من صيد الخاطر
من صيد الخاطر
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ، الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يارب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، واجعلنا إلهي من عبادك الصالحين: |
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)(سورة الزمر)
كتاب صيد الخاطر لمؤلفه ابن الجوزي
|
الدنيا دار ابتلاءٍ واختبار
يقول ابن الجوزي رحمه الله: نزلت فيَّ شدةٌ وأكثرت من الدعاء أطلب الفرج والراحة، وتأخرت الإجابة، فانزعجت النفس، وقلِقَت، فصِحْتُ بها: ويلكِ تأملي أمركِ أمملوكةٌ أنتِ أم حرةٌ مالكة؟ أمدبَّرةٌ أنت أم مُدبِّرة؟ خاطب نفسه: أنتِ حرَّةٌ أم مملوكةٌ؟ إذا كنتِ حرَّةً مالكةً لأمركِ فأخبريني، أما إذا كنتِ مملوكةً لخالقكِ فشأن العبد يختلف عن شأن السيد، نحن جميعاً مملوكون لخالقنا جلَّ جلاله، ألا نقول كما قال الله تعالى في القرآن: |
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)(سورة البقرة)
نحن مملوكون ولسنا مالكين
|
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5)(سورة السجدة)
الله تعالى هو الذي (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) نحن لا ندبر شيئاً لأنفسنا، نحن نتخذ الأسباب، نحن نصنع ما نظنُّ أنه يُحقق الغاية، لكن من الذي يُدبر الأمر؟ الله تعالى، هو المُدبِّر جلَّ جلاله، فقال: ( أمدبَّرةٌ أنت أم مُدبِّرة؟ أما علمتِ أن الدنيا دار ابتلاءٍ واختبار؛ فإذا طلبتِ أغراضكِ، ولم تصبري على ما ينافي مرادكِ فأين الابتلاءُ؟ وهل الابتلاء إلا الإعراض وعكس المقاصد، فافهمي معنى التكليف) نحن في الدنيا مبتلون، قال تعالى: |
إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)(سورة المؤمنون)
وقال تعالى: |
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)(سورة الملك)
حقيقة الابتلاء
لا بد أن تُبْتَلى
|
يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)(سورة الإنشقاق)
لا راحة لنا إلا بلقاء الله، لا راحة لمؤمنٍ إلا بلقاء الله، لن نرتاح من عكس المقاصد إلا عند لقاء الله، هناك: |
{ قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ }
(صحيح البخاري)
هناك تطلب الشيء فتجده أمامك، فقط يخطر في بالك فتجده بين يديك، هناك في الآخرة، أما في الدنيا فحال الدنيا أنك تطلب ولا تجد ما تريده، وهذا لا يعني أنك دائماً تطلب فلا تجد مرادك، قد تجد مرادك لكن لا يتحقق الاختبار إلا بعكس المقاصد، فالإنسان لا بد أن يُخالف طبعه حتى يُبتلى ويُمتحن. |
أحبابنا الكرام: إذاً هذا الجواب الأول، قال لها: ( وهل الابتلاء إلا الإعراض وعكس المقاصد، فافهمي معنى التكليف ) هذا الدرس الأول أعطاه لنفسه وهو حقيقة الدنيا، الدنيا دار ابتلاءٍ واختبارٍ لا دار جزاء، نحن في ممرٍ ولسنا في مقر، نمرُّ من الدنيا إلى الآخرة، وفي هذا الممر نجد من الصعوبات ما نجد ونجد من الراحة ما نجد لكن لا بد من الابتلاء، وعندما نصل إلى المقر نصل إلى دار السلام بسلامٍ نسأل الله تعالى أن يبلغنا الجنة برحمته. |
المؤمن يبدأ بأن يُقاضي نفسه بما يجب أن يُقدِّمه لمولاه قبل أن يطلب من مولاه
الإنسان المؤمن العاقل يبدأ بأن يُقاضي نفسه
|
{ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يُوضَعُ الْمِيزَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَوْ وُزِنَ فِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لَوَسِعَتْ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ لِمَنْ يَزِنُ هَذَا؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لِمَنْ شِئْتُ مِنْ خَلْقِي، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، وَيُوضَعُ الصِّرَاطُ مِثْلَ حَدَّ الْمُوسَى فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: مَنْ تُجِيزُ عَلَى هَذَا؟ فَيَقُولُ: مَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِي، فَيَقُولُ: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ }
(رواه الحاكم)
أنت يُطلب منك أن تأتي ما أمر وأن تنتهي عما نهى عنه وزجر، أنت يُطلب منك أن تُطيعه وأن تُحسن إلى عباده وأن تُحسن الصلة به، هذا المطلوب منك لله، فإذا وقف الإنسان وطلب ما يريده قبل أن يؤدي ما وجب عليه! قال: وهذا عين الجهل، أن تطلب من الله قبل أن تُؤدي حق الله، أن تطلب من الله قبل أن تُؤدي الواجب الذي أمرك به جلَّ جلاله. |
قال: ( وإنما كان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس) ينبغي أن تأتي ما أوجبه الله عليك ثم تطلب ما تريده من الله، أولاً أدِّ ما عليك ثم اطلب من الله ما لك. |
قال: ( وينبغي أن يكون الأمر بالعكس، لأنكِ مملوكةٌ والمملوك العاقل يُطالب نفسه بأداء حق المالك ويعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى ) العبد عند سيده في زمن العبودية، اليوم لا يوجد عبودية أفراد اليوم يستعبدون أمماً بأسرها نسأل الله السلامة! لكن في زمن العبودية العبد عند سيده ماذا يصنع؟ ما الذي يدفعه عقله أن يؤدي ما يأمره به سيده، ثم يطلب ما له ويترك الأمر لسيده إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، هذا مقتضى العبودية، فنحن عبيدٌ له جلَّ جلاله، فمن عبوديتك لخالقك جلَّ جلاله أنك لا تطلب شيئاً هو لك أو تظن أنه حقٌ لك قبل أن تؤدي الواجب الذي عليك، ثم اترك الأمر للمالك جلَّ جلاله واطلب منه واترك الأمر له، هذا هو المعنى، فقال لها: والمملوك العاقل يُطالب نفسه بأداء حق المالك ويعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى، جلَّ جلاله لا يُسأل عن شيءٍ ولا يجب عليه شيء، نحن العبيد الذين يجب علينا، يجب علينا الطاعة، هو أوجدنا، وهدانا، وأرشدنا، ومنحنا نعمه، الماء، والطعام، والشراب، هو يملك أمرنا، هو الخالق يملكنا خلقاً وتصرفاً ومصيراً، إذاً ما الذي ينبغي أن نشغل أنفسنا به؟ أن نؤدي الواجب الذي كُلفنا به، لا أن نطلب ما نريده، أول شغلٍ لنا أن ننشغل بالواجب الذي كلفنا به مولانا جلَّ جلاله. |
الله عزَّ وجلَّ أوجب لنا حقاً عليه
مرَّةً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع معاذ، قال: |
{ كنتُ رِدفَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على حِمارٍ، فقال: يا مُعاذُ، فقُلتُ: لَبَّيكَ يا رسولَ اللهِ، قال: أتَدري ما حَقُّ اللهِ على العِبادِ؟ قال: قُلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: فإنَّ حَقَّ اللهِ على العِبادِ أنْ يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، فهل تَدري ما حَقُّ العِبادِ على اللهِ إذا فَعَلوا ذلك؟ قال: قُلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: فإنَّ حَقَّ العِبادِ على اللهِ إذا فَعَلوا ذلك ألَّا يُعذِّبَهم }
(أخرجه البخاري)
حق الله عليك أن تعبده موحداً
|
سدُّ باب الإجابة بالمعصية
ابن الجوزي ما زال يُخاطب نفسه، لم ينته، هذا حوارٌ مع النفس وهو من أرقى الحوارات، أن يحاور الإنسان نفسه، فقال ابن الجوزي: (فسكنت أكثر من ذلك السكون) يعني نفسه، فقلت لها: ( وعندي جوابٌ ثالثٌ، وهو أنك قد استبطأتِ الإجابة، وأنت سددتِ طرقها بالمعاصي، فلو قد فتحتِ الطريق أسرعت _ أي أسرعت الاستجابة_ كأنك ما علمتِ أن سبب الراحة التقوى أو ما سمعت قوله تعالى: |
وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ(سورة الطلاق)
وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)(سورة الطلاق)
أو ما فهمت أن العكس بالعكس؟) (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) ومن يعصي الله؟ لا يجعل له مخرجاً، هذا معنى العكس بالعكس (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) ومن يعصي الله؟ ليس له مخرجٌ فهو يَسدُّ باب الإجابة بالمعصية، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم عن العبد: |
{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا"، وَقَالَ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ" ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟ }
(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)
يَسدُّ الإنسان باب الإجابة بالمعصية
|
قال: (آه من سُكر غفلة صارت أقوى من كلِّ سُكرٍ في وجه مياه المراد يمنعها من الوصول إلى زَرْعِ الأماني) السُكر الذي يُغلقونه في وجه الماء، فهذا السُكر يوقف الماء من أن يصل إلى المزروعات تغلقه فلا يصل الماء، والمعصية كأنها سُكرٌ يُغلق الطريق إلى الإجابة، فعندما يملأ الإنسان طريق الدعاء بالمعاصي فكأنه يُغلق الطريق على الإجابة، هذا معنى كلامه، هذا الجواب الثالث انظروا فقه ابن الجوزي رحمه الله. |
قال: ( فعرفت النفس أن هذا حقٌّ فاطمأنت) بعد أن سكنت صار معها اطمئنان، فهمت حقيقة الدنيا أننا في دار ابتلاء، فهمت حقيقة العبودية أننا مملوكون والمملوك يجب أن يبدأ بواجباته قبل أن يُطالب بحقوقه إن كان له حقوق، الأمر الثالث: أنه سدَّ طريق الإجابة بالمعاصي والآثام، والإنسان عندما يسدُّ طريق الإجابة بالمعصية والإثم فعليه أن يُهيئ نفسه لعدم الإجابة. |
المُدبِّرُ أعلم بالمصالح
قال: ( فعرفت النفس أن هذا حقٌّ فاطمأنت، فقلت: وعندي جوابٌ رابعٌ، وهو أنك تطلبين ما لا تعلمين عاقبته، وربما كان فيه ضرركِ، فمثلكِ كمثل طفلٍ محموم - أصابته الحمى، مريض- يطلب الحلوى، والمُدبِّرُ لكِ أعلم بالمصالح، كيف وقد قال الله تعالى: |
وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)(سورة البقرة)
الإنسان لا يعلم عاقبة الأمور
|
وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا (11)(سورة الإسراء)
أحياناً يطلب الإنسان شيئاً يظنه خيراً وهو في الحقيقة يدعو بالشر لنفسه وهو لا يعلم أنه شرٌ له، فيزيد في الدعاء ويلحُّ في الدعاء والله تعالى يُثيبه على دعائه لأن الدعاء صلة بالله تعالى فلا تقنطوا من الدعاء، لكن إذا تأخرت الإجابة فاعلم أن هذا لخيرٍ لك لا تعلمه لكن الله يعلمه، وهنا يحضرني حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو مهمٌ جداً في هذا الباب. |
طرق إجابة الدعاء
يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ ما مِن رجلٍ يَدعو اللَّهَ بدعاءٍ إلَّا استُجيبَ لَهُ، فإمَّا أن يعجَّلَ له في الدُّنيا، وإمَّا أن يُدَّخرَ لَهُ في الآخرةِ، وإمَّا أن يُكَفَّرَ عنهُ من ذنوبِهِ بقدرِ ما دعا، ما لم يَدعُ بإثمٍ أو قَطيعةِ رحمٍ أو يستعجِلْ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ وَكَيفَ يستَعجلُ؟ قالَ: يقولُ: دعوتُ ربِّي فما استجابَ لي }
(صحيح الترمذي)
(فإمَّا أن يعجَّلَ له في الدُّنيا) يا رب اشفني فيشفيه الله، يا رب ارزقني في هذه التجارة ربحاً كبيراً فيرزقه الله، هذا عُجل له في الدنيا. |
|
قال: (وإمَّا أن يُكَفَّرَ عنهُ من ذنوبِهِ بقدرِ ما دعا) إنسانٌ يدعو وهو مقيمٌ على الذنوب والمعاصي كيف يستجاب له؟ بالمغفرة، ربنا عزَّ وجلَّ كريم مستحيلٌ أن تمد يديك ويردك خائباً، أقول: بالنسبة لك بأقل الأحوال يغفر لك ذنوبك وهذا أمرٌ عظيمٌ جداً أن تغفر الذنوب. |
فقال: (ما لم يَدعُ بإثمٍ أو قَطيعةِ رحمٍ): إذا دعا بإثمٍ فلا يُستجاب له، وإن دعا بقطيعة رحمٍ فالله تعالى أيضاً لا يستجيب له، لأن الله لا يستجيب للمعاصي والآثام، (ما لم يَدعُ بإثمٍ أو قَطيعةِ رحمٍ أو يستعجِلْ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ وَكَيفَ يستَعجلُ؟ قالَ: يقولُ: دعوتُ ربِّي فما استجابَ لي) هذه دعكم منها، لا تقل: يا رب دعوتك فلم تستجب لي، راجع نفسك، راجع حساباتك، إن كان هناك معصيةٌ فاتركها، إن كان هناك طاعةٌ فواظب عليها، لكن لا تقل: دعوتك فلم تستجب لي، دع الأمور للخالق، أنت مُدَبَّرٌ ولست مُدَبِّراً، دع الأمر لله تعالى فهو الذي يدبر الأمر بما يكون فيه صلاحك وبما يكون فيه خيرك. |
إذاً قال: فمثلكِ كمثل طفلٍ محمومٍ يطلب الحلوى والمُدبِّرُ لكِ أعلم بالمصالح كيف وقد قال الله: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ). |
قال: ( فلما بان الصواب للنفس في هذه الإجابة زادت طمأنينتها) استراحت النفس، فهمت حقيقة الدنيا، وحقيقة العبودية وأن الإنسان يسدُّ أحياناً باب الإجابة بالمعصية وأن الله تعالى قد يمنع عنه شيئاً لحكمةٍ بالغةٍ علِمها من علِمها وجهِلها من جهِلها. |
المنع يمكن أن يكون عين العطاء
بقي الآن الجواب الخامس، قال: ( فلما بان الصواب للنفس في هذه الإجابة زادت طمأنينتها، فقلت لها: وعندي جوابٌ خامسٌ، وهو أن هذا المطلوب - الشيء الذي تطلبه - يُنقِصُ من أجركِ، ويحط من مرتبتكِ، فمنعُ الحق جلَّ جلاله لكِ ما هذا سبيله عطاءٌ منه لكِ، ولو أنكِ طلبتِ ما يُصْلِحُ آخرتكِ كان أولى لكِ) ما معنى ذلك؟ |
إذا فهمت الحكمة في المنع أصبح المنع عين العطاء
|
يقول ابن الجوزي: ( فأولى لكِ أن تفهمي ما قد شرحت، فقالت النفس له: لقد سرحتُ في رياض ما شرحتَ، فَهِمْتُ إذ فَهِمْتُ ) هِمْتُ الأولى من هامَ، يهيمُ، (فـ) (هِمْتُ) من الهيام، يقال: هامَ، يهيمُ، ويقال: هامَ على وجهه، فَهِمْتُ إذ فَهِمْتُ، لما فهمت المعنى الذي قلته هِمْتُ حباً في الله تعالى، فلما يفهم الإنسان حكمة الله ويعلم أن الله تعالى لا يُؤخر عنه شيئاً إلا لمصلحته ويفهم أن الدنيا دار ابتلاءٍ لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، وممرٌ وليست مقراً، وأن الله تعالى جعلها وعاءً لعملٍ صالحٍ تلقى به ربك، ثم يفهم حقيقة العبودية وأنه عبدٌ لخالقه ومولاه، وأن المملوك ينبغي أن يبدأ فيؤدي واجباته قبل أن يطلب ما يظنه حقوقاً له، ثم يفهم أن إجابة الدعاء ينبغي أن تبدأ بفتح الطريق بالطاعات لا أن نغلق الطريق على الدعاء بالمعاصي، ثم يفهم أن الإنسان ينبغي أن يعلم أنه قد يدعو أحياناً (بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ) وأن الله تعالى قد يحجب عنه ما فيه ضررٌ له، ثم يفهم أن المنع من الله تعالى قد يكون عين العطاء، لأن الله تعالى يمنعك ليُعطيك وربما يُعطيك شيئاً ليمنعك من شيءٍ، فالله تعالى يعلم ونحن لا نعلم عندما يفهم كل ذلك يهيم حباً في خالقه ومولاه جلَّ جلاله الذي لا يأتيه إلا بما يُصلِحُه ولا يُعطيه إلا ما يكون له فيه خيرٌ في دينه ودنياه وآخرته. |
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55)(سورة القمر)