادقة، الأعمال الصادقة وحتى الأحوال الصادقة.

قصة إسلام أسيد بن حضير
السفير الأول في الإسلام
يوم جاء أسيد بن حضير، صحابي من صحابة رسول الله، كان مشركاً، دخل وقد سمع أن مصعب بن عمير يدعو الناس إلى الإسلام، ومصعب بن عمير كان الداعية الأول قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، كان السفير الأول في الإسلام، فمصعب كان يعلم الناس القرآن في المدينة، فلما سمع به أسيد بن حضير قال: يفسد علينا الناس؟ والله لأفعلن وأفعلن، فجاء غاضباً، فأسعد بن زرارة قريب لمصعب بن عمير ابن خالته، قال: هذا أسيد بن حضير قادم، قال: قم إليه فاصدق الله فيه، قم إليه بصدق، اصدق الله فيه، يعني كن صادقاً مع الله بنية حقيقية بأن تهديه إليه، لا تبتغي بذلك لا أجراً ولا شكوراً ولا سمعةً ولا رياءً، اصدق الله فيه، فقام بصدق وجهز نفسه له، فلما جاء أسيد بن حضير قال: تفعلون وتسفِّهون وتفسدون علينا صبياننا، قال: أنت رجل ذو عقل ولك رأيٌ وحصافة فاجلس واسمع فإن وجدت خيراً أخذته وإن لم تجد تركناك وما تريد، ولكن اسمع أولاً، فلما سمع أعجبه الكلام فأسلم، بالصدق، فقال صاحبه لما رجع جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به، دخل بوجه ورجع بوجه، وأسلم أسيد بن حضير، فالقضية لم تكن في الكلمة وإنما في صدق الكلمة.

الصدق في الكلام
الصدق مع الأولاد
اليوم الكلام كثير لكن الصدق في الكلام قليل، أن يكون الإنسان صادقاً فيما يقول، لا أعني بصادق بأنه يخبر بخلاف الحقيقة أو وفق الحقيقة، هذا صدق الأقوال، ولكن أن يقول الكلمة وهو معتقدٌ بها ينوي بها الخير حقيقةً لا يبتغي بها إلا وجه الله هذا الصدق في الكلام، حتى مع أولادنا كن صادقاً في الشيء.
الآن عندما تكون صادقاً في تعليم ابنك اللغة الإنكليزية، تُعلِّمه، يوجد صدق حقيقي، وتجد من الشاب أو من الولد صدق، تجده في فترة وجيزة تعلَّم اللغة، طيب إذا كنت صادق في تعليمه القرآن؛ يَتَعَلَّم القرآن، وإذا كنت صادق في حمله على الصلاة؛ أَحمِلُه على الصلاة، لأن الإنسان عندما يصدق بالشيء يتخذ له كل الوسائل الممكنة حتى يحققه، أما عندما يكون الأمر مجرد كلام، تجد الأمور التي نصدق فيها نحققها

وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ
(سورة إبراهيم: الآية 34)

ربنا كريم، الإنسان يصدق في تجارته فيحقق ربحاً، يصدق في معاملته مع الناس فيحقق سمعةً، يصدق في تربية أولاده فيحقق لهم شيئاً، المهم أن يكون الأمر صادر عن إرادة وإيمان، قالوا: "إن القرار الذي يتخذه الإنسان في حق نفسه قلما تنقضه الأيام إذا كان صادراً حقاً عن إرادةٍ وإيمانٍ".
إخواننا الكرام: فالصدق كما قلنا في النوايا مهم جداً، الصدق في الأقوال أن يخبر بوفق الحقيقة لا بخلافها، والصدق في الأعمال بمعنى أن يكون العمل مخلصاً لا يبتغي به إلا وجه الله تعالى، هذا صدق، يعني هناك من يصلي صادقاً وهناك من يصلي كاذباً، من يصلي كاذباً يصلي رياءً، ومن يصلي صادقاً يصلي ابتغاء وجه الله، فهذا صدق في الأعمال.

مُدْخَلَ صِدْقٍ ومُخْرَجَ صِدْقٍ
بعض الآيات عن موضوع الصدق التي تجلِّي الموضوع بشكل أكبر قال تعالى:

وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا
(سورة الإسراء: الآية 80)

عمل المؤمن يكون ابتغاء لوجه الله
ما معنى (مُدْخَلَ صِدْقٍ) و(مُخْرَجَ صِدْقٍ)؟ الإنسان أحياناً يدخل في الأمر صادقاً ويخرج منه غير صادق، يُفتَن، وهذا يحصل، نسأل الله السلامة، يعني مثلاً يقول: أريد أن أصلي الفجر في المسجد إن شاء الله، جميل جداً، بكل صدق وبنية صادقة ابتغاء وجه الله، أول يوم وثاني يوم وثالث يوم، بعد ذلك بدأ يرتب علاقات معينة، وبعد ذلك أصبحت صلاة الفجر بروتوكول، وبعد ذلك أصبح يريد أن يرى فلان، وبعد ذلك أصبح يقول أخشى ألا أذهب فيتكلم عليّ فلان، هذا دخل صادقاً لكنه لم يخرج صادقاً، فُتن، أحياناً في الدعوة إلى الله يدخل صادقاً وهمه هداية الخلق ثم يزداد الناس حوله ويُطرونه بعبارات المديح والثناء فينسى همه الأول ويصبح همه إرضاء الناس.
مرةً بدر الدين الحسني رحمه الله، كان شيخ الشام، دخل إلى مجلسه إلى درس العلم فوجد المسجد قد امتلأ عن بكرة أبيه، الناس متجمعين، فقال: "يارب لا تحجُبني عنك بهم ولا تحجبهم عنك بي"، "يارب لا تحجُبني عنك بهم" قد يحجب الإنسان بالأتباع ينظر إلى الناس حوله فينسى ربه ويصبح همه إرضاء الجمهور، فيُحجب عن الله بهم، ثم قال: "ولا تحجبهم عنك بي" ينظرون إلى المتكلم فيعجبون بكلامه وينسون أنهم إنما يستمعون إليه ليصلوا إلى الله لا من أجل الإعجاب السلبي بكلامه دون عمل يوصلهم إلى خالقهم ومولاهم، فقد يُحجب الإنسان عن الله بمن معه وقد يُحجبون عن الله به، هذا (مُدْخَلَ صِدْقٍ) و(مُخْرَجَ صِدْقٍ)، فدائماً الدعاء القرآني الذي ينبغي أن نردده: (وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) يعني أدخل في العمل صادقاً وأخرج به صادقاً، أبني المسجد لله وينتهي ولا أريد سمعةً ولا شكوراً ولا أحد يمدحني ولا غير ذلك، أدفع الصدقة لوجه الله ولا أنتظر ثناءً من أحد.
عندما وجد موسى عليه السلام فتاتين تذودان، لا تستطيعان أن تسقيا، قال:

فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا
(سورة القصص: الآية 24-25)

الظل وعدم انتظار المديح
طبعاً بالمعنى المتبادر إلى الذهن (تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ) يعني إلى ظل شجرة ليستظل من ضوء الشمس أو من حرارة الشمس، لكن هناك معنى لطيف إشاري (ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ) وضع نفسه في التعتيم في الظل لأنه لا يريد أن ينتظر مديحاً من أحد ليخرج صادقاً كما بدأ صادقاً (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) فقير إلى عمل صالح أتقرب به إلى وجهك فقط، لكنه لما (تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ) (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) يأتيك الله عزَّ وجلَّ بالخير لكن أنت لا تجلس في ضوء الشمس اجلس في الظل دائماً عتِّم على نفسك والله يكرمك، في سورة الإنسان:

إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا
(سورة الإنسان: الآية 9)

ثم تأتي الآيات فيقول تعالى:

إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا
(سورة الإنسان: الآية 22)

أنت لا تريد شكوراً لكن الله شكور جلَّ جلاله سيشكر لك لكن أنت لا تطلب الشكور، الله يشكر لك، مستحيل أن تقدم معروفاً ولا يكافئك لكن أنت لا تطلب المكافأة أنت تولَّ إلى الظل وهو يتولى مكافأتك جلَّ جلاله، هذا الإخلاص.

لِسَانَ صِدْقٍ
الآية الثانية على لسان إبراهيم عليه السلام قال:

وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ
(سورة الشعراء: الآية 84)

أصبح عندنا (مُدْخَلَ صِدْقٍ) و(مُخْرَجَ صِدْقٍ) و(لِسَانَ صِدْقٍ).
لِسَانَ الصِدْق إخواننا الكرام؛ هو الصدق في الأصل كما قلنا أقوال وأفعال ونيات لكن الصدق هو الحق الثابت المتصل بالله، قالوا: "الصدق ما كان به وله" .
الذكر الجميل والثناء الحسن
به: يعني أنت مستعيناً بالله، به، وله: خالص لوجه الله، فكل عمل يكون بالله وله فهو صدق إن شاء الله، فلما نقول: (لِسَانَ صِدْقٍ) يعني ذكراً جميلاً وثناءً حسناً (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) يتكلم الناس عليه بالثناء الجميل والحسن، اليوم كم ترى من إنسان يقول: رحم الله والدك كم كان محسناً، رحم الله والدك كم كان تقياً، كان في الصف الأول دائماً، هذا (لِسَانَ صِدْقٍ) لأن ألسنة الخلق أقلام الحق يشهدون بالخير على الإنسان فقال: (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) نموت وننتهي ويبقى الذكر الحسن والثناء الحسن، فالإنسان جهده أن يكون لسانه في الدنيا صادقاً حتى يبقى له لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ.

قَدَمَ صِدْقٍ
ومن الصدق أيضاً في القرآن قال:

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ
(سورة يونس: الآية 2)

فإذاً : (مُدْخَلَ صِدْقٍ) و(مُخْرَجَ صِدْقٍ) و(لِسَانَ صِدْقٍ) و(قَدَمَ صِدْقٍ).
الأعمال الصالحة ابتغاء وجه الله
(قَدَمَ صِدْقٍ) يعني أعمال صالحة قدموها ابتغاء وجه الله (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) يعني أنت لما تقدم عمل صالح في الدنيا هذا (قَدَمَ صِدْقٍ) لك عند الله، عمل صالح تبتغي به وجه الله فيكون (قَدَمَ صِدْقٍ) لك عند الله قدمته أمامك وأخلصت فيه النية لله وقدمته وفق منهج الله، فكل عمل صالح هو (قَدَمَ صِدْقٍ) وكل ذكر جميل وثناء حسن هو (لِسَانَ صِدْقٍ) وكل شيءٍ تدخله وأنت تنوي به وجه الله فهو (مُدْخَلَ صِدْقٍ) وكل شيءٍ تخرج منه وقد أديته على الوجه المطلوب فهو (مُخْرَجَ صِدْقٍ). وأخيراً:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ
(سورة القمر: الآية 54-55)

(مَقْعَدِ صِدْقٍ) فمقعد الصدق هو آخر ما يصل إليه الإنسان في الجنة عندما يهيئ الله له مجلساً:

لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ
(سورة الطور: الآية 23)

هذا مَقْعَد الصِدْق عند الله.

فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
الطيبات التي في الدنيا من الأخلاق الحسنة الرائعة هذه متصلة بنعم الآخرة، يعني أنت تستغرب في القرآن عندما تقرأ:

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا
(سورة النبأ: الآية 31-32-33-34)

أذواق المؤمن عالية
هذه كلها من النعيم المادي (مَفَازًا) (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا) فواكه (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) (وَكَأْسًا دِهَاقًا) كأس مترعة، ثم قال: (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا) ما هذا العطاء؟ لأن المؤمن في الدنيا الآن أنت إذا جلست في مجلس فيه لغو وكذاب تستسيغه أم تُعرِض عنه؟! إذا كنت تُعرِض عنه فمجلس يوم القيامة سيكون على شاكلة المجلس الذي تحبه في الدنيا، لأن أذواق المؤمن عالية لا يحب اللغو الخوض بالأعراض الحديث عن الناس الكذب لا يحبه يقول لك: أنا أريد مجلس صدق، فمقعد الصدق يوم القيامة يتناسب مع مجلس الصدق الذي كنت تجلسه في الدنيا فقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)، من نعيم يوم القيامة أن تكون في (مَقْعَدِ صِدْقٍ)، لا تفتح شاشة فتجد الكذب في الإعلام، ولا يجلس أمامك إنسان يكذب عليك ولا يقول لك كلاماً فيه نفاق، ولا يقول لك كلاماً فيها رياءٌ وسمعةٌ، ولا يحدثك بشيء وهو ينوي لك شيئاً آخر، هذه مجالس غير المؤمنين في الدنيا التي يكرهها المؤمن فيوم القيامة يمتِّعه الله إضافةً إلى المتع المادية بمتعة معنوية عظيمة بأنك في (مَقْعَدِ صِدْقٍ) عند الله فتجلس في مجلس (لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ) وهذا من أعظم نعم الله على المؤمن أن يكون من حوله على شاكلته يصدِقون كما يصدُق ويحبون كما يحب من الخير ويأملون ما يأمل من المسرات الطيبات التي وفق منهج الله تعالى.
فأحبابنا الكرام: (مُدْخَلَ صِدْقٍ) و(مُخْرَجَ صِدْقٍ) و(لِسَانَ صِدْقٍ) و(قَدَمَ صِدْقٍ) وفي الجنة إن شاء الله (مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ).

صدق الأحوال
الصدق موضوع مهم جداً، صدق النوايا، وصدق الأقوال، وصدق الأعمال وقالوا: هناك صدق الأحوال.
صدق الحال مبنيٌ على العمل الصالح
صدق الأحوال باختصار: العلم حكمٌ على الحال وليس الحال حكماً على العلم، يعني الإنسان له ظاهر وله حال، الظاهر أنك تؤدي الصلاة الحال أنك تبكي في الصلاة، الحال هو السكينة التي تكون في الصلاة فتبكي بها، الظاهر هو أنك تنفق صدقةً إخلاصاً لوجه الله الباطن أنك بعدما تنفق تعيش يوماً كاملاً وأنت في غمرةٍ من الله وسعادةٍ وسرورٍ لا تعلم مداها جاءتك من الله مكافأةً لك على هذه البسمة التي زرعتها على شفة مريضٍ من المرضى، تشعر بها سبحان الله هذا الحال، فأحياناً الإنسان يكون صادقاً في حاله عندما يكون الحال مبنياً على عمل صالح مبني على صلاة وفق منهج الله، أما أحياناً هناك إنسان واليوم قد ينتشر ذلك يقول لك: أنا إيماني في قلبي، لا يلتزم الصلاة مثلاً ولا يلتزم فعل الخيرات ويقول لك: أنا يحدث معي أحوال عظيمة، هذا حال من الشيطان، هذا السرور من الشيطان هذا ليس حالاً من الله، الحال من الله مبني على علم، حضرت مجلس علم فجاءك حال، صليت صلاة متقنة فجاءك حالٌ مع الله، أنفقت نفقة في سبيل الله فجاءك حال، أما إذا أردت أحوال كاذبة فممكن إنسان يعني سامحوني أن نضع له فلم هندي ومن شدة التأثر يبكي يقول لك: صار لي حال عظيم، ما هذا الحال؟ الحال مبني على صلتك بالله وعلى إحسانك إلى الناس هذا صدق الحال، صدق الحال أن تكون السكينة التي تأتيك والدمعة التي تنزل من عينك وما يتغشى قلبك من الخيرات لله وفي الله وبالله ووفق منهج الله فهو الحال الذي يريده الله.
والحمد لله رب العالمين.