محمد صلى الله عليه وسلم منّة الله علينا

  • محاضرة في الأردن
  • 2020-10-19
  • عمان
  • الأردن

محمد صلى الله عليه وسلم منّة الله علينا

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يارب العالمين، وبعد فيا أيها الإخوة الكرام:
الحديث اليوم ممتعٌ وجميلٌ لأنه عن أحبِّ الخلق إلى الخالق جلَّ جلاله، لأنه حديثٌ عن رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ، أيها الكرام: سأبدأ بحديثٍ شريف:

{ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ، يَعْنِي مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: ‏"‏ مَا أَجْلَسَكُمْ ‏"‏‏ قَالُوا: جَلَسْنَا نَدْعُو اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِدِينِهِ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِكَ،‏ قَالَ: ‏"‏ آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ ‏"‏،‏ قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلاَّ ذَلِكَ،‏ قَالَ: ‏"‏ أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهَمَةً لَكُمْ وَإِنَّمَا أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلاَئِكَةَ ‏" }

(أخرجه مسلم)

(آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ؟) أستحلفكم بالله ما أجلسكم إلا ذلك؟ (أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهَمَةً لَكُمْ)، قد يظن المستحلَفُ أن المستحلِفَ يتهمه، فيطلب منه أن يحلف بالله، يتهمه بالكذب، والصحابة الكرام عدولٌ رضوان ربي عليهم، فوضح النبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّمَا أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلاَئِكَةَ)، فأراد أن يتحقق من سبب جلستهم، حتى يعلم ما هذا الذي يفعلونه والذي جعل الخالق جلَّ جلاله يفتخر بهم ويذكرهم ويثني عليهم أمام ملائكته، فنحن إن شاء الله في هذه الجلسة لعلنا نتحقق من هذا المعنى، ويباهي الله تعالى بنا ملائكته، لأنه ما أجلسنا اليوم إلا ذكر الله، وما أجلسنا إلا الدعوة إلى الله، وحمد الله، وأن نتذاكر معاً منَّة الله علينا بإرساله رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إلينا.

محور المحاضرة
أيها الكرام: آيتان في كتاب الله ستكونان محور حديثنا في هذه المنَّة والعطية العظيمة من الله، بإرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الآية الأولى:

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
(سورة آل عمران: الآية 164)

أحبابنا الكرام: المنّ في الأصل هو القطع، وهذا معنى قوله تعالى:

لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
(سورة الانشقاق: الآية 25)

أي: غير منقطع، ولكن المنَّ يستخدم أيضاً لمعنيين يتصلان بالقطع، المعنى الأول: هو العطاء دون مقابل، فعندما يعطي المعطي دون مقابل وهو ليس بحاجتك فهو يمنّ عليك، والمنّ لله تعالى ولرسوله علينا:

يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ
(سورة الحجرات: الآية 17)

فالمنّ لله وللرسول.
ويأتي المنُّ بمعنى أن من أعطى يمنُّ على المُعطي ويذكره بعطيته، قال تعالى:

لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى
(سورة البقرة: الآية 262)

أعطه ولا تمنَّ عليه، فيأتي المنَّ هنا بهذين المعنيين.
النبي الكريم رحمةٌ للعالمين
المعنى الذي نريده هنا (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، بمعنى أن الله أعطاهم عطيةً دون مقابل، وهو ليس بحاجتهم، لكنه جلَّ جلاله الغني عن عباده يمنُّ علينا بالعطاء دائماً، من هذه العطايا الجسيمة التي منَّ الله تعالى بها على البشرية، ولكن خصص المؤمنين هنا فقال: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لأنهم من انتفعوا بالعطاء، فالله تعالى لما منَّ برسول الله منَّ به على كل العرب، بل هو رحمةٌ للعالمين، ولكن لما انتفع به من انتفع فقال: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لأنهم انتفعوا بهذا العطاء، (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ) هذه سآتي إليها (مِّنْ أَنفُسِهِمْ) في الآية اللاحقة.

أولى مهمات النبي الكريم: تلاوة الآيات
الآيات هي الأشياء العجيبة التي تلفت النظر
لكن هنا ما مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) هي ثلاث مهمات، المهمة الأولى أن يتلو الآيات، يتلو الآيات بمعنى أن الآية تتلو الآية تأتي بعدها، والآيات في الأصل هي الأشياء العجيبة التي تلفت النظر، فيقال: فلانٌ آيةٌ في الجمال والحُسن، وفلان آيةٌ في العطاء، أي شيءٌ غريبٌ عجيبٌ يلفت النظر في عطائه وكرمه، فربنا جلَّ جلاله لما أرسل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم كان أولى مهماته تلاوة الآيات، والآيات نوعان آياتٌ منظورة، وآياتٌ مسطورة.

آيات الله المنظورة
الآيات المنظورة هي ما تراه بعنيك في هذا الكون، فكله من آيات الله، تلك الشجرة آيةٌ من آيات الله، وتلك الثمرة التي تحملها آيةٌ من آيات الله، وذاك العصفور الذي يُغرِّد آيةٌ من آيات الله، وتلك السماء آية، وذاك الهلال فيها آية، وهكذا، فكل شيءٍ في الكون من آيات الله، قال تعالى:

وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
(سورة فصلت: الآية 37)

وقال تعالى:

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا
(سورة الروم: الآية 21)

أنت لزوجتك آية، وهي لك آيةٌ من آيات الله، شيءٌ عجيب، وابنك الذي تلده زوجتك آيةٌ من آيات الله، وينمو أمامك فهو آيةٌ من آيات الله، كل شيء آية، قال أبو العتاهية:
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِـــــــدُ
{ أبو العتاهية }
هذه آيات الله المنظورة، يتلوها النبي صلى الله عليه وسلم على قومه، يبيِّنُ لهم عظمة الخالق، النبي صلى الله عليه وسلم يوم كان يخرج إلى غَارِ حِرَاء كما في الصحيح :

{ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، فَكانَ يَأْتي حِرَاءً فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ، وهو التَّعَبُّدُ، اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، ويَتَزَوَّدُ لذلكَ }

(صحيح البخاري)

الوصول إلى الخالق من خلال الخلق
(يَتَحَنَّثُ) أي يتعبد الله اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، ما الذي كان يفعله في هذا الغار؟ ولما يتنزل القرآن، كان يتأمل، هذا ما يسمونه اليوم التأمل، التفكر بالعرف القرآني، كان ينظر في ملكوت السماوات والأرض، كما فعل إبراهيم يوم كان يتأمل في ملكوت السماوات ويبحث عن الخالق الذي خلق هذا الكون بما فيه، يريد أن يصل إلى الخالق من خلال الخلق، هذا معنى التأمل والتفكر، فهذه آيات الله المنظورة.

آيات الله المسطورة
أما آياته المسطورة فهي آياته المقروءة في كتابه، فعندما تقرأ:

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
(سورة الإخلاص: الآية 1)

هذه آية تدل على وحدانية الله، وعندما تقرأ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
(سورة المائدة: الآية 8)

فهذه آيةٌ تدل على أن هذا الشرع جاء من أجل أن يقوم الكون بالقسط، فكل ما في الكون آيات، وكل ما في القرآن آيات، هذه آياتٌ مسطورة وتلك آياتٌ منظورة، والعجيب أن آيات الله المنظورة تُفسر لك آياته المسطورة، والعكس صحيح، فأنت أحياناً تنظر في آيات الله المنظورة، فتجد مصداقاً لآيةٍ في كتاب الله مثلاً قال تعالى:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ
(سورة آل عمران: الآية 190)

فأنت عندما تنظر في خلق السماوات والأرض، ترى تفسير الآية في هذا الخلق، في القرآن أكثر من ألف آيةٍ تتحدث عن الكون أين تفسيرها؟ في الكون:

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ
(سورة الطارق: الآية 11-12)

أين تفسير (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ)؟ عندما تنظر في السماء، وترى كيف يصعد إليها البخار فينزل مطراً، وعندما تنظر فيها فترى أن الأمواج تخرج إليها فتعود بثاً إذاعياً، وعندما تنظر فيها فترى أن كل ما فيها يدور ويرجع إلى مكان انطلاقه النسبي وهكذا، فهذه الآية: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ* وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) تصديقها وتفسيرها في كتاب الله المنظور، والعكس صحيح، فأنت أحياناً تنظر في شيءٍ من آيات الله في خلقه، فتتذكر آيةً من آيات القرآن، كأن تنظر إلى ابنك الصغير وهو ينمو أمامك، فتتذكر قوله تعالى:

وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ
(سورة البلد: الآية 3)

وَبَنِينَ شُهُودًا
(سورة المدثر: الآية 13)

أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ
(سورة المرسلات: الآية 20)

تتذكر هذه الآيات من خلال الخلق، فتتكامل آيات الله المنظورة مع آيات الله المسطورة، هذا معنى (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ).

المهمة الثانية : التزكية
التزكية هي تطهير النفوس من أدرانها
ثم قال: (وَيُزَكِّيهِمْ) وبدأ بالتزكية قبل التعليم، التزكية قبل التعليم، يعني أن تُطهَّر النفوس من أدرانها، أن تتخلّق بالأخلاق العالية، لذلك معظم الوزارات في العالم اليوم يسمونها وزارة التربية، بغض النظر عن التطبيق والممارسة، نتحدث عن أصل التسمية، والبعض يقتصر على وزارة التربية، لأن التربية أهم من التعليم، والبعض يقول: التربية والتعليم، لأن التربية أهم من التعليم، التربية مصطلحها القرآني التزكية، لأن الزكاة هي النماء، الطهارة، السمو، النقاء، فهذه النفوس عندما تتخلص من أدرانها تصبح قابلةً للتعلم، أما إذا امتلأت بالأدران فلا تؤثر فيها المعلومات، هذه هي التزكية، لذلك يقول أهل العلم: التخلية ثم التحلية، خلِ نفسك من الأدران، ثم حلها بالكتاب والحكمة، التخلية ثم التحلية، أي تنظيف النفس، إن كان عندك كأسٌ لكنه متسخ، كأس كريستال من أفخر المصنوعات لكنه متسخ، هل تستطيع أن تملأه بألذ الشراب قبل أن تنظفه ويعود لامعاً؟ لا تستطيع، فهذه النفس عندما يزكيها الإنسان وينهض بها، تصبح محلاً لتلقي رحمات الله عزَّ وجلّ، فينبغي دائماً أن ننطلق في دعوتنا إلى التزكية قبل التعليم، حتى مع أولادنا ومع طلابنا.

المهمة الثالثة : تعليم الكتاب والحكمة
قال: (وَيُزَكِّيهِمْ)، ثم قال (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ): (الْكِتَابَ) هو القرآن، هناك (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) كما قلنا الآيات شاملةٌ لآيات الكون، وآيات القرآن، مجرد تلاوة، أما هنا: (يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) (الْكِتَابَ) هو القرآن (وَالْحِكْمَةَ) هي السنَّة، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، (الْحِكْمَةَ) في الأصل هي وضع الشيء في موضعه، وأن تضع الشخص المناسب في الوقت المناسب في المكان المناسب، فتكون حكيماً، لكن الحكمة هنا هي السنَّة، لأن السنَّة جاءت شارحةً للكتاب، مفصلةً لما أُجمل، مخصصةً لما عُمم في الكتاب فهي حكمة، سُميت حكمةً لهذا المعنى، (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) فهذه الآية الأولى.

صفات النبي صلى الله عليه وسلم
الآية الثانية: في لقائنا اليوم هي قوله تعالى في ختام سورة التوبة:

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
(سورة التوبة: الآية 128)

هذه الآية تضمنت خمس صفات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كل واحدةٍ تحتاج تبياناً:
1- (مِّنْ أَنفُسِكُمْ).
2- (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ).
3- (حَرِيصٌ عَلَيْكُم).
4- (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ).
5- وبالمؤمنين (رَّحِيمٌ)، هذه خمس صفات.

1- مِّنْ أَنفُسِكُمْ
ما معنى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ)؟ تحمل عدة معانٍ، لكن المعنى الأول والأعم والأوسع أنه بشر:

{ قال صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: " إنَّما أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَى كما يَرْضَى البَشَرُ، وَأَغْضَبُ كما يَغْضَبُ البَشَرُ" }

(صحيح مسلم)

قال تعالى:

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ
(سورة الكهف: الآية 110)

فالمعنى الأول (مِّنْ أَنفُسِكُمْ): أنه بشرٌ مثلنا تماماً لكنه يوحى إليه، محمدٌ بشرٌ وليس كالبشر، ولكنه بشر، لماذا جعله الله تعالى بشراً؟ لأنه لو جعله ملكاً لما تحققت الأسوة والقدوة، فلو جاء وقال للناس: اصدقوا وصلوا كما رأيتموني أُصلي، واصدقوا كما رأيتموني أصدق، واصبروا كما رأيتموني أصبر، بلسان حاله أو بلسان مقاله، لقال له الناس: أنت مَلَكٌ مبرأ من الشهوات، ليس عندك شهوةٌ كشهوات البشر، أما نحن فتتنازعنا الشهوات، فكيف تأمُرنا بشيءٍ لا نستطيعه؟ فجعله الله تعالى بشراً من أجل أن تتنازعه شهوة البشر، فينتصر على بشريته، فيكون سيد البشر صلى الله عليه وسلم.
فأولاً (مِّنْ أَنفُسِكُمْ) بمعنى البشرية لأنه بشرٌ صلى الله عليه وسلم، ولولا بشريته لما كان أسوةً لنا، ولما تحققت الأسوة.
(مِّنْ أَنفُسِكُمْ) تعرفونه، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقب بالصادق الأمين قبل البعثة، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم يوم جاءه الوحي ورجع إلى خديجة رضي الله عنها يقول: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، قالت له:

{ فَقالَتْ له: كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ. }

(صحيح البخاري)

حسن أخلاق وأمانة النبي الكريم
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان معروفاً بحسن خلقه، كان معروفاً بحسن كلامه، كان معروفاً بصدقه، كان معروفاً بأمانته، لما قال الله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ) أولاً: بشريته، وثانياً: أنه صلى الله عليه وسلم معروفٌ عند قومه، لم يأتهم من قومٍ آخرين، وإنما عُرِفَ قبل البعثة بالأخلاق.

صفات النبي الكريم في حوار جعفر بن أبي طالب مع النجاشي
هنا نستذكر قول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، لما أراد أن يخاطب النجاشي في الحبشة فَقَالَ لَهُ:

{ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ }

( أخرجه أحمد في مسنده)

هنا فقه جعفر، انتبهوا إلى فقه جعفر رضي الله عنه، اختار أربع صفاتٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحقيقة أن صفات رسول الله كثيرةٌ؛ تواضعه، علمه، نعرف صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، لماذا اختار هذه الثلاثة؟ لأن الإنسان إما أن يحدثك فينبغي أن يكون صادقاً، وإما أن يعاملك لاسيما بالدرهم والدينار، فينبغي أن يكون أميناً، وإما أن تستثار شهوته من شهوات الدنيا من مالٍ أو نساء، فيجب أن يكون عفيفاً يمتنع عما عند الآخرين، فهذه أمهات الأخلاق لذلك اختارها جعفر، واختار النسب معها لأن النسب تاجٌ يُرصع هذه الثلاثة، حتى لا يقال: من هذا الرجل؟
فالنبي صلى الله عليه وسلم صاحب نسب، فالنسب عندما يضاف إلى هذه الأخلاق يصبح تاجاً، فإذا فُرِّغت الأخلاق فلا قيمة للنسب :

{ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ }

(رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ)

لكن لما يُسرع بك العمل، فنعم النسب.
بشرية النبي الكريم ومعرفة قومه به
أيها الأحباب: إذاً اختار جعفر هذه الثلاث لأنها تمثل أمهات الأخلاق، الصدق في الحديث، والأمانة في التعامل، والعفة عند وجود ما يثير الشهوة، فهنا (مِّنْ أَنفُسِكُمْ) بهذا المعنى، بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كنتم تعرفونه قبل البعثة، فما الذي حصل عند البعض لما تضاربت مصالحهم مع ما جاء به من الأوامر والوحي، أصبحوا يقفون له بالمرصاد هذا المعنى، طبعاً ونضيف من هذه المعاني (مِّنْ أَنفُسِكُمْ) بلسانكم، بلغتكم، عربيٌ من قريش، لكن أردت أهم معنيين في هذه الكلمة (مِّنْ أَنفُسِكُمْ) وهما بشريته صلى الله عليه وسلم، ثم إنه معروفٌ عند قومه بما كان عليه من الأخلاق فلا يُتهم، لأنه (مِّنْ أَنفُسِكُمْ) تعرفونه، إذاً الصفة الأولى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ)

2- عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
أي يشِقُّ عليه ويصعب عليه عَنَتُكم، والعَنَتُ هو أن يقع الإنسان في الضيق والعسر والمشقة، فإذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنساناً قد عَنِت وأصابه العنت والشدة والضيق يصعب عليه ذلك، هذا من شدة رحمته صلى الله عليه وسلم (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أي يصعب عليه ويشِقُّ عليه أن تقعوا في الضيق والمشقة، يؤلمه ذلك صلى الله عليه وسلم، وهنا أذكر حديثاً في الصحيح، و هذه تُمثل (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ)، قال:

{ لَمَّا حَضَرَتْ أبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أبَا جَهْلٍ، وعَبْدَ اللَّهِ بنَ أبِي أُمَيَّةَ بنِ المُغِيرَةِ، فَقالَ: أيْ عَمِّ قُلْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لكَ بهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقالَ أبو جَهْلٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بنُ أبِي أُمَيَّةَ: أتَرْغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعْرِضُهَا عليه، ويُعِيدَانِهِ بتِلْكَ المَقالَةِ، حتَّى قالَ أبو طَالِبٍ آخِرَ ما كَلَّمَهُمْ: علَى مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ، وأَبَى أنْ يَقُولَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، قالَ: قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: واللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فأنْزَلَ اللَّهُ: {ما كانَ للنبيِّ والذينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} وأَنْزَلَ اللَّهُ في أبِي طَالِبٍ، فَقالَ لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} }

(صحيح البخاري)

(أتَرْغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ؟) تترك ملة آبائك وأجدادك، هذا الاعتزاز، نحن هكذا تربينا، نحن هذه مبادئنا التي تربينا عليها، وإن كانت خلاف السنَّة، وإن كانت خلاف الشرع.
الإنسان مخير
إخواننا الكرام؛ الإنسان مخير، وربنا عزَّ وجلّ يقيم الحجة على عباده، (قالَ: علَى مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ)، انظر الآن إلى رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (واللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)، هذا وفاء، أبو طالب حماه ودافع عنه، وما نالت قريشٌ منه حتى مات عمه، فقال: (واللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)، إن لم يأتني نهيٌ سأستغفر لك، فأنزل الله تعالى قوله:

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ
(سورة التوبة: الآية 113)

وأنزل قوله تعالى:

لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ
(سورة البقرة: الآية 272)

فإذاً: النبي صلى الله عليه وسلم يعزُّ عليه أن نقع في العنت، هو يريد أن ييسر لنا، هو يريد إلا نقع في العسر، هذا المعنى عندما نستشعره، نستشعر أن الشريعة السمحاء التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم هي شريعة يسر، فما نهانا عن شيءٍ إلا وله بديل من الحلال، فالشرع لم ينهَ الإنسان عن المرأة، ولكنه نهاه عن الحرام من النساء، وما نهاه عن المال، إنما نهاه عن الحرام من المال، وما نهاه عن الطعام، وإنما نهاه عن اليسير من الطعام الذي تخبث به نفسه، من الخبائث والشراب التي تخبث به نفسه كالخمر أم الخبائث، فهذه الشريعة سمحاء، شريعة يسرٍ لا عسر، (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ).

3- حَرِيصٌ عَلَيْكُم
هذه يمثلها قوله تعالى مخاطباً نبيه:

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا
(سورة الكهف: الآية 6)

حرص النبي الكريم على أمته
(بَاخِعٌ) أي مهلك، (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ) أي مهلكٌ نفسك، (عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) ستُهلك نفسك أسفاً عليهم لأنهم لم يؤمنوا، يعاتبه ربه، تمهل قليلاً، ترفَّق، لا تهلك نفسك، إذاً كم كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أمته؟ النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف، انظروا إلى الحرص النبوي على أمته، خرج إلى الطائف تسأله السيدة عائشة رضي الله عنها، كما في الحديث:

{ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا }

(صحيح البخاري)

أغروا به صبيانهم وسفائهم، فضربوه بالحجارة حتى أدموا قدمه فأوى إلى حائط، وبستان يناجي ربه، ويأتيه ملك الجبال فيقول له: (يَا مُحَمَّدُ أرسلني الله لأكون طوع أمرك، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟) والأخشبان جبلان إن أُطبقا على الطائف فلا طائف بعد اليوم، بمن فيها يهلكون، غيرةً من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، (فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)، هذا الحرص، هو يحرص على أمته، وهذا الحرص مستمرٌ إلى يوم القيامة، يوم القيامة النبي صلى الله عليه وسلم يرى أقواماً يذادون عن الحوض يقول يارب: أمتي، أمتي.

{ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُهُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، فَلَيُقَطَّعَنَّ رِجَالٌ دُونِي، فَلَأَقُولَنَّ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَلَيُقَالَنَّ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، مَا زَالُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ }

(رواه أحمد)

حرصه ممتدٌ إلى قيام الساعة، هو ينادي من أجلنا، وينافح عنا، ويدافع عنا، فهلّا كنا عند حسن ظنه بنا؟ وهلّا اقتفينا أثره واتبعنا سنَّةُ؟ وأضفنا إلى حبه صلى الله عليه وسلم اتباعاً ليشفع لنا يوم القيامة عند ربه هذا هو المطلوب، حبٌ واتباع، الحب رائع جداً ومهم جداً ويحتاج إلى اتباعٍ معه، والاتباع مهم جداً ويحتاج إلى حبٍّ معه، فالحب والاتباع يتكاملان، دعكم ممن ينافس بينهما، هما متكاملان:
إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
{ الإمام الشافعي }
لكن لما يكون الحب عظيماً في نفسك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقصر في شيءٍ من اتباعه يشفع لك حبك، لا تقصر في اتباعه أبداً، حبٌ أجوف، لا، أنت تحبه لكن لا تستطيع أن تعمل بمثل أعمال هؤلاء الأجلاء (فقال له صلى الله عليه وسلم: أنْتَ مع مَن أحْبَبْت)

{ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ }

(صحيح مسلم)

فالحب مهم جداً، والاتباع مهم جداً ويتكاملان.
إذاً أيها الكرام: النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على أمته، ويمتد ذلك كما قلنا إلى يوم القيامة فينادي أمتي، أمتي، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ)، (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ)، (حَرِيصٌ عَلَيْكُم).

4- بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
الرأفة والرحمة يلتقيان في المعنى العام، ويختلفان في بعض التفاصيل، كيف ذاك؟ انظروا إلى اللغة العربية، تختلف الرأفة عن الرحمة في أن الرأفة تأتي في الأعمِّ الأغلب لدفع مضرة، والرحمة تأتي في الأعمِّ الأغلب لجلب مسرّة، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح.
إذا كان هناك اثنان، كلٌ في جهة، أحدهم متجهٌ إليك بتفاحة يريد أن يلقيها إليك لتأكلها، قطفها لك من الشجرة، والثاني مصوبٌ نحوك حجراً يريد أن يرميك به، فهل تدفع عنك الحجر أولاً، أم تتلقى التفاحة لتأكلها أولاً؟ هذا درء المفسدة قبل جلب المصلحة.
الرأفة هي درء المفسدة
مثالٌ آخر: إذا رأيت شاباً مراهقاً يغرق في بركة ماء، فهل تجلس أمام البركة لتلقي عليه محاضرةً في أنه لا ينبغي له أن ينزل إلى البركة قبل أن يتعلم السباحة، ولماذا فعلت كذا؟ ولماذا فعلت كذا؟ أم تنهض فوراً لإغاثته، وبعد أن يصحو تعلمه؟ فتدرأ المفسدة ثم تجلب له المصلحة، فالرأفة هي درء المفسدة، والرحمة هي جلب المصلحة، فقدم الرأفة على الرحمة تقديم أهمية، قال: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)، فالنبي صلى الله عليه وسلم يوم جاءنا يرأف بنا بإبعادنا عن نار جهنم، ويرحمنا عندما يريد أن يقربنا من جنة الخلود، هذا هو المعنى، أما بالنسبة للرأفة بدفع المضار فهذا حديث:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:‏ "‏ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا وَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهَا ‏"‏ }

(صحيح البخاري)

(وَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ)، الحجزة هي ما يربط به السروال، ما يمسك به السروال، (وَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ)، أنتم كالفراش، هذه نار وأنا أمسك بكم أمنعكم، هذه رأفته صلى الله عليه وسلم، هذا مثله ومثلنا، يريد أن يبعدنا عن النار بأي وسيلةٍ ممكنة، فيأخذ بحجزنا ليمنعنا من الوقوع في النار، رغم أن بعض الناس لا ينتبهون لمصالحهم، فيفعل كالفراش فيتجه إلى النار، وهو لا يشعر بأنها ستحرقه، هذه الرأفة.

5- رَّحِيمٌ
أما الرحمة: جلب المصالح، فرحمة النبي صلى الله عليه وسلم واسعةٌ ولا تحيط بها خطب ولا دروس، لكن انتقيت لكم درسين الأول:

{ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:‏ "‏ دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ ‏" }

(صحيح البخاري)

توجيه النبي بالتيسير لا بالتعسير
(قَامَ أَعْرَابِيٌّ)، والأعراب دلالةٌ على من يأتي من البادية، يعني ليس عنده ما عند أهل المدينة من علم، قادم من البادية، (فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)، هذه رحمته صلى الله عليه وسلم، رجلٌ غير متعلم، لا يدرك ماذا يفعل، وقام بعملٍ سيء، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وجههم إلى التيسير لا التعسير، هذه رحمة.
أيضاً حديثٌ عن الرحمة :

{ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ، مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ }

(صحيح مسلم)

رحمة النبي وحسن تعامله
(فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ)، تشميت العاطس سنة ولكن ليس في الصلاة، ( فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي قضى صلاته، (مَا كَهَرَنِي)، يعني نهرني، وفي بعض الروايات أن هذا الرجل، وفي أحاديث أخرى جاء برجل آخر، أنه قال: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فقَالَ له: لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا، لا تُحجر رحمة الله، فهذه رحمته صلى الله عليه وسلم، الأول: بال في المسجد، الثاني: يتكلم أثناء الصلاة، وهكذا كانت أخلاقه في التعامل معهم.
لما جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، لا أدري أين أضع هذا الحديث، أهوَ في ما يسمى اليوم علوم التنمية البشرية، أم في الرحمة، أم في الخلق العالي، أم في طريقة التعليم، يوضع في كل مكان، يقول له:

{ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ، مَهْ، فَقَالَ: ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ، قَال: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ }

(رواه أحمد)

يستأذن رسول الله بالزنا، يريد فتوى، ولا يريد فقط أن يفعل الفاحشة، والعياذ بالله، يحتاج معها إلى إذنٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول الرجل: دخلت وما شيءٌ أحب إلي من الزنا، وخرجت من عند رسول الله وما شيءٌ في الأرض أبغض إلي من الزنا، فهذه رحمته صلى الله عليه وسلم.
إذاً هو من أنفسنا، ويعزُّ عليه أن نقع في العَنَت، أو في العسر، ويحرص علينا ألا يضل أحدنا الطريق، وهو رؤوفٌ بنا يدفع عنا المضار، رحيمٌ بنا يجلب إلينا المنافع، صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.