من دروس سورة التكاثر

  • محاضرة في الأردن
  • 2021-01-12
  • عمان
  • الأردن

من دروس سورة التكاثر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
أيها الإخوة الكرام: حيَّاكم الله تعالى وأسعدكم بكلِّ خير، حديثنا اليوم عن سورةٍ وحديثٍ، السورة هي سورة التكاثر:

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)
(سورة التكاثر)

والحديث:

{ عَنْ عبْدِ اللَّه بنِ الشِّخِّيرِ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وهُوَ يَقْرَأُ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) -[التكاثر:1]-قَالَ: يَقُولُ ابنُ آدَم: مَالي! مَالي! وَهَل لَكَ يَا ابْنَ آدمَ مِنْ مالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟! }

(أخرجه الترمذي)

المال مال الله
الإنسان دائماً يقول: هذا المال لي، والمال مال الله، ليس مال الإنسان، لكن الله عزّ وجلّ من كرامة الإنسان عليه جعله متملِّكاً، والإسلام احترم الملكيَّة الفردية، فأنت عندما يكون لك مالٌ فالإسلام يصون لك مالك، لكن لو جئت إلى حقيقة الأمور فهذا المال ليس لك، وإنما هو مالُ الله وأنت مستخلفٌ فيه، قال تعالى:

آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
(سورة الحديد)

يدكَ على المال ليست يدَ ملكٍ لكنها يدُ أمانة، فينبغي أن تتصرَّف بالمال وفق تعليمات صاحب المال جلَّ جلاله فهو الذي أنعَمَ عليك به، فالمالُ في الأصل مالُ الله ونحن مستخلفون فيه، لكن الإنسان يقول: مالي، مالي: هذا لي.

المفهوم الحقيقي للمال
كل شيءٍ تملِكُه هو مال
ويروى عن أعرابيٍّ أنه سُئِل: لمن هذه الغنم؟ قال: لله تعالى في يَدي، أي هي لله ولكنها الآن تحت يَدي اتصرفُ بها، منَحَنِي جلَّ جلاله _مالكها_ التصرف بها، فالأصل أن المال مالُ الله وأننا مُستخلفون فيه لينظُرَ الله كيف نعمَل، والمال ليس النقد فقط، أي القطع المعدنية والقطع الورقية التي نحملها أو الرصيد الذي نضعه في البنوك، لا، كل شيءٍ تملِكُه فهو مال، بيتك مال، وجهاز الهاتف في يدك مال، والطعام الذي في بيتك مال، كلُّ ما تملِكُه فهو مال، فعندما يَقُولُ ابنُ آدَم: مَالي! مَالي! يقول صلى الله عليه وسلم: (وَهَل لَكَ مِنْ مالِكَ إِلَّا) ما الذي تملكه أنت من المال؟ قال: (مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ) هذا أخذته، استطعت أن تأخذ من المال طعاماً أكلته فأفنيته، انتهى.. قبل قليل تناولتم طعام الغداء، كان على المائدة صنفٌ أو صنفان من الطعام وفنيت، الجسم قام بالاستقلاب وأخذ العناصر الغذائية من الطعام لتتقوَّى بها على طاعة الله وعلى حياتك، والعناصر الأخرى خرجت، هذه أفنيتها، هذا لك أخذته، قال: (أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ) الثياب التي نلبِسها فتَبْلى وتخْلَق على كثرة اللّبس، هذه مستهلكَات، الطعام واللباس مُستهلكاتٌ نستهلكها، قال: (أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ) الصدقة تبقى، يبقى ثوابها، أمضَيت يعني أمضَيت الصدقة وأخذت ثوابها، وأبقيت يعني بَقِيَ ثوابها عند الله، المعنى واحد..
فالإنسان له من ماله هذا أما باقي الرصيد في البنك فليس له، هذا مالُ الورثة كما يقال، أنت لك في الدنيا طعامٌ أكلته وشرابٌ شربته ولباسٌ لبِستَهُ وصدقةٌ دفعتها فبقيت إلى يوم القيامة وبقي أثرها، فلما قرأ صلى الله عليه وسلم (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قال هذا الحديث الشريف، هذا الربط بين الآية والحديث، قرأ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)
(قَالَ: يَقُولُ ابنُ آدَم: مَالي! مَالي! وَهَل لَكَ يَا ابْنَ آدمَ مِنْ مالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ) الطعام والشراب واللباس يذهب إلا إن ابتُغِيَ به وجه الله فيبقى أثره، الصدقة تبقى إلى قيام الساعة؛ يبقى أثرها، لذلك انظروا إلى هذا المعنى الجميل؛ النبي صلى الله عليه وسلم كان يوزع شاةً، لم يبقَ شيء منها:

{ عن عائشة رضي اللَّه عنها أَنَّهُمْ ذَبحُوا شَاةً، فقالَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "مَا بَقِيَ مِنها؟ "قالت: مَا بَقِيَ مِنها إِلاَّ كَتِفُهَا، قَالَ:"بَقِي كُلُّهَا غَيرَ كَتِفِهَا" }

(رواه الترمذي)

لأن الذي تصدقنا به هو الذي يبقى، أما الكتف فمازال معنا فهو زائل، الصدقة هي التي تبقى، هذا المعنى.
يُروى عن بعض السلف أنه أمسكَ تفاحةً في يده فقال: "أكلتها ذهبت أطعمتها بقيت"، لأنه يبقى أجرها عند الله تعالى إذا تصدَّقت وأطعَمْت.

اللهو هو أن تنشغل عن شيءٍ نفيسٍ بشيءٍ خسيس
أحبابنا الكرام: أريد أن أنتقل إلى سورة التكاثر بالتفصيل يقول تعالى:

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)
(سورة التكاثر)

الإنسان في أصل فطرته لا يُحبُّ أن يلهو
ما معنى (أَلْهَاكُمُ)؟ اللهو هو أن تنشغل عن شيءٍ نفيسٍ بشيءٍ خسيس، هناك شيءٌ مهمٌ جداً تلتهي عنه وتنشغل بشيءٍ يزول ولا يبقى، هذا لهو، الإنسان لا يُحبُّ أن يلهو، في أصل فطرته وتكوينه لا يُحبُّ أن يترك الأشياء الباقية، الأشياء الطيبة، الأجر المستمر لا يُحبُّ أن يتركه وينشغل عنه بشيءٍ خسيسٍ لكن ما الذي يحصل؟ الإنسان عموماً يتعامل بالأشياء الموجودة بين يديه في عالم الشهادة، هكذا معظم الناس يتعاملون بعالم الشهادة، فالآن؛ الآن في هذه اللحظة في هذه الساعة يرى أنه أكثر ما يُمَتِّعُ به نفسه أن يستلقي مثلاً، أو أن يتابع شيئاً على الشاشة ولو كان لا يرضي الله، أو أكثر من ذلك أن ينزل ربما إلى الطريق ويُمتِّعَ عينيه كما يظنُّ بمنظر الغاديات والرائحات مثلاً، فهذا الشيء الحاضر أمامه فينشغل به ويلهو به عن الأشياء الباقية، ينشغل به عن الله، ينشغل به عن الجنة، ينشغل به عن الأبد، هذا معنى اللهو، اللهو أن تلتهيَ بشيءٍ وتنشغل به عن شيءٍ أهمَّ منه.
بربكم إذا كان عندك صورةٌ لك وأنت في عمر السنتين ووالدك أتى لك بلعبة القطار، فأخذ القطار عقلك فجلست وبدأت تحرِّكُ القطار وتصدر أصواتاً من فمك لتُعبِّر عن أن القطار يسيُر ثم القطار اصطدم بشيءٍ ....إلخ.. لو نظر الآن الإنسان إلى نفسه وهو يصنع ذلك وهو بعمر السنتين ألا يضحك من نفسه كيف كان ينشغل بهذا ويلهو به؟! شيءٌ مضحك، الآن ابنك يفعله في البيت وتُسرُّ به لكن أنت لا تفعله، هل يُعقل أن أنشغل بلعبةٍ وأنا أمامي عملٌ وأمامي وأمامي! هذا ما يحصل مع الإنسان بشكلٍ عام يوم يجد أنه انشغل بالدنيا عن الآخرة وانشغل بالمتع الرخيصة عن السعادة الأبدية وانشغل بالأشياء التافهة عن الأشياء العظيمة وانشغل بطلب المتابعات التي لا ترضي الله عن طلب العلم، هذا الذي يحصل، هذا معنى (أَلْهَاكُمُ).

معنى التكاثر
التكاثر لا ينتهي
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) التهيتم بماذا؟ بالتكاثر، التكاثر بماذا؟ بالمال؟ نعم، بالأولاد؟ نعم، بالبيوت؟ نعم، بالسيارات؟ نعم، بالخدم والحشم؟ نعم، بالهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية؟ نعم، أطلَقَ القرآن كلمة التكاثر، لم يقل ألهاكم التكاثر بالأولاد، ولم يقل ألهاكم التكاثر بالمال، أي شيءٍ تهتمُّ به تريد أن تتكاثر به، ما معنى التكاثر؟ التكاثر هو أن فلاناً عنده بيتٌ مساحته ثلاثمئة متر، أنا أريد أن أشتري بيتاً مساحته أربعمئة متر، فلانٌ عنده سيارة من طراز كذا أريد أن أشتري سيارةً من طراز أحدث منها، فلانٌ هاتفه 8 أريد أن أشتري 9، التكاثر لا ينتهي، الدنيا لا تنتهي بتكاثرها، ربنا عزّ وجلّ كريم، والأموال موجودة والأولاد والخدم والبيوت والسيارات، فالإنسان يتكاثر؛ كلما وصل لمكانٍ يسعى للمكان الذي فوقه لكن لا ينتبه أن العمر يمضي وأن ساعة اللقاء تقترب، والدنيا سقفها محدود، مهما تكاثر الإنسان بها، نحن الآن الموجودون في هذه المجموعة الطيبة كلنا بفضل الله عزّ وجلّ أفطرنا وتناولنا طعام الغداء وطعام العشاء وسقف يؤوينا وزوجة.. سقف الدنيا محدود، الإنسان عندما يتكاثر يصبح التكاثر بحجم الرصيد في البنك أكثر منه في الواقع، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ من أصبح مُعافًى في بدَنِه، آمنًا في سِرْبِه، عندَه قوتُ يومِه فكأنما حِيزَتْ له الدُّنيا }

(أخرجه ابن حبان)

انتهى، الباقي كلُّه تكاثر وتفاخر وتباهٍ وتعالٍ على الناس، سجّل ابنه في المدرسة الفلانية وأنا أريد أن أسجل ابني في مدرسةٍ أفضل من المدرسة الفلانية تُعنى باللغة الأجنبية وتُعطي الشهادات، من باب التكاثر.
لكن الآية الكريمة لا تعني أبداً أن الإنسان لا ينبغي أن يُصلح دنياه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:

{ اللهمَّ أَصلِحْ لي دِيني الذي هو عصمةُ أمري، و أَصلِحْ لي دنياي التي فيها معاشي، و أَصلِحْ لي آخرَتي التي فيها مَعادي، و اجعلِ الحياةَ زيادةً لي في كل خيرٍ، و اجعلِ الموتَ راحةً لي من كلِّ شرٍّ }

(أخرجه مسلم)

فنحن نعيش في الدنيا وينبغي أن نُصلحها ما استطعنا لكن لا ينبغي أن ننشغل بها عن الآخرة ولا ينبغي أن نتكاثر بها بمعنى أن نتفاخَر على بعضنا بها، فلأن فلاناً جاء بهذا الجهاز فينبغي أن آتي بالجهاز الأعلى منه، هنا المشكلة في التكاثر وفي التفاخر فقال تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) يعتبُ علينا ربنا جلَّ جلاله، التهيتم بالتكاثر في الدنيا بالأموال وبالأولاد وبالمزارع وبالسيارات عن الآخرة.

زيارة المقابر ليست نهايةً للإنسان
قال تعالى:

حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)
(سورة التكاثر)

زيارة المقابر ليست نهايةً للإنسان
ما معنى (زُرْتُمُ)؟ الزائر يأتي إلى المكان ليخرج منه، الزائر لا يجلس في المكان، المقابر سنزورها زيارةً ولكن أين موطننا؟ في الجنة إن شاء الله، وأين موطنُ الشاردين عن الله _نسأل الله السلامة_ في نارٍ لا ينفدُ عذابها، فالقبر نزوره، قال: (حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) يذكرنا الله تعالى هنا بلحظة النهاية، نهاية ماذا؟ ليست نهاية الإنسان لأن الإنسان سيخلد، لكن يذكره بنهاية الامتحان، زيارة المقابر ليست نهايةً للإنسان لكنها نهايةٌ للامتحان، لأنه بعد أن تدخل القبر انتهى كل شيء، بمجرد الموت انتهى الامتحان، سُحِبَت الأوراق، وحان وقت الحساب، لن تستطيع بعدها أن تُضيف شيئاً إلى رصيدك إلا إن تركت ولداً صالحاً يدعو لك، أو صدقةً جاريةً يدوم نفعها من بعدك، أو علماً يُنتفع به يشاهده الناس أو يسمعون به فينتفعون به، أما العمل فقد انتهى، لن تستطيع أن تفعل شيئاً عندما تحين ساعة الأجل، ف (زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) هي نهاية الامتحان وليست نهاية الإنسان، الإنسان له حسابٌ وعرضٌ على الله وجنةٌ يدوم نعيمها أو نارٌ لا ينفدُ عذابها نسأل الله العافية، لكن زيارة المقابر تُنهي الامتحان، كنايةً عن الموت، حتى إذا جاءت ساعة الموت انتهى كل شيء.

الموت في الإسلام
الشيء بالشيء يذكر؛ نحن في جائحة كورونا تحديداً صوَّروا لنا الموت بطريقةٍ غير إسلامية، غير شرعية، أريد أن أدخل في العمق قليلاً، الموت في ديننا ليس شيئاً مُرعباً أو مُخيفاً، ليس شيئاً مُقلقاً إلى هذا الحد الذي يُصوَّر عليه، أن الإنسان يتوفى! حسناً تلك هي الحياة، نحن هكذا دخلنا على هذا الشرط جئنا:

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30)
(سورة الزمر)

المصيبة ألا نستعدَّ للموت
نحن ننتظر موعود الله، نحن جئنا إلى الدنيا ونعلم أننا سنغادرها، هذا الشيء هو حدثٌ طبيعيٌّ مئةً بالمئة، لكن المصيبة ألا نستعدَّ له، وليست المصيبة في الموت نفسه، الموت نقطةٌ على الخط، حياتنا مستمرة، الحياة لا تنتهي بالموت لكن عندما تمكَّن المجتمع المادي اليوم في نفوس الناس أصبح الموت عبارةً عن وحشٍ كاسرٍ ينتظر الإنسان، إياك أن تموت! نعم نتخذ الأسباب، نحتاطُ من الأمراض، نعم، هذا من أجل أن نزرعه حتى في أولادنا أحبابنا الكرام من الآن، نحن جئنا إلى الدنيا على شرط أننا سنموت وسنغادر، لسنا خالدين فيها، نحن أبناء الآخرة، لسنا أبناء الدنيا، هذه رحلةٌ مؤقتةٌ نتعاون، نتناصح، يُحب بعضنا بعضاً، نعمل، نبني في الدنيا، نعمُرُ الأرض بالخير، نتواصل، نتزوج، نُنجب، لكن نحن لسنا في الدنيا في نهاية الآمال ومحطِّ الرحال، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ وَلا تَجْعلِ الدُّنْيَا أكبَرَ همِّنا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمٍنَا }

(رواه الترمذي)

اليوم عند معظم القوم وللأسف تسرَّب ذلك إلى المسلمين من الحضارة المادية الغربية، اليوم الدنيا عند الكثيرين هي مَبْلَغُ عِلمِهم وأكبر هَمِّهم، لا أحد يلتفت للآخرة، كل الناس يظنون أن الموت هو فاجعة لأنها ستُنهي الحياة التي يعيشها، لا يا أخي الموت لن يُنهي الحياة التي نعيشها، الموت سنتوقف لننتقل إلى نوعٍ جديدٍ من الحياة أجملَ بكثيرٍ من الذي نعيشه الآن، سنتوقف لننتقل إلى نوعٍ مختلفٍ تماماً، كمثال: أنت عندك مكانٌ في البيت يلعب فيه الأولاد فقلت لهم: الآن انتهى اللعب في هذا المكان، عندنا مكانٌ آخر سننتقل إلى البستان الآن، فقط، فهو انتقالٌ من طبيعةٍ معينةٍ في الحياة فيها كدحٌ:

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
(سورة الإنشقاق)

إلى نوعٍ جديدٍ من الحياة فيه راحةٌ وسعادةٌ للمؤمن وعقابٌ لمن ظَلَم وطَغى وبَغَى ونَسِي المُبتدى والمُنتهى، فهو فقط تغييرٌ بطبيعة الحياة وليس نهايةً لكلِّ شيء، فربنا تعالى يقول:

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)
(سورة التكاثر)

جاء الموت ولم تستعدَّ له، يا أخي استعد فقط لتنتقل إلى حياةٍ أجمل.
(حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ): زيارة ثم تخرج منها للقاء الله.

الإيمان قبل فوات الأوان
ثم يقول تعالى:

كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)
(سورة التكاثر)

ما معنى (كَلَّا)؟ (كَلَّا) أداة ردع وزجر، يعني أنت لو سألك إنسان هل أنت جائع؟ تقول: لا، لكن لو قال لك شخص: هل أنت سارق؟ فإنك لا تقول له: لا، بل تقول له: كلَّا، موسى عليه السلام يوم قال له أصحابه:

فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
(سورة الشعراء)

كان عنده ثقةٌ عجيبةٌ بالله، مستحيل أنا نبيٌّ من أنبيائه وسأبلِّغُ الرسالة كيف يدركونني؟

قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
(سورة الشعراء)

فأنت عندما يكون السؤال يُشكك في ثوابتك تقول: كلا، للردع والزجر فربنا جلَّ جلاله يقول: (كَلَّا) الدنيا ليست للتكاثر، ما جئت بكم يا عبادي إلى الدنيا لتتكاثروا بالأموال وبالأولاد وبالخدم وبالحشم وبالمزارع وبالبيوت وبالأجهزة ما جئت بكم إلى الدنيا لهذا، أنتم لم تُخلَقوا لهذا (كَلَّا) قال: (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) متى يعلم الإنسان؟ عند الموت، (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ).
فرعون طَغَى وبَغَى:

فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24)
(سورة النازعات)

وقال:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
(سورة القصص)

فلما أدركه الغرق:

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَوَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
(سورة يونس)

فقال تعالى:

آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
(سورة يونس)

إياك أن تعلم الحقيقة بعد فوات الأوان
(آلْآنَ) انتهى الامتحان، لقد آمنت بعد فوات الأوان.. طالبٌ دخل إلى الامتحان وجلس على طاولة الامتحان وجاءته الأسئلة فلم يُحسِن الجواب أبداً، لم يكتب شيئاً، انتهى الوقت فسحبوا منه الورقة خرج إلى خارج القاعة فتح الكتاب قال: الله أكبر هذا هو الجواب عرفته، انتهى الوقت، لقد عرَفته بعد فوات الأوان كان ينبغي أن تعرفه في الوقت المحدد، فربنا جلَّ جلاله يقول: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) لكن إياك أن تعلم الحقيقة بعد فوات الأوان لأنه إذا جاء الموت انتهى الامتحان، لن تستطيع أن تسجِّل أي شيءٍ جديدٍ في ورقة الحياة، سُحِبَت الأوراق.

عِلْمٌ آخر بعد عِلْمِ الوفاة
قال:

(ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
(سورة التكاثر)

(ثُمَّ): حرف عطف يُفيد التراخي، أي هناك علمٌ آخر بعد فترةٍ زمنية، ما هو؟ قال: (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يوم القيامة، العلم الأول عند الوفاة، وهناك علمٌ ثانٍ أشمل يوم القيامة عندما:

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
(سورة المطففين)

ويقول لك الله عزَّ وجلَّ: يا عبدي فعلت كذا وكذا.. يا عبدي أمرتك فلم تأتمر، نهيتك فلم تنتهِ، نسأل الله السلامة، فهنا ستعلم الحقيقة أكثر من ذي قبل، بأنك التهيت وبأنك تكاثرت وكان معك فرصةٌ عظيمةٌ لتخلُدَ في جنةٍ يدوم نعيمها ففوَّتها على نفسك أيها الإنسان الشارد عن الله:

كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
(سورة التكاثر)

(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) عند الموت، (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إذا قامت القيامة.

اليقين هو القَطْع
قال:

كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)
(سورة التكاثر)

اليقين هو القَطع مئةً بالمئة
إخواننا الكرام: ما اليقين؟ إنه القَطع مئةً بالمئة، وهذا القطع إما أن يكون عن طريق الحواس، كأن تقول مثلاً: هذا لاقطُ صوت، هذا رأيته بعينك هذا قطعٌ مئة بالمئة يقين، أو أن تعلم عن طريق الاستدلال، اليقين عن طريق الاستدلال، فتجد جداراً قد خرج من ورائه دخانٌ وتشمَّ رائحة احتراق فتقول: لا دخان بلا نار فتصل إلى اليقين عن طريق الاستدلال، وإما أن تصل إلى اليقين عن طريق الخبر الصادق، كأن يأتي الآن والدك ويقول لك: يا فلان اليوم حصل حادث مروري في ساحة الدوار الرابع، هذا خبرٌ ولكن والدك صادق مئة بالمئة فوصلت إلى اليقين عن طريق الخبر، هنا قال تعالى:

ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)
(سورة التكاثر)

يعني لو تصل إلى اليقين القطعي بأن الله تعالى لم يَخلُقكَ للدنيا وإنما خَلَقكَ للآخرة، ولو تصل إلى اليقين القطعي بأن هناك يوماً ستقف فيه بين يدي الله ليُحاسبك على أعمالك، ولو تصل إلى اليقين القطعي بوجود الله ووحدانيته وكماله، هذا علم اليقين ليس فيه شكٌّ ولا واحد بالمئة، (لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ).

رؤية الجحيم يوم القيامة
قال:

لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)
(سورة التكاثر)

المؤمن سيرِدُ النار ليرى عدل الله
هناك معنيان للعلماء فيها، المعنى الأول: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) يعني أقسم لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ يوم القيامة، يعني ربنا عزَّ وجلَّ العظيم يقسم بأن الإنسان يوم القيامة سيرى الجحيم، هناك نارٌ قد أعدَّها الله لمن طَغَى وبَغَى ونَسِي المُبتدى والمُنتهى، لمن ظَلَمَ عباده ولمن أعرض عن الدين، هناك نار (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) ويوم القيامة الكافر سيراها وسيدخل فيها والعياذ بالله والمؤمن سيرِدُها ليرى عدل الله:

وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71)
(سورة مريم)

والورود لا يعني أننا ندخلها، قال تعالى:

لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)
(سورة الأنبياء)

في الجنة خلودٌ لا ينغِّصُه شيٌء لكن ربنا عزَّ وجلَّ شاءت حكمته أن يرى الإنسان - حتى المؤمن- الجحيم يوم القيامة ليرى عدل الله عزَّ وجلَّ وليرى مكانه فيما لو أنه لم يُطِع الله فتزداد سعادته بالله وبمكانه من الجنة، ألم يقل تعالى:

قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)
(سورة الصافات)

ثم قال تعالى:

فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)
(سورة الصافات)

إذاً كلُّنا سنرى الجحيم يوم القيامة لكن والعياذ بالله الكافرون بالله سيَرونها وسيكونون فيها، والمؤمنون سيَرونها لكن دون أن يتأثَّروا ولو بصوتها قال: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ).

رؤية الجحيم في الدنيا
حب الحلال يُريحُ النفس
المعنى الثاني وهو معنى جميل ذكره بعض العلماء: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) في الدنيا عندما يعلم الإنسان علم اليقين بأن طاعته لله هي التي تُنجِّيه يرى الجحيم في معصية الله (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) في المعصية، فهو في الدنيا يقول لك: والله إن الزنا جحيم، والله إن أكل أموال الناس بالباطل جحيم، والله إن الغشَّ جحيم.. المؤمن عندما يرتقي بإيمانه يقول لك: والله إني لأعجبُ كيف يرضى الناس بالحرام! والله يحرم نفسه من الخير، يحرم النفس من مناجات خالقها، حب الحلال يُريحُ النفس، والحرام يحرم الناس من مناجاة خالقهم ويحرمهم من الخير، فترى الجحيم في أي شيء يغضب الله وهو في الدنيا هذا المعنى الثاني.

الفرق بين عِلْمَ الْيَقِينِ و عَيْنَ الْيَقِينِ و حَقُّ الْيَقِينِ
قال:

كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
(سورة التكاثر)

هذه يوم القيامة، ما الفرق بين (عِلْمَ الْيَقِينِ)
و(عَيْنَ الْيَقِينِ)؟ يوجد عندنا في القرآن الكريم:
(عِلْمَ الْيَقِينِ)، (عَيْنَ الْيَقِينِ)، (حَقُّ الْيَقِينِ)

إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
(سورة الواقعة)

(عِلْمَ الْيَقِينِ): نظرت إلى الجدار وجدت خلفه دخاناً يتصاعد قلت: لا دخان بلا نار، هذا علم اليقين، فسِرتَ إلى خلف الجدار فرأيت بعينك النار تشتعل هذا (عَيْنَ الْيَقِينِ)، نسأل الله السلامة اقتربت منها ووضعت يدك فاحترقت فسَحبتَها، هذا (حَقُّ الْيَقِينِ).
المؤمن عنده علم اليقين قبل أن يرى بعينه وقبل أن تمَسَّهُ النار يعلم (عِلْمَ الْيَقِينِ) فقال: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) ستراها بعينك يوم القيامة.

السؤال يوم القيامة
ثم قال:

ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
(سورة التكاثر)

انظر إلى هذا الختام بالسورة يترك فكرك يسبحُ مع السؤال أن هناك سؤالاً يوم القيامة، يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

{ إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي الْعَبْدَ مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيَكَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟ }

(رواه الترمذي)

الماء البارد نعيم، عندك ماءٌ باردٌ في البيت تتنعَّم به، هذا نعيم، فنحن كم عندنا من النعيم فوق الماء البارد؟ زوجةٌ وأولادٌ وبيتٌ وسيارةٌ وما لذَّ وطاب وأنواعٌ منوعةٌ من الطعام.

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: (مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ)؟ قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومُوا)، فَقَامُوا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيْنَ فُلَانٌ)؟ قَالَتْ ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ)، فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ }

(أخرجه مسلم)

الرزق هو كل ما ننتفع به
هذا نعيم، وكل ما أنعَمَ الله به عليك فهو نعيم، أين نعيش نحن؟ نحن نعيش بالنعيم أيها الأحباب، عندنا قوتُ يومنا ونعلم بأننا سنلقى الله ونصلي ونصوم ونؤدي زكاتنا ونؤدي حقوق الله وعندنا إخوة طيبون، الرزق هو كل ما ننتفع به، مثال: أنت بالشهر عندك خمسمئة دينار، فثلاثمئة دينار اشتريت فيها طعاماً لزوجتك ولأولادك ولنفسك وذهبت في نزهةٍ مع أهلك وأولادك كفَيتهم، وتصدَّقت بمبلغ لفقير هذا رزقك، الكسب هو الرصيد الذي في البنك هذا سنسأل عنه ولم ننتفع به، فنقول دائماً: اللهم ارزقنا، لأن الكسب سنُسأل عنه وربما لا ننتفع به في حياتنا.

ما يبقى للإنسان من ماله
والنبي صلى الله عليه وسلم مرةً سأل أصحابه:

{ أَيُّكُمْ مالُ وارِثِهِ أحَبُّ إلَيْهِ مِن مالِهِ؟ قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما مِنَّا أحَدٌ إلَّا مالُهُ أحَبُّ إلَيْهِ، قالَ: فإنَّ مالَهُ ما قَدَّمَ، ومالُ وارِثِهِ ما أخَّرَ }

(أخرجه البخاري)

قدَّمت مالك أمامك فسرَّك اللحاق به، عملٌ صالح، مساعدةُ فقير، قدَّمته أمامك فسرَّك اللحاق به، أما مال وارثك هو المال الذي سيبقى للورثة، لمن بعدك، فالإنسان يُحب ماله أم مال وارثه؟ يُحب ماله، إذاً فليقدِّم ماله أمامه بعملٍ صالح، ولو بالإنفاق على الأهل، ليس المطلوب فقط مدُّ يدِ العون للآخرين بالعكس الدينار الذي تُنفقه على بيتك وعلى عيالك هو أحبُّ دينارٍ عند الله تعالى أن تُنفقه على أهل بيتك، نعود إلى الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم عندما قرأ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ):

{ عَنْ عبْدِ اللَّه بنِ الشِّخِّيرِ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وهُوَ يَقْرَأُ:(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)-[التكاثر:1] قَالَ: يَقُولُ ابنُ آدَم: مَالي! مَالي! وَهَل لَكَ يَا ابْنَ آدمَ مِنْ مالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟! }

(رواه الترمذي)

ينبغي أن يكون المسلم حسناً بين الناس
فالذي يبقى هو ما قدَّمته أمامك من مالٍ والذي استهلكته يفنى، لكن يمكن للإنسان أن يجعل من مالٍ يتركه أجراً يبقى ويستمر، بذلك يُحوِّل المستهلكات إلى باقيات لأنه يربطها بالآخرة ويربطها بالله ولا يجعلها فقط من أجل أن يأكل ويلبِس ومن أجل أن يتفاخر على عباد الله وإذا جلس في مجلسٍ يحاول أن يحرك السترة قليلاً ليري الناس الماركة المسجلة داخلها بأنها من باريس مثلاً!!، ليس هذا هدفه وإنما هدفه أن يلبس ثياباً جميلةً نظيفةً يكسب بها قلوب الناس ويُمثِّلُ فيها المسلم لأن المسلم ينبغي أن يكون حسناً بين الناس، فيحول المستهلكات إلى باقيات بالنيَّة، بالنيَّة الطيبة في الطعام وفي الشراب وفي اللباس، أسأل الله تعالى جلَّ جلاله أن يجعلنا من عباده الصالحين وأن يرزقنا الإخلاص واليقين وأن يجعلنا إخوةً متحابين فيه.

الصلة بالله والصلة بالمخلوقين
يقول سيدنا عمر رضي الله عن عمر:
"والله لولا ركيعاتٌ في جوف الليل وإخوةٌ يُلتَقَطُ معهم طَيِّبُ الكلام كما يُنتقي آكل الثمر أطايبه لآثرتُ الموتَ على الحياة"
{ سيدنا عمر رضي الله عنه }
ليس في الدنيا والله إلا صلاةٌ تُحسِنُها بين يدي الله أو إخوةٌ طيبون تلتقي بهم فتَنْتَقِي معهم الكلام الحسن كما يَنْتَقِي آكل الثمر أطايبه وإلا فالدنيا فانيةٌ لكن يبقى منها صلةٌ بالله وإحسان للمخلوقين، حركة بالصلة نحو الخالق، وحركة نحو المخلوق بالإحسان هذا معنى:

يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ (55)
(سورة المائدة)

(يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) مع الله، (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) مع المخلوقين.

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
(سورة الكوثر)

النحر من أجل أن تذبح الأضاحي وتُقدِّمها للناس، فتُحسِن صلتك بالخالق وتُحسِنُ صلتك بالمخلوق، حركةٌ أفقيةٌ وحركةٌ عموديةٌ هذه هي الحياة صلةٌ بالخالق وإحسانٌ إلى المخلوقين.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من مُحسِني الصلة به ومن مُحسِني الصلة بعباده وأن يرزقنا وإياكم رزقاً حلالاً طيباً لنستخدمه في طاعة الله وأن يوسِّعَ علينا وأن يجعل نعم الدنيا متصلةً بنعم الآخرة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.