• محاضرة في الأردن
  • 2020-10-05
  • عمان
  • الأردن

غرباء...!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغرِّ الميامين، أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنا وعنهم يارب العالمين.
وبعد؛ أيها الكرام: موضوعنا اليوم عن الغربة والغرباء، الغربة أيها الأحباب؛ ثلاث: غربة دنيا، غربة دين، غربة وطن.
أما غربة الدنيا فيشترك بها كل البشر مؤمنهم وكافرهم، محسنهم ومسيئهم، كلنا غرباء في الدنيا، ضيوفٌ عليها، وأما غربة الدين فهي غربة الملتزمين المتمسكين بمنهج الله، القائمين بأمر الله، الذين يصلحون ما أفسد الناس، وأما غربة الوطن فهي غربة من شاء الله عزَّ وجلَّ أن يترك وطنه لسببٍ أو لآخر، فيتغرب عنه، هذه أنواعٌ ثلاثة.

1. غربة الدنيا
نبدأ بالغربة الأولى، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عندما أخذ بمنكبه وقال له:

{ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ }

(صحيح البخاري)

الغريب ليس من أهل الوطن
الغريب _ أيها الأحباب _ ليس من أهل الدار، الغريب ليس من أهل الوطن، الغريب وافدٌ يعيش مع أهل هذا المكان أياماً أو أسابيعَ أو شهوراً ثم يرحل، ونحن في الدنيا كلُّنا غرباء، لأننا لم نخلق للدنيا، هذه الدنيا ليست وطناً لنا، وطننا هناك في الآخرة.
يوم جاء رجل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه فقال له: أين متاعكم؟ وجد بيته ليس فيه متاعٌ كثيرٌ، فقال له: لنا بيتٌ هناك نرسل إليه صالح متاعنا؛ من الأعمال الصالحة الطيبة، فنحن في الدنيا غرباء، ضيوفٌ عليها، لكننا سنرحل يوماً إلى دار البقاء، الجنة هي دارنا وقرارنا، نسأل الله أن يبلغنا إياها، لذلك شاءت حكمة الله أن يُجري _ إن صح التعبير_ تجربةً، فخلق آدم في الجنة مع أنه خلقه في الأصل للأرض قال تعالى:

إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
(سورة البقرة: الآية 30)

ترك العمل مخالفةٌ للشريعة الإسلامية
لكن جعله في جنةٍ تقريبيةٍ لجنة الخلد، فلما عصى أُخرج منها، وأمره أن يطيع حتى يعود إليها استحقاقاً، فهذه رسالة من الله لبني البشر أننا في الأصل لم نخلق للدنيا، بل خلقنا للآخرة، لكن جئنا ضيوفاً على الدنيا من أجل أن ندفع الثمن لنستحق جنة الخلد، هذه الحقيقة إذا ترسخت في قلوبنا وفي عقولنا وفي نفوسنا تحركنا في الدنيا تحركاً صحيحاً، لا أقول: قعدنا، ولا أقول: استسلمنا، ولا أقول: تركنا التجارة، ولا أقول: تركنا العمل، ليس هذا هو المقصد، بل إنَّ هذا يخالف الشريعة، ولكن أصبحت حركتنا في الحياة منتظمةً، ملكنا الدنيا ولم تملكنا، جعلناها في أيدينا ولم نجعلها في قلوبنا، تحكمنا بها ولم تتحكم بنا، قُدناها ولم ننقدْ لها، هذه غربة الدنيا، نعلم أننا غرباءُ فما يصلح للآخرة نفعله وما يضر بآخرتنا نتركه، ونجعل الدنيا ممراً للمقر وهو الآخرة فنتزود من ممرنا لمقرنا، الدنيا ممرٌ والآخرة مقرٌ، والإنسان يتزود من ممره لمقره بالأعمال الصالحة، بالذكر، بالصلاة، بالعبادة، بالطاعة.

مواصفات الغريب
إخواننا الكرام: لو دخلنا أكثر في العمق، الغريب له صفات، من صفاته أنه لا ينافس أهل البلدة التي هو فيها، الغريب لا ينافس تنافساً مذموماً، هو راحلٌ بعد أيامٍ، أو بعد سنواتٍ، أو بعد أشهرٍ، في محصلة الأمر مُقامه مؤقت، فهو لا يتنافس ولا يتكالب على الدنيا.
ثم الغريب لا يتدابر مع أهل المكان، لذلك كان أهل الشام يقولون: يا غريب كن أديباً، ودارِهم ما دمت في دارِهم، وأرضِهم ما دمت في أرضهم، وحيِّهم ما دمت في حيهم، فيتأدب مع الآخرين لأنه غريبٌ، والمؤمن في الدنيا عندما يستشعر غربته في دار الدنيا يتأدب مع الآخرين، فلا يتدابر مع خلق الله لأنه راحلٌ كما هم راحلون، فيسمح ويعفو ويصفح، ولا يعاتب، وهذا لا يعني أنه يستكين، قال تعالى:

وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ
(سورة الشورى: الآية 39)

لكنه لا ينتصر لنفسه وإنما ينتصر إذا انتهكت حرمات الله، إن انتصر فإنما ينتصر لإحقاق الحق وإبطال الباطل، لكن منهجه الأصلي هو العفو، قال تعالى:

وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
(سورة الشورى: الآية 43)

يصبر ويغفر ويسامح، لا يتدابر مع الناس، لا يتنافس معهم لأنه غريب.
المؤمن في الدنيا غريب
هناك معنى لغريب الدنيا قد لا يُنتبه إليه، الواحد منا مقيمٌ في عمَّان مثلاً، يعرف مداخلها ومخارجها، فإذا سار بسيارته صباحاً إلى عمله لا يلتفت إلى شيء، لا إلى لوحةٍ على محلٍّ تجاريٍّ، ولا إلى طريقٍ فرعيَّةٍ، لأنه قد حفظ الطريق، الطريق محفوظة لديه، لا يهتم بالتفاصيل، لكن لو أنه غادر يوماً ليزور اسطنبول لأول مرَّة مثلاً فإنه يجلس في السيارة متلفتاً يمنةً ويسرةً، ما هذا؟ وما ذاك؟ ما أعلى هذا البناء! وسبحان الله ما أجمل هذه البحيرة! وما أحلى هذه الأشجار الخضراء! لأنه يرى أشياء جديدة، المؤمن في الدنيا غريبٌ، لا يمرُّ على خلق الله عزَّ وجلَّ وهو مُعرضٌ عنه، قال تعالى:

وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ
(سورة يوسف: الآية 105)


إلف النعمة من الأمراض الكبيرة
إلف النعم يُنسي الإنسان شكرها
المؤمن يلفت نظره كل شيءٍ في خلق الله، ويدلُّه كلُّ شيءٍ على الله، فإذا نظر إلى الشجرة بجمالها وباخضرارها وبثمارها سبَّح مولاه وكأنه ينظر إليها أول مرَّة، وإذا فتح نافذة غرفته صباحاً فرأى عصفوراً قد ملأ الجو تغريداً ولطفاً فيسبح الله على هذه النعمة من نعم الله، وإذا جلس على مائدته فهو في كل يوم يرى فيها نعمةً تستحق الشكر، يشعر بالغربة، فهو لا يمر على الأشياء وقد ألفها، فلا يألف النعم، ومن الأمراض الكبيرة إلف النعمة، وهو أن يألف الإنسان نعم الله، فلا ينتبه إلى نعمة الماء ولا إلى الصحة ولا إلى الدواء ولا إلى نعمة المسكن ولا إلى نعمة الأمن ولا إلى نعمة العافية، لا يألف النعم فينسى شكرها، وهذا من أسباب الحجاب عن التوفيق، فلا يكون موفقاً في حياته لأنه أَلِفَ النعمة فنسيَ شكرها، إذاً من معاني الغربة أنك لا تألف شيئاً حولك فكل شيءٍ حولك فيه من عظمة الله ما فيه.
لماذا أيها الأحباب؛ اليوم عندما نرى إنجازاً جديداً من منجزات المدنية الغربية كهاتف يُطوى أو مصورته (كميرته) دقيقة جداً نعجب به؟ لأننا نراه لأول مرَّة، الله أكبر أين وصل العلم ما هذا! وصلوا إلى هذه المنجزات العظيمة، نشعر بالإعجاب بهذا الأمر لكننا لا نتعامل مع خلق الله بالإعجاب نفسه، وما هذه المنجزات (منجزات المدنية) إلا أثرٌ بسيطٌ من آثار هذا العقل الذي خلقه المولى جلَّ جلاله، لذلك أيها الإخوة؛ أريد من نفسي ومنكم جميعاً أن نتعامل مع نِعم الله ومع مخلوقات الله بتعامل الغريب؛ كأننا ننظر لأول مرَّةٍ، الله أكبر فعلاً كل شيء في الكون يستحق أن تنظر إليه نظراً يدلك على خالقه ومولاه، لا تجلس على المائدة دون أن تقول: الحمد الله، بسم الله الرحمن الرحيم، سبحان الذي أطعمنا وسقانا وآوانا، إذا فتحت باب البيت ودخلت هذه نعمة يفقدها الملايين، أنت لك بيتٌ تدخله ولو كان أجرةً لكنه بيتٌ يؤويك وسقفٌ يحميك، فتدخل إلى بيتك فتشعر بنعمة المسكن وتأوي إلى فراشك فتشعر بنعمة المآوى، نِعم الله كثيرة والغريب في الدنيا يشعر بها لأنه غريب.

2. غربة الدين
غربة الدين غربةٌ محمودة
أيها الأحباب؛ إذاً الغربة الأولى هي غربة الدنيا، أما الغربة الثانية فهي غربة الدين: وهذه خاصةٌ بمن أكرمهم الله تعالى بالإسلام وبالإيمان وبالاستقامة وبالالتزام، هذه الغربة نعيشها جميعاً نحن معاشر المؤمنين نسأل الله أن يجعلنا من الغرباء، هذه غربةٌ يُحمد صاحبها، إذا كنت صادقاً وحولك كثيرٌ من الكاذبين فأنت غريبٌ، وهذه غربةٌ محمودةٌ، وإذا كنت ثابتاً على الحق وحولك مطبِّلون ومتنازلون وحولك من يبيعون دينهم بعرضٍ من الدنيا قليل فهذه نعمةٌ لا تعدلها نعمة، وإذا كنت تأوي إلى مسجدٍ تؤدي الفروض أو تأوي في بيتك إلى مصلاك فتؤدي الفروض، فأنت في غربةٍ عن الناس الذين ينظرون اليوم إلى الدين على أنه أمورٌ غيبيةٌ قد ولَّى زمانها كما يقول البعض والعياذ بالله، وإذا كنت في تجارتك لا تريد أن تأكل قرشاً من حرام على حساب صحة الناس وعلى حساب عزهم وعلى حساب قوتهم، وإنما تبيع بما يرضي الله وتنتج بما يرضي الله فاحمد الله ألف مرَّة ومرَّة فأنت غريب غربةً محمودةً، هذه غربةٌ محمودةٌ، إذا وجدت نفسك لا تنساق وراء الكثير فأنت غريب، القرآن الكريم يمدح القِلَّة ويذمُّ الكثرة، أعطوني آيةً في كتاب الله تمدح الكثير! أبداً

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(سورة لقمان: الآية 25)

الكثير لا يُحمد في كتاب الله، لكن القليل ورد ممدوحاً، قال تعالى:

ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ
(سورة الواقعة: الآية 13-14)

قال تعالى:

وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ
(سورة سبأ: الآية 13)

وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ
(سورة ص: الآية 24)

(وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ) القلة محمودة هذا لا يعني أننا لا نحب الكثرة نسأل الله أن يجعل الكثير في الخيرات لكن هذا واقع الحياة، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ يَجيءُ النَّبيُّ يَومَ القيامةِ ومعه الرَّجُلُ، والنَّبيُّ ومعه الرَّجُلانِ }

(أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجة وأحمد واللفظ له)

لا تغترَّ بكثرة الهالكين
المعنى المقصود من الكلام: لا تغترَّ بكثرة الهالكين، إذا كان هناك طريق نهايته وادٍ سحيقٌ مدمرٌ، ورأيت الحشود متجهة إليه فهل تغترُّ به! نهايتهم إلى الهلاك، فلا تغترَّ بكثرة الهالكين، وأنت الجماعة إن كنت على الحق ولو كنت واحداً، لو كنت وحدك في آخر الزمن وما بقي أحدٌ يعبد الله إلا أنت، فأنت الحق وأنت الكثير وهم القلة لأنهم على الباطل، هذا المعنى نحتاجه، لأن كل الإرهاصات اليوم تقول: إننا في آخر الزمن، المؤشرات النبوية، ربما تأتي أيام أصعب

{ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ }

(رواه الترمذي)


معنى الغرباء في السنة النبوية
الإنسان من غير أن يشعر تسأله: لماذا لا تلتزم؟ يقول لك: يا أخي كل الناس هكذا، وإذا كان كل الناس هكذا! أنا لست هكذا، أنا لا أبيع ديني، هم باعوا دينهم أنا لا أبيع، فلما قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً، فَطُوبى لِلْغُرَبَاءِ، في رواية أخرى قِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: اَلَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ اَلنَّاسُ }

(رواه مسلم)

(طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ) طُوبَى: هو اسم على وزن فُعْلى مؤنثه أفعل يعني أطيب طُوبَى، أحسن حُسْنَى، أكرم كُرْمَى، طوبى من الطيب، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن في الجنة شجرةً اسمها طوبى يسير الإنسان في ظلها مئة عام ولا ينتهي ظلها، هذه بغير قوانين الدنيا، اليوم إذا سرت في طريقٍ قد أحاطت به الأشجار يوجد طرقات في غوطة دمشق قد تسير مثلاً بسيارتك خمس دقائق أو عشر دقائق تقول: الله أكبر عشر دقائق والطريق مُظلَّل، هذه شجرة طوبى في الجنة تسير مئة عام في ظلها، فقال: (طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، فَقِيلَ: مَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ؟) الغرباء ورد وصفهم في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أوصاف، اسمعوها ففيها خيرٌ كبيرٌ:

الغرباء هم اَلَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ اَلنَّاسُ
يصلح إذا فسد الناس
الوصف الأول: قال: (اَلَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ اَلنَّاسُ)، يُصلحون، هم صالحون مُصلحون، ليس صلاحاً فقط ولكن يُصلح، يحاول أن يغيِّر، قد ينجح حيناً، وقد لا يحالفه النجاح حيناً آخر، لكنه يصلح في بيته، في أسرته، في عمله، في مجتمعه الصغير، ربما يستطيع يوماً في المجتمع الكبير إذا تسلم منصباً أو كانت له سلطة مدير شركة مثلاً، فيُصلح، الناس فاسدون لكنه يصلح إذا فسد الناس، يُؤمَّن إذا خان الناس، لا يغش إذا غش الناس، لا يكذب إذا كذب الناس، هذا يصلح إذا فسد الناس، هذا الغريب عمله صدقه أمانته تجارته هذه وحدها إصلاح، وهو لم يتكلم بكلمةٍ واحدةٍ، قد يقول قائلٌ: أنا والله لا أملك الكلام كثيراً ولا أُحسنه، يكفي أنك مثالٌ للتاجر الصدوق، للمحامي الصدوق، للمعلم المخلص، هذه وحدها إصلاح، لأنه لا ينبغي أن تخلو الأرض من الصالحين والمصلحين

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ
(سورة هود: الآية 117)

لم يقل صالحون قال: (مُصْلِحُونَ) يصلحون المجتمع من حولهم، الصلاح أمر داخلي في بيتك لكن أنت تصلح العالم من خلال أمانتك، وصدقك، وعفتك، وطهارتك، وكلمتك الطيبة، وإحسانك، وصدقتك، هذا إصلاح، فالغريب يصلح إذا فسد الناس، هذا الوصف الأول في السنَّة، طبعاً هي مجموعة أحاديث لكن أنا جمعت كل الأحاديث التي تتحدث عن الغرباء فالوصف الأول: يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ اَلنَّاسُ.

هم الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي

{ قال اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَيَرْجِعُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي }

(أخرجه الترمذي)

الوصف الثاني قال: (الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي) هذا معنى جديد، هذا إصلاحٌ في السنَّة النبوية، السنَّة النبوية لا تحتاج إلى إصلاحٍ فهي وحي السماء، القرآن والسنَّة وحيان، الأول وحيٌ مَتلوٌ والسنَّة وحيٌ غير مَتلو، لكن جاء به النبي صلى الله عليه وسلم

وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ
(سورة النجم: الآية 3-4)

إصلاح ما أفسد الناس في السنة
كيف نُصلح ما أفسد الناس من السنَّة؟ الناس اليوم تعارفوا على أشياء ليست من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي هذا المصلح فيقيم سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته في طعامه، في شرابه، في بيعه، في شرائه، السنَّة هي الطريقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم له سنَّةٌ في الفرح في الترح، فيأتي هذا الغريب فيطبق السنة، فيقول الناس: ماذا تفعل؟ يقول: هذه سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أُنفِّذ السنَّة التي أمتموها ببعدكم عنها، البدع تميت السنن، فالمؤمن يعلم سنَّةً عن رسول الله فيصلح ما أفسده الناس في السنَّة، اليوم هناك على وسائل التواصل على التلفاز في الهاتف في الفيسبوك يأتيك من أدعياء الدين ما يفسد سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تارةً عن طريق دعوات التجديد، التجديد المذموم وليس المحمود، التجديد الذي يهدف إلى هدم الأسس لا إلى البناء عليها، وتارةً عن طريق أحاديث شريفة يختارها وهو لم يفهم المقصد من الحديث ولم يعي المعنى من الحديث فمثل هؤلاء الناس الآن ينبغي أن ينبري لهم من يصلح ما أفسده الناس من السنَّة، فيصحح، هؤلاء يصلحون ما أفسده الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من سنته وهم الغرباء.

هم النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ

{ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: إِنَّ الإِسْلامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ }

(رواه ابن ماجة)

أيضاً سُئِل رسول الله: (مَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ) ما معنى النُّزَّاع؟ النُّزَّاع يعني الرجل والرجلين، من كل قبيلة واحد واثنان هذا يؤكد المعنى الذي قلناه قبل قليل: الغرباء قلةٌ في آخر الزمن، قبيلةٌ كبيرةٌ تجد فيها رجلين صالحين.

قَوْمٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي نَاسِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ
الصفة الرابعة:

{ عن عبد الله بن عمروٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قُلْنَا: وَمَا الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: قَوْمٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي نَاسِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ }

(رواه الإمام أحمد)

هذا محفز للعمل وليس مثبطاً، انتبهوا، هذا محفز العمل.
مرَّة خطبت الجمعة في عمان، جاءني رجل أعرفه بعد إحدى الخطب قال: جميلٌ أنك حتى الآن تدرِّس وتعطي، ألا ترى الناس في الأسواق في المعاملات لا أحد يستجيب، وما زلت تتكلم بمعنى آخر ألم تملَّ؟! قلت له: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ) فهو يعرِّفني بطبيعة الطريق، أعرف أن من يعصي أكثر ممن يطيع، بالنسبة لي إن كسبت في دعوتي كلِّها رجلاً واحداً فأنا الرابح.

{ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: يَا عَلِيُّ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ }

(أخرجه الطبراني عن أبي رافع)

للداعي أجرٌ حتى لو لم يستجب الناس له
عندما تتكلم ولا تجد من الناس استجابة، فاعلم أنك كسبت الأجر وهو كسب الوزر، لا تقلق، الإنسان يحزن، النبي صلى الله عليه وسلم دخل إلى عمه أبي طالب وهو على فراش الموت، يريد أن ينقذه من النار قال: يا عم قلها وأنا أشفع لك بها عند الله، قُلْ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فلما لم يستجب، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي، لكنه لم يتوقف عن الدعوة فأنزل الله تعالى:

لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ
(سورة البقرة: الآية 272)

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ
(سورة الغاشية: الآية 21-22)

أنا ما كُلفت أن أهدي الناس، الله هو الذي يهديهم لكن أنا كُلِّفت بالكلمة الطيبة التي آخذ أجرها وأُعذَر أمام ربي فقط، هذا هو المطلوب، فقال: (مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ) هذا واقع آخر الزمن، نحن اليوم في واقع من يعصي أكثر ممن يطيع، لكن هل نتوقف؟ بالعكس هذا دافع لأن نعمل.

اَلْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ

{ إِنَّ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَى اَللَّهِ اَلْغُرَبَاءُ، قَالَ: اَلْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ، يَبْعَثُهُمْ اَللَّهُ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ }

(رَوَاهُ أَحْمَدُ)

وآخر وصفٍ وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اَلْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ) الفارُّ بدينه: الهارب بدينه، يتمسك به ويهرب به، هؤلاء مثالهم أهل الكهف، أهل الكهف لما ضُيِّق عليهم فروا بدينهم، فروا بدينهم إلى الله فلجؤوا إلى الكهف قال تعالى:

فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا
(سورة الكهف: الآية 16)

فنشر لهم مولاهم من رحمته، وأجرى على يديهم معجزةً أو أجرى على يديهم حدثاً بخلاف الواقع لأن المعجزة للأنبياء، ظلت إلى قيام الساعة وأنزل الله في شأنهم قرآناً إلى يوم القيامة، قال:

إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ
(سورة الكهف: الآية 13-14)

الفرار بالدين ليس انتقالاً من بلدٍ إلى آخر فحسب
الإنسان أحيانا يضطر أن يفرَّ بدينه، نحن في بلاد تقام فيها شعائر الله، هناك شهوات مستعرة، هناك صوارف وعقبات لكن الحمد لله ما يزال الخير موجوداً، كيف أفرُّ بديني؟ الآن الفرار قد يكون من مجلسٍ لا يرضي الله إلى مجلسٍ يرضي الله، عندما تأتي إلى مجلس علم فإنك تفرُّ بدينك، وعندما تكون في عملٍ تجد به شبهةً فتقول: أنتقل إلى عملٍ آخر دخله أقل قليلاً لكنني أستبرأ لديني، فأنت تفرُّ بدينك، وعندما تكون في مكانٍ ترى نفسك مستضعفاً لا تقوى على طاعة الله، المكان فيه اختلاطٌ والنساء كاسياتٌ عارياتٌ، فلا أريد أن أبقى في هذا المكان، ولو كان فيه منفعةٌ ماديةٌ فتذهب وتتركه، أنت تفرُّ بدينك، فالفرار بالدين لا يعني أن ينتقل الإنسان من بلدٍ إلى آخر فحسب، أو إلى كهفٍ لكن قد يفرُّ بدينه إلى بيته وإلى المسجد، عندما تحيط بك الهموم فتنزل لأداء صلاة الفجر في المسجد فأنت تفرُّ بدينك إلى الله، فهؤلاء الفرَّارون بدينهم في زمن الفتن يتركون أمكنةً لا ترضي الله ويلجؤون إلى أمكنةٍ ترضي الله هذا فرارٌ بالدين، قال تعالى:

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ
(سورة الذاريات: الآية 50)

والفرار أحبابنا الكرام؛ يقتضي المسارعة، هل رأيتم فاراً هارباً يمشي متمهلاً وينظر يمنةً ويسرةً؟! بل يركض، ربنا عزَّ وجلَّ في القرآن لما تحدث عن الرزق قال:

فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ
(سورة الملك: الآية 15)

لما تحدث عن الجنة قال:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
(سورة آل عمران: الآية 133)

لكن لما تحدث عن الوصول إليه قال: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) هذا أسرع شيء، المشي للدنيا، للتجارة مشي، وللجنة مسارعةٌ ومسابقةٌ، لكن إلى الله فِرار، شدة الإسراع.
إذاً أيها الكرام: غرباء الدين: يُصلحون ما أفسد النَّاس، يُحيون سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم قلةٌ؛ النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ، وهم اَلْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ، هكذا ورد وصف الغرباء في سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المؤمن يعتز بدينه ولو كان غريباً في آخر الزمن
تعرفون المنشد السوري الحلبي منذر سرميني أبا الجود، في الشام كنا نسمع أناشيده مذ كنا صغاراً تربينا على أناشيده، إحدى أناشيده كان يقول فيها:
غرباء ونحن سِـرُّ الوجـــــود ورفيف الشذى وأهلُ البُنود غرباء ونحن رمز الصُمــود وجُنودُ الهُدى وحق الجنود غرباء ولـيـس بـِدعـاً فـهـــذا قـدر الحُـرِّ في بـلادِ العـبـيد غرباء والكون يهتز شـوقـــاً لِـرُآنــا فـي كـل فجـر جديــــد غرباء وقـد ملـكـنـا زمـانــــــــاً ونشرنا في كـلِّ أرض ورود غرباء وقـد رشـفـنا عُهُــــوداً في ظِلال القرآن تاج الخلود نحـن قـومٌ إذا شدونا نشـيـداً يمـلأ الزهـرُ مُـقفِراتِ البيـــــــــد
{ سليم عبد القادر }
المؤمن يعتز بدينه ولو كان غريباً
يمـلأ الزهـر الصحارى، فالمؤمن يعتز بدينه ولو كان غريباً في آخر الزمن، هذه القصيدة فاصلٌ منشطٌ كما يقال، كنا نسمعها وتحدث في نفوسنا أثراً، نعتز بغربتنا، هذا قبل ثلاثين سنة، اليوم الغربة اشتدت أكثر وأكثر، كنا نسمع من آبائنا قبل ثلاثين سنة أننا في آخر الزمن ونحن في غربة، فأصبحنا نَحِنُّ إلى هذا الزمن لما فيه من خير، وسبحان الله تلك سُنَّة الحياة لكن المهم أن نبقى غرباء، هذا مديح أيها الأحباب؛ أن تبقى غريباً.

3. غربة الوطن
آخر غربة ربما لا تعني الجميع لكن تعني البعض إنها غربة الوطن، الوطن مُحبَّب، الإنسان يحنُّ إلى مكان ولادته هذه فطرةٌ أودعها الله فيه، قال تعالى:

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ
(سورة النساء: الآية 66)

فربط الخروج من الديار بقتل النفس (أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم) الخروج من الديار يعادل قتل النفس، فالإسلام لا يعارض حبَّ الوطن، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يوم خرج من مكة قال:

{ وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ }

(رَوَاهُ أَحْمَدُ)

النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب وطنه.

{ لَمَّا قَدِمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ، وُعِكَ أبو بَكْرٍ وبِلالٌ، قالَتْ: فَدَخَلْتُ عليهما، فَقُلتُ: يا أبَتِ كيفَ تَجِدُكَ؟ ويا بلالُ كيفَ تَجِدُكَ؟ قالَتْ: فَكانَ أبو بَكْرٍ إذا أخَذَتْهُ الحُمَّى يقولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ في أهْلِهِ... والمَوْتُ أدْنَى مِن شِراكِ نَعْلِهِ وَكانَ بلالٌ إذا أقْلَعَ عنْه الحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ ويقولُ: أَلا لَيْتَ شِعْرِي هلْ أبِيتَنَّ لَيْلَةً... بوادٍ وحَوْلِي إذْخِرٌ وجَلِيلُ، وَهلْ أرِدَنْ يَوْمًا مِياهَ مَجَنَّةٍ... وهلْ يَبْدُوَنْ لي شامَةٌ وطَفِيلُ، قالَتْ عائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأخْبَرْتُهُ فقالَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنا المَدِينَةَ كَحُبِّنا مَكَّةَ، أوْ أشَدَّ وصَحِّحْها وبارِكْ لنا في صاعِها ومُدِّها، وانْقُلْ حُمَّاها فاجْعَلْها بالجُحْفَةِ }

(صحيح البخاري)

تغيير الجو يؤدي إلى وعكةٍ صحيةٍ، تعوَّدوا جو مكة، الغربة مع الجو المتغير أدت إلى وعكة، فأبو بكر رضي الله عنه وبلال وُعِكَا، ( وصَحِّحْها لنا) اجعلها صحيحة معافاة (وانْقُلْ حُمَّاها فاجْعَلْها بالجُحْفَةِ) حمى المدينة، المدينة كان يصاب الناس فيها بالحمى كثيراً، فدعا أن تبتعد الحمى إلى الجُحْفَةِ خارج المدينة.
حب الوطن موجودٌ في النفس
ما أردت قوله: إن حب الوطن موجودٌ في النفس، ولمَّا يضاف إلى الحب الفطري حبٌّ شرعيٌّ يكون الحنين أكثر، فحنين أهل فلسطين إلى فلسطين ليس حنين فطرة فقط، وإنما حنين دينٍ لأن فيها المسجد الأقصى الذي باركه الله وبارك ما حوله، وحنين البعض إلى مكة والمدينة ليس حنيناً فطرياً فقط، وإنما حنينٌ لأيامٍ فيها قربٌ من الله فهذا يزيد الحنين حنيناً، وأيضاً حنين أهل الشام إلى الشام فطرةٌ وإيمانٌ، لأن الشام في آخر الزمان أحبُّ البلاد إلى الله.

{ إن فُسطاطَ المسلمين يوم الملحمة بالغُوطةِ إلى جانب مدينة يُقالُ لها دِمشقُ من خير مدائن الشام }

(أخرجه أبو داود بسند صحيح)

فيزداد الحنين عندما ترتبط الفطرة بالإيمان، لكن كل إنسان يحنُّ إلى وطنه، والأردن من أرض الشام، بلاد الشام جغرافياً فلسطين والأردن وسوريا ولبنان، كلها أرض الشام.
فأيها الأحباب؛ هذه الغربة الثالثة غربة وطن، والإنسان يحنُّ إلى وطنه، ونسأل الله تعالى أن يؤمِّننا جميعاً في أوطاننا، وأن يعيد كل مغتربٍ إلى وطنه سالماً غانماً معافى.
غربة دنيا، وغربة دين ، وغربة وطن.
غربة الدنيا شركاء فيها نحن البشر جميعاً، غربة الدين خاصةٌ بالملتزمين الثابتين يُحمَدون عليها ويثابون عليها، وغربة الوطن لمن أراد اللهُ عزَّ وجلَّ أن يبتليه بالهجرة من وطنه، لكنها سُنَّة الأنبياء فالنبي صلى الله عليه وسلم هاجر والله تعالى يقول في كتابه:

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا
(سورة النساء: الآية 97)

والحمد لله رب العالمين