• محاضرة في الأردن
  • 2020-09-07
  • عمان
  • الأردن

شُكْرُ النعم

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِه وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
إخواننا الكرام: أتحدث اليوم إن شاء الله عن موضوع الشكر، شكر النعمة، وما دفعني للحديث في هذا الموضوع إلا موجةٌ من السخط تجتاح الأمة بشكلٍ عام، فلا تجد راضياً إلا قليلاً ومهما بلغ الإنسان من مالٍ وعلمٍ ومنصبٍ وسمعةٍ وخيرٍ فإنك لا تجد في كثيرٍ إلا من رحم ربي الرضا عن الله، يُعطى من الصحة والمال والخير والأولاد ولا تجد الرضا الذي ينبغي أن يتحقق في قلب العبد المؤمن والشكر الذي ينبغي أن يكون في قلبه لمولاه، فسميتها موجة سخطٍ تجتاح العالم فلا تجلس في مجلسٍ إلا تسمع الشكوى من الأحوال ومن الصحة ومن الأمور مع أننا كلنا غارقون بنِعَمِ الله من حيث نعلم ومن حيث لا نعلم.

النعم الظاهرة
قال تعالى:

وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً
(سورة لقمان: الآية 20)

شكر الله على نعمه الكثيرة
هناك نِعَمٌ ظاهرة قد ألِفناها فنسيناها ونسينا شكرها وما أكثرها وهذا مرضٌ اسمه إلفُ النعمة، تعوُّد النعمة، فيصحو الإنسان منا صباحاً فيقف على قدميه وهذه نِعمة يفقدها الكثيرون، ثم يفتح عينيه فيبصر من حوله وهذه نِعمة يفتقدها الكثيرون، ثم يقوم إلى عمله ثم يصلي بين يدي ربه ثم ينظر إلى زوجه وأولاده وإلى المسكن الذي يؤويه هذه نِعَم كثيرة لكن مرضها هو إلف النعمة، أننا ألفنا هذه النِّعم فنسينا شكرها وهذا من تلبيس إبليس على بني آدم أن يجعله في إلفٍ من النِّعَم، لكن لو أن الإنسان نظر في كُلِّ نِعمةٍ من هذه النِّعم لذاب حباً لله تعالى على ما رزقه، لذلك أدعو نفسي وإياكم أولاً إلى النِعَم الظاهرة (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) أن نبدأ بالنِعَم الظاهرة، نعمة الماء، نعمة الهواء، نعمة الولد، نعمة المسكن، ولو كان مسكناً كبيراً أو صغيراً، أجرةً أو مُلكاً، الملك لله تعالى، ما دام هناك مسكنٌ يؤويك وزوجةٌ وأولاد وهواءٌ تتنفسه وماءٌ تشربه وكفاف؛ رزق يكفيك، فهذه نِعَم كثيرة ألِفناها ينبغي أن نجدد في داخلنا شكرها.

النعم الباطنة
الإسلام من النعم الباطنة
قال: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) هناك نِعَمٌ باطنةٌ، فإذا كانت الظاهرة قد ألفناها حتى نسينا شكرها فمن باب أولى أننا لا ننتبه إلى النِعَم الباطنة، كثيرٌ من الناس لا ينتبهون إلى النِعَم الباطنة، من النِعَم الباطنة أنك مسلم على مذهب أهل السُّنَّةِ والجماعة، هذه نِعمة، نِعمةٌ باطنة، كم من الناس من ألوف مؤلفة بل ملايين مملينة يعبدون غير الله وأنت قد جعلك الله عبداً له شرَّفك بالوقوف بين يديه، هذه نِعمة باطنة ربما، قالوا: وهذه قد تستغربونها؛ من النِعَم الباطنة بعض المصائب التي يبتلي الله تعالى بها عبده، المرض نعمة؟ نعمة باطنة لأنه يدفع إلى باب الله ويكفِّر السيئات ويرفع الدرجات فقد يسلب الله تعالى من الإنسان بعضاً من صحته فيعوضه أضعافاً مضاعفةً من القرب منه، فهذه نِعمة؛ يعني محصِّلتها نِعمة، لو قرأنا الحديث الشريف القدسي الصحيح:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي }

(صحيح مسلم)

الابتلاءات مِحَنٌ لكنها في حقيقتها مِنَح
(وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟) من يطعم الله؟! أنت تطعم يارب، (قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ) طلب منك طعاماً فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ (لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي) أي لوجدت أجر ذلك عندي، أنا أجازيك أطعمه، ثم يقول: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي) يعني أجر ذلك عندي، ثم يقول: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟) ولم يقل: لوجدت ذلك عندي، وإنما قال: "لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ"، لأن الله تعالى قريبٌ من عبده الضعيف، فكلما ازداد الإنسان ضعفاً ازداد من الله قرباً، لذلك من النِّعَم الباطنة أن تأتي أحياناً بعض الابتلاءات، فالابتلاءات مِحَنٌ لكنها في حقيقتها مِنَح، وهي شدائدٌ لكنها في حقيقتها شدَّاتٌ إلى الله، تشدك إلى الله وتدفعك إلى بابه فيُكَفِّر السيئات ويرفع الدرجات جلَّ جلاله، إذاً من النِّعَم الباطنة التي لا تنتبه لها؛ هذه العوام لهم كلمة لطيفة يقولون: "استفقادات الله رحمة"، الكبار في السن لهم حكم: "استفقادات الله رحمة" ما دام الله استفقدني بهذا البلاء ولو كان بلاء ولكنه رحمةٌ من الله لأنهم يفهمون على الله حكمته.
أحبابنا الكرام: لما قال: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) ينبغي أن ننتبه إلى النِعَم الظاهرة وأن لا نألفها وأن ننتبه أحياناً إلى نِعَم الله الباطنة، في آيةٍ ثانية يقول تعالى:

وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا
(سورة النحل: الآية 18)

يعني أنت لا تستطيع أن تحصي خيرات نعمةٍ واحدةٍ من نِّعَم الله تعالى، فإن كنت عاجزاً عن إحصائها فأنت عاجزٌ عن شكرها من باب أولى.

الكنود هو من ينسى شكر المنعم على نعمه
إذاً أحبابنا الكرام: مرَّةً عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سمع امرأةً تقول: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ القَلِيْل، فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ قالت: أما سمعت قوله تعالى:

وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ
(سورة سبأ: الآية 13)

فضرب عمر على رأسه وقال: كُلُّ الناس أفقه منك يا عمر، فقلةٌ من الناس فعلاً هم الشاكرون

إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ
(سورة العاديات: الآية 6)

عدٌ للمصائب ونسيانٌ للنعم
الكنود هو الذي يعدُّ المصائب وينسى النِّعَم، الكنود لغةً هو الذي ينسى نِعَم الله عليه ولا ينتبه إلا للمصائب التي قلنا هي في الحقيقة أيضاً نِعَم باطنة لكنه يَعُدُّها لمَ حصل معي كذا؟ ولمَ قلَّ مالي؟ ولمَ مرضت؟ ولمَ قلَّ رزقي؟ فيَعُّدُّ ما ينقصه وينسى ما حصَّله فينظر إلى نصف الكأس الفارغ ولا ينظر إلى النصف الممتلئ فهذا كنود، انظروا الآن إلى سورة العاديات فيها معنى لطيف يعني الآن أستحضره، لمَّا أقسم الله تعالى في سورة العاديات قال:

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا
(سورة العاديات: الآية 1)

هذه واو القسم، ما (الْعَادِيَاتِ)؟ (الْعَادِيَاتِ: هي الْخَيْل الَّتِي تَعْدُوا)، تركض في أرض المعركة، فلما تركض يصدر لها صوت يسمى الضَّبح، الإنسان يلهث عندما يركض، الخيل تَضبَح، لهاثها اسمه الضَّبح، فقال: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) فإذا عدت هذه الخيول أصدرت صوت الضبح.

فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا
(سورة العاديات: الآية 2)

(الْمُورِيَاتِ): أي التي تشعل القدح، تقدح؛ لماذا؟ تضرب بسنابكها الأرض والحجارة فتقدح من شدة ما تعدوا تقدح.

فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا
(سورة العاديات: الآية 3)

فإذا أصبح الصباح أغارت هذه الخيول على الأعداء

فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا
(سورة العاديات: الآية 4)

أثارت هذه الخيول النَّقع، والنَّقع هو الغبار الشديد، الغبار الشديد التي تثيره الخيول وهي تركض.

فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا
(سورة العاديات: الآية 5)

كن كالخيل في الوفاء
ثم تتوسط هذه العاديات الجموع وهي تُعَرِّض حياتها للخطر من أجل صاحبها (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) تتوسط الجموع وقد تموت وقد تصاب لكنها تدخل في وسط الجموع دفاعاً عن صاحبها، الخيل وفية جداً، معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، كل هذه الصفات في خيلٍ خلقها الله وطبعها على هذا الطبع وجعل فيها تلك الغريزة غريزة الوفاء فتعدو حتى تضبح وتوري القدح لشدة المسير وتُغِيرُ في الصباح على الأعداء وتثير النَّقع وتتوسط الجموع وتُضَحِّي بنفسها، أرأيت إلى هذه الخيل؟ جواب القسم (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) كن كالخيل في الوفاء لا تكن كنوداً، لا تنسى شكر المُنعِم جلَّ جلاله، المؤمن مع المنعم وغير المؤمن مع النِّعمة، وشتان أن يكون الإنسان مع النعمة فيصبح نسأل الله السلامة

إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا
(سورة الفرقان: الآية 44)

أو أن يكون مع المنعم فيتجاوز النعمة إلى خالقها جلَّ جلاله.

الله شاكرٌ وشكورٌ
أيها الأحباب: إذاً أصل موضوع الشكر ألا يكون الإنسان كنوداً بمعنى أنه ينسى ما أُعطي ويَعُدُّ ما فقد، بينما المؤمن ينسى ما فقده ويَعُدُّ نِعَم الله تعالى عليه التي كلنا متلبسون بها ومهما فعلنا ما وفَّينا حق شكرها لله تعالى جلَّ جلاله.
أيها الإخوة الكرام: ومن عظيم موضوع الشكر أن الله تعالى سمى نفسه باسمين من الشكر، فالله تعالى شاكرٌ وشكورٌ

فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
(سورة البقرة: الآية 158)

الشاكر والشكور من أسماء الله الحسنى
وأيضاً ورد اسم الله الشكور، الشكور والشاكر، الشاكر: اسم فاعل، والشكور: مبالغة من اسم الفاعل، فهو شاكرٌ وشكورٌ، وربنا جلَّ جلاله معنى اسمه الشاكر والشكور أنه يشكر للإنسان عمله ويثيبه عليه، ويثيبه عليه أضعافاً مضاعفةً، وفي ميزان الحسنات والسيئات ميزان الله تعالى عجيب، أنت عندما تكون مديراً لشركة ولك تعامل مع الموظفين فيها، تضع ميزاناً للتعامل، فتقول للعامل مثلاً إن أحسنت لك يومٌ إجازة، أو إن أحسنت لك مكافأةٌ مالية، زيادة في الراتب، وإن أسأت أسامحك في الأولى، وفي الثانية وأسجلها عليك، وفي الثالثة أعاقبك، وإن أعدتها أفصلك من العمل، هذا ميزان كل إنسان يضعه للتعامل مع الآخرين.

ميزان الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات
لما كتب الله تعالى الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، كما في الحديث الصحيح، وضع ميزان للتعامل مع خلقه؛ فقال:

{ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً }

(صحيح البخاري)

أنت هل تقبل من عامل أن يقول لك: والله كنت أنوي أن أعمل ولكني لم أعمل؟ لم تعمل النتيجة لن أعطيك شيئاً، الله تعالى يقول: (مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً) هذا الشاكر جلَّ جلاله، فقط هَمَّ بها، يعني نوى الخير لكن منعه شيءٌ عن فعل هذا الخير، انشغل بشيء، نوى قيام الليل فلم يستيقظ لكنه هَمَّ به فيكتب له حسنة، قال: (وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْر حَسَنَاتِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ) كما في بعض الروايات

كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ
(سورة البقرة: الآية 261)

عظمة الله منعته من فعل السيئة
هذا ميزان الْحَسَنَاتِ عند الله، طيب السَّيِّئَاتِ؟ قال: (وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَة) هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فلَم يفعلها، يعني نضيف للتوضيح فقط: لم يفعلها لا لأنه ذهب ليسرق فوجد البيت مقفلاً! ليس هذا هو المعنى، لكنه استحضر عظمة الله فقال: لن أفعل السيئة، فالآن هَمُّه بالسيئة ثم إعراضه عنها حسنة، (وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً)، (الحسنة عندي بعشر أمثالها وأزيد والسيئة بمثلها وأعفو) (مَنْ جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِها أَوْ أَزْيَدُ، ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ) جلَّ جلاله، فهذا ميزان الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ.

التخلُّق بأسماء الله شاكرٌ وشكورٌ
هذا هو الشاكر جلَّ جلاله، هذا هو الشكور، فأنت لمَّا قال تعالى:

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا
(سورة الأعراف: الآية 180)

ما معنى (فَادْعُوهُ بِهَا)؟ يعني أن تتخلق بهذا الاسم في أخلاقك، فالله تعالى شاكرٌ وشكورٌ، كن أنت شاكراً وشكوراً له أولاً وللناس ثانياً، لأنه

{ «لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ» }

(رواه أبوداود)

وهذا من اسم الشكور أنه أمرك أن تشكر الآخرين

أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ
(سورة لقمان: الآية 14)

ربط الشكر للوالدين بشكر الله
فاشكر لله واشكر لوالديك، وربط الشكر للوالدين بشكره جلَّ جلاله، هو الأفصح في اللغة؛ هذه على الهامش؛ لا نقول: شَكَرَهُ، وهي صحيحة، لكن الأفصح هو الذي جاء به القرآن: شَكَرَ لَهُ، ونَصَحَ لَهُ، بدل نَصَحَهُ وشَكَرَهُ، شكر له (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).
إخواننا الكرام: الله تعالى لا يُضيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا

إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا
(سورة الكهف: الآية 30)

وهذا من اسمه الشاكر ومن اسمه الشكور: أنك إذا أحسنت؛ الله لا يمكن أن يضيع عملك، يشكر لك هذا العمل في الدنيا وفي الآخرة.

الإكثار من الأعمال الصالحة
أيها الكرام: أيضاً من اسم الشكور: في الحديث الصحيح:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ }

(صحيح مسلم)

شكر الله للعمل الصالح
(اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ) عَطِش، (يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ) يأكل التراب من شدة العطش لا يدري ماذا يفعل بنفسه كلب عطشان، (مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي) هذا نفس، كما كنت عطشاناً وشربت هذا عطشان، قال: (فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ) يعني شكر له عمله هذا بسقيا كلب غفر له، فانظر إلى شكر الله، فإذا كان يشكر لمن سقى كلباً أفلا يشكر جلَّ جلاله لمن يسقي إنساناً؟ لمن يتصدق على أسرة؟ لمن يحيي أسرةً ينتشلها من الفقر؟ لمن يعلم إنساناً؟ لمن يمد صدقةً؟ والله أيها الإخوة لا يدري الإنسان بأي عملٍ من الأعمال المُخلَصَة لله تكون نجاته بين يدي الله عزَّ وجلَّ، فليستكثر الإنسان من الأعمال الصالحة ما استطاع ولا يستصغر من المعروف شيئاً

{ لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا، ولو أنْ تَلْقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ }

(أخرجه مسلم)

لعلها تكون هذه النظرة بوجه طلق مغفرة لك ويشكرها الله لك، فالله لا يضيع أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، فقالوا: الشكور يُجْزِل المثوبة، تعطي قليلاً فيعطي على القليل كثيراً جلَّ جلاله، بل إن الشكر بعد أن كان صفةً من صفات الله واسماً من أسماء الله هو صفة الأنبياء، قال تعالى:

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا
(سورة الإسراء: الآية 3)

يمدحه الله تعالى بأنه (كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) كثير الشكر، وقال تعالى:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
(سورة النحل: الآية 120-121)

فوصف الله أنبياءه بالشكر جلَّ جلاله، قال تعالى:

بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ
(سورة الزمر: الآية 66)

ما تلقى الله عزَّ وجلَّ بأحب إليه من الشكر.

الدين نصفان شكرٌ وصبرٌ
حال المؤمن مع الله صبرٌ وشكرٌ
إخواننا الأحباب: الإنسان في الدنيا بين حالين لا يخرج عنهما: حال الصبر وحال الشكر، لا يخرج عن هاتين الحالتين، لا يخرج، تعرفون المنشار الذي يستخدمه النجار؟ في نزوله يؤدي دوره وفي صعوده يؤدي دوره، ليس كمقص الحلاق عشرة قصات بالهواء وواحدة تأخذ الشعر، المؤمن حاله مع الله صبرٌ وشكرٌ فعلى الحالتين هو في قربٍ من الله فإن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر، ليس عنده حال أخرى هو في حالين الشكر والصبر فالدين كله نصفان شكرٌ وصبرٌ.
أيها الأحباب؛ قال تعالى:

لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
(سورة إبراهيم: الآية 7)

فالشكر من أسباب الزيادة والكفر من أسباب البعد عن النِّعَم، فربنا عزَّ وجلَّ:

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
(سورة النحل: الآية 112)

لم تشكر، هنا الكفر عكس الشكر (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) في مقابل الجوع والخوف يَمْتَنُّ الله على قريش:

الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ
(سورة قريش: الآية 4)

نعمتان الأمن والشِّبَع، لمَّا يكون هناك كفر بأنعم الله يذهب الأمن ويذهب الشِّبَع، وعندما يكون هناك قرب من الله يأتي الأمن ويأتي الشِّبَع، وهما من أعظم نِعَم الله على الإنسان أن يكون:

{ "منْ أَصبح مِنكُمْ آمِناً في سِرْبِهِ، مُعَافَىً في جَسدِه، عِندهُ قُوتُ يَومِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحذافِيرِها" }

(رواه الترمذي)

ما فاته من الدنيا شيء من كان آمِناً، مُعَافَىً، عِندهُ قُوتُ يَومِهِ، ما فاته من الدنيا شيء أبداً، كل الإضافات تحسينيات كماليات لكن هو لم يفته شيء لمَّا كان في صحته وعِندهُ قُوتُ يَومِهِ، وعنده الأمن، آمِناً في سِرْبِهِ، ولا أمن كأمن الإيمان وأمن التوحيد

الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ
(سورة الأنعام: الآية 82)

قال تعالى:

وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ
(سورة آل عمران: الآية 145)

وهذا قانون لا يتخلف؛ الله تعالى يعدك بالجزاء إن أنت كنت شاكراً له.

أركان الشكر
ثلاثة أركانٍ قرآنية للشكر
من الكلام الطيب اللطيف الذي يذكره ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى أنه يقول: - الشُّكْرُ ظُهُورُ أَثَرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ ثَنَاءً وَاعْتِرَافًا - تقول: هذه النعمة من الله يا رب لك الحمد - وَعَلَى قَلْبِهِ شُهُودًا وَمَحَبَّةً - يشهد بوجود الله وبأن النعمة منه ويمتلئ قلبه حباً للمنعم، - وَعَلَى جَوَارِحِهِ - اليدين والقدمين واللسان والعيون، - انْقِيَادًا وَطَاعَةً -.
يعني أركان الشكر ثلاثة عند ابن القيم وهي كلها قرآنية:

1. الإعتراف بالنعمة

{ عن ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ، قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، حَتَّى بَلَغَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} }

(صحيح مسلم)

(أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ) بعد المطر انقسم الناس قسمين شاكر وكافر، فمن (قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ) هؤلاء الشاكرون، فقط اعترفوا بالنعمة، يا رب لك الحمد، نعمة المطر، جاءه الولد يارب لك الحمد هذا منك وإليك، جلس على الطعام وبين يديه الطعام

{ إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا }

(صحيح مسلم)

الاعتراف أول مراتب الشكر
هذا يارب منك وإليك الحمد لله على نِعَم الله، هذا الشهود والاعتراف بالنعمة هو أول مراتب الشكر، فقال: (لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَنَوْءُ كَذَا) يعني ها ألم تسمعوا النشرة الجوية بالأمس مثلما قالوا حصل، والله تطوَّر العلم يا أخي، طبعاً هو العلم موجود وربنا عزَّ وجلَّ من رحمته بالناس تطور العلوم وأصبح هناك طب وأصبح هناك أرصاد جوية لكن لا ننسب النعمة إلى الأنواء، القمر و، و، لا، هذه رحمةٌ من الله سبَّب لها أسبابها جعل رياح شمالية رياح باردة هذه أسباب لكن النعمة من الله جلَّ جلاله وهذا ليس في المطر فقط في كل شيء أنت عندما تشهد بلسانك أن هذه النعمة من الله هذا هو الاعتراف وهو أول مراتب الشكر لكن لا يكفي.

2. التحدث بالنِعَم
قال تعالى:

وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
(سورة الضحى: الآية 11)

يمكن أسلفت سابقاً ولا مانع أن أعيد هنا لأن الموضوع له علاقة بالشكر، المقصود بالتحدث بالنِعَم لا كما يفهمه بعض الناس من أن يذكروا كثيراً من تجاراتهم وأسفارهم ورؤاهم في السفر وكذا، والناس يعني هناك تفاوت

انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا
(سورة الإسراء: الآية 21)

التفاوت في الدنيا يسير
هناك معلم في مدرسة إبتدائية في قرية بعيدة نائية، هذا معلم، وهناك أستاذ بأهم جامعة في البلد وذو كرسي يعني له كرسي في الجامعة ليضع به من شاء من أبنائه، طيب هذا يعلم وهذا يعلم لكن فرقٌ كبيرٌ بينهما، طيب هناك ممرض على العين والرأس مهمته تعقيم الإبر وكذا، وهناك طبيب جراح قلب الأول في الشرق الأوسط، صحيح؟! هناك محامي نادراً أن تأتيه قضية وهناك قاضي أول بالبلد كل القضايا عنده يفصل بها، انظر ربنا ماذا قال؟ قال: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) انظر! الناس متفاوتون هناك الغني والفقير وهناك الصحيح والسقيم، قال: (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) كل ما تراه في الدنيا من تفاوت بين الناس تفاوت يسير أما التفضيل الحقيقي والدرجات عند الله

{ بين كل درجتينِ مسيرةُ ألفِ عامٍ للراكبِ المسرعِ... }

(أخرجه ابن الجوزي)

هناك الدرجات، الدرجات في الدنيا متفاوتة لكن تفاوت بسيط لا ينظر له، أما الآخرة التفاوت فيها عظيم.
عدم إظهار النعم أمام من لا يملكها
فأنت لما تتحدث بالنعمة لا نقصد أن يعني يتحدث الغني بغناه فيكسر قلب الفقير، ولا أن يتحدث الصحيح بصحته فيكسر قلب المريض ولا، ولا، إلخ..، لكن التحدث بالنِعَم أولاً هي النِعَم العامة أن تقول للناس: الحمد لله على نعمة الهواء، ونعمة الماء، تحدث أولادك بنِعَم الله، يا أولادي الحمد لله رزقنا طعاماً وكم من الناس لا مأوى لهم ولا طعام، رزقنا مأوى نعيش فيه وكم من الناس لا مأوى لهم، تنظر في الشاشة فترى المأسي فتقول: الحمد لله على نِعَم الله، الحمد لله أنَّ لنا مأوى وهؤلاء بدون بمأوى، الحمد لله، فهذا التحديث بالنِعَم المقصود به وليس النِّعَم الخاصة التي ينبغي للإنسان ألا يظهرها أمام من هو أقل منه حتى لا يكسر قلبه بها، هذا ما ينبغي أن ننتبه له، وهذا دليله ذكرناه أيضاً في اللقاء الماضي في معرِض آخر، دليله:

{ عَن عائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: "‏ أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا ‏" }

(متفقٌ عَلَيْهِ)

هذا التحدث بالنِّعَم، أنا أشكر الله على نعمه، الموضوع ليس موضوع ذنوب، الموضوع أعمق، الموضوع اعتراف وثناء على الله بما أنعم به عليَّ من النِّعَم التي لا تعد ولا تحصى.

3. استخدام النِّعمة في طاعة الله
الركن الثالث وهو الأهم في شكر النِّعمة: هو أن تستخدم النِّعمة في طاعة الله هذا أعظم الشكر
قال تعالى:

اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا
(سورة سبأ: الآية 13)

شكر العمل أعظم أنواع الشكر
ندخل باللغة العربية فقط لمحة؛ ما إعراب (شُكْرًا)؟ إذا قلنا: وقف الطلاب إجلالاً للمعلم، مفعول لأجله، لماذا وقف الطلاب؟ إجلالاً لمعلمهم، لماذا نعمل؟ نعمل شكراً لله (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) أي اعملوا من أجل شكر الله تعالى، فُنسخِّر النِّعمة في شكر المنعم جلَّ جلاله، مَنَحَكَ عيناً فتنظر بها فيما أحل الله، مَنَحَكَ أذناً فلا تسمع بها إلا ما يُرضي الله، منحك مالاً فتنفقه في موارد الخير وعلى عيالك وأهل بيتك وتدخل به السرور على قلوب عباد الله، منحك صحةً تخدم بها عباد الله، منحك منصباً وجاهاً تستخدمه لنصرة الضعيف وعون المنكوب، هذا شكر العمل وهو أعظم أنواع الشكر وآخر ركنٍ من أركان الشكر، أن تعمل شُكْرًا، أن تعمل لله شكراً له على ما أعطاك تستخدم النعمة فيما أحلَّ المنعم، ولا تستخدمها فيما حرَّم المنعم جلَّ جلاله، إذاً أولاً تعترف بالنعمة ثم ينطلق لسانك بالتحديث بها ثم تنطلق جوارحك عملاً بالنعمة، هذا هو مفهوم الشكر الذي ذكره ابن القيم وهو مفهوم قرآني نبوي كما أوردنا الأدلة.

الرضا أصل الشكر
آخر شيء إخواننا الكرام: الشكر من أين ينبع، أصل الشكر؟ أصل الشكر أحبابنا يأتي من الرضا، الرضا أصل الشكر، يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح:

{ َكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ }

(أخرجه البخاري)

عندما ترضى فأنت ستشكر حتماً
اقنع بما آتاك الله، هذا أشكر الناس؛ القناعة، فالرضا بما وهبك الله هو في حد ذاته شكر لأنك عندما ترضى فأنت ستشكر حتماً، أما من أين ينبع السُّخط؟ من عدم الرضا لذلك التوجيه النبوي ألا ينظر الإنسان في الدنيا إلى من هو أعلى منه وإنما ينظر إلى من هو أدنى منه، أما في أمور الآخرة فينظر إلى من هو أعلى منه فيقول: فلانٌ أفضل مني حالاً مع الله أرجو أن أكون مثله، لكن لا يقول: فلانٌ أفضل مني لا صحةً ولا مالاً ولا منصباً وإنما ينظر إلى من دونه ممن فقدوا ما أُعْطِيَهُ فيرضى وإذا رضي شكر، فالرضا أصل الشكر، يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ).
وقد ذكروا أن رجلاً ذهب إلى عالمٍ يشكو فقره، فقال له: أيسرُّك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم؟ قال: لا، يعني فقط لا تبصر فتصبح غني، قال: لا، ثم قال: أيسرُّك أنك أخرس ولك عشرون ألف درهم؟ قال: لا، أيسرُّك أنك مجنون ولك ثلاثون ألف درهم؟ أيسرُّك أنك مقطوع اليد ولك كذا؟ قال: ثم قال: أما تستحي أن تشكو الله وعندك ما ليس عند الناس؟.

الطموح صفة إيجابية
السعي دائماً نحو الأفضل
يعني أبرز له ما يجده من حيث لا يشعر، الإنسان طموح في الأصل، الإنسان في الأصل طموح وهذه صفة إيجابية، يحب أن يسعى إلى الأفضل وهذا خير ومطلوب، يعني أنت إذا كنت تملك عشرين فاسعى أن تملك ثلاثين نحن بحاجة إلى قوة المال، المسلمون بحاجة إلى القوة، ما الذي يمنع أن يسعى الذي يملك عشرين إلى أن يملك ثلاثين؟! بالعكس هذا مطلوب، ما الذي يمنع أن يتسلم الإنسان منصباً ينصف به الناس؟

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
(سورة يوسف: الآية 55)

لا يمنع، ما الذي يمنع أن يعتني الإنسان بصحته؟ يمشي، ينظم طعامه، القوة

{ المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعيفِ وَفي كُلٍّ خَيرٌ }

(رواه مسلم)

هذا الطموح مطلوب لكن عندما يصبح الطموح كفراً بالنعمة ونظراً إلى الأعلى دائماً فكل ما ورد درجة يتطلع إلى ما بعدها دون أن ينظر إلى ما عنده من النِّعَم هذا يصبح طموحاً سلبياً، أنه يصبح يمد عينيه

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
(سورة طه: الآية 131)

يصبح يمد عينيه دائماً إلى ما يفتقده وينكر ما يجده، أما الطموح بمعنى أن تشكر ما أنت فيه وتسعى إلى الأفضل فهذا مطلوبٌ ومحبوبٌ ومرغوبٌ.
إذاً أيها الأحباب: موضوع الشكر يعني أظن أنه موضوع مهم جداً ولعلنا إن شاء الله كلنا من أهل الإيمان وأنتم شاكرون حامدون لكن

وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
(سورة الذاريات: الآية 55)

وأنا أذكِّر نفسي قبلكم لأنه أحياناً كما قلنا النِّعمة تُؤلَف فإذا أُلفت نُسِيَت، اللهم أرنا نعمك بدوامها لا بزوالها، لما تزول النعمة يعرف الناس ما كانوا فيه من نِّعَم أما عندما تكون موجودة يألفونها فينسونها وهم لا يشعرون، فهي دعوة لي ولكم من أجل أن ننتبه دائماً إلى نِعَم الله تعالى، أن ننتبه دائماً إلى ما أنعم الله به علينا وألا نألف النِّعَم فننسى شكرها.
والحمد لله رب العالمين.