عمر رضي الله عنه على فراش الموت

  • محاضرة في الأردن
  • 2020-09-21
  • عمان
  • الأردن

عمر رضي الله عنه على فراش الموت

اَلسَّلَامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اَللهِ وَبَرَكاتُهُ‎: بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَدٍ وَعَلَى آلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ وعلى صحابته الغُرِّ الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنَّا وعَنْهُمْ يا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أيها الإخوة الأحباب: نعود اليوم إلى الحديث عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، والحديث عن الصالحين لا ينتهي، وبذكر الصالحين تتعطَّر المجالس.

ثلاث شخصيات في حياة الإنسان
تمايز الناس فيما بينهم
الإنسان كما قالوا: "شخصيةٌ يكونها، وشخصيةٌ يكره أن يكونها، وشخصيةٌ يحب أن يكونها"، فالشخصية التي تكونها هي أنت، على ما أنت عليه من محاسن وسيئات، وكلنا ذوو خطأ، ولكن الناس يتميَّزون فيما بينهم، فبعض الناس تغلب حسناتهم سيئاتهم وآخرون بالعكس، نسأل الله أن يجعل أعمالنا من الحسنات وأن يزيدها أضعافاً مضاعفةً على السيئات، فالشخصية التي تكونها هي أنت بما أنت فيه من إيجابياتٍ وسلبياتٍ، وأما الشخصية التي تكره أن تكونها فهي شخصيةٌ من البشر الذين تفلتوا من منهج الله وأساؤوا إلى خلقه، فإذا نظرت إليهم حمدت الله ألف مرَّةٍ وكرَّةٍ أنك لست مثلهم ولست من أتباعهم ولا من محبيهم، تكره أن تكون هذه الشخصية، وهناك شخصيةٌ تحبُّ أن تكونها هذه هي القدوة والأسوة، وكلما ارتقت هذه الشخصية عندك وعند أبنائك وعند الجيل، فنحن في خيرٍ وفي الطريق الصحيحة، الشخصية التي نحب أن نكونها هي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي صحابته الكرام، وهي السلف الصالح، وهم الصالحون، نرجو أن نكون منهم ونسعى لنعمل بعملهم لعلَّ الله يبلغنا منزلتهم، فكلما كانت الشخصية التي تحب أن تكونها أعظم فأنت عند الله بمكانٍ أعظم، أما بعض الناس فالشخصية التي يحبون أن يكونوها هي شخصيةُ طاغيةٍ من الطغاة، نسأل الله السلامة، أو قويٍّ من الأقوياء، أو غنيٍّ من الأغنياء، أو شخص ليس له قيمة في المجتمع لكنه يلقي الكرة فتدخل المرمى! فيتمنى أن يكون هذه الشخصية ويسعى لها لأنه لاعب كرة قدم كبير، لكن المؤمن يسعى لأن يكون كالصحابة الكرام، كالسلف الصالح، كخير القرون، قال صلى الله عليه وسلم:

{ خيرُ القُرونِ قرني ثُمَّ الذين يلونَهم ثُمَّ الذين يلونَهم ثُمَّ يفشو الكَذِبُ }

(صحيح مسلم)

فنحن نسعى إن شاء الله لنكون من خير القرون.
حج سيدنا عمر رضي الله عنه
نعود في الحديث إلى سيدنا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ونتحدث في هذا اليوم عن الأيام الأخيرة في حياة هذا العملاق، يقول كتاب السيرة: حجَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فلم يضرب في طريقه فسطاطاً، أي خيمةً، وإنما كان يلقي الرداء على شجرةٍ فيستظل بظل تلك الشجرة، وحين انتهى من حجِّه ونفر من مِنَى رفع يديه قائلاً: "اللهم قد كَبِرَت سِنِّي وضَعُفَت قوتي وانتشرت رعيتي فخذني إليك غير مُفَرِّطٍ ولا مُضَيِّعٍ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتقبل الله من المتقين".

المؤمن لا يخشى لقاء ربه
أيها الإخوة الكرام: يقول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح:

{ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ }

(صحيح البخاري)

(إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ) فالإنسان بشكل طبيعي لا يحب الموت لأن الموت بالنسبة له غيبٌ لا يدري ما بعده فيتعلق بالشهادة، بالعالم الموجود الآن، بماله، بولده، بأحبابه، بأصدقائه، هذا وضع طبيعي، فالسيدة عَائِشَة أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ بكل صراحة قالت: يا رسول الله: (إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكِ) أي ليس هذا هو المعنى، فما المعنى؟
المؤمن يُبشَّر بالخير إذا دنا أجله
معنى الحديث أنَّ المؤمن إذا دنا أجله يُبشَّر بالخير كما حصل مع سيدنا عمر رضي الله عنه؛ فيحب هذا الخير، إذا قيل لك مثلاً: إنَّ هناك بعد أيام سفراً إلى منطقة جميلة جداً وسياحة من الطراز الأول وفندق من فئة خمس النجوم، وسيارة من فئة عشر النجوم؛ فأنت تحب هذا الأمر، الآن تتشوق له، فلما يُبشِّر الله عبداً من عباده بما أعدَّ له في الجنة وهو قد قدَّم عمله أمامه فسرَّه اللحاق به فيحب لقاء الله لأنه يعلم أن ما أعدَّه الله له خيرٌ له مما هو في دنياه مهما كان فيها من نعيم.

وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
(سورة الأعلى: الآية 17)

بينما بالعكس تماماً البعيد عن الله المتفلت الشارد الكافر قال: يُبَشَّرُ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فيكره لِقَاءَ اللَّهِ لأنه سيلقى شيئاً يسوؤه فيتعلق بالدنيا أكثر وأكثر فيكره الله لقاءه، هذا معنى الحديث.
فسيدنا عمر رضي الله عنه؛ هنا لما قال: "اللهم قد كَبِرَت سِنِّي وضَعُفَت قوتي وانتشرت رعيتي فخذني إليك غير مُفَرِّطٍ ولا مُضَيِّعٍ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتقبل الله من المتقين"، سيدنا عمر أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه.

خطبة الجمعة الأخيرة لسيدنا عمر
ثم رجع عمر إلى المدينة وخطب يوم الجمعة وذكر في خطبته نبي الله صلى الله عليه وسلم وذكر أبا بكرٍ رضي الله عنه ثم قال:

{ إنِّي رَأَيْتُ كَأنَّ دِيكًا نَقَرَنِي ثَلَاثَ نَقَرَاتٍ، وإنِّي لا أُرَاهُ إلَّا حُضُورَ أجَلِي، وإنَّ أقْوَامًا يَأْمُرُونَنِي أنَّ أسْتَخْلِفَ، وإنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّعَ دِينَهُ، ولَا خِلَافَتَهُ، ولَا الذي بَعَثَ به نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فإنْ عَجِلَ بي أمْرٌ، فَالْخِلَافَةُ شُورَى بيْنَ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ، الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وهو عنْهمْ رَاضٍ. }

(صحيح مسلم)

(رَأَيْتُ كَأنَّ دِيكًا) أي في المنام، (وإنِّي لا أُرَاهُ إلَّا حُضُورَ أجَلِي) فسر الرؤيا بأنه قد حان الرحيل، (وإنَّ أقْوَامًا يَأْمُرُونَنِي أنَّ أسْتَخْلِفَ) أي أن أجعل خليفةً بعدي، أن أسمي خليفة، (فإنْ عَجِلَ بي أمْرٌ) توفيت قبل أن أستخلف، (فَالْخِلَافَةُ شُورَى بيْنَ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ) الستة هم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم.

حفظ الله لدينه
الإسلام محفوظٌ بحفظ الله
أريد أن أعقب على كلمة رائعة من سيدنا عمر قال: (وإنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّعَ دِينَهُ) يستحيل أن الله عزَّ وجلَّ يضيع دين الناس أو الذي بعث به نبيه بالحق، فالإسلام محفوظٌ بحفظ الله، هذا فهم عمر رضي الله عنه، واليوم بعد أكثر من ألف وأربعمئة سنة على الدعوة الإسلامية ما يزال الدين محفوظاً بحفظ الله تعالى؛ رغم أن المؤامرات التي كيدت لهم على مدار مئة سنة ماضية لو أنها كيدت لأي نظامٍ وضعيٍّ لأفنته إفناءً تاماً، لو تآمر المتأمرون على أي نظام وضعي أو قانون بشري من صنع البشر لأفنوه إلى غير رجعة لكن الدين دين الله؛ والله يحفظه والله ينصره، وقد ينصره الله تعالى من حيث لا تحتسب، قد ينصره بالرجل الفاجر الذي لا تُلقي له بالاً، فالله تعالى قد تولى حفظ دينه

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
(سورة الحجر: الآية 9)

فاطمئن الإسلام محفوظٌ بحفظ الله وهو في ازديادٍ وانتشار لا في انكماش رغم كل ما يُكاد له، لكن القضية في أن ينظر الإنسان في نفسه هل أنا جنديٌّ من جنود الحق أم نسأل الله السلامة جُعِلتُ في خندقٍ آخر في عداء الحق؟! فالقضية أنا وليست الإسلام، الإسلام محفوظ، لكن هل استخدمني الله تعالى في حفظه أم استبدلني؟ هل جعلني على الحق أم نسأل الله السلامة بسببٍ مني وببعدٍ مني عن الحق جعلني في الباطل؟! هذه هي القضية.
(إنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّعَ دِينَهُ) هذا كلام عمر رضي الله عنه؛ لو أردنا أن نحلله في اللغة العربية: أي إنَّ الله يستحيل أن يضيع دينه هذا معنى (لَمْ يَكُنْ) يعني ليس من شأن الله أن يضيع دينه فالدين محفوظٌ بحفظ الله تعالى.

طعن سيدنا عمر وهو يصلي الفجر إماماً
وفي صباح يومٍ من الأيام وبينما عمر رضي الله عنه يصلي بالناس صلاة الفجر ويكبِّر ويبدأ بالقراءة، بينما هو كذلك إذ تقدَّمت إليه يدٌ من أيادي الأعداء التي لا تتسلَّل إلا في الظلام؛ فيهوي صريعاً والدماء تنبعث منه، فما راعَ الناس إلا تكبير عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، إذ أخذه عمر رضي الله عنه بيده فقدمه.
من فقه الإمام في الصلاة
من فقه الإمام أنه إذا أصيب أو انتقض وضوءه أو أغمي عليه أو اضطر للمغادرة لسبب شرعي أن يستخلف فيقدم من وراءه، لذلك من فقه المأمومين أن يجعلوا خلف الإمام من يصلح للإمامة، إذا كان موجوداً بين الناس من هو أهلٌ للإمامة أن يجعلوه خلف الإمام حتى إذا أراد الإمام أن يستخلف يستخلفه، الإمام قد ينتقض وضوءه فمن الأمانة ألا يتابع الصلاة فيُقدِّم ويستخلف ثم يذهب ويتوضأ ويلتحق بالناس، أو إن أصابه ما أصاب عمر، فعمر رضي الله عنه ما ترك الناس وإنما استخلف، فالناس ما راعهم إلا صوت عبد الرحمن بن عوف، هم في صفوف بعيدة فسمعوا الله أكبر يقولها ابن عوف، فخافوا ما الذي حصل؟! فصلوا صلاة الفجر صلاةً خفيفةً وأما القاتل فما كان منه إلا أن قتل نفسه، وحُمِل عمر إلى بيته وهو في دمه، فقيل يا أمير المؤمنين: الصلاةَ الصلاةَ، عمر لم يتمَّ صلاته، قال: لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، لا حظَّ في الإسلام، لا نصيب في الإسلام لمن ترك الصلاة، ثم وثب ليقوم يريد أن يقف ويصلي وهو قد طعن والدماء تنبعث منه، فانبعث جرحه دماً، فقال: هاتوا لي عمامةً فعصبَ بها جرحه ثم صلى، صلى وهو يعلم أنه يموت، لكن يودع الحياة دون أن يترك صلاة الفجر، ولما سلَّم من صلاته قال: أيها الناس هل كان هذا على ملأٍ منكم؟ فقال عليٌّ رضي الله عنه: والله لا أدري من الطاعن من خلق الله أنفسنا تفدي نفسك ودماؤنا تفدي دمك، لوددنا أن الله زاد في عمرك من أعمارنا، ثم علم عمر أن طاعنه هو عدو الله أبو لؤلؤة المجوسي، غلام المغيرة، فقال عمر رضي الله عنه: قاتله الله لقد أمرت به معروفاً، عمر أحسن له في الصباح لكن هو ما زال حاقداً عليه رغم إحسانه له، قال: الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجلٍ يدَّعي الإسلام، وفي رواية لم يجعل ميتتي على يد رجلٍ يحاجُّني في سجدةٍ سجدها لله، فعمر رضي الله عنه سُرَّ أن موته لم يكن على يد مسلم حتى لا يبوء بإثمه وحتى لا يحاجَّه يوم القيامة بسجدةٍ سجدها لله.

سيدنا عمر يوصينا الصلاة
لما قالوا له يا أمير المؤمنين: الصلاة الصلاة؟ قال: لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
أيها الكرام:

{ كانَ آخِرُ كَلامِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: الصَّلاةَ الصَّلاةَ ! اتَّقوا اللهَ فِيما مَلَكَتْ أَيْمانُكم }

(صحيح أبي داود)

آخر ما أوصى به محمدٌ صلى الله عليه وسلم أمته بالصلاة وبملك اليمين، أما الصلاة فواضحة، لأنه كما صح في الحديث:

{ عن أَبي هُريْرةَ رضي اللَّه عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "إِنَّ أَوَّل مَا يُحاسبُ بِهِ العبْدُ يَوْم القِيامةِ منْ عَملِهِ صلاتُهُ، فَإِنْ صَلُحت، فَقَدْ أَفَلحَ وَأَنجح، وَإنْ فَسدتْ، فَقَدْ خَابَ وخَسِر، فَإِنِ انْتقَص مِنْ فِريضتِهِ شَيْئاً، قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وجلَّ: انظُروا هَلْ لِعَبْدِي منْ تَطَوُّع، فَيُكَمَّلُ مِنْهَا مَا انْتَقَص مِنَ الفَرِيضَةِ؟ ثُمَّ يكونُ سَائِرُ أَعمالِهِ عَلى هَذَا" }

(رواه التِّرمِذِيُّ)

أول ما يسأل الناس عنه يوم القيامة الصلاة، أول سؤال عندما نقف بين يدي الله سيسألنا الله عن صلاتنا فيقول: انظروا لعبدي في صلاته، فإن كان هناك نقص قال: انظروا هل له من تطوع (نوافل)؟ فيكمّل النقص.
بالصلاة نرسم الطريق إلى الآخرة
فلنحرص على الصلاة إخواننا الكرام؛ الإنسان عندما يحسن صلاته يحسن آخرته، والله عندما يحسن صلاته يحسن مستقبله، عندما يحسن صلاته يرسم آخرته بيده، العلم عند الله والغيب لله لكن هل أستطيع أن أرسم الطريق إلى الآخرة؟ نعم بالصلاة، عندما أحسن صلاتي ووقوفي بين يدي الله، فلينظر الإنسان بين يدي الله عندما يقف كيف يقف؟ وكيف يؤدي صلاته؟ باطمئنانٍ وبخشوعٍ، بتمامها وبحركاتها وبقراءتها، فالصَّلاةَ الصَّلاةَ.

الإسلام جاء ليقضي على العبودية
الحرية من أهم مقاصد الإسلام
أما (ما ملكت أيمانكم) فاليوم الذي يدَّعي أو يغمز من طرف الإسلام بأنَّ الإسلام رعى أو شجَّع أو حثَّ على العبودية أو على ملك اليمين فهو لا يعرف عن الإسلام شيئاً، الإسلام أيها الأحباب؛ جاء ليقضي على العبودية، من أهم مقاصد الإسلام الحرية أن تكون حراً حتى تستطيع أن تعبد الإله جلَّ جلاله وما شُرِعَ الجهاد إلا لتكون حراً، الجهاد لم يُشرَع ليجبر إنساناً على الدخول في دين الله لكنه شُرع ليتيح له الحرية ليدين إن شاء بدين الإسلام أو يدين بغيره

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ
(سورة البقرة: الآية 256)

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ
(سورة الأنفال: الآية 39)

قضاء الإسلام على العبودية
قاتلهم حتى لا يكون الدين لطاغيةٍ من طغاة الأرض، حتى لا يدين الناس للطغاة، قاتلوهم حتى يدين الناس لله، حتى يصبحوا أحراراً، فالإسلام جاء للحرية، الحرية المنضبطة وليست الحرية التي ينادي بها اليوم البعض، فجاء من أجل الحرية الحقة، لكن لما كان نظام العبودية ونظام استملاك اليمين قائماً فقد وسَّع مخارجه وضيَّق مداخله واعتنى بالموجودين حالياً حتى قضى على النظام شيئاً فشيئاً فأصبح العبد يعامل معاملة أي إنسانٍ بل يعامل معاملة السيد:

{ عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ. فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مما يأكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِما يَلْبَسُ، ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ فإنْ تكلَّفوهُمْ فأعِينُوهُمْ " }

(متفق عليه)

حتى الاسم ألغاه الإسلام:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي }

(صحيح مسلم)

لا تناده: يا عبدي، ليس عبداً لك هو عبدٌ لله، لكن يخدم عندك.
النبي صلى الله عليه وسلم آخر كلامه من الدنيا:

{ كانَ آخِرُ كَلامِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: الصَّلاةَ الصَّلاةَ ! اتَّقوا اللهَ فِيما مَلَكَتْ أَيْمانُكم }

(صحيح أبي داود)


خوف عمر من الله عز وجل
نتابع الأيام الأخيرة في حياة عمر، رضي الله عن عمر، وكان عمر رضي الله عنه على فخذ ابنه عبد الله فقال: "يا بني ضع خدي على التراب علَّ الله أن يرحمني"، فلم يفعل عبد الله، فأعادها قائلاً: "ضع خدي على التراب لا أُمَّ لك يا عبد الله"، يقول عبد الله: فوضعت خده إلى الأرض حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجةً من بين أضغاث التراب وبكى وأصغيت إليه لأسمع ما يقول فإذا به يقول: "ويلَ عمر إن لم يتجاوز الله عنه، ويلَ عمر إن لم يتجاوز الله عنه"، ويدخل الصحابة يعودونه ومن بينهم علي رضي الله عنه فيقول: "ما خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللهِ إنْ كُنْتُ لأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مع صَاحِبَيْكَ"، رسول الله وأبي بكر، وحسبت إني كنت كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ"، بَكْرٍ وَعُمَرُ، فبكى عمر رضي الله عنه وقال: "يَا لَيْتَنِي أَنْجُو كَفَافًا لَا لِي وَلَا عَلَيَّ".

{ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا، وُضِعَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ علَى سَرِيرِهِ، فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُثْنُونَ وَيُصَلُّونَ عليه، قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ، وَأَنَا فيهم، قالَ فَلَمْ يَرُعْنِي إلَّا برَجُلٍ قدْ أَخَذَ بمَنْكِبِي مِن وَرَائِي، فَالْتَفَتُّ إلَيْهِ فَإِذَا هو عَلِيٌّ، فَتَرَحَّمَ علَى عُمَرَ، وَقالَ: ما خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللهِ إنْ كُنْتُ لأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مع صَاحِبَيْكَ، وَذَاكَ أَنِّي كُنْتُ أُكَثِّرُ أَسْمَعُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فإنْ كُنْتُ لأَرْجُو، أَوْ لأَظُنُّ، أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ معهُمَا }

(صحيح مسلم)


المحبة بين الصحابة صنعت فتوحات عظيمة
الحب يصنع ما لا تصنعه الأفكار
عندي ملاحظتان: الأولى: سيدنا علي بن أبي طالب كما مر وكان في وفاة سيدنا عمر، هذه المحبة التي كانت بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي فتح الله بها الفتوحات، المعلومات النظرية لا تصنع إلا ثقافةً وفكراً، لكن الذي يصنع هو الحب، انظروا في حياتنا ما الذي يحركنا؟ الحب، العاطفة، المعلومة لا تحرك، المعلومة أحياناً لا تلزم صاحبها بالصواب، كم من إنسان يعلم يقيناً وقرأ أبحاثاً عن أضرار التدخين ويدخن؟ كثيرون، هل استطاعت المعلومة أن تلزمه بالصواب؟ لا، لكن أحياناً ابن يحب أباه حباً لا حدود له، يقول له أبوه: أنا أرضى عنك إن تركت التدخين، إذا كنت تحبني دع التدخين، يقول له: أمرك، الحب يصنع ما لا تصنعه الأفكار، الحب أقوى من المعلومات، فالحب الذي كان بين صحابة رسول الله هو الذي صنع الله به الفتوحات، أي رواية في التاريخ تقرؤها عن بغضٍ بين الصحابة الكرام لا تلتفت لها ولا إلى من قالها، هذا الحب بين سيدنا علي وسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، محبة بأعلى مستوى، فتح الله بهم الفتوحات بهذا الحب، يقول لك: سيدنا عمر عزل خالد بن الوليد لوجود خلاف معه، لا تصدق، لأن سيدنا عمر لا يفعلها، لأن سيدنا عمر الذي فتح الله به الأرض وبهذه الأخلاق وبهذا العدل لا يمكن أن يكره خالد بن الوليد أو أن يغار منه، معاذ الله، قال له: والله إني لأحبك قال: لمَ عزلتني؟، قال: يا خالد والله إني لأحبك، قال: فلمَ عزلتني؟ قال: والله لقد خشيت أن يفتتن الناس بك، لأنك ما خضت حرباً إلا انتصرت، فخشي عمر أن يقول الناس: إنما النصر يصنعه خالد والنصر من عند الله، فأراد أن ينتصر للتوحيد وأعلم خالد بذلك، أما أن تقرأ رواية أخرى أن هناك عداء؟ معاذ الله، كيف تصنع عداوات بين هؤلاء الأشخاص الذين كانوا على قلب رجلٍ واحدٍ؟ نعم الخلاف موجود في كل عصر، الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، يحصل اختلاف في وجهات النظر وهذا موجود من عهد الصحابة الكرام وعلمونا أدب الاختلاف فكانوا حتى في اختلافهم قمماً، لكن أن يكون عندهم بغضاء للآخرين، معاذ الله!

الخوف على قدر المعرفة
الخوف من الله والنظر إلى عظمته
الملاحظة الثانية إخواننا الكرام؛ وهي الأهم: أنت عندما تقرأ عن خوف عمر بن الخطاب في هذه اللحظات؛ سيدنا عمر بن الخطاب مبشَّر بالجنة، رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عمرٌ في الجنة، من العشرة المبشرين بالجنة عمر، هو على هذا العمل وما قدمه للإسلام يخاف من الله، واليوم نحن وأنا منكم على تقصيرنا مطمئنون، هل اطمئناننا هو الصحيح أم خوفهم هو الصحيح؟ لا والله خوفهم هو الصحيح لأن الخوف على قدر المعرفة، فعمر رضي الله عنه لعل خوفه من الله لا أقول أنساه بشارة الجنة ولكن لم يعد يفكر فيها وهو ينظر إلى عظمة الله وحق العبودية الذي يرى أنه ما قدم شيئاً منه لله تعالى، هذا هو شعوره والله أعلم.
لمَّا كان الصحابة يخافون؛ سيدنا عمر يقرأ سورة الطور حتى يبلغ:

إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ
(سورة الطور: الآية 7-8)

عِظَمُ مقام الله في قلوب الصحابة
فيبكي حتى يشتد بكاؤه ولا يستطيع أن يتم الكلام، سيدنا أبو بكر كان يقول: "ابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا" ويمسك بلسانه ويقول: "هذا الذي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ"، لساني هو السبب؛ ماذا كان يقول أبو بكر بلسانه إلا الخير، لكن هم لعظم مقام الله تعالى في قلوبهم كانوا يرون أن كل ما قدموه لا يساوي شيئاً أمام عظمة الله، لذلك قال ابن مسعود يخاطب بعض التابعين الذين جاؤوا بعد الصحابة: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات" أي من المهلكات، قال شراح الحديث: ليس هذا يعني أن الكبائر أصبحت صغائر، مستحيل، حتى اليوم الكبائر معروفة، قال: ولكن كانت الصغائر تعظم في عيونهم لعظم مقام الله في قلوبهم، لذلك حتى لا نخاف كثيراً في الصحيح:

{ ثُم يَأْتي زَمانٌ مَن عمِلَ منهم بعُشْرِ ما أُمِرَ به نَجا }

(رواه الترمذي)

نحن جماعة معشار آخر الزمن، بِعُشْر ما عمل صحابة رسول الله نسأل الله النجاة، أما هؤلاء قمم لا نبلغ شأوهم لكن نسأل الله أن يجمعنا بهم في مستقر رحمته بحبنا إياهم.

اختيار سيدنا عمر لمكان دفنه
ويختم عمر رضي الله عنه وأرضاه حياته بأهم ما لديه، ما أهم ما لدى عمر؟ أن يدفن بجوار صاحبيه رسول الله وأبي بكر رضي الله عنه، فيحدث البخاري في صحيحه أن عمر رضي الله قال لابنه عبد الله:

{ انْطَلِقْ إلى عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلَامَ، ولَا تَقُلْ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ، فإنِّي لَسْتُ اليومَ لِلْمُؤْمِنِينَ أمِيرًا، وقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ أنْ يُدْفَنَ مع صَاحِبَيْهِ، فَسَلَّمَ واسْتَأْذَنَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي، فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ السَّلَامَ، ويَسْتَأْذِنُ أنْ يُدْفَنَ مع صَاحِبَيْهِ، فَقَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، ولَأُوثِرَنَّ به اليومَ علَى نَفْسِي، فَلَمَّا أقْبَلَ، قيلَ: هذا عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ، قدْ جَاءَ، قَالَ: ارْفَعُونِي، فأسْنَدَهُ رَجُلٌ إلَيْهِ، فَقَالَ: ما لَدَيْكَ؟ قَالَ: الذي تُحِبُّ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ أذِنَتْ، قَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، ما كانَ مِن شيءٍ أهَمُّ إلَيَّ مِن ذلكَ، فَإِذَا أنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمْ، فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فإنْ أذِنَتْ لي فأدْخِلُونِي، وإنْ رَدَّتْنِي رُدُّونِي إلى مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ }

(صحيح البخاري)

عدم استغلال المنصب حتى في أسوء الظروف
(فَإِنِّي لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا) عمر لا يريد أن يستغل منصبه حتى في هذه اللحظة، وحتى في أحب ما لديه، لا تقل لها أمير المؤمنين يستأذنك، فإنها ربما تأذن خوفاً من أمير المؤمنين أو حياءً من أمير المؤمنين فلا أريد أن أستغل منصبي وأنا على فراش الموت وقد قضيت، في اللحظات الأخيرة، (وثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي)، تبكي من أجل عمر رضي الله عنه، (كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي) هذا المكان الثالث كنت أريده لنفسي، للحظة الأخيرة يخاف عمر أن تكون قد استحيت منه ولا يريد أن يأخذ شيئاً بسيف الحياء أو بسيف الخلافة وهو الذي عاش خلافته لم يستفد شيئاً من الخلافة فأراد أن يستأذن بعد وفاته الآن أصبح في التابوت لا يوجد حياء منه أبداً (فإنْ أذِنَتْ لي فأدْخِلُونِي، وإنْ رَدَّتْنِي رُدُّونِي إلى مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ) وأسلم عمر الروح إلى بارئها وحمل فكأن المسلمين لم تصبهم مصيبةٌ إلا يومئذٍ، فما أصابهم حزنٌ مثل حزنهم إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ رضي الله عنه ودفن حيث أكرمه الله مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وما تزال الجموع حتى اليوم تقف أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا عمر.

حياء السيدة عائشة من سيدنا عمر بعد دفنه
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها؛ وهنا ملمح عجيب حقيقةً وهو في الصحيح أخرجه أحمد في مسنده:

{ كنتُ أدخُلُ بَيتي الذي دُفِنَ فيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَبي، فأضَعُ ثَوْبي، وأقولُ: إنَّما هو زَوْجي وأبي، فلمَّا دُفِنَ عُمَرُ معهم، فواللهِ ما دخَلتُهُ إلَّا وأنا مَشدودةٌ علَيَّ ثيابي؛ حَياءً مِن عُمَرَ! }

(أخرجه أحمد)

حياء السيدة عائشة رضي الله عنها
(فَأَضَعُ ثَوْبِي) تخلع ثيابها في بيتها، (فَأَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي) المدفونان زوجي وأبي، (فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ) طبعاً هذا ليس حكماً شرعياً لكن هي شدة حياء المرأة المسلمة من جهة وشدة هيبة عمر من جهة ثانية، فهي تدخل بيتها فتقول عمر موجود الآن، مع أنه مسجَّى تحت التراب، فتشد ثيابها لا تضع ثيابها، بل تبقى بثيابها المحتشمة حياءً من عمر، في حياته وبعد موته.
فالآن تهنأ يا عمر بجوار من أهدى البشر فسقى رفاتك وَابِـــلٌ من ماء غيث مُنْهَمِــــــر
{ شاعر مغمور }

الحياة في سبيل الله
إخواننا الأحباب: سيدنا عمر عاش حياته لله، وقضى لله، واليوم بعد ألف وأربعمئة سنة نذكره وتطيب المجالس بذكره ونترضى عنه، ويوجد أشخاص أقوياء وأغنياء ما عاشوا لله، بل عاشوا لأنفسهم أو عاشوا والعياذ بالله على الناس فبنوا عزهم على إذلال الناس وبنوا مجدهم على أنقاض الناس وبنوا غناهم على إفقار الناس وقضوا وهم أقوياء لكننا اليوم لا نذكرهم وإن ذكرناهم ذكرناهم بسوء وقلنا: كفوا عن ذكرهم فقد تعكر المجلس بذكرهم، فالإنسان أيها الأحباب؛ إما أن يحيا لله وإما أن يحيا لغير الله

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(سورة الأنعام: الآية 162)

فليكن لسان حالنا جميعاً أن نحيا في سبيل الله، الموت في سبيل الله شرف وهو شرفٌ عظيمٌ، ونسأل الله أن يرزقنا الشهادة في سبيله لكن إن لم يتح لنا أن نموت في سبيل الله فلا أقل من أن نعيش في سبيل الله، فالعيش في سبيل الله متاح لجميع البشر وهو ممكن ومطلوب وثماره يانعة وقريبة، الحياة في سبيل الله نِعمَ الحياة أن تجعل حياتك لله، فتنفق في سبيل الله، وتأخذ في سبيل الله، وتعطي في سبيل الله، وتربي أولادك في سبيل الله، وتصلي في سبيل الله، وتصوم لله، وتعطي لله، وتمنع لله، وترضى لله، وتغضب لله، هذا معنى أن يحيا الإنسان في سبيل الله.
والحمد لله رب العالمين.